المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الترجمة التأويلية


حفيد ابو تايه
29-12-06, 11:51 PM
بسم الله الرحمن الرحيم ا
خواني اخواتي هذا بحث قمت موخرا بنشره في مجلة linguistica
امل منكم قرائته وتزويدي بملاحظات لعلي ان طوره في المستقبل حيث انه مشروع لكتاب لغوي
وشكرا اسف على الاطالة.
في قضايا الترجمة التأويلية : دراسة نظرية-تطبيقية
مدخل:
في تناولهم لقضايا الترجمة ومشكلاتها في النصف الثاني من القرن الماضي، ركز عدد من اللغويين على الصعوبات التي يواجها كل من يعمل في النقل من لغة إلى أخرى. وذهب بعضهم إلى حد القول إن الترجمة عملية شبه مستحيلة إن لم تكن مستحيلة نظراً لتعذر نقل الرموز اللغوية من لغة إلى أخرى نقلاً أميناً. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه على الفور هو : هل الترجمة كلها نقل للرموز اللغوية ؟ ثم كيف أدت الترجمة دوراً بالغ الأهمية في نقل المعارف والعلوم والثقافات بين الشعوب منذ القدم ؟ في اليونان كانوا يرسلون الطلاب والدارسين إلى مصر القديمة للتعلم في مدارسها ونقل معارفها في الحساب والفلك والزراعة إلى الإغريقية. ثم أتى الرومان ونقلوا عن الإغريقية آدابها وفلسفتها، وتلاهم العرب الذين نقلوا بدورهم عن الشعوب الحضارية التي سبقتهم . بعد ذلك سارعت الأمم الأوربية إلى نقل المعارف عن العرب. ثم تدور الدائرة ويعود العرب، وقد وجدوا أنفسهم في مواقع متأخرة من الركب الحضاري، مضطرين للنقل عن أوربا... في العصر الحالي تخلى العرب عن قيادتهم للعلوم والترجمة فكان نصيبهم ناقلين من الأخر لا مصدرين.
من المعروف أن الترجمة استخدمت بادئ ذي بدء في اكتساب اللغات القديمة وتعلمها وذلك عن طريق الترجمة من اللغة الأجنبية إلى اللغة الأم والعكس بالعكس، تمرينان يطلق عليهما باللغة الفرنسية version (الترجمة من اللغة الأجنبية إلى اللغة الأم) و thème (الترجمة من اللغة الأم إلى اللغة الأجنبية). ثم تحولت الترجمة في وقت لاحق إلى تمرين يتضمن مقارنات بين اللغتين الهدف والمصدر، ومحاولات ترمي إلى إيجاد معادلات قوا عدية ونحوية ومفرداتية وتعبيرية في لغة الوصول لكل مكون من مكونات لغة الانطلاق. وبالتالي أطلقت كلمة "الترجمة" على تمرينات كان الهدف منها تعلم اللغات الأجنبية وتقوم على إجراء مقارنات بين التراكيب اللغوية في كل من اللغتين المصدر والهدف.
في تعريفه للترجمة قال ج. دوبوا J. Dubois في قاموس الألسنية " الترجمة هي التعبير بلغة أخرى أو اللغة الهدف عما عبر عنه بلغة أولى، لغة المصدر، مع الاحتفاظ بالتكافؤات الدلالية والأسلوبية" (1).
قيل إن تعريف الترجمة على هذا النحو (وهل يمكن تعريفها على نحو آخر ؟) يعني أنها تمرين مستحيل ومحكوم عليه بالفشل. ولكن نقل التجارب والخبرات المعرفية من لغة ما إلى أية لغة أخرى أمر ممكن بل واقع نعيشه كل يوم. صحيح أن ثمة عينات لغوية تتعذر ترجمتها وفق التعريف السالف الذكر ولا يصلح معها إلا النقل الإبداعي transposition créatrice ،كالتلاعب بالألفاظ والشعر وموسيقاه. وصحيح أيضاً أن ما يحول دون إمكانية ترجمة نص ما يعكس في غالب الأحيان أهمية النص وجماليته مما يجعل الترجمة تمريناً عبثياً. ولكن يجب أن نسلم في ماأورده جورج مونان J. Mounin " أن الترجمة عملية نسبية في نجاحها ومتفاوتة في درجات التواصل التي تبلغها" (2).

