تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : لورنس لغز الجزيرة العربية


خالد الحويطي
18-02-07, 12:58 AM
بسم الله الرحمن الرحيم



http://www.alhowaitat.net/uploader//photos/414.jpg

http://www.alhowaitat.net/uploader//photos/413.jpg

http://www.alhowaitat.net/uploader//photos/417.jpg

http://www.alhowaitat.net/uploader//photos/418.jpg


]كتاب : لورانس لغز الجزيرة العربية

انتوني ناتنغ و لويل ثوماس

١٩٨٧

بيروت



مقدمة

ولد توماس ادوارد لورانس في اليوم السادس عشر من شهر آب، عام ١٨٨٨ . وكان الابن الثاني غير
الشرعي للسير توماس روبرت تشابمان من السيدة سارة مادن، التي كانت تعمل في منزله كمربية لبنات ه الأربع،
فأحبها وهجر زوجته الشرعية من أجلها . ثم رحلوا جميعًا من ايرلندا واستقروا في مقاطعة ويلز . وهناك
عاشرها معاشرة الأزواج. وما لبث أن بدل اسم أسرته من تشابمان إلى لورانس.
هذا، وقد أنجب السير لورانس من زوجته الجديدة، سارة خمسة أولاد، هم : بوب، الابن البكر، الذي التحق
بإحدى البعثات الطبية التي كانت تعمل في الصين.
وبقي فيها لغاية عام ١٩٣٥ ، إذ عاد إلى بريطانيا، وكرس حياته لخدمة والدته. وتوماس، الابن الثاني، وهو
الذي غدا تلك الشخصية الأسطورية المعروفة باسم "لورانس العرب".
وويل وفرانك، اللذان قتلا في الحرب العالمية الأولى. وأخيرًا. ارنولد، الذي أصبح أُستاذًا في جامعة كمبريدج
يدرس مادة علم الآثار. وقد اختاره لورانس ليكون وصيًا شرعيًا يرعى حقوقه في مؤلفاته ومنشوراته بعد وفاته.
والجدير بالذكر أنه لم يبق في قيد الحياة من أبناء السير لورانس، سوى اثنين، وهما : بوب ، الابن الأكبر،
وأرنولد، الابن الأصغر. أما ويل وفرانك، فأنهما قد قتلا كما ذكرنًا آنفًا في الحرب العالمية الأولى.
وتوفي الوالد أي السير لورانس في عام ١٩١٩ ، وذلك أثر إصابته بوباء الأنفلونزا، بينما توفي لورانس
الأسطورة في عام ١٩٣٥ ، وذلك على أثر إصابته في اصطدام حدث لدراجته النارية. أما الوالدة فقد توفيت عام
١٩٥٩ بعد أن عاشت حياة طويلة امتدت إلى ثمان وتسعين سنة.
ومما يذكر أن لورانس كان في السنة الأولى من عمره عندما قرر والده أن يرحل من ايرلندا . وكان أن توجه
منها أو ً لا إلى اسكتلندا.
ثم عاد وانتقل منها إلى جزيرة "مان"، ليعود ويهاجر منها إلى منطقة جوسي ثم إلى فرنسا . وأخيرًا، عاد من
فرنسا إلى بريطانيا حيث استقر نهائيًا في مقاطعة اوكسفورد . وهنا ألحق أولاده بإحدى المدارس الثانوية، ثم
الجامعة.
لقد ظهرت معالم النبوغ على لورانس، منذ نعومة أظفاره، فقد كان شديد الميل إلى الدرس والمطالعة.
٢٢
وكان منذ حداثته يبدي اهتمامًا بالغًا بعلوم الآثار وبالمواضيع المختلفة التي تتفرع عنها، وهي : الهندسة
المعماريّة القديمة والأسلحة والمخطوطات والأواني الخزفية القديمة، وما إلى غير ذلك من الفنون . ونتيجة لذلك
بدأ ير ّ كز اهتمامه على دراسة الحصون والقلاع المتبقية من القرون الوسطى.
هذا ويذكر لورانس في مذكراته الشخصية أنه كان في العاشرة من عمره عندما اعترف له والده بواقع حياته
الزوجية وقصة فراره مع والدته من ايرلندا.
ويذكر أيضًا أن والده كان يرغب الزواج من والدته بصورة شرعية، لو أن زوجته الشرعية السابقة الليدي
تشابمان رضيت بالطلاق منه.
والظاهر أن لورانس تأثر جدًا بما عرفه عن ماضي أُسرته . ذلك الماضي الذي جعل رفاقه في المدرسة
يعرضون عنه وعن مخالطته ومعاشرته كغيره من الطلاب.
من هنا كان أن تولدت في نفسيته نزعة جامحة هي التي كانت تدفعه نحو المعالي، وهي التي كانت تحّثه على
القيام بمثل تلك الأعمال الحارقة التي تمكن بها من التفوق على جميع أقرانه الطلاب، الذين كانوا ينظرون إليه
من زاوية القيم الأخلاقية السائدة في ذلك العصر يقينًا منهم بأن ذلك كان كافيًا لتجريده من جميع الاعتبارات
الاجتماعية. وكأنه كان يريد بذلك أن يقول لهم بلسان الشاعر القائل:
لا تقل أصلي وفصل أبدًا إنما أصل الفتى ما قد حصل
ومما كان يزيد في اعتباره الاجتماعي حرص والديه على تمسكهما بالمبادئ والقيم الأخلاقية، وحرصهما على
بقاء أواصر عائلتهما القوية، متينة، مترابطة.
وأهم من كل ذلك أن والدته قضت حياتها شريفة بين الناس، تقية، مخلصة لزوجها، عطوفًا على أولادها،
حريصة كل الحرص على أن تربيهم تربية صالحة وشريفة . وذلك ما جعلها قريبة من أفئدة جميع الذين عرفوها
وعاشروها، وجعلهم بالتالي يتناسون ماضيها.
كذلك كانت والدة لورانس ذات إرادة قوية ، كأنما توقدت من صخور البال في اسكوتلندا، موطنها الأصيل،
والذي يبدو لي هو أن لورانس كان ولدها الوحيد الذي ورث عنها إرادتها الصامدة التي لا تلين.
وهناك من يقول إن انصراف والدة لورانس إلى تربية أولادها تربية حسنة لائقة، وانصرافها إلى الصلاة
وأعمال البر والإ حسان، إنما كان بدافع ما كانت تشعر به من وطأة تلك الجريمة التي اقترفتها بحق مخدومتها
الليدي تشابمان، على تفكيرها وضميرها.
وعلى أية حال، فليس هناك من ينكر أن والدة لورانس عاشت حياة صالحة مفعمة بالرشاد والصلاح.
أما والده فكان على الرغم من ثقافته المرموقة لا يشعر بأي ميل نحو العمل أو طلب الوظيفة . وربما كان مردّ
ذلك إلى نزعته الأرستقراطية التي توّلدت في نفسه من واقع انحداره من أُسرة غنية تملك الأطيان الشاسعة في
ايرلندا. حتى أنه كان لا يتصور بأن واجباته الأساسية في الحياة تعدو نطاق إدارة شؤون الأسرة وممارسة بعض
أنواع الرياضة.
٣٣
والواقع أنه كان يملك زورقًا للسباق، ويكثر من الذهاب إلى رحلات الصيد . ومع مرور الأيام أخذ يهوى
ركوب الدراجات الهوائية. فكان يحاول أن يشبع رغباته منها بالإكثار من النزهات والرحلات البعيدة . ومما يقدر أن لورانس كان يرافقه في أغلب الأحيان . وكثيرًا ما كان يذهبان في رحلات بعيدة إلى بعض المناطق النائية من الجزر البريطانية، وبنوع خاص، إلى مقاطعة ويلز، وهناك شاهد لورانس لأول مرة الأثرية . وفي عام ١٩٠٦ ذهب لورانس برفقة
والده في رحلة إلى فرنسا. وفي شهر تشرين الأول من عام ١٩٠٧ ، التحق لورانس بكلية يسوع في أكسفورد. وهناك سجل لنفسه عدة اكتشافات رائعة عندما كان يقوم بأعمال التنقيب عن الآثار تحت مياه البحر.
وأبدع في المحاولات البارعة التي برهن بها عن رشاقته وخفته في التنقل من فوق سطوح الأبنية أناء الليل.
كما انه اشتهر بروحه المرحة، وعمق تفكيره ، وسعيه الد ائب في طلب العلم والمعرفة، واهتمامه الزائد
بدراسة أحداث ووقائع القرون الوسطى، وتع ّ شقه لمطالعة القصص الروسية والمؤلفات العسكرية في التكتيك
والاستراتيجية الحربية.
وهكذا استطاع لورانس في غضون فترة قصيرة أن يسترعي انتباه بعض مشاهير علماء الآثار، أمثال ليونارد
وولي وهوغارث. ولا عجب إذا ما أصبح العالم هوغارث يحدب عليه حدب الوالد على ولده، ويحاول ما استطاع أن يعزّز
ثقافته في شؤون الشرق الأوسط ودراسة آثاره والتعمق في دراسة تقاليد شعوبه. وقد بلغ اهتمامه بالحصون والقلاع القديمة المنتشرة في إنجلترا وفرنسا حدًا كب يرًا دفعه للسفر إلى سورية وفلسطين سعيًا لدراسة القلاع الصليبية هناك والاطلاع عليها عن كثب . وبالفعل فقد توجه إلى الشرق الأوسط في صيف عام ١٩٠٩ غير متزود إ ّ لا بالعلم والمعرفة والجرأة ونكران الذات والإرادة الصلبة التي لا تلين حتى بوجه الكوارث الطبيعية وأقسى الأحوال الجوية، وحب المغامرة والمخاطرة. وما أن وطأت قدماه أرض الشرق حتى راح يطوح في مناطقه سيرًا على الأقدام . فكان إذا جن الليل لا يتردد
عن طرق أبواب بيوت البدو ليقضي ليله بينهم. والمدهش في لورانس أنه كان لا يتوقف ولا يكف البتة عن السفر والتنقل حتى في أشد حالات الإرهاق أو تعرضه للمرض. وطبيعي أنه وجد في سحر الشرق وروعته، ولطف شعبه وكرمه، وشهامته، وحسن ضيافته، ما كان ينسيه مرضه ويخفف عن نفسه شدّة النوبات التي كانت تنتابه أثناء جولاته وتنقلاته.
وثمة سبب آخر دفع لورانس للشخوص إلى بلاد الشرق . وهو أنه كان يستعد لتقديم أطروحته الجامعية، فجاء يستوحي موضوعها من سحر الشرق وروعة القلاع الأثرية القائمة فيه. والحقيقة أنه وضع تلك الأطروحة ونال بها درجة بكالوريوس في العلوم . ثم نشرها تحت عنوان "القلاع الصليبية". وقد ضمنها العديد من الصور والرسوم والخرائط التي التقطها ووضعها بنفسه.
٤٤
وعلى أثر ذلك، وبإيعاز من الدكتور هو غارث وتوصياته بلورانس وهب منحة دراسية ليتسنى له أن يتابع
دراساته وأبحاثه الأثرية. وعلى الرغم من إلمام لورانس باللغة العربية، فقد التحق بمدرسة تابعة للإرسالية الأميركية في مدينة جبيل اللبنانية، حيث انضم إليه الدكتور فيما بعد. وبعد مدة غادرا تلك المدرسة وسافرا من لبنان إلى إحدى المناطق السورية للقيام بأعمال التنقيب عن الآثار فيها. وفي شهر آذار من عام ١٩١٣ ، وصلا إلى مدينة جرابلس "كركميش" فبقي لورانس هناك مدة ثلاث سنوات يقوم بأعمال التنقيب والبحث وجمع الأواني ا لخزفية وتصنيفها حسب عهودها. والجدير بالملاحظة أن لورانس أبى إ ّ لا أن يعيش بين العمال والأكراد الذين كانوا يساعدونه في أعمال الحفر، فتعّلم منهم لغاتهم ولهجاتهم المختلفة إلى حدّ الإتقان، وتعمّق في دراسة تاريخ أسرهم وطبائعهم.
وفضلا عن ذلك، كان ينظر في مشاكلهم وخلافاتهم ويعمل على حّلها بمنتهى التجرد والإنصاف والإخلاص.
وحدث أن بلغ القيظ أشده في عام ١٩١٩ ، فتضايق لورانس لشدة ما كان يسببه له من الإرهاق . فأوقف
عمليات الحفر والتنقيب عن الآثار، وقفل عائدًا إلى سورية مشيًا على الأقدام . ولم يكن نصيبه من رحلته هذه
سوى المشقة والإرهاق والمرض. ومن سورية سافر إلى بريطانيا فأمضى فيها فترة نقاهة استعاد فيها نشاطه وعافيته . ثم غادرها عائدًا إلى كركميش حيث تابع أعمال التنقيب. وقد كان للتجارب التي مر بها لورانس واختبرها في سورية أثرها العميق في نفسه . وكان إلى جانب هذا كله يكره الأتراك كرهًا شديدًا كما لو أن هذا الكره كان متأصلا في ذاته . وأشد ما كان يحز في نفسه رؤية الأتراك يتحكمون بمصير الشعب العربي العظيم في سورية.
ومن هنا آلي على نفسه أن يشترك في النضال مع الشعب السوري بغية طرد الأتراك من سورية وتخليصه
من طغيانهم وإرهابهم و تسلطهم حتى تعود إليه حريته، وتتاح له الفرصة كي يعمل من أجل بلاده وازدهارها،
فتعود إلى تبوء المركز الذي يليق بها، وتستعيد سابق عهدها، دولة عربية حرة أصيلة.
في هذه الأثناء، كانت دول أوروبا الوسطى منهمكة في استعدادها لخوض غمار حرب بدت وشيكة الوقوع بعد
التوتر الذي ساد العالم . ومن الجهة الأخرى، كان اللورد كيتشنر في مصر بصفته المقيم البريطاني هناك يحصن
مداخل قناة السويس لأنه كان يتوقع أن تنضم ألمانيا إلى تركيا في أية حرب قد تقع. والسويس، كما هو معلوم، كانت بمثابة العمود الفقري للمواصلات البريطانية . أما صحراء سيناء، فكانت الحصن الطبيعي الذي يحمي مصر من الخلف.
وكانت سيناء في تلك الأيام خاضعة لحكم الأتراك، وليس لدى الإنجليز غير خرائط تدل عليها . وإذ ذاك شكل
الإنجليز فرقة من السادة : وولي ولورانس والقائد نيوكومب عهدوا إليهم مهمة القيام بوضع خرائط على شبه
جزيرة سيناء بعد أن يتوغلوا متخفين . وبالفعل، قام أُولئك بالمهمة على خير وجه، ووضعوا تقريرًا عن حملتهم
بعنوان "صحاري زن".
٥٥
ثم نقحوه ووسعوه في اوكسفورد، ونشروه بكتاب يحمل نفس الاسم . وكانوا ما يزالون منهمكين في وضع
خرائط هذا الكتاب عندما اندلعت نار الحرب العالمية الأولى. وانصرف لورانس في السنة التالية، إلى كتابة دليل عن منطقة سيناء بأسرها كي تستعمله الجيوش أثناء تنقلاتها وتحركاتها في المنطقة. وفي أواخر العام نقل لورانس ونيوكومب وولي إلى مكتب الاستعلامات البريطاني في القاهرة. هناك كان لورانس يتولى رسم الخرائط فضلا عن ا ستجواب أسرى الأتراك توصلا إلى معرفة أماكن قواتهم وعددها. والمعلوم أن الإمبراطورية العثمانية كانت يومئذ تسيطر على شبه الجزيرة العربية وغيرها من الدول العربية التي غدت الآن مستقلة وهي : العراق، سورية، لبنان، المملكة الأردنية الهاشمية، المملكة العربية السعودية، اليمن، بالإضافة إلى فلسطين. وفي ذلك الحين، كانت المنظمات العربية السرية الموجودة في العراق وسورية متحدة دومًا للعمل ضد الأتراك، ومتأهبة لشن ثورة عارمة حالما يتراءى لها أن الفرصة مؤاتية لذلك. وكان الشريف حسين وأولاده الأربعة : علي وعبد الله وفيصل وزيد، بين أُولئك القادة العرب الذين كانت
قلوبهم تخفق بحمى النضال والحماسة والاندفاع في سبيل القضية العربية ونصرتها. وكان الشريف حسين الذي ينتسب إلى سلالة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم )، رئيسًا على بني هاشم. وهي عشيرة دعيت باسم رائدها الأول هاشم الذي كان زعيمًا عظيمًا في القرن السابع . وكان أيضًا الجد الأكبر للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم
فمنذ أيام النبي (محمد صلى الله عليه وسلم) كان يجري تعيين أمير مكة من إحدى الأسر التي تنتسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بصلة القربى والدم. وقد ظل هذا التقليد شائعًا ومعمولا به حتى في الفترة التي حكم فيه الأتراك المقدسات الإ سلامية في الحجاز، مع فارق واحد وهو أن ذلك الأمير كان من وقت إلى آخر يتلقى أوامره من الحاكمين في استنابول. وفي الفترة القصيرة التي سبقت اندلاع ثورة عام ١٩١٩ ، تلك الثورة التي قام بها زعماء منظمة تركية كانت تطلق على نفسها اسم "جمعية الإصلاح والترقي "، ونجح القائمون بها في خلع السلطان عبد الحميد عن عرشه،
قام الأتراك بنقل عدد من أفراد أشراف الهاشميين من الحجاز إلى استنابول. وطبيعي أن يكون الشريف حسين وأولاده الأربعة من بين الذين نقلوا . غير ن ذلك الانتقال كانت له بعض الحسنات بالنسبة إلى الشريف حسين وأولاده، إذ أ نه أتاح لهم أن ينهلوا المعارف من كليات استانبول ومعاهدها العلمية، فتعززت ثقافتهم وتوسعت آفاق معارفهم ومعلوماتهم الأمر الذي مكنهم في المستقبل من أن يقودوا الجيوش العربية ضد الأتراك ويحققوا أعظم الانتصارات.
وفي عام ١٩١٤ ، أي عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، حاول الأتراك أن يستميلوا العرب إلى جانبهم
لمعاونتهم في شن حرب مقدسة ضد البريطانيين والفرنسيين بغية طردهم نهائيًا من كافة الأراضي الإسلامية.
٦٦
إ ّ لا أن الشريف حسين رأى ألا يورط نفسه في مثل هذه المغامرة التي كانت فوائدها ستعود ولا ريب على
الأتراك وحدهم. ولذا فقد أبدى معارضته للفكرة، وخاصة بعد أن أدرك أن هدف الأتراك من وراء ذلك لا يرمي إلى تطهير
الأراضي الإسلامية المقدسة من الأجانب، وإنما لتعزيز نفوذ الأتراك في المواقع التي كانوا يسيطرون عليها.
ومن الأسباب الأخرى التي دفعت الشريف حسين إلى معارضة الفكرة وخوض غمار مثل تلك الحرب، أنه
كان يستعد للقيام بثورة شاملة ضد الأتراك، بالتعاون مع المجاهدين العرب في الولايات المتحدة الأخرى حالما
تسنح لهم الظروف. وعليه فلم يجد الشريف حسين إلا أن يخفي مظاهر الاستعداد للثورة التي كان يزمع القيام بها ضد الأتراك بإظهار الولاء لهم عندما فاتحوه بموضوع إعلان الحرب المقدسة ضد الأجانب.
والدليل على ذلك أن الشريف يوم أوفد ابنه الأمير فيصل للتفاوض مع الأتراك في كيفية خوض مثل تلك
الحرب، كان قد شدد عليه بضرورة الاتصال سرًا بالزعماء العرب في سورية بغية الاتفاق معهم بخصوص
الثورة العربية المتوقعة والوقوف على مدى الاستعدادات والمساعدات التي يمكنهم تقديمها لتحقيق مثل تلك