عرض وتحليل
يهدف بحثنا هذا إلى إثبات أن الكلمات والعبارات التي يمكن أن نجد لها مطابقات في سائر اللغات المتداولة تشكل كماً هائلاً يصعب حصره، وأن نقلها من لغة إلى أخرى يستلزم في غالب الأحيان معارف غير لغوية. أما إذا نظرنا إلى المخزون اللغوي المشترك بين أفراد الجماعة اللغوية الواحدة فنجده فقيراً ضحلاً مع أن الغلبة له لكثرة استخدامه في الكلام المنطوق والمكتوب للإخبار والوصف و الحجة والبرهان والمحاكمة...
صحيح أنه ينبغي معرفة الرموز والعلامات اللغوية ( le lexique ) وفهم مدلولاتها وإدراك المفاهيم التي تحملها أو توحي بها، ولكن يجب إلى جانب ذلك معرفة الطريقة التي تستخدم بها تلك الرموز والعلامات في الكلام المكتوب أو المنطوق le langage . فاللغة المستخدمة في الكلام والكتابة تتشكل من عناصر أربعة : العنصر الدلالي une sémantique والعنصر النحوي une syntaxe والعنصر المعجمي un lexique والعنصر الأسلوبي une stylistique . فإذا كان مضمون النص يشغل حيزا ً كبيراً في عملية النقل والتأويل ويستدعي اهتماماً خاصاً، فإن الشكل الأسلوبي لا يقل أهمية عن المضمون، لأن الطريقة التي نعبر بها عن مقاصدنا تحمل هي أيضاً معان ودلالات ينبغي أن يأخذها المترجم بعين الاعتبار. فالنص ما هو في الحقيقة إلا محصلة العناصر الأربعة التي سبق ذكرها، ودقة دلالاته مرهونة بنجاح تركيبة العناصر الأربعة الضرورية لتكوينه (3ص 2-3).
إن الترجمة عملية تقوم على ركيزة مزدوجة : الترجمة من لغة مصدر إلى لغة هدف (traduction interlinguistique )، والترجمة في إطار اللغة الهدف، ( traduction intralinguistique ) أي اختيار العبارة الأنسب والأكثر ملائمةً لمقاصد الكاتب وروح اللغة الهدف في آن معاً. من هذا المنطلق يمكن القول إن الترجمة ممكنة. وسوف نحاول إثبات ذلك استناداً إلى المكافئ الوظيفي (équivalence fonctionnelle) والنظرية التفسيرية التأويلية المعتمدة في المدرسة العليا للمترجمين في باريس التي تنص فيما تنص على أن الترجمة ليست نقلاً للعلامات اللغوية بل هي صياغة جديدة لمضمون النص الأصل ومقاصد كاتبه، ومراعاة كاملة لروح اللغة الهدف، كي لا يثير النص المترجم نفور القارئ لصعوبة إدراك الغاية منه، بل وتعذر ذلك في بعض الأحيان.
إن دراسة اللغات والمقارنة فيما بينها توفر الأداة الضرورية لإيجاد المقابلات اللغوية. والمعاجم الثنائية اللغة، والقواعد المقارنة ما هي في حقيقة الأمر إلا ترجمات نجد فيها مفردات وأدوات قواعدية متكافئة. فكلمة barrage الفرنسية يقابلها سد بالعربية، وعبارة il est en train de lire تقابلها عبارة إنه يقرأ الآن العربية... و تساعد الدراسة المقارنة للغات في اكتشاف الاحتمالات الدلالية المختلفة للكلمات أو أجزاء الجمل، إذ يمكن أن يطغى أحد المدلولات على الأخرى في سياق ما يتجاوز إطار الكلمة الواحدة. فالفرنسية تستخدم حرف الجر de في عبارات مثل j’arrive de Paris (وصلت من باريس) و un morceau de pain (قطعة خبز) و un acte de courage (عمل شجاع). في العبارتين الثانية والثالثة لا داعي لترجمة حرف الجر إلى العربية كما هو الأمر في الأولى، فالإضافة كافية في الثانية والمبتدأ والخبر يؤديان الغرض في الثالثة. أما في عبارة il est en train de lire إنه يقرأ الآن التي سبق ذكرها فإن حرف الجر de دخل في التركيبة الجامدة être en train de التي تدل على وقوع الحدث واستمراره في الزمن الحاضر أو المضارع .من هذا المنطلق لا يمكن وضع مقابل واحد في العربية لحرف الجر الفرنسيde لأن ترجمته تختلف من سياق إلى آخر، والأمثلة على ذلك وفيرة. إن الرموز اللغوية التي يمكن وضع مقابلات لها هي تلك التي تقتصر على مدلول واحد لا يتغير بتغير السياق أو الموقف التواصلي، كالأرقام وأسماء العلم والكلمات التقنية : quatre vingt-dix يقابلها بالعربية العدد ثمانون وLondres مدينة لندن و disque compact أسطوانة مدمجة...
من هنا نرى أن نقل العلامات اللغوية (transcodage) وسيلة واحدة من وسائل الترجمة وليس الترجمة بأكملها. إذ لا يمكن أن نترجم بهذه الطريقة إلا العناصر والكلمات والعبارات التي لها مدلول واحد على المستويين اللغوي و الخطابي أو الكلامي.
غاية الترجمة نقل المعنى
يقول جان دوليل jean Delisle " إن المعنى يضاعف إمكانيات الترجمة، في حين أن الإمكانيات التي توفرها الكلمات محدودة" (4).
ينبغي علينا في هذا المقام أن ننوه إلى ضرورة التمييز بين علم الكلام (Le langage) الذي يحمل معنى واللغة (La langue) ورموزها وأن نطرح على أنفسنا السؤال التالي : ما هو العنصر الذي بفضله يصبح نقل العلامات اللغوية ممكناً ؟ إنه ربط الجمل المعزولة بالموقف الذي قيلت فيه على الصعيد الشفهي، و بسياق النص الذي وردت فيه بالنسبة للنص المكتوب. ذلك أن الجمل المعزولة عن سياقها قد تحمل أكثر من مدلول واحد، شأنها في ذلك شأن الكلمة الواحدة. فإذا أخذنا كلمات لا على التعيين من المخزون اللغوي وتفحصناها الواحدة تلو الأخرى، لتمكنا من وضع عدد من المدلولات لكل منها. إن تعددية المعاني هي من طبيعة الكلمات التي ليست تسميات لمسميات أو لمفاهيم فريدة وإنما تشتمل على مجموعات من المدلولات. و تعددية المعاني والغموض من شأن كل تركيب مفرداتي يتم خارج السياق، إلا أنهما يزولان عندما تندرج الجملة في إطار الكلام أو النص. وإرادة التواصل هي التي تحرر الكلمات من تعددية معانيها، وتزيل عن الجمل غموضها، وتحملها المدلول المراد.
إن ما نقصده بكلمة "معنى" ليس ما تقصده بهذه الكلمة الدراسات الدلالية أو المعجمية التي تسعى إلى تحديد مفاهيم الكلمات أو البنيات القواعدية لأن المعنى أو "المدلول اللغوي" الذي تتحدث عنه تلك الدراسات ينطبق على معاني الكلمات في معزل عن استخداماتها في إطار الكلام أو النص. فمعنى الكلام، المعنى الذي تحمله الرسالة، غير موجود في كل كلمة، ولا في كل جملة. إنه يستند إلى المدلولات اللغوية دون أن يقتصر عليها، والنص بأكمله، هو الذي يساعد، كلما تقدمنا في قراءته، في إدراك ما أراد الكاتب قوله. إن أفكار الكاتب، قبل أن تتحول إلى كلام وتأخذ شكلها النهائي، موجودة في ذهنه، وإنما دون ترتيب. ولا تتضح وتتشعب إلا بالكتابة؛ وكل جملة تستند إلى سابقاتها لإتمام الرسالة. والكلمات التي هي مجموعات من الدلالات على المستوى اللغوي، لا تتحقق على صعيد الكلام إلا جزءاً من مدلولاتها، إلا أنها تكتسب بالمقابل المعنى الذي يحملها إياه الكلام الذي يأتي قبلها. إنه لخطأ فادح أن نخلط بين اللغة والكلام عند الحديث عن الترجمة. فالمعنى لا يتضح إلا على مستوى الكلام، وهو معنى عرضي، آني، عرضة للتلاشي، شأنه شأن التركيبة الكلامية التي أوجدته، والتي تولد من سياق الكلام، وهو يتميز عن اللغة مع أنه من نتاجها. اللغة تعطي الكلمات دلالاتها، بينما يثريها الكلام بمفاهيم لا يمكن تحديدها أو تصورها على مستوى الألفاظ. وهذه المفاهيم هي التي تشكل المعنى، وينبغي أن يدركها قارئ الترجمة تماماً كما يدركها قارئ النص الأصل. وهكذا نرى أن المعنى لا يتصف بالسكون والموضوعية وإنما هو صيرورة دائمة تتكون مع تقدم الخطاب.