الثورة. وفي نفس الوقت أوفد ابنه الأمير علي إلى المدينة المنورة للقيام بمساع سرية لدى شيوخ القبائل هناك بغية
تشكيل جيش عربي قوامه الفلاحون ورجال القبائل في الحجاز. كذلك أوفد ابنه الأمير عبد الله إلى القاهرة بغية الاتصال بالإنجليز للحصول منهم على ضمانات وتأكيدات بمساعدة الثورة في حالة إعلانها.
ويومئذ، كانت القيادة البريطانية ترى أن وجهة الحرب تسير في اتجاه معاكس لمصالحها وأمانيها، وذلك على
الرغم من أن جميع الدلائل كانت تبشر بإمكانية نجاح الثورة العربية. وعلى ذلك فقد أبدى الإنجليز تحّفظهم بالنسبة إلى المساعدات التي تطلب منهم تقديمها لمساندة الثورة العربية. وفي تلك الأثناء، كانت القوات البريطانية مثخنة بالجراح إثر اندحارها في معركتي الدردنيل وكوت العمارة . كذلك كانت القبائل السنوسية في صحراء ليبيا تهدد من الخلف مواقع القوات البريطانية الموجودة في مصر ومع ذلك، لم يكف الشريف حسين عن متابعة استعداداته ووضع خططه لإعلان ثورته ضد الأتراك. أما الأمير فيصل فيوجد نفسه في دمشق في مركز حرج للغاية .فقد بث الأتراك العيون حلوله، وراحوا يحصون عليه حركاته وسكناته. وأشدّ ما كان يحز في نفسه رؤية الطاغية جمال باشا يلجأ إلى التنكيل بالمجاهدين العرب هناك ويعذبهم أشد العذاب، ظنًا منه أن ذلك يكفي لتجريد سورية من قدرتها على الثورة.
وأدهى من كل ذلك، أن فيصل وجد أن الفلاحين الذين يعتبرون عصب الثورة وعمودها الفقري، ينخرطون
في صفوف الجيش التركي بسبب كساد المواسم الزراعية وتفشي المجاعة في صفوفهم. وبناء عليه بعث فيصل إلى والده الشريف حسين برسالة نصحه فيها أن يتريث في إعلان الثورة ريثما تميل كّفة الحرب إلى صالح الإنجليز.
٧٧
هذا ما ذكره الكاتب انتوني نانتنغ عن حياة لورانس ونشأته. وهانحن الآن نسرد عليكم بعضًا مما دونه المؤلف
لويل توماس في هذا الصدد. يقول توماس في كتابه أن لورانس ولد في مقاطعة غالدواي الواقعة على الشاطئ الغربي من ايرلندا. كان لورانس يتحلى بقوة جسدية خارقة، شأنه في ذلك شأن جميع أهال مقاطعة غالدواي المشهورين بقوة
بأسهم واحتمالهم للمشقات إلى حد يفوق مقدرة الشعوب الأخرى. وكان يجري في شرايينه دم هو مزيج من الدم الايرلندي والاسكتلندي والإنجليزي والأسباني وغيره. كذلك كان لورانس ينتسب بصلة القربى إلى السير روبرت لورانس الذي كان قد رافق الملك ريشارد قلب الأسد إلى الأراضي المقدسة قبل سبعمائة وثلاثين سنة، والذي كان قد حقق لنفسه شهرة واسعة أثناء اشتراكه في الحصار الذي ضربه الملك قلب الأسد على مدينة عكا، تمامًا كما حدث للورانس إذ رافق اللورد اللنبي إلى الأراضي المقدسة وحقق لنفسه الشهرة والسمعة البعيدة المدى إذ ساهم مساهمة فعّالة في تخليصها من الأتراك. وكان من سلالته أيضًا الأخوان السير هنري والسيرجون لورانس اللذان يعتبران من الرّوّاد الذين شيّدوا
صرح الإمبراطورية في الهند. وكان والده، وهو السير توماس لورانس، أحد الملاكين الكبار في ايرلندا فضلا عن كونه رياضيًا بارزًا. ولكن حدث أن خسر جميع أملاكه إبان الفترة التي كان غلادستون خلالها رئيسًا للوزارة البريطانية، فنقل
أسرته من ايرلندا إلى مقاطعة ويلز. لقد صرف لورانس السنوات الخمس الأولى من عمره في جزيرة شانيل . وما إن بلغ العاشرة من عمره حتى عاد والده وهاجر من تلك الجزيرة إلى شمالي اسكوتلندا حيث بقي وأُسرته هناك مدة ثلاث سنوات. ثم انتقل إلى فرنسا حيث أُلحق لورانس بإحدى المدارس التابعة للآباء اليسوعيين. وأخيرًا عاد الأب وانتقل وأسرته من فرنسا إلى مقاطعة اوكسفورد في بريطانيا. وطبيعي أن يترك الجو الثقافي الرفيع في اوكسفورد أثره في نفسية لورانس، وعلى مستقبله. فقد وصفه أحد أصدقائه في المدرسة الثانوية باكسفورد بقوله : كان لورانس رغم تحول جسمه وضعف بنيته يتحلى بإرادة جبارة وميل كبير إلى المغامرات. كذلك كان لورانس في حداثته محبًا لتسلق الأشجار والمرتفعات وأسطحة الأ بنية، كما لم يجرؤ على ذلك أحد سواه. ومما يؤسف له انه كسرت إحدى ساقيه عندما كان يقوم بمحاولة لتسلق سطح إحدى الأبنية . ويعزو أقاربه قصر قامته إلى هذا الحادث فيقولون إنه قد أّثر على نمو جسمه فيما بعد. والغريب أن جسمه لم يكتسب نموه الكافي منذ ذلك الحين، الأمر الذي يعزز حقيقة قول أقاربه في هذا الصدد. ومما يذكر أن لورانس كان يسلك في حياته السبل التي هي أقرب إلى الحياة في الصحاري منها إلى حياة
المدن.
٨٨
كان غريب الأطوار في سلوكه، حاد الذكاء، ثاقب البصيرة، قوي الإرادة، صلب العود، عميق التفكير وقد
اكتشفت بأنه أنهى ا ستعداده لشهادة بكالوريوس علوم قبل الفترة المطلوبة منه بسنة واحدة وبدون أن يحضر
محاضرة واحدة من المحاضرات الخاصة بها. فكان في بعض الأحيان يشترك في النقاش مع الأساتذة، بينما كان يقضي معظم أوقاته في التنقل والسفر مشيًا على الأقدام، أو كان يغرق نفسه بمطالعة آ داب القرون الوسطى . وحتى يضمن لنفسه الوحدة، كان ينام سحابة النهار ويستيقظ آناء الليل. ومن المؤلفات الأخرى التي شغف لورانس حبًا بمطالعتها والتعمق في دراستها واستيعابها، كتب الدراسات العسكرية ووقائع الحروب. فطالع في هذا الموضوع كتبًا تروي وقائع سنحاريب وحرو ب نحو تمس ورمسيس ونابليون وولنجتون وجاكسون وفون مولتكي. ومن الكتب المفضّلة لديه كتابه "مبادئ الحرب" بقلم المارشال فوش. إلا أنه أخبرني عندما كنت أُرافقه في الشرق أن كتاب يوليوس قيصر والمؤرخ اليوناني كسينفون كانا أكثر أهمية بالنسبة إلى حملته في الصحراء من أي كتاب آخر.
وذلك لأنه كان يتحتم عليه أن يطبق في حملاته وهجوماته التي قام بها في الصحراء ضد الأتراك مثل ذلك
التكتيك الذي كان مناقضًا تمامًا لما ضمّنه المارشال فوش مؤلفه عن مبادئ الحرب. هذا، وقد اختار لورانس موضوع الهندسة المعمارية العسكرية التي شيد الصليبيون قلاعهم بموجبها موضوعًا لأطروحته الجامعية.
وعليه، فانه ألحّ على ذويه أن يسمحوا له بالذهاب إلى الشرق الأوسط بغية الحصول على معلوماته من
مصادرها الأساسية، وليدرس عن كثب الجهود الهندسية التي بذلها الصليبيون في إشادة قلاعهم وحصونهم.
وحدث أن شجعه على ذلك أ ستاذ مشهور في جامعة أوكسفورد هو الدكتور دافيد جورج هو غارث . وقد كان
لهذا الأستاذ تأثير كبير على مجرى حياة لورانس. ويذكر أنه أي الدكتور هو غارث دفعه إعجابه بلورانس إلى أن يذهب إلى مصر أبان الحرب العالمية الأولى ليقوم بصفة مستشار خاص له أثناء حملاته البارعة ضد الأتراك.
وتردّدت والدته في السماح له بالسفر إلى الشرق، ولكنها ما لبثت أن سمحت له بالسفر إلى سورية وزودته
بمبلغ مائتي جنيه لتغطية نفقات سفره وإيابه ومصروفه. أما أن والديه قد سمحا له بالسفر إلى سورية فلأنهما كان واثقين من أن لورانس سيعود إلى بلاده و يستقر فيها نهائيًا بعد أن يختبر قسوة الحياة في الشرق وخشونتها، وحرارة الطقس. ولا مندوحة عن القول إن لورانس شعر بالقرف من الراحة التي يستظل بها المسافرون فور أن وطأت قدماه ارض بيروت. فتوجه لتوه منها إلى دمشق مشيًا على الأقدام . وأغرب ما في ذلك أنه كان يسير حافي القدمين في الطريق
دون أن تراوده أية فكرة في ركوب العربة إلى هناك.
٩٩
وفي سورية راح يطوف في الصحراء بنفسه، ويدرس بدهشة ولهفة عادات وتقاليد الجماعات القاطنة في
الممرّ القديم الواقع بين بلاد ما بين النهرين ووادي النيل. ولما عاد إلى اوكسفورد لتقديم أطروحته، بعد مرور حوالي عامين، كان لديه مائة جنيه استطاع أن يوّفرها من المبلغ الذي زودته به والدته. وقبل عدة سنوات من اندلاع نار الحرب العالمية الأولى، نظمت جامعة اوكسفورد بعثة برئاسة صديق لورانس الأستاذ هو غارث، عالم الآثار المشهور، أوفدتها إلى الشرق للقيام بأعمال البحث والتنقيب عن الآثار في وادي الفرات، وذلك سعيًا منها لكشف النقاب عما تبّقى من آثار الحثيين هناك. وقد عيّن لورانس في هذه البعثة رئيسًا على فرق العمل التي كانت تتألف من الأكراد والتركمان والأرمن
والعرب. والجدير بالملاحظة أن النجاح كان حليف البعثة إذ عثرت على بقايا مدينة كركميش التي كانت قديمًا عاصمة
الإمبراطورية الحثية. ويمكن القول بأن لورانس ورفيقه الدكتور وولي توصلا بالفعل إلى إزاحة النقاب عن آثار أثبتت أنها كانت الحلقة المفقودة في سلسلة الحقائق التي تربط ما بين الحضارات التي ازدهرت في نينوى وبابل، وبداية
الحضارة اليونانية في جزر البحر المتوسط. تلك الآثار التي يعود عهدها إلى خمسة آلاف سنة مضت . هذا ويضم متحف اشمولين في اوكسفورد الكثير من الآثار التي وهبها لورانس له لعرضها فيه قبل أن يبلغ العشرين من عمره.
وعندما اجتمع ممثل بريطانيا وألمانيا وفرنس ا وروسيا وتركيا في عام ١٩١٢ واتفقوا على إعطاء الألمان حق
الإشراف على ميناء الإسكندريون، ذلك الميناء الاستراتيجي المهم، وسمحوا لهم أيضًا أي للألمان بمتابعة بناء الخط الحديدي الذي كان سيربط بين بغداد وبرلين، اشتم لورانس من ذلك تهديدًا جريئًا يوجهه الألم ان لسلطة الإنجليز ونفوذهم في آسيا. وما أن سمع عن ذلك الاتفاق حتى أسرع في الذهاب إلى القاهرة وطلب على الفور مقابلة اللورد كيتشر.
وأثناء المقابلة سأله لورانس عن الأسباب التي دفعت الإنجليز إلى السماح للألمان بالإشراف على ميناء الإسكندريون، وهو الميناء "إن الذي يسيطر على مرفأ الإسكندريون يستطيع في يوم من الأيام أن يقرر مجرى السلام في العالم".
فرد عليه كيتشنر قائلا: "لقد حذرت الحاكمين في لندن المرة تلو المرة دون جدوى . وأغلب الظن أن حربًا ستقع بعد سنتين من الآن. وما حيلتنا أيها الشاب المتحمس طالما ليس هناك من يصغي إلينا؟" ويروي لنا لورانس قصة طريفة مثل حوادثها بنفسه أثناء مغادرته القاهرة وعودته إلى مركزه في سورية لمتابعة أعمال التنقيب هناك، فقد قال انه لم يطق رؤية الألمان يشرفون على أعمال بناء الخط الحديدي الذي كان من شأنه أن يهدد نفوذ الإنجليز في منطقة الشرق الأوسط دون أن يدبر ضدهم مقلبًا يقلقهم ولو لفترة قصيرة، فينتقم منهم لنفسه التي استبد بها اليأس من الخطوة التي أقدمت عليها حكومته في لندن، وكانت مخالفة لتيار تفكيره، ومناقضة لأحكام التاريخ كما خبرها وسبر غور معارفها.
١١٠٠
يذكر لنا لورانس أنه عاد إلى مقر عمله وأ مر بعضًا من عماله بنقل بعض الأنابيب الضخمة على ظهور
البغال والجمال من مكان التنقيب إلى التلال الرملية القريبة من منشآت الألمان، تلك التلال التي كانت تطل على
المنشآت كأحد المراكز الاستراتيجية والمهمة التي أرادت الطبيعة أن تتوج بها قلب الصحراء المنبسط.
وما إن وصلت الأنابيب إلى هناك حتى بادر لورانس إلى تركيز فوهاتها صوب منشآت الألمان ليدخل في روعهم أن هناك من يقوم بتحصين التلال لتهديد أعمالهم فيها. وبالفعل، فقد تصور الألمان أن الإنجليز كانوا يحصنون التلال بتركيب مدافعهم فوقها، واستولى عليهم الذعر، وعلت الجلبة بين صفوفهم، فأوقفوا سير الأعمال، ثم أبرقوا إلى استانبول وبرلين قائلين للحاكمين فيها أن الإنجليز يقومون بتحصين التلال المطلوبة على منشآت الخط الحديدي. أجل، لقد حدث كل ذلك بمعرفة لورانس ورفيقه وولي . وبينما دب الذعر في صفوف المهندس الألمان، غمر الفرح قلب لورانس وطفق هو ورفيقه الدكتور وولي والعمال العرب يضحكون ويسخرون منهم. وقد روى لنا لورانس أيضًا حكاية طريفة من نوعها، ولكنها تدل على مدى حنكته وكياسته في التغلب على الأزمات إذا ما اشتدت وتعّقدت.
فهو يحدثنا أن الألمان كانوا سيستخدمون في أعمال الخط الحديدي ذاك عددًا كبيرًا من الشبان المحليين . غير أنهم لم يكترثوا بمعرفة أسماء أولئك العمال بل اكتفوا بدمغ أرقام على سترهم من الخلف للتمييز بينهم وبين أي غريب قد يندس بينهم لسبب من الأسباب. وكانوا أي الألمان بدافع تحمسهم لإنهاء العمل بأقصى سرعة ممكنة لا يهمهم من أمر العمال أو
مشاكلهم المحلية شئ. من هنا بدأت المشاكل تبرز في وجههم، إذ وجد بعض العمال الفرصة سانحة للثأر من بعضهم البعض، بدلا من الانهماك في حفر الخنادق وغيرها من مستلزمات العمل. وتوالت أعمال الثأر إلى درجة أن الألمان لم يعرفوا كيف يضعون حدًا لها. وأدهى من ذلك أن الألمان وجدوا أنفسهم بعد فترة قصيرة، هدفًا لهجوم من العمال الأكراد للفتك بهم . وكم كان حظ الألمان وافرًا إذ هرع لورانس وزميله وولي إلى نجتهم في الوقت المناسب فاستطاعا أن يحولا دون حدوث مذبحة رهيبة كانت على وشك أن تقع بين لحظة وأخرى. ونتيجة لأعمالهما البطولية فقد انعم عليهما السلطان بوسام المجيدية الرفيع . وقد حدث ذلك في أوائل عام ١٩١٤ أي قبل اندلاع نار الحرب العالمية الأولى وبروز شخصية لورانس فيها. ولا بد أخيرًا من الإشارة، في ختام هذه الكلمة، إلى قصة حقيقية ضمنها الدكتور وولي كتابه، عن لور انس. يروي لنا الدكتور وولي أن خادمهما أحمد عاد ذات مرة إلى المنزل مغمومًا.
وسأله لورانس عن سر بكائه فأخبره بأن أحد المهندسين الألمان أمسك به ثم أمر أحد رجاله بجلده جلدًا مبرحًا.
وذكر أحمد بأنه عندما أمسك به ذلك المهندس الألماني كان يتحدث إلى أحد العمال و يطلب منه أن يرد إليه مبلغًا من المال استدانه منه قبل مدة طويلة.
١١١١
وإذا بالمهندس الألماني ينتهره دون أن يسأله عن سر تحدثه مع ذلك الرجل، وأمر أحد رجاله بجلده.
وما إن انتهى أحمد من سرد حكايته حتى نهض لورانس عن مقعده وتوجه لتوه إلى مركز ذلك المهندس وقد صمم على ألا يعود إلا وقد أرغم ذلك الألماني على القدوم إلى القرية والاعتذار لأحمد أمام الناس.
أما إذا رفض فقد صمم لورانس على أن يثأر لأحمد من ذلك المهندس بإحضاره إلى القرية وجلده أمام جميع سكان القرية.
وصل لورانس إلى منشآت الألمان وتوجه على الفور إلى مكتب رئيس بالمهندسين، فقص على مسامعه ما حدث لأحمد على يد أحد مهندسيه وطلب منه إما أن يأمر هذا المهندس بتقديم الاعتذار علنًا أمام سكان القرية
وإلا فسيرى نفسه مضطرًا لسوقه إلى القرية وجلده هناك.
وحاول رئيس المهندسين أن يدخل في روع لورانس أن مهندسه لم يوجه أية إساءة لأحمد، كل ما في الأمر أنه جلده.
وهنا اغتاظ لورانس وقال بحدة: وماذا تسمي ذلك إذا كنت لا تعتبر عملية الجلد إهانة؟
لا شئ ! فنحن نضطر في معظم الأحيان أن نجلد السكان المحليين لردعهم عن القيام بأعمال تخلّ بأنظمتنا العملية وأوامرنا… وليس هناك من سبيل إلى ذلك سوى هذا الأسلوب.
وضحك لورانس ساخرًا، ثم ردّ عليه بتهكم ظاهر يقول: يبدو أنك تجهل كيف يجب أن تعامل سكان البلاد الأصليين . لقد مضى على وجودنا هنا فترة أطول بكثير من الفترة التي قضيتموها أنتم…. ومع ذلك لم نجلد أحدًا، وليس في نيتنا أن نحكم على أحد بالجلد في المستقبل. وخلاصة القول أنه ينبغي على مهندسكم الذهاب إلى القرية والاعتذار لأحمد هناك أمام جميع سكان القرية…
هنا ضحك رئيس المهندسين وقال له: هكذا ؟… أعتقد بأن القضية انتهت عند هذا الحدّ.
وردّ لورانس عليه: هكذا! ثم أشاح بوجهه وهو يقول: بل العكس هو الصحيح… فإذا لم تفعل كما قلت فسأتولى معالجة القضية بنفسي.
وتطلع إليه رئيس المهندسين وقال بجدية: ماذا تعني؟
سترى! إنني سأنقل المهندس إلى القرية رغمًا عنه وأجلده هناك.
عندئذ صرخ رئيس المهندسين الألماني بغيظ وقال:
لن يكون بوسعك أن تفعل ذلك.
فردّ لورانس يقول:
سترى بأُم عينيك! سترى ما إذا كنت أجرؤ على القيام بمثل هذا العمل أم لا.
١١٢٢
وهنا أدرك رئيس المهندسين أن لورانس كان يعني ما يقول، وانه مصمم على تنفيذ تهديده . فما كان منه إلا
أنه طلب من مهندسه أن يذهب مع لورانس إلى القرية ويقدم اعتذاره لأحمد هناك بصورة علنية.