إن المعنى، بسيطاً كان أم معقداً، هو الغاية التي تسعى اللغة إلى بلوغها، وهو العنصر الرئيس للعلاقات بين بني البشر، وهو أيضاً الهدف الذي ترمي إليه الترجمة. ساد الاعتقاد أن الترجمة ما هي إلا تمرين يتناول لغتين، ويقوم على إيجاد الكلمات والتراكيب النحوية المتكافئة من لغة إلى أخرى. وقد أفضت الأبحاث التي تناولت الترجمة الآلية إلى دراسة المتكافئات الزوجية بين اللغات، أو بالأحرى إلى ما أطلق عليه "القواعد التقابلية". ومما لاشك فيه أن الفشل النسبي الذي منيت به هذه الدراسات يرجع بكل تأكيد إلى أن الترجمة الآلية لم تستند إلى طريقة عمل الذهن البشري الذي لا يقوم بنقل الرموز وإنما يدرك المعنى ويعاود التعبير عنه. فلو استندت الأبحاث إلى الإنسان وإلى الطريقة التي ينتهجها في الترجمة، لفقدت الطريقة التقابلية الكثير من أهميتها لصالح نظريةٍ للترجمة تقوم على المعنى بالدرجة الأولى.
وكان رومان جاكوبسون Roman Jacobson (81-84) من أوائل المهتمين بارتباط قضايا الترجمة بالدراسات اللغوية. وقد ميز جاكوبسون بين الرموز اللفظية signe verbal والرموز غير اللفظية signe non verbal (الإشارات والحركات الدلالية على سبيل المثال (. ولكل رمز من هذه الرموز معنى ملازم له، إذ أن الرمز ومعناه يدخلان في علاقة تبادلية، فما من رمز دون معنى، وما من معنى خارج الإطار المجسد له مادياً في شكل رمز من الرموز. ويحدد جاكوبسون طرقاً ثلاث لترجمة الرمز:
1. الترجمة في إطار اللغة الواحدة Traduction intralinguale أو إعادة التعبير أو التسمية، وهي عبارة عن تأويل Interprétation للرموز اللفظية بواسطة رموز أخرى من اللغة ذاتها.
2. الترجمة بين اللغات Traduction interlinguale أو الترجمة بمعناها الحقيقي، وهي عبارة عن تأويل للرموز اللفظية بواسطة لغة أخرى.
3. الترجمة بين الدلالات traduction intersémiotique أو التحويل، وهي عبارة عن تأويل الرموز اللفظية بواسطة رموز نظام غير لفظي الرموز.
ثم يتناول جاكوبسون قضية أساسية من قضايا الترجمة هي قضية التطابق. والتطابق على مستوى الترجمة في إطار اللغة الواحدة يتم من خلال الترادف أو التفسير اللفظي للرمز. لننظر إلى هذه العبارة العربية "علمت أنه مصاب بمرض عضال". مدلول العبارة واضح ومعناها لا يخفى عن أحد. ولكن ثمة من يختار ألفاظاً أخرى للتعبير عن ذات المعنى كأن يقول "تناهى إلى سمعي أنه يشكو من مرض خطير" أو "بلغني أنه يعاني من آفة لا برء منها"... وإذا أردنا نقل هذه العبارة إلى اللغة الفرنسية فإن الخيارات عديدة في إطار هذه اللغة أيضاً. فيمكن أن نقول J’ai été informé qu’il est atteint d’une maladie grave ، أو On m’a annoncé qu’il souffrait d’une maladie inguérissable ، أو On m’a dit que le mal dont il souffre est incurable ... نلاحظ أنه بالرغم من انعدام التطابق بين الرموز أو العلامات اللغوية المستخدمة في الجمل الثلاث فإن المعنى الذي تحمله واحد.
أما في حالة الترجمة بين اللغات، فلا يوجد تطابق تام بين الرموز في اللغتين، ذلك لأن كل وحدة من وحدات اللغة قد تشتمل على مجموعة من الإيحاءات والظلال المعنوية قد لا توجد في الوحدة المقابلة لها في اللغة الأخرى.
لهذا فإن الرسالة الكلامية بأكملها هي وحدها الكفيلة بتحقيق التطابق في الترجمة. فعملية الترجمة من لغة إلى أخرى لا تعني إحلال رمز محل رمز آخر، بل هي إحلال لرسالة كلامية محل رسالة كلامية أخرى. يمكننا القول إن الترجمة عبارة عن حدث كلامي غير مباشر، إذ يقوم المترجم باستيعاب الرسالة التي يتلقاها من المرسل شفاهة أو تحريراً، ثم يعيد تشفيرها برموز لغته وينقلها إلى المتلقي.
إذا سلمنا أن الحاجة إلى الترجمة تنشأ من الحاجة إلى التواصل، وأن هذه الأخيرة موجودة في إطار اللغة الواحدة كما أسلفنا، حيث لا يحتاج التواصل إلى وسيط، تماماً كما هي موجودة بين لغتين وتستدعي وساطة المترجم، ألا يحق لنا عندئذ أن نجزم أن عملية الاتصال التي تتم داخل اللغة الواحدة هي نفس العملية التي تربط المترجم بالنص الأصل، ثم النص المترجم بالقارئ الذي يطلع عليه، مما يجعل عملية الترجمة أقرب إلى عمليتي الفهم والتعبير منها إلى المقارنات بين اللغات. فالتعبير والفهم عند البالغين يدخلان في إطار الكلام ولا يقتصران على ترتيب نتف لغوية في جمل لا تحمل معنى . وكما أن الإنسان لا يتكلم أبداً من دون هدف، ومن دون نيةٍ في التواصل، كذلك فإننا لا يمكن أن نستمع أو أن نقرأ دون إدراك شيء ما، أي دون تأويل. وهذا هو شأن المترجم الذي يكون تارةً قارئاً يدرك، وتارةً كاتباً ينقل إرادة القائل الأساسية، وهو يعرف جيداً أنه لا يترجم لغةً إلى لغةٍ أخرى، وإنما يفهم كلاماً وينقله بدوره، معبراً عنه بطريقة لا تستعصي على الفهم. وتكمن جمالية الترجمة وأهميتها في أنها صلة وصلٍ بين مقولة الكاتب وفهم القارئ.
يستخلص المعنى في عملية التواصل من تسلسل الكلمات والجمل وتتابعها، إذ تضيف كل كلمة وكل جملة إسهامها إلى الأخريات، وتستمد منها. ويتكامل المعنى بشكل تدريجي مع تكامل سلسلة الكلام؛ بإمكاننا أن نجتزأ جملة لا على التعيين ونقوم بتحليلها لمعرفة مدى صحتها، ولكن من المحال أن نتمكن في الوقت نفسه من بلوغ مدلولها الحقيقي الذي يبقى داخل النص المتكامل. لنأخذ العبارة الفرنسية التالية على سبيل المثال :
Hier, J’ai rendu visite à mon ami à l’hôpital.
تفيد هذه الجملة أنني قمت بزيارة صديق لي في المستشفى، ولكنها لا توضح ما إذا كان هذا الصديق مريضاً منوماً في المستشفى، أو أنه يعمل فيه طبيباً أو ممرضاً أو موظفاً ... والجواب عن هذا الاستفسار لا يكون إلا من سياق النص وما جاء فيه قبل هذه الجملة أو بعدها، أو من خلال الموقف التواصلي الكلامي.

استناداً إلى ما تقدم يمكن القول إن عمل المترجم يمر بمراحل ثلاث هي :
1. مرحلة إدراك المعنى وفهمه فهماً صحيحاً وإدراك مقاصد الكاتب،
2. تخليص المعنى من القالب اللغوي الذي جاء فيه،
3. إعادة صياغة المعنى برموز اللغة الهدف. وهذه المرحلة الثالثة تتضمن عملية إحلال رموز محل رموز أخر transcodage أينما أمكن ذلك، وعملية التأويل interprétation أي أداء المعنى بقالب جديد يتلاءم مع متطلبات اللغة الهدف ويلبي حاجة القارئ مع الحفاظ على العناصر الدلالية والأسلوبية التي تضمنها النص المصدر.
لن نتوقف كثيراً عند المرحلتين الأولى والثانية، لأن إدراك المعنى واستنباطه عملية نسبية ترتبط بالكفاءة اللغوية للناقل أو المترجم. وما يهمنا في هذا المقام هو المرحلة الثالثة، ألا وهي مرحلة التأويل وإعادة الصياغة برموز اللغة الهدف.
لننظر الآن إلى الجملة الفرنسية الآتية :
« On s’attend à ce que l’ancien champion du monde de boxe morde la poussière lors du prochain duel qui l’opposera à un adversaire de taille qui n’est autre que Mohamed Ali. »
ترجمة مقترحة : "ينتظر أن يتعرض بطل العالم السابق في الملاكمة إلى الهزيمة في المباراة التي سيقابل فيها خصماً عنيداً يدعى محمد علي."
ما هي الرموز أو الكلمات التي تم استبدالها بأخرى عربية دون حاجة إلى التأويل أو إلى تغيير التركيبة لأداء المعنى بقالب جديد ؟ وما هي الكلمات التي تحتمل أكثر من مدلول واحد ينبغي على المترجم أن يدركه دون غيره ؟
الكلمات ذات المدلول الواحد
champion - بطل
monde - العالم
boxe - الملاكمة
prochain- القادم
Mohamed Ali - محمد علي
lors de - أثناء ، خلال ، في...