خالد الحويطي
18-02-07, 01:01 AM
http://www.alhowaitat.net/uploader//photos/419.jpg

http://www.alhowaitat.net/uploader//photos/420.jpg

http://www.alhowaitat.net/uploader//photos/421.jpg

http://www.alhowaitat.net/uploader//photos/422.jpg



الفصل الأول

ثورة في بلاد العرب

حدد الأتراك اليوم الأول من شهر تموز عام ١٩١٦ موعدًا لتنفيذ حكم الإعدام بدفعة جديدة من المجاهدين العرب.
فما إن ألقت الشمس خيوط أشعتها الذهبية على ساحة مدينة دمشق الكبرى، حتى شوهد الجنود الأتراك
يسوقون أمامهم بعض المجاهدين العرب الذين طغت على معالم شهامتهم وبسالتهم مظاهر ثيابهم المهلهلة، حتى
كادت تلك المظاهر أن تقضي على مآثرهم الخالدة.
وفي وسط الساحة، وقف الجلاد الطاغية ينتظر وصولهم لكي ينفذ فيهم حكم الإعدام الواحد بعد الآخر بلا رحمة أو شفقة.
وقد سبق ذلك عملية نصب أعواد المشانق في وسط الساحة، ووضعت الآن عربة خيل عسكرية تحت منصتها تمامًا.
وفي تلك الأيام، كان حكم الإعدام ينفذ بالمحكوم عليهم بمنتهى البساطة والفظاعة . فقد كان المحكوم عليه بالإعدام يؤمر بالصعود إلى العربة والوقوف تحت عود المشنقة تمامًا، ومن ثم ، كان الجلاد يدفع جبل المشنقة بيده في عنقه. ومتى تم ذلك بادر إلى دفع العربة إلى الوراء تاركًا ذلك الإنسان أمانة لحبل المشنقة الذي كان لا يحسن سوى بتر الوريد وقبض الأنفاس. وفي ذلك اليوم المشهود، وقف ثمانية رجال فوق منصة قريبة من المشنقة يشهدون عملية إزهاق أرواح أولئك المجاهدين البررة . كانوا ثمانية رجال : سبعة منهم من الأتراك بينهم جمال باشا، حاكم سوريا يومئذ، وقائد
السجن، والثامن كان عربيًا كما دلت عليه مظاهره.
انه الأمير فيصل يقف برباطة جأش، يقف صامتًا لا يبالي لما راح يطلقه هؤلاء القادة الأتراك من الشتائم بحق العرب، وكلمات الاستفزاز التي تنال من كرامتهم. كان أُولئك المحكومون بالإعدام والذين جئ بهم إلى ساحة دمشق الكبرى لملاقات الموت، دفعة جديدة من السوريين الذين هم أصدقاء للأمير فيصل، وقد اتهمهم الأتراك بالتآمر ضد الإمبراطورية العثمانية. لقد كان هؤلاء المحكومون من الثوار الذين ناضلوا في سبيل حرية العرب، والمثل العليا التي يؤمنون بها،
حتى أن أحدهم كان ابن عم الأمير فيصل بالذات . وقد أعتقله الأتراك بعد أن جاء من أنبأهم باجتماعه سرًا مع الأمير فيصل قبل بضعة أسابيع. ورب قائل يقول : كيف يمكن تفسير وجود الأمير فيصل بين الأتراك بينما يحتفظ لنفسه بلقب أمير العرب؟ والحقيقة أن الأمير فيصل كان يأتي مرغمًا إلى ساحة الإعدام تحت ضغط جمال باشا وأوامره.
١١٣٣
والواقع أن جمال باشا كان يرغم الأمير فيصل على أن يشهد بنفسه عملية تنفيذ أحكام الإعدام، وأن يقف إلى جانبه. وغايته من ذلك ثلاثة أهداف:
1- تثبيط عزائم الثوار العرب ممن عجزت السلطات التركية عن القبض عليهم. )
2- إيهام المحكومين بالإعدام بأن الأمير فيصل كان صديقًا للأتراك وحليفهم الأكبر. )
3- إيقاف فيصل وجهًا لوجه أمام المحكومين على مظهره يثير أحد المحكومين بالإعدام فيوجه إليه )
في فورة غضبه تهمة كونه الدافع الحقيقي والمحرك الرئيسي والعقل المدبر لحركة الوطنيين العرب في سورية فيتخذ جمال باشا من هذا القول إذا حدث ذريعة للقبض على فيصل فيتخلص منه نهائيًا.
والذي يبدو أن الأمير فيصل وجميع أعضاء حركة الوطنيين العرب كانوا مدركين غاية جمال باشا من إرغام الأمير على حضور تنفيذ أحكام الإعدام بالمجاهدين، ولذا كان المحكومون يواجهون الموت بشجاعة ورباطة جأش وهم يدركون حقيقة الدور الذي كان فيصل يقوم به سرًا دون معرفة الأتراك. فما كان فيصل يجهش بالبكاء أو يغضب لرؤية إخوانه في الجهاد يموتون على أعواد المشانق حرصًا على قضية أعظم وأهم، كما لم يكن المحكومون ينبسون ببنت شفة أو يوجهون اللوم لفيصل وهو ماثل أمامهم كأنه يحصي أنفاسهم وهم يجابهون الموت بكل شجاعة وصلابة.
غير أن فيصل المشهور برسوخ إيمانه، وصلابة عوده، وقوة أعصابه، لم يستطع أن يكتم غيظه أو يسيطر على أعصابه عندما شاهد الجنود الأتراك يسوقون إلى المشنقة صبيًا في الثانية عشرة من عمره.
وأشد ما حز في نفسه من الألم والحسرة في تلك الساعة، وإزاء ذلك المشهد المؤلم، أن ذلك الصبي لم يكن مجرد ابن لصديق من أعز أصدقائه فحسب، بل كان يقوم بواجب وطني مقدس ساعة قبض عليه الأتراك.
فقد كان الصبي في طريقه إلى مكة يحمل رسالة إلى الشريف حسين من رئيس جمعية المجاهدين العرب في سورية.
فلما جئ به في صبيحة ذلك اليوم لتنفيذ حكم الإعدام به كغيره من المجاهدين الكبار، حاول فيصل أن يضبط أعصابه.
ولكن عندما علق الصبي على حبل المشنقة وظل يترنح في الهواء لفترة طويلة دون أن يموت بسبب خفة جسمه، ثارت ثائرة فيصل. ومع ذلك فقد حاول إخفاء مظاهر عصبيته المتعاظمة في نفسه . وأخيرًا، لم يعد بوسعه أن يتحمل أكثر
من ذلك خاصة بعد أن شاهد الصبي يعاني نزاعًا طويلا مريرًا يكفي لأن يثير حتى عديم الشعور.
وبعد أن شاهد جمال باشا وقد تضايق من طول نزاع الصبي وحاول مغادرة ساحة الإعدام لئلا يفوت الموعد المضروب لتناول طعام فطوره،
التفت إليه فيصل وصاح بوجهه غاضبًا: "إن أعمالكم الوحشية هذه سوف تكلفكم غاليً ا… وإن العدالة الإلهية قادرة على أن تقتص منكم وتنزل بكم أقسى العقوبات وأضرمها".
فرد عليه جمال باشا مستغربًا:
١١٤٤
"لقد نسيت بأنك مرتد بزة عسكرية تركية ورحت تتفوه بمثل هذا الكلام الذي يقابل بعقوبة الإعدام؟"
ولم يضيع جمال الفرصة فأمر جنوده بإلقاء القبض على فيصل ووضعه في زنزانة انفرادية. وبقي فيصل مسجونًا بضعة أسابيع دون أن يعلم متى يحين موعد إعدامه أو إطلاق سراحه. إلا أن حكام استانبول ارتأوا بعد مشاورات طويلة بينهم وبين جمال باشا، أن يطلقوا سراح فيصل من السجن وإبقاءه على قيد الحياة .فقد وجدوا أن م الخير لقضيتهم إبقاء فيصل على قيد الحياة وبالتالي إبقاءه في دمشق تحت مراقبة جمال باشا. والذي لا ريب فيه أن السجن ترك أثرًا عميقًا في نفسية فيصل .وقد زاد في تعاسته أن أخبار الحرب كانت مقلقة للغاية. فقد وردت أخبار مفادها أن الحلفاء قد عدلوا عن تنفيذ خطتهم الرامية إلى إنزال قواتهم على الشاطئ القريب من الاسكندرون مما أدخل الغبطة والبهجة إلى نفوس الأتراك، والتعاسة إلى نفس فيصل. ذلك لأن عملية الإنزال في الاسكندرون كانت ولا مشاحة ستخلق متاعب جمة بوجه الأتراك، وتفتح ثغرة واسعة يستطيع الإنجليز أن ينطلقوا فيها يحاربون في الأراضي الخاضعة لحكم الأتراك.
أضف إلى ذلك أن القوات البريطانية كانت قد تكبّدت خسائر فادحة في معركة نشبت بالقرب من الدردنيل، وأوشكت أن تستسلم للقوات التركية في منطقة كوت العمارة. أما في سورية، فقد ضاع كل أمل يراود الأمير فيصل بإمكانية إشعال ثورة وطنية ضد الأتراك، نظرًا لأعمال القمع الوحشية التي كان جمال باشا يقوم بها هناك.
في هذه الأثناء وصلت معلومات إلى فيصل مفادها أن الاستعدادات جارية على قدم وساق في الحجاز
للقيام بثورة ضد الأتراك. وأفادت المعلومات الخاصة التي كانت ترد إلى فيصل بأن الشريف حسين كان يجمع رجاله موهمًا الأتراك انه يفعل ذلك لشد أزرهم في الحرب المقدسة التي يزمعون القيام بها ضد الأجانب، بينما كان في
الواقع يجمعهم لإضرام نار الثورة ضد الأتراك بالذات. غير أن فيصل لم يكن يؤمن بنجاح مثل هذه الثورة التي تشتعل من الحجاز بينما يجد نفسه أسيرًا في دمشق بيد الأتراك، وبينما يرى الأتراك يحصدون رؤوس رجالات العرب بتعليقهم على أعواد المشانق. ومن هنا بات الأمير فيصل يخشى من النتائج الوخيمة التي ستنجم عن إعلان الثورة في الحجاز، لأن
ذلك يعني بكل بساطة القضاء عليه وعلى البقية الباقية من أُولئك المجاهدين العرب الذين لم يتمكن
الأتراك من القضاء عليهم بعد. والحل الوحيد الذي تراءى له فيما كان يراقب مجرى الأحداث العارمة هو أن يلوذ بالفرار إلى المدينة المنورة مدخلا في روع جمال باشا أنه ذاهب لتفقد أوضاع القوات العربية هناك قبل مغادرتها أراضي
الحجاز لمساندة القوات التركية في هجومها على مصر. غير أن جمال وكأنه أدرك الحيلة التي ل جأ إليها فيصل رفض أن يسمح له بالذهاب إلى الحجاز، ولم يرض بذلك إلا إذا رافقه أنور باشا، القائد العام للقوات التركية، إلى هناك.
١١٥٥
وقبل فيصل بذلك لئلا تنكشف خطته للأتراك. وفي الطريق، فكر أفراد حاشية الأمير فيصل بالقضاء على جمال باشا وصديقه أنور باشا، ومتابعة سفرهم إلى الحجاز رافعين بأيديهم علم الثورة العربية. غير أن التقاليد العربية منعت فيصل من الموافقة على الخطة التي اعتزم موافقوه تنفيذها ضد جمال باشا ورفيقه أنور باشا التركي.
ورد على رجاله قائلا: ليس من شيم العرب أن يقتلوا أُناسًا يعتبرون ضيوفهم الآن!"
وعبثًا ذهبت محاولات الرجال إقناع فيصل الموافقة على قتلهما حتى يخلصوا العرب من شرورهما وطغيانهما.
وظل الأمير فيصل متمسكا برأيه رغم كل المصائب التي أنزلها هذان الرجلان بالمجاهدين العرب في سورية حتى أنه رفض العمل بخطة سلمية كانت تقضي فقط بإعادة ذينك التركيين إلى دمشق برفقة بعض الخدم العرب.
وبعد أن رجع فيصل من دمشق، وجد العديد من رجالات العرب يوجهون له اللوم للمعارضة التي أبداها ضد تنفيذ خطة قتل جمال باشا، ووجد بالتالي أن جمال باشا لم يكن راضيًا عما شاهده في الحجاز من الاحتجاجات ضد الأعمال التعسفية التي كان الأتراك يمارسونها بحق العرب. إلا أن الأتراك راحوا الآن يردون على احتجاجات العرب بتدابير عملية من شأنها أن تعزز موقفهم في الحجاز، فقد عززوا حاميتهم في المدينة المنورة وعينوا لها قائدًا جديدًا، هو فخري باشا.
وعلى الرغم من كل ذلك، لم يفكر فيصل بقطع اتصالاته مع والده في مكة المكرمة. بل انه ظل مثابرًا على اتصاله به ولكنه كان دائمًا ينصحه بالتروي والتزام جانب الحيطة والحذر بينما كان الشريف حسين يرد عليه بقوله بأنه ليس بوسعه أن يتريث أكثر مما فعل. وتشاء الصدف أن تصل رسالة إلى فيصل من والده في ذات اليوم الذي شهد فيه تنفيذ حكم الإعدام بابن عم له في دمشق. وقد قال الشريف فيها أن صبره قد نفذ ولم يعد بوسعه الانتظار أكثر مما انتظر.
وأخبره كذلك بأنه سيعلن الثورة العربية من مكة بعد مرور أربعة أيام من وصول رسالته إليه . وحثه فيها كذلك على الهرب من دمشق والتوجه إلى الحجاز بمنتهى السرعة، والانضمام إلى أفراد أسرته هناك.
وختم الشريف حسين رسالته بقوله : سنصبح أحرارًا عما قريب بإذن الله. من هنا أدرك فيصل أن والده بات مصممًا على إشعال الثورة وألا فائدة ترجى من نصحه بعد الآن . وأنا أظن أن الشريف حسين أراد أن. يذكر فيصل بأن ساعة العمل الثور قد دقت فما عليه إ لا أن يلبى نداءها.
وهكذا غادر فيصل مدينة دمشق بعد أن أخذ الخوف سبيله إلى قلبه مما قد يلاقيه إذا تأخر في الهرب إلى الحجاز. وبالفعل غادر فيصل مدينة دمشق بمرافقة عدد كبير من أصدقائه وخدمه.
١١٦٦
وفي مكان ما من الصحراء اجتمع فيصل بالأمير نوري الشعلان وهو شيخ قبيلة عرب الرولى، فتحادثا حول موضوع الثورة . ثم تابع طريقه إلى الحجاز بعد أن انضم إليه عدد كبير من أفراد قبيلة نوري الشعلان الذين واكبوا رجاله حاملين علم الثورة العربية الملطخ بالدم الأحمر القاني.
وكّلما كان فيصل يقترب من أراضي الحجا ز كان الأمل يتعاظم في نفسه بحتمية انتصار الثورة العربية .
لقد قال القدر كلمته وما عليه إلا الانصياع لمشيئته . لقد عاد فيصل إلى الحجاز ليجدد العهد بالعمل في سبيل نصرة قضية العرب وتحقيق أمانيهم بالاستقلال والحرية، وتطهير أراضيهم من الأتراك المستبدين