الكلمات التي تحتاج إلى تأويل
On - ضمير يستخدم في اللغة الفرنسية للدلالة على فاعل غائب غير محدد قد يكون مفرداً أو جمعاً، ذكراً أو أنثى. ويستخدم أيضاً كضمير متكلم بصيغة الجمع وهو استخدام شديد الشيوع في اللغة الدارجة. كما يمكن استخدامه في سياقات معينة للمخاطب.
s’attendre - الصيغة الشخصية لفعل attendre (1- انتظر،2- ترقب،3- أصبح الشيء جاهزاً) وتعني توقع حدوث شيء ما باعتباره محتملاً.
Mordre - فعل يعني 1- عض بأسنانه؛ 2- نهش، لسع؛ 3. أكل، قرض؛ 4- تخطى تجاوز...
la poussière - الغبار، العفر...
duel - مبارزة، نزال... (بقصد الثأر)
opposer - قاوم، واجه، قابل...
adversaire - خصم، غريم، منافس...
taille- قد، قامة...
نلاحظ أن هناك مواضع اقتضى الأمر أن نلجأ فيها إلى التأويل لإيجاد المكافئ الوظيفي :
- مطلع الجملة الذي لجأنا في نقله إلى التأويل باستخدام صيغة المبني للمجهول لأن الجملة الفرنسية لا تحدد الفاعل الذي يتوقع خسارة بطل العلم للقب الذي يحمله.
- عبارة mordre la poussière تعني سقط أرضاً، ولا شك أنها استخدمت في هذا السياق كناية عن الهزيمة.
- duel كلمة كانت تدل على نزال بالسيف يحدد موعده الخصمان ليثأر أحدهما من الآخر لإهانة أو ضيم لحق به بفعل خصمه.
- adversaire de taille عبارة تعني خصماً قوياً، مرهوب الجانب...
- n’est autre que تعبير يعني حرفياً ليس غير... ولكن الجملة العربية لا تستقيم إذا ما تقيدنا بحرفية التعبير الفرنسي.
معرفة الموضوع ومعرفة اللغة
إذا لم تكن الترجمة مجرد نقل للعلامات اللغوية وإنما عملية تقوم على الفهم وإعادة الصياغة باللغة الهدف، وإذا كان ما نفهمه ونعبر عنه هو المعنى، ينبغي علينا أن نتوقف عند هذا المفهوم الأساسي الذي جعلنا منه هدف الترجمة وغايتها ونحاول توضيحه.
لننظر إلى الجملة التالية التي وردت بالفرنسية في بحث للأستاذة ماريان لوديرير Lederer Marianne :"نسمي إبدالاً مطابقة المجموعة س على نفسها، أي تحويل تركيبة حدودها الأربعة إلى تركيبة جديدة " (6ص19). من لم يدرس الرياضيات الحديثة لا يكون قادراً على فهم هذه الجملة و إدراك معناها. ما الذي يمكن قوله بعد قراءتها أكثر من مرة ؟ نستطيع الافتراض أن الجملة تدخل في نطاق الرياضيات، لأن كلماتها تدل على ذلك ؛ ومن ناحية أخرى فإن تركيبة الجملة تجعلنا ندرك أن المجموعة تتألف من أربعة حدود. ولكن معرفتي بالقواعد والمعاني الشائعة للكلمات المستخدمة لا تسعفني في المضي إلى أبعد من ذلك. أما طالب الرياضيات فتساعده في فهم هذه الجملة المفاهيم الرياضية المألوفة لديه والتي يستحيل على غير المتخصص إدراكها.
إن الانطباع الأول الذي يتكون لدينا هو أن عدم معرفة المفاهيم التقنية للكلمات يحول دون فهم الجملة ؛ والواقع أن هذا الجهل يدخل في إطار جهل أخر ألا وهو جهل الموضوع.
تساعدنا معرفة اللغة ومعرفة الموضوع في الوصول إلى وجه من أوجه المعرفة ذي أهمية كبيرة بالنسبة إلى مفهوم المعنى. فاللغة وسيلة للتعبير عن الأشياء والمفاهيم. عندما يتعلم الطفل الكلام، فإن المدلول الأول الذي يعطيه للكلمات يكون أول معرفة مجردة يكتسبها. وطالما اقتصرت معرفته للأشياء والمفاهيم على مدلولات الكلمات، بقيت معارفه محدودةً جداً. أما إذا أكثر من القراءة، ازدادت المدلولات التي يعطيها للأشياء غنى كلما تقدم به السن ؛ ويصبح عندئذ قادرًا، حسب ما تقتضيه الضرورة، على التعبير عن هذه المدلولات بكلمة واحدة أو حتى بكتاب كامل.
لو عرفنا المقدرة اللغوية على أنها الفهم الدقيق لمدلولات الكلام، والمعرفة بشكل عام على أنها مجموع الشروحات والتفسيرات والتأويلات التي يمكن تقديمها لمفهوم معين، لرأينا أنه لا توجد هناك رابطة بين المعرفة اللغوية والمعارف الأخرى، وأن اللغة عندما تكتفي بوضع مسميات للأشياء لا تمثل سوى بداية المعرفة. وإذا كان صحيحاً أننا نتقدم بحركةٍ مستمرةٍ ومتواصلة من المعرفة اللغوية باتجاه معارف أكثر تطوراً، فإن هذه الحركة لا تنمو بشكل متجانس. إذ لا يمكن في بعض المجالات اكتساب معارف متعددة، ولا نستطيع في مجالات أخرى تجاوز المعرفة التي توفرها اللغة، مما يفسر المقولة الشائعة في ميدان الترجمة وهي أن المعرفة اللغوية لا تكفي لإدراك ما يمكن التعبير عنه بواسطة العلامات اللغوية وترجمته. إن إدراك المنطوق اللغوي يرتكز في الواقع على نوعين من المعرفة، المعرفة بحد ذاتها، أي المعارف الدقيقة التي يشير إليها النص، والمعرفة اللغوية. ويرتبط بلوغ المعنى بتلاؤم هذين النوعين من المعارف مع ما يحمله النص اللغوي من جديد.
فإذا رجعنا إلى الجملة :"نسمي إبدالاً مطابقة المجموعة س على نفسها، أي تحويل تركيبة حدودها الأربعة إلى تركيبة جديدة"، وجدنا أنها تسمح لنا بإدراك العلاقة الموجودة بين اللغة والمعرفة، الأولى معروفة كما هي الحال دائماً في عملية التواصل، أما المعرفة فهي بالنسبة لهذه الجملة معدومة. من شأن هذا المثال أن يجعل القارئ غير المتخصص في الرياضيات يدرك تماماً أنه يعرف اللغة ولكنه يجهل الموضوع. إلا أن التمييز لا يكون بهذا الوضوح في أغلب الحالات، مما يؤدي إلى الخلط بين المعرفة اللغوية والمعرفة المتخصصة، دون إدراك أن اللغة لوحدها لا تمكن من استخلاص المعنى، وأنه ينبغي دائماً الاستعانة بمعارف خارجة عن نطاق اللغة لفهم نص لغوي.
تساعد المعارف غير اللغوية التي يملكها المرء في استخلاص مدلول الكلمات المرتبة داخل الجمل، وتؤدي بالتالي إلى إدراك المعنى. وكلما اتسعت المعارف، كلما اكتسب المعنى دقةً ووضوحاً.
عملية التأويل
مهما كان الاهتمام الذي نبديه أثناء القراءة سطحياً، ومهما قلت المعارف التي نواجه بها مدلولات الجمل التي نراها على الورق، فإننا لابد أن نستخلص مما نقرأ معنى معيناً، قد يكون محدوداً، أو مبهماً، أو خاطئاً أحياناً. قرأت مرة في واحد من أعمال عالم النفس السويسري الشهير بياجيه Jean Piaget أن الطفل الصغير لا يعرف أن في السماء قمر واحد، ويظن لأول وهلة أن القمر الذي يراه في ليال متوالية هو مجموعة من الأقمار المختلفة؛ ولكنه سرعان ما يدرك بفضل اتساع معارفه أنه قمر واحد، أي أن الطفل بدأ يحكم عقله؛ وكلما كبر ازدادت محاكمته للأمور غنى بما يكتسبه من معارف جديدة تساعده في إدراك ما يراه. وهذا المثال ينطبق على اللغة، فنحن لا نفهم الكلام الذي نقرأه أو نسمعه إلا لأننا نربط بينه وبين معارفنا غير اللغوية.