خالد الحويطي
18-02-07, 01:03 AM
الفصل الثاني

عالم آثار يتحول إلى محارب

كان للملاحظات التي أبداها اللورد كيتشنر في حديثه عن الحرب، أثرها في نفسية لورانس، فقد حملته على الاعتقاد بضرورة وقوع اصطدام ما في المستقبل القريب. وعليه، فقد حاول ان يستبق الوحدات عندما توجه إلى مكتب التجنيد طالبًا قبوله كجندي في فرقة اللورد كيتشنر. وكم كانت دهشة أعضاء اللجنة الطبية العسكرية الفاحصة عندما شاهدوا ذلك الشاب النحيل الجسم، القصير القامة، يدخل مكتب التجنيد ويطلب الانخراط في سلك الجندية، ومظاهره أبعد ما تكون عن متطلبات الجندية. وحاول أحدهم أن يداعبه فخاطبه بقوله : "الآن، عد إلى أحضان والدتك وانتظر ريثما تقع الحرب القادمة، ثم
تقدّم إلى التطوع في الجيش". ترى، ماذا كان سيقول أعضاء تلك اللجنة لو أن أحدا أنبأهم يومئذ عن المستقبل العظيم الذي كان ينتظر ذلك الشاب النحيل الذي تهكموا عليه حينما جاء يطلب التطوع في الجيش؟. أجل، ماذا كانوا سيقولون لو أن إنسانا ما تنبأ لهم بأن هذا الشاب سيدخل بعد ثلاث سنوات مدينة دمشق دخول الفاتحين على رأس فرقة من الجيش العربي. وماذا كانوا سيقولون لو أن أحدًا قال لهم حينذاك بأن ذلك الشاب النحيل سيرفض أرفع وسام في الإمبراطورية البريطانية، وسيرفض بالتالي ترقيته إلى رتبة لواء في الجيش.؟
وعلى أية حال، فقد عاد لورانس إلى عمله ينقب عن الآثار ويدقق في المخطوطات الأثرية التي توصل إلى اكتشافها بغية الوقوف منها على أسرار الحضارات القديمة التي ازدهرت منذ آلاف السنين ثم انقرضت.
ولم تكد أخبار الاكتشافات ا لرائعة التي حققها لورانس ولفيف من زملائه العلماء مثال مارك سايكس ولو بري هوبرت وكورنواليس ونيوكوميس، في ميدان الآثار القديمة، تصل إلى مسامع السر جيلبرت كلايتون، حتى بادر هذا الأخير لاستدعائه إلى مقر القيادة العليا للجيوش البريطانية في القاهرة. والجدير بالذكر أن لورانس كان بالرغم من حداثة سنه واضح الإلمام بأحوال العديد من بلدان الشرق الأوسط، وبنوع خاص: تركيا وسورية وفلسطين والعربية السعودية والعراق وإيران. كذلك كان يعرف الكثير عن حياة أهل البادية والحضر على السواء، فقد أمضى فترة طويلة في مشاركة رجال القبائل حياتهم القاسية، وفي مشاركة سكان المدن حياتهم البسيطة الوادعة المترفة.
١١٧٧
ومن هنا كان تمرسه في شتى ألوان الحياة وضروبها، وتكوّنت لديه معلومات كثيرة عن العديد من مناطق الشرق الأوسط. وتجدر الملاحظة إلى أن لورانس كان قد عاش مددًا متفاوتة في كل من حلب والموصل و بغداد ودمشق والقدس. وفضلا عن ذلك كان يتقن بعض اللغات واللهجات المحلية، ناهيك عن المعلومات التي تجمعت لديه فيما يتعلق بتقاليد مجتمعات المنطقة وتطوراتها التاريخية. وعين لورانس، بادئ ذي بدء، في دائرة الخرائط التابعة لرئاسة القوات البريطانية في الشرق الأوسط. وهناك كان ضباط القيادة يقضون الساعات الطويلة وهم يدققون في خرائط ناقصة، سواء كان النقص من حيث الدقة أو الإتقان أو المعلومات، بغية التعرف على مواقع القوات التركية.
ولا ينسى أولئك الضباط مهما طال نقاشهم حول المعلومات الموجودة في الخرائط، أن يهرعوا إلى لو رانس للوقوف على رأيه وأخذ مشورته بشأن أية خطة يريدون الاتفاق عليها. وكان لورانس بدوره لا يتردد أبدًا في إطلاع أولئك الضباط على رأيه في الخطة التي يجب عليهم اتخاذها. بيد أن رأيه غالبًا ما كان مزيجًا من المديح والتقريظ الناعم اللطيف يوجهه إلى الضباط. والذي يبدو أن لورانس مثل ذلك السبيل في رده نظرًا لاتخاذ ضباط القيادة خططهم دون التدقيق في جميع الملابسات والظروف والأحوال اللازمة لتنفيذ مثل تلك الخطة بنجاح.
ونسوق على سبيل المثال أن القيادة اتخذت خطة ذات مرة وكان من المحال تنفيذها بنجاح نظرًا لوجود الهدف المقصود في الخطة داخل منطقة يصعب الوصول إليها بسبب افتقارها إلى الطرق الصالحة لسير السيارات أو العربات، فضلا عن بعدها، ولما كان يتطلب تنفيذها من الجهد والعمل والأرواح. والجدير بالذكر أن لورانس تعرف على جميع المواقع الاستراتيجية التي كانت موجودة في المنطقة ب أسرها .
وكيف لا، وهو الذي تجول في جميع أرجاء المنطقة سيرًا على الأقدام . يشاهد مواقعها، ويدرس، ويدقق، ويبحث. كذلك كان يعرف مواقع جميع الحصون التي شيدتها جيوش الغزاة الذين قاموا بغزواتهم على منطقة الشرق الأوسط، ونخص بالذكر منهم الآشوريين واليونان والرومان والصليبيين. و هكذا استطاع لورانس أن يحيط شخصيته بهالة من التقدير والاحترام بين ضباط قيادة الجيوش البريطانية، وكذلك استطاع بالرغم من الفترة القصيرة على وجوده في مقر القيادة، أن ينتزع إعجاب جميع الضباط به، ويفرض عليهم تقدير أفكاره واحترامها. وعلاوة على ذلك، ا ستطاع لورانس أن يدخل الرعب في قلوب القادة العسكريين الأتراك وذلك نظرًا لكونه أكثر منهم معرفة ودراية، وأعلى كعبًا بالنسبة إلى المناطق التركية النائية في الداخل. ولا غرابة في ذلك إذ أن لورانس أصبح مرجعًا للمعلومات الدقيقة عن منطقة الشرق الأوسط، وطبيعة تكوينها، ومعالمها الطوبرغرافية. هذا، وقد نقل لورانس، بعد فترة وجيزة، من قسم الخرائط إلى دائرة المخابرات السرية التي كان عملها
ينحصر في المناطق التي يحتلها الأتراك.
١١٨٨
فكان على لورانس بصفته رئيسًا لأحد فروع تلك الدائرة أن يطلع القائد العام على كافة التحركات التي كانت الجيوش التركية تقوم بها من حين لآخر . ومما يدل على وعي لورانس لمسؤولياته الجديدة أنه سعى لاستخدام عدد من الشبان المحليين في دائرته. وذلك نظرًا للتسهيلات المتوفرة لهم في التوغل إلى ما وراء المناطق المحتلة والخروج منها بعد حصولهم على كافة المعلومات المطلوبة. وشهد صيف عام ١٩١٥ إعلان عرب الحجاز للثورة ضد الأتراك . والآن لنتوقف لحظة لندقق في الدوافع التي أهابت بالعرب إلى إعلان الثورة، ونتأمل في المشاكل المعقدة المتشابكة والحساسة، تلك المشاكل التي توقع لورانس أن يجابهها فور وصوله قلب الجزيرة العربية، ودراسة أسباب الانتصارات الخاطفة التي حققها العرب فور إعلان الثورة، والمخاطر التي كانت تحيق تلك الثورة وهددتها بالانهيار في أية لحظة. ولكي نعرف كل ذلك، ينبغي علينا أو ً لا إلقاء لمحة خاطفة على تاريخ البلاد العربية.
يذكر التاريخ أن بلاد العرب كانت موطن آدم وحواء… وبلاد ملكة سبأ… ومسرحًا لأبطال "ألف ليلة وليلة". وكان الشعب الذي عاش فيها ينعم بحياة مفعمة بالحب والأمل والازدهار اكثر من أي شعب سواه من الشعوب القديمة. حدث كل ذلك قبل أن يبني خوفو، فرعون مصر، هرمه الأكبر بقرون عديدة . وإن علماء الآثار الذين جازفوا بحياتهم وهم يستكشفون أسرار الحياة التي كانت سائدة في الجزيرة العربية، قد توصّلوا إلى اكتشاف أن عدة حضارات ومدن وممالك، نشأت وازدهرت، ثم ما لبثت أن انقرضت. أجل ان عدة حضارات وممالك قامت في هذه المنطقة النائية من العالم، وذلك قبل أن يكون توت عنخ آمون قد
أسس مملكته بعد. كما تم اكتشاف واقع أن حمورابي قد وضع دستوره في زاوية من زوايا البلاد العربية، وذلك قبل أن يبصر بوذا النور على ضفاف نهر الكنج، ويلقن حكمته للبوذيين، وقبل أن يرسي كونفوشيوس قواعد حكمته الذهبية. ومما يجدر معرفته أن شبه الجزيرة العربية أكبر مساحة من بر يطانيا وسكوتلندا وايرلندا وهولندا وبلجيكا و فرنسا واسبانيا، مجتمعة . وان اليونان والرومان أقاموا فيما بينهم ويبن سكان الجزيرة العربية، معاملات تجارية، وخاضوا المعارك على أراضيها.
وعلى الرغم من اعتقاد بعض العلماء بأن هذه المنطقة شهدت ولادة الإنسان الأول، فانه لا يمكننا تأكيد ذلك ما دامت خريطة المريخ بكل ما فيها من معلومات مغلوطة ونظرية، تكاد تكون أوضح بكثير من الخرائط المتوفرة عن شبه الجزيرة العربية، وبنوع خاص، المواقع الداخلية فيها. وأعني بتلك المواقع الأماكن التي شهدت ولادة معظم الرجال البواسل الذين حاربوا في صفوف لورانس، بل انهم كانوا يشكلون الجيش الوحيد الذي حقق له انتصاراته. والمسافة الممتدة بين مدينة حلب السورية ومكة المكرمة في الجزيرة العربية تعادل المسافة التي بين لندن وروما.
١١٩٩
ومع ذلك، فقد استطاع أولئك المحاربون العرب الصناديد ولورانس أن يقطعوا كل تلك المسافة من مكة إلى حلب، على ظهور الجمال.
هذا، ويقسم السكان في الجزيرة العربية منذ القديم، إلى قسمين، هما : سكان القرى والمدن، ويقال لهم الحضر، وسكان الخيام، أي البدو الرحل. ويطلق على كلا القسمين، اسم العرب . أما البدو منهم فلا يعرفون شيئًا عن أساليب الزر اعة، ولكنهم هم الذين ناضلوا في سبيل حرية العرب وحافظوا على مثلهم العليا وتراثهم الخالد.
والاعتقاد السائد هو أن كلمة عرب مشتقة من كلمة، عربة، أو البلاد العربية . وهي منطقة تقع في القسم الشمالي من الحجاز . كذلك يعتقد بأنها دعيت بذلك الاسم تيمنًا بشخص يعرب بن غطفان بن عبس بن شالح بن ارفخشاد بن سام بن نوح، ويذكر المؤرخون أن نوحًا كان أول من نطق بالعربية "لغة الملائكة". والعرب شعب ينحدر من أصل سامي . والعالم مدين كثيرًا للعرب، إذ حققوا ثبات جبارة في شتى العلوم والفنون. ففي الفترة التي كان فيها الجراحون الأوروبيون يلجأون إلى التعاويذ والرقى للتخفيف من آلام المرضى كان الأطباء العرب يستعملون العقاقير المخدرة في عملياتهم الجراحية.
أما في حقل الكيمياء فقد توصل العرب إلى اكتشاف الكحول والبوتاس والنيترات والزئبق وحامض الكبريت
والنتريك. كما أنهم قاموا باختبارات عملية في حقل الزراعة، وابتكروا وسائل الري، واستعملوا الأسمدة الكيماوية، وطبقوا أساليب تطعيم النباتات والزهور. كذلك اشتهروا ببعض الفنون الأخرى كدباغة الجلود وصبغ الأقمشة وصناعة الزجاج والخزف والمنسوجات والورق والنقش على الذهب والفضة والنحاس والبرونز فض ً لا عن صناعة الحديد والفولاذ. هذا، وتعتبر اليمن، باستثناء بلاد ما بين النهرين، أغنى منطقة في شبه الجزيرة العربية. فمنذ آلاف السنين، اشتهرت اليمن بمناخها الجميل، وأراضيها الخصبة، ومحاصيلها الزراعية الجيدة، وبنوع خاص، البن. ويروي لنا الجغرافي اليوناني المشهور، سترابو، أن الاسكندر الكبير كان قد وضع مخططًا لعاصمة جديدة له ينشئها في اليمن فور عودته إليها من الهند. والاعتقاد السائد بين نفر كبير من العلماء هو أن هذه المنطقة الغنية كانت موطن الإنسان الأول، وشهدت العديد من الممالك والحضارات التي ترعرعت فيها وازدهرت قبل المسيح بألف سنة. والشيء الوحيد المهم الذي يؤسف له حقًا هو أن محاولات كثيرة قد جرت لتوحيد شعوب شبه الجزيرة العربية، وخاصة شعب الحجاز، وذلك منذ سقوط الإمبراطورية العربية، وحتى أوائل القرن العشرين، عندما اندلعت نار الحرب العالمية الأولى. ولكن جميع تلك المحاولات ذهبت أدراج الرياح. والغرابة كل الغرابة أن ينجح لورانس حيث فشل جميع من سبقوه إلى ذلك، بيد أن سر نجاح لورانس يكمن في أن أهدافه كانت تلتقي وأهداف العرب حتى تعاونوا معًا في المعارك التي خاضوها ضد الأتراك، تلك المعارك التي شدت أزر الجيوش التي قادها الجنرال اللنبي، فاستطاع أن يقوض دعائم الإمبراطورية العثمانية وأن يقضي على حلم الألمان بالسيطرة على العالم

خالد الحويطي
18-02-07, 01:03 AM
الفصل الثالث
رحلات سرية
كانت أراضي الإمبراطورية العثمانية، في صيف عام ١٩١٤ ، تمتد من منطقة القوقاز إلى شبه جزيرة العرب جنوبًا، بحيث تشكل درعًا هائلا يفصل بين منطقتي البحر الأبيض المتوسط والهند. هذا، وعلى الرغم من توالي السلاطين الضعفاء على عرش الدولة العثمانية، والحروب المتواصلة التي نشبت بينها وبين إيطاليا وألبانيا وبلغاريا وغيرها من الدول، فقد استطاعت أن تحتفظ بمركزها بين الدول الإمبريالية العظمى كواحدة منها. وفي ذلك الحين، كان السلطان العثماني يبسط حكمه ونفوذه على مكة المكرمة والقدس، وينسب إلى نفسه
خلافة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم ). وكذلك، كان جيشه يعتبر من أقوى جيوش العالم بطشًا وبأسًا وشجاعة . ومن هنا كان شعور بريطانيا بالخطر
يهدد خطوط مواصلاتها إلى الهند، عندما أعلنت تركيا دخولها الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا. ويومئذ، كانت مصر لا تزال مستعمرة بريطانية، ويعتبرها الإنجليز القلعة أو القاعدة القوية التي يمكنهم الصمود فيها بوجه الأتراك إذا ما اندلعت نار الحرب يومًا بين بريطانيا وتركيا. في تلك الأثناء، كان لورانس يعمل في قلم الاستخبارات البريطانية كضابط بسيط . غير أن خبرته بالبلدان التي يحكمها الأتراك كانت واسعة جدًا وذلك بفضل جولاته وتنقلاته الكثيرة فيها. إلا أن خبرته هذه كانت ناقصة في النواحي العسكرية أكثر مما كانت عليه بالنسبة إلى الشؤون السرية . ولا عجب في ذلك ، فقد كان مفطورًا على التكتم وحفظ الأسرار . والمعلوم أن لضباط قلم الاستخبارات حياة خاصة
يتمسكون بها، ولا يحيدون عنها قيد أنملة. أضف إلى ذلك أنهم يعتبرون أنفسهم أرفع مستوى من الضباط العادين في الجيش . بل ويعتبرونهم أغبياء، توصلوا إلى هذه المراكز إما بالوراثة وإما بفضل سلالتهم الأرستقراطية. من هنا كان ينظر لورانس إلى أمثال هؤلاء الضباط نظرة استخفاف وازدراء . فقلما كان يكترث لهم أو يلقي لهم بالتحية العسكرية لمن هو أرفع منه رتبة.
و مما يذكر أن لورانس كان لا يرتدي إلا ما يروق له من الملابس المدنية.
وكان لورانس بدافع من طموحه الشديد يتصور بأنه سوف يرقى إلى رتبة جنرال في الجيش، ويحصل على أرفع وسام فيه وسام الفروسية قبل أن يبلغ الثلاثين من عمره. والواقع أن لورانس كان واسع الخبرة في رسم الخرائط وتفسير رموزها، ويعرف الكثير عن أوضاع الجيش التركي، وقدر الولاء الذي يكنه السوريون والفلسطينيون للأتراك. ومن جهة ثانية كان عديم الاكتراث بالقوانين العسكرية إلى حد أنه لم يكن يحسب أي حساب للمحاكم العسكرية المعروفة بشدة محافظتها على الروح العسكرية وتطبيق أنظمتها،
وكيف يخشى ذلك ما دام له أصدقاء
٢٢١١
بارزون من طراز الدكتور هو غارث وولي غيرهما من الضباط الكبار في قلم الاستخبارات، ولويد جورج الذي اصبح فيما بعد نائبًا للملك في الهند.
وأدهش من ذلك أن لورانس اكتسب لقب "فارس" أسوة بأصدقائه الكبار في الجيش على الرغم من استخفافه بالنظم العسكرية. هذا ولم تنقض ثلاثة أشهر على وصول لورانس إلى القاهرة، حتى وضع خطة "لاحتلال سوريا بمساعدة
الشريف حسين، شريف مكة المكرمة …" وكانت كفيلة لأن تضمن للقوات البريطانية سلامة الزحف على دمشق بسرعة خاطفة قبل أن يسقهم الفرنسيون إلى احتلالها". وقد ذكر في رسالة بعث بها إلى الدكتور هو غارث تفاصيل تلك الخطة، وعبر فيها عن مخاوفه من أطماع فرنسا في الشرق الأوسط.
ثم قال : "إنني أرى أن فرنسا، لا تركيا، هي عدوتنا فيما يتعلق بسوريا . " وفي شباط من عام ١٩١٥ ، أنجز خطة وضعها لمساندة الثورة العربية.
وفيما كان لورانس يخطط لكل ذلك، تلقى أمرًا فجائيًا بالاستعداد للسفر من القاهر ة إلى بلاد ما بين النهرين لإعداد بعض الخرائط ووضعها بالاستناد إلى بعض الصور التي التقطتها الطائرات من الجو. ومعلوم أن لورانس كان خبيرًا بهذا الفن . وقبل أن يغادر القاهرة، اجتمع إلى الكولونيل كلايتون، رئيس قلم
الاستخبارات، فزوده هذا بالإرشادات والتعليمات ال لازمة بغية البحث فيما إذا كان بالإمكان إشعال ثورة عربية في العراق ضد الأتراك . والواقع أن لورانس كان يهيئ نفسه لهذه المهمة عندما كان يتحدث في القاهرة طيلة إقامته هناك عن الثورة العربية والثوار العرب وذلك دون تمييز لهذا العربي سواء أكان يعيش في ليبيا أم في سوريا أم في الجزيرة العربية.
ولا مندوحة من القول أن كلايتون وافق على إيفاد لورانس في بعثة سرية إلى العراق يقينًا منه بأن هذه الرحلة ستكبح قليلا جماح مشاعره الحماسية نحو إشعال ثورة عربية، ذلك لأن كلايتون لم يكن مقتنعًا بإمكانية استمالة العرب للانضمام إلى صفوف القوات البريطانية. ولكن بعد الهزيمة النكراء التي لحقت بالإنجليز في العراق، أخذ كلايتون يفكر بمحاولة إشعال ثورة عربية هناك علها تصحح الأوضاع وتعيد الأمور إلى مجراها السابق وتطمس معالم تلك الهزيمة.
وهكذا غادر لورانس القاهرة في الواحد والعشرين من آذار م ن عام ١٩١٦ متوجهًا منها إلى مدينة البصرة التي تقع في أقصى نقطة من الخليج العربي.
وهناك التقى ببعض أصدقائه القدامى ممن تعاون معهم فيما سلف، أيام أعمال التنقيب عن الآثار في كركميش . كما التقى هناك بالآنسة جروترود بل، التي كانت تعمل مستشارة سياسية للسير بيرسي كوكس، رئيس المكتب السياسي في الشرق، بصورة غير رسمية. هذا، وقد قضى لورانس برفقة الآنسة جروتورد، يومًا كاملا وبعض الليل، يصغي إلى حديثها وهي تشرح له خطتها الرامية إلى تشكيل حكومة تضم في أعضائها ممثلين عن جميع بلدان الشرق الأوسط.
٢٢٢٢
وبقي لورانس مدة ثلاثة أيا م في البصرة، ثم غادرها بطريق البحر لمتابعة القيام بمهمته، بعد أن اصطحب معه الآن شلة من الجنود الذين اشتركوا في المعركة التي دارت رحاها بالقرب من ضفاف نهر دجلة. وقد وصفهم لورانس بقوله : "انهم شبان معممون بالأمل والبهجة والسرور .. جاءوا إلى هنا كي يقدموا أنفسهم قرابين لتغذية نار الحرب المستعمرة، ليس لمجرد الانتصار في الحرب وإنما للاستيلاء على منتوجات العراق من النفط والأرز والذرة."
والجدير بالذكر أن الإنجليز تكبدوا خسائر فادحة في جميع المعارك التي خاضوها ضد الأتراك. وأصبحت قواتهم في وضع يرثى له، ناهيك عن أن بعض قواتهم كانت محاصرة في كوت العمارة، وكان قائدها الجنرال تاونسند لا يتردد في إرسال إشارات النجدة والاستغاثة، الواحدة تلو الأخرى. ومما كان يزيد في وضعها سوءًا أن جميع ذخيرتها ومؤنها قد نفذت، وكاد المرض يقضي على من تبقى على قيد الحياة من الضباط والجنود.
والواقع أن بعض الفرق العسكرية البريطانية حاولت أن تشق لنفسها ثغرة تنطلق منها إلى المنطقة المحاصرة، ولكنها عبثًا كانت تحاول . وأدهى من ذلك أنه لم تكن هناك أية وسيلة يمكن بها نقل بعض المؤن والذخيرة إلى تلك القوات.
حتى أنه لم تكن هناك طائرات كافية لتقوم بذلك . من هنا ساد الاعتقاد بأن
مركز الإنجليز سينهار إلى الحضيض في العراق إذا تمكن الأتراك من احتلال كوت العمارة وطرد الإنجليز منها. ونحن لا نعرف إ لا القليل عن الرحلة التي قام بها لورانس إلى العراق وكل ما نعرفه لا يعدو أن لورانس داهمته الحمى، وتذمر من كثرة الذباب ، وقام بزيارة مقر قيادة القوات البريطانية في العراق حيث نوه عن قرفه من كل ما رآه في القسم الخاص برسم الخرائط، واحتج بشدة على الخطط التي كانت تنفذ في الحرب. واتفق ان التقى لورانس في التاسع عشر من نيسان بالكابتن أوبري هربرت، وهو محارب قديم سبق له أن خاض عدة معارك حربية في عدة مناطق، وكان يرأس بعثة للتحقيق في أوضاع العراق.
وفضلا عن كونه رئيسًا لهذه البعثة فقد كان عضوًا بارزًا في مجلس العموم، ولغويًا مشهورًا، إذ كان ملمًا بالتركية والألبانية والفرنسية والإيطالية والألمانية.
والذي يبدو أن لقاء لورانس وهربرت تمخض عن نتائج حسنة. إذ حدث هذا اللقاء في الوقت الذي كانت حامية كوت العمارة البريطانية مهددة بالهزيمة والاستسلام للقوات التركية. وفي تلك الأثناء لجأت الحكومة البريطانية إلى محاولة أخيرة لإنقاذ الموقف هناك، فعرضت على قائد القوات التركية خليل باشا الدخول في مفاوضات، عرضت فيها مبدئيًا أن تدفع مبلغ مليون جنيه إسترليني مقابل أن يرضى الأتراك بفك الحصار عن قواتها المحاصرة في كوت العمارة، وعدم التعرض لها طيلة الحرب. ووافقت أيضًا على تسليم جميع الأسلحة والذخيرة الموجودة مع هذه القوات، وإجراء تبادل بين الأسرى . غير أن المفاوضات فشلت بسبب عدم موافقة الأتراك على شروط الاستسلام مع العلم بأن الإنجليز رفعوا قيمة المبلغ الذي عرضوه سابقًا إلى مليوني جنيه.
٢٢٣٣
ثم ارتأت الحكومة البريطانية أن توفد بعض ضباطها إلى ما وراء حدود الأتراك بغية التشاور بشأن الشروط شخصيًا مع قائد القوات التركية.
فاختارت من بين الذين اختارتهم الكاتب اوبري هربرت لما عرف عنه من دبلوماسية ولإتقانه اللغة التركية، على أن يرافقه الكولونيل بيتش، وهو ضابط بارز في قسم الاستعلامات التابع للفرقة التي يقودها الجنرال تاونسند،
ولورانس الذي كان يحسن التحدث بالفرنسية ويلم بالتركية.
وكيفما كان، فان اللغة الفرنسية كانت آنذاك لغة شائعة الاستعمال في الديبلوماسية في بلاد ما بين النهرين . وكان على هؤلاء الثلاثة أن يعبروا الحدود إلى المناطق التركية حاملين بأيديهم راية السلام. وهكذا توجه الضباط الثلاثة في ظهيرة اليوم التاسع والعشرين من شهر نيسان إلى ما وراء خطوط النار في كوت العمارة. وقطعوا مسافة طويلة قبل أن يدركهم بعض الضباط الأتراك ويستوقفوهم للتحقيق معهم في أسباب وجودهم هناك.
فأوضح الكابتن هربرت أنه يحمل رسالة خاصة إلى الفريق خليل باشا ويود أن يسلمها له شخصيًا. غير أن الأتر اك لم يقتنعوا بذلك فأمروهم بأن يسمحوا لهم بمتابعة سيرهم ومرافقهم إلى مركز قيادته . عندئذ، تقدّم نحوهم أحد الضباط وعصب أعينهم كيلا يشاهدوا شيئًا أثناء الطريق. ثم قادوهم بين الخنادق حيث كانوا لا يسمعون غير قعقعة السلاح، حتى إذا تخطوا هذه المنطقة سمحوا لهم
بالركوب على ظهور الجياد، ولكنهم ظلوا معصوبي الأعين.
وهنا تعرض لورانس لحادث سبب له بعض الجروح في ركبتيه لم يستطع بعده، أو أنه كان لا يرغب، متابعة رحلته على ظهر الجواد.
وعلى كل فقد سمح له الأتراك بأن يلحق بهم مشيًا على الاقدام، وكان آخر من وصل إلى مقر قيادة خليل باشا.
ولابد هنا من إعطاء لمحة قصيرة عن خليل باشا . كان هذا في الخامسة والثلاثين من عمره. وقد وقع عليه الاختيار مؤخرًا كي يملأ هذا المركز الذي شغر بوفاة الفيلد مارشال فريهر فون درغولنز، وهو ألماني، في بغداد، على أثر إصابته بوباء التيفوس. وكان قد قابل الكابتن أو بري عدة مرات في الحفلات التي كانت السفارة البريطانية تحييها في مدينة القسطنطينية. ومع ذلك، لم يكن هربرت يأمل في الوصول معه إلى شروط معقولة.
ونعود الآن إلى حديثنا عن ذلك الاجتماع . كانت المفاوضات تدور باللغة الفرنسية. وكان الجنرال خليل يبدي احترامه لمفاوضيه طيلة فترة المفاوضات، ويحاول جهده أن يكتم غيظه في نفسه كلما برزت في ذهنه صورة الجنرال تاونسند، وهو قائد القوات المحاصرة في كوت العمارة لعلمه بأنه كان يأمر رجاله بتحطيم أسلحتهم ونسف مستودعات الاسلحة والذخيرة والمنشآت والمواصلات اللاسلكية، لا لشئ إلا لحرمان الأتراك منها. ثم دار البحث حول تبادل الاسرى ومصير المرتزقة من العرب الذين كانوا يحاربون إلى جانب القوات البريطانية ضد الأتراك.
٢٢٤٤
ورد الجنرال خليل على السؤال الاخير بقوله أنه لا يبالي كثيرًا بموضوع المرتزقة المصير الذي سيؤولون إليه. ولم يكتم عنهم أنه كان قد نفذ حكم الاعدام بتسعة منهم . ثم حاول أن يخفف من وطأة هذا الخبر على قلوب
مفاوضيه بقوله انه كان يوفر لجرحاهم ومرضاهم العناية الطبية اللازمة.
ولا مندوحة عن القول أن المفاوضات ظلت تدور بين الضباط الإنجليز والفريق خليل، على غير طائل، في حين كان الجنرال تاونستند في كوت العمارة يقوم بالاستعدادات اللازمة لتنفيذ عملية الاستسلام حالما يتفق عليها.
وأخيرًا أعلن خليل باشا بلباقة فض الاجتماع وطلب من ضيوفه أن ينتقلوا إلى خيمة ثانية لتناول بعض الطعام. وبعدئذ طلب هربرت أن يسمح له ولرفاقه بالعودة إلى كوت العمارة فجاء جواب الأتراك بالنفي قائلين له أن الجنرال تاونسند قد استسلم بلا قيد ولا شرط. وكانت أنباء استسلام الحامية البريطانية في كوت العمارة مصدر ذعر وقلق في أوساط الرأي العام البريطاني
الذي شن على الجنرال تاونسند، إلى الاستسلام . فقد كان الرأي العا م البريطاني يتوقع منه أن يحارب إلى آخر جندي من جنوده. في تلك الأثناء، كان اللورد كيتشنر أول من رفع عقيرته بالدفاع عن الجنرال تاونسند، ليس في أوساط الرأي العام البريطاني فحسب، بل كذلك في قاعة مجلس اللوردات.
ولا عجب في ذلك طالما أن كيتشنر كان جنديًا، وجنديا جرب أكثر من غيره المآسي والويلات التي تسببها الحروب.
أما رأي لورانس في الموضوع، فقد كان يختلف . والواقع أن لورانس كان يتمتع بحرية مطلقة في إبداء الرأي الذي يؤمن به . وهكذا، فانه تطرق إلى الموضوع من زاوية أكثر شمولا فكان ينحي باللائمة على جميع جنرالات الجيش بدون استثناء ويصفهم كأشخاص يفتقرون إلى الكفاءة والشجاعة، والخبرة، وإلا لما كانوا يتعرضون للهزيمة تلو الهزيمة، ويعرضون قواتهم لنكسات هي في غنى عنها. والواقع أن لورانس أخذ الآن ينتقد جميع الخطط التي كانت الحرب تجري بموجبها في الشرق الأوسط . لأنه كان يتصو ر بأن هذه الحرب سيكون لها نتائج فعالة ومؤثرة، على مجرى السياسة البريطانية في الشرق الأوسط في المستقبل. وكان يقول إن اندلاع الثورة في شبه الجزيرة العربية ليس إلا أول قطرة من الغيث في سلسلة النتائج المرتقبة.
غير أن عوامل متعددة أخرى كانت تتفاعل لتفجير تلك الثورة، ولم تكن قد تكاملت وتآلفت بعد، في الفترة التي عاد لورانس خلالها لى مقر عمله في القاهرة ليرفع تقريره عن مشاهداته وانطباعاته في العراق إلى رؤسائه.
ذلك التقرير الذي ضمنه العديد من الموضوعات، وتطرق فيه بالانتقاد الشديد لأشياء كثيرة لا تتعلق بمجرى الحرب.
٢٢٥٥
فقد انتقد مثلا نوعية الحجارة التي كانت تستعمل هناك في الطباعة . وانتقد الطرق والانظمة المتبعة في ميناء البصرة لارشاد السفن إلى مراسيها وربطها هناك. ولم ينس أن ينتقد الرافعات ويصف ضعفها وعجزها عن تأدية عملها في تفريغ البضائع من السفن . وانتقد النظام الذي تسير بموجبه عربات السكك الحديدية، ونقص المواد الطبية، وتجاهل المسؤولين في دوائر الصحة لطلبات المواطنين.
والجدير بالملاحظة أن لورانس كان واحدًا من أولئك الرجال الذي يجدون لذة في انتقاد رؤسائهم . فعلى الرغم من جهله في الامور الصحية والطبية، وفنون الحرب واستراتيجية إذ لم يكن يعرف عنها غير ما قرأه في الكتب فقد كان يزعم معرفة كل شئ، ويفسر كل شئ يصادفه أو يسمع عنه وفقًا لنظرياته ولمقاييسه الخاصة للأمور. وكان يفعل كل ذلك دون أن يخشى لومة لائم . وكيف يخشى من منافسيه ما دام أصدقاؤه الذين يدعمونه ويساندونه أكثر عددًا وأرفع منزلة من رؤسائه ومنهم الكولونيل كلايتون والدكتور هو غارث اللذان كانا أكبر
ضمانة تجاه أُولئك الضباط الذين كانوا يتحينون الفرص للطعن به والتقليل من شأنه. وصحيح أن لورانس كان رجلا لا يطاق، غير أنه كان من ناحية أخرى قديرًا، بشوشًا مخلصًا، يكرس كافة طاقاته لخدمة المجهود الحربي . وليس هناك من ينكر أنه كان هناك كثيرون غيره ممن تنطوي نفوسهم على صفات ممتازة تماثل صفاته، غير أن الوقائع أثبتت أنه أعمهم منفعة، وأكثرهم فائدة للحرب، وأنه يمكن الاعتماد عليه دائمًا للقيام بأعمال مثمرة ومجدية وذات تأثير كبير على الاحداث. ومهما يكن مدى الخطر الذي يحيق بأية بعثة سرية ينتدب للقيام بها، فقد كان يتقبلها وينفذها ويعود منها وهو هادئ الاعصاب مشرق التفكير كما لو أنه لم يقم بشئ… ومن الرحلات السرية التي قام بها لورانس إلى بعض المناطق، واحدة قام بها إلى ليبيا حيث كان عل يه أن يجري اتصالات سرية مع شيوخ السنوسيين. بيد أننا لا نعرف إلا القليل عن نتائج هذه الرحلة.
وقام أيضًا كذلك برحلة إلى اثينا، عاصمة اليونان، في صيف عام ١٩١٦ . ويرجح أنه كان قد أوفد إلى اليونان بغية الاتصال بقائد بريطاني يدعى سامبسون، وكان يعرف في قلم الاستخبارات بالمستر "ر". والذي يبدو أن لورانس لم يمكث في أثينا أكثر من يوم واحد . ودليلنا على ذلك ما ذكره في رسالة بعث به إلى والدته يذكر فيها أنه لم يتمكن من القيام بزيارة الاكروبول . كذلك اعتذر والدته في رسالته تلك عن عدم تمكنه من شراء هدية لها من اليونان، مما يقوم دليلا على أن إقامته في اثينا كانت قصيرة جدًا. هذا، وقد عاد من تلك الرحلة إلى القاهرة التي كانت في نظره أفضل مكان في الشرق يستطيع فيه المرء أن يشعر الاطمئنان والسلام. نقول ذلك لأن سلسلة من الأحداث الخطيرة بدأت تبرز إلى مسرح الحرب وتتفجر هنا وهناك معكرة صفو السلام والأمن في ربوع الجزيرة العربية.
٢٢٦٦
فقد تفجرت ثورة عربية عارمة في بلاد العرب، فراح لورانس يبشر بحق العرب في ثورتهم ويرفع عقيرته عاليًا في أوساط القيادة مطالبًا بمساعدة هذه الثورة الجبارة التي ظلت متقدة الأوار حتى ألحقت بالامبراطورية العثمانية الهزيمة.