تختلف المعرفة من إنسان إلى آخر عمقاً واتساعاً؛ وهي لا تغطي المجالات المعرفية ذاتها. والإنسان لا يتلقى شيئاً إلا ويفهمه، أي يؤوله بشكل أو بآخر. وكل ما يستعصي على الفهم التلقائي يكون مرده إلى أن المتلقي لم يكن يعره اهتماما. وهي ظاهرة يومية تحدث في كل التفاعلات بين العالم الخارجي والحواس. فعقل الإنسان لا يتلقى شيئاً دون محاكمة (وإن كانت هذه المحاكمة تلقائية عفوية تتم بسرعة مذهلة) لدرجة أن الاستنتاجات البسيطة والبديهية التي يتوصل إليها البالغ تستند إلى ركيزة من المشاهدات والمحاكمات المعقدة . وهذه الركيزة تسمح له بتنسيق كل عمل من أعماله بطريقة آلية يتعذر عليه وصفها، بما في ذلك فعل الكلام، ، حتى أن اعتقاداً ساد أن الحواس ما هي إلا مجرد تسجيلات، وأن السلوك هو ردود أفعال أو استجابات لحوافز خارجية (حافز-استجابة). وهذا ما أكده علماء النفس عندما قالوا بوجود تصور تأويلي بين الحافز والاستجابة.
ينتج المعنى إذن عن التقاء العبارة اللغوية التي نراها على الورق أو نتلقاها بالسمع بالمعارف التي تكون في جعبتنا عند القراءة أو الاستماع. مما يعني أن الترجمة عملية ممكنة بالرغم مما يكتنفها من صعاب. ولكن يجب أن نقر أنها عملية نسبية في نجاحها، وأنها أقرب إلى الفن منه إلى العلوم البحتة، ويغلب عليها الطابع الذاتي لما تستند إليه من مهارات خاصة وموهبة وحدس يستحيل وصفها في رأينا، ويتعذر نقلها من إنسان إلى آخر. إن الترجمة خيانة خلاقة trahison créatrice تعطي العمل المترجم واقعاً جديداً، إذ تتيح له إمكانية تبادل جديد مع جمهور أوسع وتغنيه بوجود ثان. أما إذا اقتصرنا على الترجمة الحرفية كما ينادي البعض، بدافع الأمانة المزعومة، واعتبرنا أن الترجمة يجب أن تقتصر على نقل الرموز أو العلامات اللغوية فيحق لنا عندئذ الإقرار باستحالتها.


خاتمة:
وفي الختام نقول إن بين وصف العلامات اللغوية للغة ما وتحليل المقاصد الفردية التي يعبر عنها الكلام ثمة حيز لا يشغله إلا علم الترجمة (6ص264). فعلم اللغة لا يتجاوز وصف العلامات اللغوية المتوفرة أمامه للولوج إلى ما ينطوي عليه التواصل بين الأفراد من مدلولات ضمنية أو مضمرة. بينما يرمي علم الترجمة إلى استخلاص ما يدركه كل فرد من الكلام الموجه إليه أو من النص المخصص له وذلك استناداً إلى المخزون المعرفي المتوفر لديه. وهذا ما يدفعنا إلى القول إن الترجمة لا تقتصر على نقل الرموز اللغوية وإنما تتخطاها لمعرفة المقاصد الحقيقية للمتكلم. وباختصار شديد نقول إن على المترجم أن يدخل إلى أعماق النص ليضع يده على المقاصد التي رمى إليها الكاتب ومن ثم يؤدي عمله الذي يقوم بشكل أساسي على نقل المضمون بأمانة كاملة.





Références

[1] Dubois, Jean et al. 1973, « Traduire c’est énoncer dans une autre langue (ou langue cible) ce qui a été énoncé dans une autre langue source, en conservant les équivalences sémantiques et stylistiques. » Dictionnaire de linguistique, Paris, Larousse,.
[2] Mounin, Jeorges, 1963 Les problèmes théoriques de la traduction, Paris.
[3] Gémar, Jean Claude1995, Traduire ou l’art d’interpréter, tome 2 : application, Québec, Presses de l’Université du Québec.
[4] Dlisle, Jean, 1980 L’analyse du discours comme méthode de traduction : initiation à la traduction française de textes pragmatiques anglais, Ottawa, Editions de l’Université d’Ottawa.
[5] Jacobson, Roman, 1955 Aspects linguistiques de la traduction,. Ouvrage paru en anglais en sous le titre : On Linguistic Aspects of Traslation, Harvard University Press.
[6] Lederer, Marianne et Seleskovitch, Danica 1993 Interpréter pour traduire, Paris, Didier.


بقلم الدكتور / عبد الحميد عبد الله الفته

الأسيرة
30-12-06, 08:32 PM
لي عودة للموضوع المهم

لك تحياتي

الآتي الأخير
02-05-17, 05:16 PM
بحث رائع دكتور بارك الله في جهودكم و نفع بكم