خالد الحويطي
18-02-07, 01:04 AM
الفصل الرابع

جدة ومكة المكرمة

بدت الفرصة سانحة للعرب أكثر من أي وقت مضى للتخلص من النير التركي الذي ظل جاثمًا فوق صدورهم ردحًا من الزمن يناهز الخمسمائة سنة عندما زجت تركيا بنفسها في حرب عالمية شاملة ضد دول كبرى كبريطانيا وفرنسا وروسيا وايطاليا. وقد لبث الشريف حسين يتحين الفرصة المناسبة لاشعالها ثورة محرقة ضد الأتراك إ ّ لا أنه كان بحاجة إلى الذخيرة والمال. وكان يحرص على عدم إعلان موقف صارم ضد الأتراك خشية ألا يفي الإنجليز بوعودهم له.
وفيما كان يعلل نفسه بالأماني للحصول على الامدادات والاموال ا للازمة لإشعال ثورته، كانت أنباء المعارك التي دارت رحاها بين القوات البريطانية والتركية في منطقة كوت العمارة مخيبة للآمال ومدعاة للتريث ثم إن الإنجليز عادوا يطلبون منه ألا يتسرع في إعلان الثورة قبل أن تتحول مجرى الاحداث إلى جانبهم. وكان ذلك يعني بالنسبة إليه تأخير فترة امداده بالمساعدات والاذعان لسلطة الأتراك وسيطرتهم مما هو فوق ما يتحمله.
لذا فقد بعث من يخبر الحكومة البريطانية على لسانه أنه لم يعد بوسعه الانتظار، ولا أن يكبح جماح المشاعر الثائرة في نفوس رجاله ضد الاعمال التعسفية التي يقوم بها الأتراك ضدهم. وطلب كذلك إمداده بالمساعدات الفورية مهما كانت الظروف والأحوال . غير أن رجال الشريف حسين انقضوا على الأتراك، في ليلة ليلاء، وعملوا فيهم تقتيلا وتذبيحًا، قبل أن يصل جواب الحكومة البريطانية ردًا
على طلب المساعدة.
والواقع ان الثورة العارمة التي تفجرت في الحجاز ضد العثمانيين كانت من تدبير أمير مكة الشريف حسين وأولاده الاربعة، وكانوا قد أمضوا عدة أسابيع يخططون لها بمنتهى السرية والحذر حتى حانت ساعة الصفر فانطلقت من عقالها مشعلة محرقة. وقد بلغ حرص الشريف حسين وأولاده على كتمان مخطط الثورة حدًا جعلهم يكتمون أسرارها حتى عن أقرب المقربين إليهم.
وذلك خشية أن تتسرب أخبارها إلى الأتراك فتذهب جهودهم سدى .
ولا عجب في ذلك فحكم الأتراك قد أوجد حالة في البلاد التي سيطروا عليها زرعت بذور الشر في نفوس المواطنين جميعًا ناهيك عن الجواسيس والعملاء الذين انتشروا في كل حدب وصوب يستقون الاخبار وينقلونها مضخمة على أشد ما يكون التضخيم والتلويح بالمخاطر.
٢٢٧٧
فكانوا يبالغون جدًا ويعتبرون عود الثقاب إذا اشتعل ولمع، دليل الثورة أو ثورة على وشك الاشتعال. واليكم لمحة عن الهجوم الذي شنه الشريف حسين على جدة ومكة المكرمة.
كان الشريف حسين يقو د بنفسه الهجوم الذي شنه رجاله على مكة المكرمة بينما كان الأميران فيصل وعلي يقودان الفرقة التي قامت بالهجوم على المدينة المنورة.
وقد انتصر رجال الحسين في هجومهم على القوات التي كانت تدافع عن مكة . ومما يذكر أن الأتراك قاموا سابقًا بتعزيز حاميتهم في مكة المكرمة فزادوا عدد الجنود ووزعوهم بالتساوي على القلاع الثلاثة القائمة على التلال التي تطل على مشارف المدينة.
أما العرب فقد قاموا بهجوم كاسح ومباغت في نفس الوقت، فدخلوا المدينة من أبوابها واحتلوا السوق الرئيسية فيها، والمنطقة المأهولة بالسكان ودور الحكومة والمسجد الحرام. ثم دامت بينهم وبين قوات الأتراك التي كانت مرابطة في قلعتين صغيرتين معركة تم لهم فيها النصر بالاستيلاء عليهما.
وفي غضون المعارك التي دارت في مكة المكرمة من الداخل، ظل الشريف حسين في قصره يوجه المعركة دون أن تؤثر على معنوياته حمم القنابل التي كان الأتراك يقذفونها على قصره. وهناك من يعتقد بأنه كان بوسع الأتراك أن يقاوموا، دون أن يهزموا أمام القوات العربية طيلة أشهر كثيرة،
لولا أنهم ارتكبوا حماقة لا تغتفر ضد الدين الإسلامي بالذات. وذلك لأنهم بدلا من أن يحترموا إرادة أعدائهم العرب، ويدللوا على احترامهم للشعائر الدينية التي طالما لوحوا بالدفاع عنها، راحوا يطلقون نيران مدافعهم على مبنى الحرم الشريف في مكة حيث توجد الكعبة الشريفة أقدس مقدسات الإسلام، هنا كاد صواب العرب ان يطير وشنوا هجومًا فظيعًا ضد الأتراك، بينما اندفعت جموعهم ناحية القلعة التي كان الأتراك يطلقون منها حمم مدافعهم فتسلقوا أسوارها، ثم اشتبكوا معهم بمعارك استعملوا فيها العصي والخناجر والسكاكين، فضلا عن البنادق والسيوف، حتى قضوا على جميع الأتراك واحتلوا القلعة.
أما القوات الأخرى التي كانت قد توجهت باتجاه جدة، فانها استولت على المدينة بعد خمسة أيام فقط من بدء الهجوم عليها.
ومما يذكر أن العرب أسروا مالا يقل عن ألف جندي تركي أثناء هجومهم على المدينة. غير أن النجاح الذي أحرزته قوات الشريف حسين في مكة المكرمة وجدة كان بعيد المنال عن القوات التي قادها الأمير فيصل وشقيقه الأمير علي لاحتلال المدينة المنورة. لقد شن رجال القبائل في شمال الحجاز هجومهم على المدينة المنورة في نفس اليوم الذي قامت فيه قوات الشريف حسين بالهجوم على مكة المكرمة. وما إن وصلت جحافلهم إلى بساتين النخيل القائمة في ضواحي المدينة حتى أحس بهم الأتراك فانسحبوا من هناك إلى داخل المدينة حيث تحصنوا خلف أسوارها. ذلك لأن الأتراك كانوا يعلمون بأن قبر النبي الطاهر سيوفر لهم الحماية اللازمة، إذا ما تأزمت الأمور وتألبت عليهم جميع القبائل العربية.
٢٢٨٨
وكانوا يدركون أن العرب لن يجرؤوا على إطلاق قنابل مدافعهم عليهم وهم في قلب المدينة خوف أ ن تصيب إحدى قنابلهم طرف الضريح المقدس، فيضعوا بيد الأتراك الورقة الرابحة ويكون نصيبهم اللعنة من كافة المسلمين في سائر أنحاء الدنيا. والجدير بالملاحظة أنه كان بوسع فيصل أن ينقل بعض بطاريات المدفعية من مدينة جدة ليقصف بها المدينة المنورة، ثم يشن عليها هجومً ا كاسحًا بمساعدة المدفعية ويحتّلها. ولكنه لم يفعل شيئًا من هذا القبيل حرصًا على قدسية المدينة. كما أن الشريف حسين رفض السماح للأميرة فيصل بقذف المدينة. وكان هناك خط حديدي يصل بين المدينة المنورة ودمشق، شيدة الأتراك خلال الفترة القصيرة التي أعقبت إعلان الحرب العالمية الأولى، لاستعماله في نقل الجيوش بسرعة من منطقة إلى أُخرى إذا قام العرب بأية ثورة ضدهم أو لتعزيز مواقعهم، هنا وهناك. هذا، وبالنظر لأهمية هذا الخط من الوجهة العسكرية فقد قام رجال الأمير فيصل بتدمير مسافة طويلة منه كجزء من خطة لقطع الطرق على الأتراك إذا ما فكروا بنقل الامدادات إلى المدينة لتعزيز حاميتها في وجه المهاجمين العرب. وبعد ذلك اختار الأمير فيصل ألا يتابع هجومه على المدينة، بل يوزع رجاله على الضواحي، يقينًا منه بأن الأتراك لابد وأن يستسلموا بين ساعة وأخرى بعد أن يصل إلى مسامعهم نبأ تدمير الخط الحديدي الذي كان ملاذهم الاخير للنجاة أو الحصول على امدادات والمؤن والرجال. ولكن هذا العمل، على عكس ما تصور الامير، شجع الأتراك على الانقضاض على العرب المعسكرين في الضواحي. ففي صباح اليوم التالي شن الأتراك هجومًا مباغتًا على إحدى الفرق المرابطة بقرب ضاحية العوالي وأصلوها نارًا حامية، ثم أشعلوا النار في البيوت، وفتحوا نيران رشاشاتهم وبنادقهم على النساء والاطفال فقتلوا عددًا كبيرًا منهم. ومات كثيرون حرقًا لأنهم لم يتمكنوا من الخروج من بيوتهم بعد ان التهمتها النيران. وكان لهذا الهجوم على الابرياء من ا لاطفال والنساء أثره السئ في نفوس رجال القبائل . لذلك هرعوا لنجدة رجال فيصل، فهاجموا المدينة تحت تأثير انفعالاتهم بقصد الثأر للدماء الذكية التي أُريقت. و لكن الأتراك المتمركزين في القلعة أصلوهم نارًا حامية من مدافعهم ورشاشاتهم فقضوا على عدد كبير منهم، وتقهقر الباقون إلى احد التلال المجاورة وعسكروا فيه. ولما رأى الأمير فيصل ما حل برجاله على يد الأتراك، امتطى صهوة جواده، وتقدم إلى الامام غير آبه بالرصاص الذي كان الأتراك يطلقونه عليه. غير أن رجال القبائل الذين استدعاهم لنجدة رجاله السابقين ممن شنوا أول هجوم على قلعة الأتراك، لم يجرؤوا على التقدم إلى الامام في الاتجاه الذي سار فيه الأمير فيصل.
٢٢٩٩
عندئذ، التفت نحوهم، وسخر منهم، ثم تابع سيره إلى الامام وحيدً ا. وكان فيصل يحاول أثناء تقدمه أن يوجه جواده نحو المكان الذي كان الأتراك يطلقون رصاصهم عليهم وذلك بغية إعادة الثقة والاطمئنان والشجاعة إلى
نفوس رجاله. وقد نجحت خطة فيصل الجريئة . فقد شعر رجال القبائل بواجبهم إزاء بطولة قائدهم وما كان يقوم به أمامهم من ضروب الشجاعة والإقدام . وإذا بهم ينهضون نهضة رجل واحد ويتبعونه بحماسة وهم يرددون : الله أكبر الله أكبر! والعزة للعرب! الله أكبر! طاب شرب الدم طاب! الله أكبر، والعزة للعرب! لبيك يا فيصل لبيك! وهكذا عاود رجال القبائل الكرة من جديد على القلعة، ولكن ذخيرتهم نفذت كليًا مع حلول الغسق دون أن يتمكنوا من احتلال القلعة . عندئذ، تراجعوا إلى الخطوط الخلفية كي يستعيدوا بعض الراحة بغ ية معاودة الهجوم في صباح اليوم التالي. ما إن بزغ الفجر حتى دعا فيصل جميع شيوخ القبائل إلى مؤتمر يعقد في خيمته . وهناك صار الاتفاق على
أنه من السذاجة معاودة الهجوم. ثم تراجعوا إلى التلال الواقعة على مسافة خمسين ميلا إلى الجنوب من المدينة، وعسكروا بجانب طر يق الحج المؤدية إليها وهي الطريق الوحيدة التي بها يمكن الوصول إلى المدينة لمنع ورود الامدادات إلى الأتراك وحصرهم فيها منعًا لهم من الانطلاق للقيام بهجوم على مكة المكرمة لاستردادها. أما الأتراك فانهم بادروا فورًا بتصليح خطهم الحديدي، وطردوا العرب المقيمين في المدينة والبالغ عددهم حوالي الثلاثين ألف نسمة إلى خارجها وتركوهم يهيمون على غير هدى في الصحراء، ثم عجلوا بنقل المؤن والذخيرة إلى المدينة من سوريا، وعززوا حصونها وخطوطها الدفاعية تحسّبًا لأي هجوم قد يقع عليها في المستقبل.
في هذه الاثناء، ظل العرب يس يطرون على مكة المكرمة، وكان وقوعها بأيدي رجال القبائل أفدح ضربة أُصيب بها الأتراك، وذلك لأن وجودها بيد الأتراك وكان يعزز نفوذهم، ويضمن لهم البقاء في مركز يسمح لهم بزعامة العالم الإسلامي بأسره. ثم تلا ذلك فترة طويلة من الهدنة بدليل أن العرب أصبحوا يشعرون ب عجزهم عن متابعة الثورة بعد أن نفدت جميع الذخائر والأموال والمؤن التي كانوا يملكونها. وعاد الشريف حسين يطلب المساعدة من الحلفاء، فانبرى الانجليز لتلبية مطلبه . وفي تلك اللحظة الحاسمة من تاريخ الثورة العربية ظهر لورانس الشاب على مسرح الاحداث في شبه الجزيرة ا لعربية ليلعب دوره المقدّر له في تغيير مجرى التاريخ. فما هو هذا الدور؟


__________________

خالد الحويطي
18-02-07, 01:05 AM
الفصل الخامس

البحث عن قائد

تلقت قيادة القوات البريطانية في مصر، بدهشة فائقة، الاخبار التي وصلتها عن نشوب ثورة عربية في
أراضي الحجاز، وفرار الأمير فيصل من دمشق ثم وصوله سالمًا إلى الحجاز . والجدير بالذكر أ، العرب حققوا
لأنفسهم انتصارات خاطفة فور اعلان ثورتهم ضد الأتراك، فاستولوا على مكة المكرمة وجدة، وينبع، ورابغ.
ومعروف أن المدن الثلاث الاخيرة هي موانئ ذات أهمية كبرى بالنسبة لموقعها على البحر الاحمر . ولكن
العرب سرعان ما فقدوا الكثير من قوة اندفاعهم على اثر ما تعرضوا له من خسائر أثناء هجومهم على المدينة
المنورة، ذلك الهجوم الذي كلفهم كثيرًا من الرجال والمؤن والعتاد.
وكان من الطبيعي أن تعزز تلك النكسة التي أصابت العرب رأي الجنرال أرشيالد موراي الذي كان يومئذ
قائدًا للقوات البريطانية في ال شرق الأوسط، في ضآلة أهمية العرب الحربية وضعفهم، وعقم المساعدات المادية
التي راحت بريطانيا تقدمها للشريف حسين منذ اللحظة التي رفع فيها لواء الثورة ضد الأتراك.
كان الجنرال ارشيبالد يتصور أن الضباط الذين يشرفون على قيادة القوات العربية وتوجيهها كانوا مفتقرين
إلى التدريب والتكتيك الحربي الاستراتيجي بالمقارنة مع ما كانت عليه القوات التركية من خبرة في التدريب
والتنظيم العسكريين.
وكان هناك عدد كبير من ضباط القيادة يشاطرون الجنرال رأيه في الثورة العربية . وفض ً لا عن ذلك، كانوا
يشككون بقدرة العرب على القيام بثورة نا جحة مهما بلغت نسبة وأهمية المساعدات التي ستقدمها بريطانيا لهم
بدافع الغيرة على تعزيز تلك الثورة وتوطيدها.
وطبيعي كذلك أن يوجد بين أُولئك الضباط من لا يرى رأيهم في العرب . ومن هؤلاء الضابط رونالد ستورز،
وقد كان يومئذ السكرتير الشرقي في مكتب المقيم البريطاني في القاهرة، ثم عين حاكمًا على مدينة القدس.
وكان هذا الضابط، دبلوماسيًا بارزًا وخبيرًا في شؤون الشرق الأوسط، بالاضافة إلى خبرته العسكرية.
ومن أولئك الضباط كذلك، الضابط لويد جورج، الذي أصبح فيما بعد يعرف باللورد لويد بعد أن غدا وزيرًا
بارزًا في الحكومة البريطانية.
والكولونيل كلايتون، رئيس قلم المخابرات السرية . وكان كلايتون ثاقب البصيرة، وشجاعًا إلى حد أنه لم يكن
يخشى مطلقًا أن يتصدى لمعارضة زملائه الضباط ممن كانوا يشككون في قدرة العرب، بصورة علنية.
وأخيرًا كان الضابط توماس ادوارد لورانس، وكان دونهم وأصغر هم سنًان ولكن أكثرهم حماسة للثورة
العربية. وفي تلك الاثناء، كان لورانس يعمل في قسم الخرائط التابع للقيادة البريطانية العليا.
والواقع أن لورانس، كان أكثر الضباط شعورًا بالحماسة نحو الثورة العربية بدليل أنه نوه عن رغبته في أن
يستقيل من وظيفته لينضم إلى صفوف الثوار العرب.
ومن الثابت أن لورانس كان يندد، أكثر من سواه، بمواقف القيادة البريطانية من الشريف حسين، وبتشكيكها
في أهمية حركته الثورة، وكان يعنف تلك المواقف علنا دون خشية أو رهبة من ضباط القيادة الآخرين الذين
٣٣١١
أخذوا يعرضون عنه ويشكون في ولائه، وينظرون إلي ه احتقار وازدراء وربما كان لورانس على حق في انتقاده
مواقف القيادة البريطانية إذ كانت تتمادى في سباق طعنها بالثورة العربية ووصفها إياها كحركة عابرة سرعان
ما تنطفئ جذوتها ويطويها التاريخ.
حتى أنها ك انت تتنبأ عن مصير الشريف حسين بقولها ان الأتراك سوف يعلقون ه، عاج ً لا ام آج ً لا، على
أعواد المشنقة.
من هنا كان لورانس يرد على كل تلك الادعاءات بانتقادات لاذعة ويقول بأن الحركة إذا ما تعرضت لأية
نكسة، فمرد ذلك على عدم وجود صلة تربطها بالقوات البريطانية من جهة، ولعدم توفر المعلومات الصحيحة
لدى المشرفين عليها عن قوة ا لعدو العسكرية وتحركاته من جهة ثانية، وعجز القوات والقيادة البريطانية التام
عن تقديم أية مساعدة مادية كافية من جهة ثالثة.
وعليه، ما إن علم لورانس بأن زميله ستورز سيذهب في رحلة إلى جدة حيث يقابل الأمير عبد الله ويتباحث
معه في شؤون الساعة وفي أية مخططات يكون بالمستطاع تنفيذها في المستقبل، وحتى وطد العزم على
مرافقته. ولذا، فقط طلب إلى رئيسه أن يسمح له باجازة عشرة أيام، بذريعة أنه بحاجة للراحة من عناء عمله
المتواصل الذي كان يؤديه في القيادة.
وقد أجابته القيادة إلى طلبه بسرعة لأنها كانت تود أن تتخلص منه، ولو لم ثل هذه الفترة القصيرة، نظرًا
لتدخله في الشؤون العامة وكثرة انتقاداته.
والواقع أن القيادة البريطانية لو كانت تدرك السبب الذي من أجله طلب لورانس الاجازة، وكنه مخططه
المتعلق بالثورة العربية، لما وافقت على طلب بمثل هذه السهولة.
وهكذا، نجد أن لورانس قادر على التكتم حتى في مكان يستحيل فيه على الفرد أن يحافظ على سرية أفكاره
بسهولة. لقد أثبت أنه أبرع من جميع أفراد الضباط وأقوى منهم من حيث قوة الارادة وضبط الاعصاب.
هكذا صمم لورانس على السفر إلى جدة برفقة زميله الضابط ستورز، وكان له ما أراد . وصمم كذلك على أن
يضع كل امكانياته لإنجاح الثورة العربية، فتوجه إلى جدة عله يستطيع أن يحقق أمانيه . وكانت تلك أول صفحة
يخطها لورانس في سجل حياته ومغامراته الشخصية.
وصعد لورانس إلى ظهر السفينة … وهناك، وبينما كانت تمخر مياه السويس في طريقها إلى جدة، بدأ يعلل
النفس بأنه لا بد أن ي عثر في شبه الجزيرة العربية على قائد ليشترك معه في قيادة الثورة العربية وتوجيه دفتها
إلى شاطئ الأمان والظفر بمدينة دمشق الخالدة.
وفي هذه الاثناء كان الكولونيل كلايتون يعد العدة لاستقبال السفينة لدى وصولها إلى جدة في الموعد الذي
أنبئ عنه سابقًا.
كذلك فانه أجرى التدابير اللازمة لعقد اجتماع بين ستورز ولورانس وبين الأمير عبد الله الذي كان يومئذ
وزيرًا للخارجية في الدولة العربية التي انبثت عن الثورة.
لم يكن لورانس يتوقع لدى وصوله أن يجد الأمير عبد الله ناعم البال، وافر السرور، منشرح الصدر، لا سيما،
بعد أن أصيبت الثورة العربية بنكسة فظيعة، ولما يمض على إعلانها سوى بضعة أشهر.
٣٣٢٢
إ ّ لا أنه حاول أن يعزو ذلك إلى أن أعمالهما التجارية المتبادلة سوف تعزز أواصر الصداقة بينهما . غير أنه
سرعان ما أدرك خطأ تعليله ذاك بعد أن وجد الابتسامة لا تفارق ثغر الأمير عبد الله، وبعد أن و جده يقرن كل
موضوع يتطرقون الى بحثه بلون من المزاح والفكاهة والتندر . إذ ذاك، بدأ لورانس يشعر بخيبة أمله في العثور
على قائد للثورة العربية في شخص الأمير عبد الله.
غير أن ملامح الأمير عبد الله سرعان ما ارتدت طابعًا جديًا عندما راح ستورز يوجه إليه بعض الأسئلة
للوقوف على رأيه في الوضع المتأزم، وما آلت إليه الثورة العربية.
فقد بدا الأمير بالفعل جادًا في حديثه، فكان يرد على أسئلة ستورز بكل دقة وحكمة . وفي تلك اللحظة، خيل
إلى لورانس أن الأمير عبد الله كان يختار الكلمات بدقة متناهية فيما أخذ يشرح لهما الأسباب التي حالت دون
استيلاء القوميات العربية على المدينة المنورة . فقد ذكر الأمير أن مرد ذلك الفشل يعود إلى واقع أن العرب
أعطوا الأتراك وقتًا أكثر من اللازم بحيث أمكنهم أن يعززا مواقع المدينة ويمدوا قواتهم بالمؤن والمعدات
والذخيرة، ناهيك عن لا مبالاة الانجليز بأهمية موضوع قطع خطوط السكة الحديدية التي تعمل في الحجاز.
ولم ينس الأمير عبد الله أن يثني على موقف الجنرال وينغت، وقد كان ضابط الاتصال بين القيادة والشريف
حسين، إذ أمر بانزال بعض القوات البريطانية إلى شاطئ رابغ مما عزز عملية الدفاع عن مكة المكرمة بيد أنه
من جهة أ خرى أنحى باللائمة عليه لأنه أحجم عن قطع خطوط تموين العدو ورفض تقديم الأسلحة والذخيرة
للعرب. وذكر أنه نتيجة لموقف الجنرال ذاك إنضمت قبيلة بني حرب وهي من أكبر القبائل العربية في
الحجاز إلى صفوف الأتراك، يقينًا من شيوخها بأن الثورة العربية لن تعود عليهم إ ّ لا بالخراب والدمار.
والذي زاد الوضع سوءًا أن الأتراك أصبحوا في وضع ممتاز يمكنهم من حشد قواتهم والهجوم بها على مكة
المكرمة وتهديدها حتى الاستسلام . وأخيرًا قال الأمير : إذا أريد منع الأتراك من استعادة مدينة مكة المكرمة،
فإنه ينبغي على الانجليز أن يوفدوا فر قة عسكرية إلى رابغ بحيث تكون هناك في الوقت المناسب لتساعد في
صد القوات التركية إذا ما فكرت بالهجوم على المدينة.
وهنا تدخل لورانس وقال ان القوات البريطانية المرابطة في مصر لم تكن غير كافية فحسب، بل كانت كذلك
لا تمثل وسائل النقل البحرية اللازمة لنقلها إلى م دينة رابغ. وذكر الأمير عبد الله أن والده كان قد أوعز
للإنجليز بألا يتعرضوا لقطع خط سكة حديد الحجاز، وذلك للإبقاء عليه صالحًا للاستعمال حين يفكر بالزحف
على مدينة دمشق.
وعلى كل حال، فقد خرج لورانس من هذا الاجتماع وهو مقتنع بأن الأمير عبد الله ليس ذلك القائد الذي يمكنه
أن يقود الثورة العربية. ولكنه لم ينكر أن الأمير كان ذكيًا، لبقًا، خفيف الظل والروح، ومتزنًا في تفكيره.
غير أن هذه الصفات في رأيه، وبغض النظر عن أهميتها وروعتها، ليست كافية لتكوين شخصية قائد الثورة
كما يتصوره لورانس، إنسانًا يجب أن يكون قوي الإ رادة إلى حد أقصى بحيث لا يتمكن من ضبط ذاته فقط
وإنما يهجمه على الرجال الذين سيأتمرون بأمره.
فإذا لم تكن شخصية مثل ذلك القائد توحي بالثقة والاحترام فمن المحال عليه أن يفرض إرادته على من
سيشتركون معه في النضال الثوري.
٣٣٣٣
تلك هي المزايا التي جاء لورانس إلى شبه الجزيرة العربية للعثور عليها في شخص رجل يتولى زمام الثورة
العربية وقيادتها . وذلك لأن لورانس كان سيشك كثيرًا في قدرة الحركة العربية على النهوض بالأعباء والمهمات
التي تنتظرها ما لم يكن هناك رجل يتحلى بمثل تلك الصفات ويكون باستطاعته أن يبذل الكثير من الجهد، ويقدم
الكثير من الطاقة، ويكرس ما فيه الكفاية من ذاته لخدمة القضية الكبرى، ألا وهي الثورة العربية.
إن الحركة سيقضي عليها بالموت في مهدها، ما لم تكن نفسية من أشعلها منطوية على تقديم نفسه قربانًا سخيًا
على مذبحها . ومع ذلك، فإن لورانس لم يفقد الأمل بالعثور عل ى مثل ذلك الرجل الذي يستطيع أن يقبض على
زمان الثورة ويقودها إلى النصر الأكيد.
من هنا توطدت في نفسه الرغبة في مقابلة الأمير فيصل علة يجد فيه تلك الصفات، فيحقق له أمنيته العثور
على نبي جديد لقيادة الثورة العارمة قبل فوات الأوان.
ولذا، فإنه توسل إلى الأمير عبد الله دون أن يكشف له عن نياته أن يساعده لعقد اجتماع بينه وبين شقيقه
الأمير فيصل. والحقيقة أن الأمير عبد الله وعده خيرًا، وأبدى عطفه لمساعدته في تحقيق أمنيته.
وقام الأمير عبد الله باتصال هاتفي مع والده الموجود في مكة المكرمة . لم يكن الشريف حسين، بادئ ذي بدء،
شديد الحماسة لفكرة لورانس . وعبثًا حاول الأمير عبد الله أن يقنعه بصدق نية لورانس، فلم يقتنع . ومما يذكر
أن الشريف حسين كان لا يثق مطلقًا بنيات الإنجليز ويعتبرهم دخلاء يحاولون بطريقة أو بأخرى أن يبسطوا
سيطرتهم على أراضي شبه الجزيرة العربية.
وانطلاقًا من هذا الواقع، حاول أن يدخل في روع ابنه الأمير عبد الله المغزى البعيد الذي يهدفه إليه، وأن
يوفه على حقيقة أمرهم ويحاول أن يراقب جميع حركاتهم وتنقلاتهم في جدة . وأحسب أن الأمير عبد الله كان
يعتقد بأن التقاليد العربية تقضي بأ ّ لا يرد طلبًا لإنسان ما، فناول سماعة الهاتف للضابط ستورز عله يستطيع
إقناع والده بجدوى الزيارة التي أزمع لورانس القيام بها إلى داخل أراضي شبه الجزيرة العربية ومقابلة الأمير
فيصل هناك.
والواقع أن ستورز استنفذ كل ما في جعبته في مخزونات الكياسة، واللبقاة والديبلوماسية حتى تمكن من إقناع
الشريف حسين بحسن نيات لورانس نحو العرب وشعوره العميق ازاء قضيتهم الكبرى، واندفاعه النبيل لتكريس
نفسه لخدمة الثورة العربية.
وإنه إذ يجئ اليوم، فليس للتجسس، بل للاتصال بالأمير فيصل بغية البحث معه بجد في انجع الطرق التي
يستطيع بواسطتها الانجليز أن يخدموا الثورة العربية ويساندوها ويزودا جنود الأمير فيصل بأحدث المعدات
والمؤن لتعزيز خططه الهجومية ضد الأتراك . وإزاء جميع تلك التطمينات والوعود بتقديم الأسلحة للعرب، شعر
الشريف حسين ببعض الارتياح، وأمر ابنه عبد الله بوضع الترتيبات اللازمة لنقل لورانس إلى معسكر فيصل
في التلال القريبة من المدينة المنورة.

خالد الحويطي
18-02-07, 01:06 AM
الفصل السادس

لقاء فيصل ولورانس

كان مقر قيادة الأمير فيصل في وادي صفرا الذي يبعد مئتي ميل شمالي جدة وحوالي ستين مي ً لا جنوبي
غرب المدينة المنورة.
وقد تم الاتفاق حرصا على الوقت، على أن يتوجه لورانس بالسفينة إلى ميناء راب غ أو ً لا حيث سينتظره الأمير
علي، وهو أكبر أبناء الشريف حسين وقائد المنطقة المحلي، لينقله بعد ذلك على الجمال إلى مقر الأمير فيصل.
وتأكد لورانس قبل أن يغادر ميناء جدة في المسائل بأن امير فيصل كان يعارض خطط شقيقه الأمير عبد الله.
وفي ذلك المساء دعا الكولونيل ويلسون الأمير عبد الله لتناول العشاء على مائدته مع كل من ستورز
ولورانس وجنرال مصري هو السيد علي، والجنرال عزيز المصري . وسبق أن كان هذا جنرا ً لا في الجيش
التركي واشترك في معارك ضد الطليان ثم ترأس حركة ثورة بمعاونة بعض الضباط العرب ممن كانوا في
الجيش التركي، ومن ثم انضم إلى صفوف الشريف حسين الذي عينه رئيسًا لأركان جيشه.
وأثناء تلك الحفلة البسيطة قص الأمير عبد الله على مسامع ستورز ولورانس خططه لتنفيذ الثورة العربية . فإذا
فكرته تقضي أو ً لا بالقاء القبض على كبار الحجاج المتوجهين إلى مكة المكرمة.
أولئك الحجاج ا لذين كان لا بد وأن يكون بينهم بعض كبار الحكام الأتراك وبعض الزعماء الكبار من الهند
ومصر، فيحتفظ بهم كرهائن … الأمر الذي سيضطر حكام الهند ومصر إلى الضغط على حكام القسطنطينية،
بصورة مباشرة أو غير مباشرة، لتلبية مطالب الشريف حسين لقاء اخلاء سبيل رعاياهم.
ومما يذكر أن فيصل نصح والده بعدم اللجوء إلى ممارسة مثل هذه الخدعة الخبيثة التي وضع خيوطها شقيقه
الأمير عبد الله.
ذلك لأن فيصل كان يؤمن بأن الحرية تؤخذ ولا تعطى، شأنها شأن الاستقلال، وكان يؤمن كذلك ويتفق
لورانس معه في ذلك، بأن الحرية هدف لا يمكن الوصول إليه بالدسائس وإنما بالنضال.
وعلى أية حال، فقد وصل لورانس إلى رابغ ليجد أن الأمير عليًا كان بانتظاره . وأعجب لورانس بالأمير
علي، ولكنه لاحظ أن ملامحه كملامح شقيقه عبد الله توحي بأنه كان أبكر سنًا مما هو في الواقع.
وما خلا ذلك فقد ألقى الأمير علي شابًا طيب ال قلب، صريحًا، واسع الثقافة والخبرة لدرجة تفوق ما كان يتوقع
من شاب يعيش في منطقة أكثر سكانها يكادون أن يكونوا اميين . كما وجده واسع الاطلاع في الدين والقانون،
وشريفًا إلى درجة أنه كان يأبى على نفسه تصديق أن للخيانة مكانًا في نفوس الآخرين.
وذلك ما كان يميزه ع ن شقيقه الأمير عبد الله الذي يلجأ إلى تدبير المؤامرات وحبك الدسائس للإيقاع بأعدائه .
وعلة الأمير علي الوحيدة هي أنه كان ضعيف البنية، نحيل الجسم.
وكم كانت دهشة لورانس عندما اكتشف بأن خطته لم تثر في نفس هذا الأمير الحماسة التي كان يتوقعها منه.
وعرف كذلك أن عليًا لم يرض بالسفر إلى رابغ لاستقباله إ ّ لا تنفيذًا لرغبة والده، وكيلا يثير الشبهات بأنه
يحاول أن يخرج عن طاعة والده.
٣٣٥٥
كان لورانس يريد الشروع بالسفر فور وصوله إلى رابغ، ولكن الأمير عليًا نصحه بالتريث فيها حتى مغيب
الشمس إذا كان يبغي أن يحافظ على سرية رحلته. ذلك لأن عليًا كان يخشى على لورانس من عبيده.
والدليل على ذلك أنه شدد على الأشخاص الذين اختارهم لمرافقة لورانس في رحلته بأ ّ لا يخوضوا بأي حديث
مع من يصادفونه في الطريق، وأ ً لا يحاولوا زيارة معسكر من المعسكرات التي كانوا سيمرون بقربها.
وكان أكثر ما يخشاه الأ مير هو انتشار نبأ رحلة لورانس إلى قبيلة بني حرب فتفسد عليه الخطة وتعرض
ضيفه للخطر، وكانت هذه القبيلة قد أعلنت ولاءها لجانب الأتراك في المدة الأخيرة، وخاصة الفئة التي كان
الشيخ حسين مبيرج رئيسها.
كذلك كان علي يخشى من العقوبة التي سينزلها به والده في حالة تعرض لورانس لأدنى قدر من الأذى .
أضف إليه أنه كان على الأمير علي مراعاة التقاليد العربية، إلى أقصى حد ممكن، بالنسبة إلى الضيوف وذلك
بغض النظر عن لون الضيف ودينه كما هي الحال بالنسبة إلى لورانس الذي أصبح الآن ضيفًا يحل على
الشريف حسين في الأراضي الإسلامية ال مقدسة. فإدراكًا منه لهذا الواقع الذي يعيشه والذي يفرض عليه توفير
أكبر قسط من الراحة والأمان للضيف، عين الأمير علي رج ً لا يدعى طفاس كان ينتمي في نسبه إلى قبيلة بني
سالم المعروفة بعدائها لقبيلة بني مسروح حرب، كحارس ومرافق خاصة للورانس أثناء تجولاته.
وبعد مسي رة يومين وصل لورانس إلى قرية الحمرا في وادي صفرا . وكم دهش عندما عرف أن الحشود
الكثيرة من الرجال الجالسين أمامه، جماعات جماعات، وجمالهم التي كانت تسرح في المراعي بحثًا عن الماء
والكلأ، كانوا من أتباع الأمير فيصل.
وبعد برهة قصيرة، وصل إلى خيمة الأمير فالفاه واقفًا ببابها لاستقباله. وما إن لمحه لورانس حتى وجد فيه
صورة ذلك الحواري الجديد والقائد الملهم الذي طالما تصوره في أحلامه يسير في مقدمة الجيوش العربية ليقود
نضالها في سبيل الحرية والاستقلال … في هذه اللحظة تصور لورانس أن حلمه قد تحقق، وأنه قد عثر على
ضالته المنشودة في شخص فيصل… باعث النهضة العربية كما كان يصفه.
كانت أحلى ساعات العمر بالنسبة إلى لورانس … هي ساعة اللقاء . فقد تقدم نحوه بخطى وئيدة، وقلبه مفعم
بالفرح والسرور، وعانق ذلك الإنسان الذي تجسدت فيه أحلامه . ثم اشار عليه فيصل أن يدخل إلى الخيمة،
فدخل لورانس فيها وهو لا يكاد يصدق أن حلمه سيتحقق بمثل هذه الروعة والسرعة.
بعد فترة استراحة قصيرة، تطلع فيصل إليه وسأله كيف كانت رحلته . فأجابه لورانس بأن هذه الرحلة كانت
أول رحلة يقوم بها على الجمال . ثم أخذ فيصل يداعبه ويثني عليه نظرًا لتمكنه من قطع كل تلك المسا فة التي
تفصل بين رابغ ومركز قيادته في الصحراء في غضون يومين فقط.
وكأني به أراد بذلك أن يخفف من عناء الرحلة ومشقتها عن لورانس . ثم لاذ الجميع بالصمت فخيم السكون
على الخيمة ما خلا طنين الذباب وحفيف الأيدي وهي تمتد إلى اللحى لتداعب خصلات شعرها المفتولة.
وبعد لحظات، تطلع فيصل إلى الجالسين حوله بدهشة وكأنه يريد أن يقول لهم : علام هذا الصمت، فالمجال
مفتوح أمامكم لتوجيه الأسئلة التي تريدونها للضيف الإنجليزي.
٣٣٦٦
ولكن أحدًا منهم لم يحاول أن يتكلم . وأخيرًا عاد فيصل يسأله من جديد كيف وجد المكان، وهل أعجبه أم لا .
عندئذ، تحمس لورانس، فرد بصوت عال كما لو أنه يريد أن يمزق خيوط ذلك الصمت، وأن يغير مجرى
الحديث الذي وجده بعيدًا جدًا عما كان يجول في خاطره من هواجس تتعلق بمجرى الأحداث، وقال : "أجل،
ولكنه بعيد جدًا عن دمشق."
والواقع أن فيصل كان مدركًا لواقع الأمور أكثر من سواه، وك ان بوسعه أن يشترك مع لورانس في هذا
الحديث الحماسي، إ ّ لا أنه كان متعبًا ومرهقًا بعد الهزيمة التي لحقت بقواته اثر الهجوم الذي شنته على المدينة
المنورة.
أما وقد ايقن من ان لورانس كان يحاول ان يدفعه إلى الخوض في هذا الحديث فقد فكر بأن يستفزه ولو من
باب المجاملة والمداعبة، بد ً لا من أن يلوذ بالصمت، وقال:
لكنك تنسى أنه يوجد بين ظهرانينا أتراك كثيرون … وعلينا أن نحاربهم أو ً لا قبل أن ننتقل إلى محاربة
أولئك الأتراك القابعين في دمشق.
وصمت فيصل بينما طفق الحاضرون يضحكون . واحمر وجه لورانس خج ً لا غير أن فيصل وضع حدًا للهرج
والمرج اللذين سببا الإحراج لضيفه، وسأله مبتسمًا عن مهمته.
وهنا دخل لورانس بعض الارتياح فراح يقول بصوت هادئ : جئت إلى هنا بغية أن أقف بنفسي على حقيقة
التقدم الذي أحرزته الثورة العربية، ومعرفة ما تحتاج إليه من مساعدة ومساندة، والاطلاع على الخطط التي
ينوي أميركم فيصل الجزيرة العربية الجالس بيننا الآن، تنفيذها في المستقبل ضد الأتراك.
ثم قال انه سيرفع تقريرًا عن مشاهداته وانطباعاته إلى القاهرة حيث يوجد هناك العديد من الضباط الذين
يعطفون على قضية العرب ولن يترددوا في تقديم أية مساعدة ممكنة لهم في نضالهم الثوري.
وهنا تدخل أحد الرجال، وهو مولود مخلص، الذي كان قائدًا في الجيش التركي، وكان أول ضابط عربي فر م
الجيش العثماني لينضم إلى ثورة الشريف حسين فعينه مساعدًا لابنه الأمير فيصل، فقال:
نود أن نعرف ما إذا كنت تقوم بهذه المهمة بتكليف من القيادة البريطانية أم لا؟
فرد عليه لورانس قائ ً لا:
كلا : لا أظن أحدًا قد أرسلني والحقيقة انني جئت من تلقاء نفسي …. فوصلت إلى مدينة جدة أو ً لا، ثم تابعت
رحلتي إلى هنا لكي أقابل الأمير فيصل بعد أن حصلت على موافقة الشريف حسين . وها أنذا بينكم الآن وبودي
لو أحصل على معلومات دقيقة عن مجرى الحرب.
وقاطعه صوت دلت لهجته على أن صاحبه سوري وقال بلهجة الواثق من نفسه:
إذا كنت جئت إلى هنا بمحض اختيارك فعلام السؤال عن مخططاتنا في المستقبل؟ .. إنني اعتقد بأنك ما
جئت إلى هنا إ ّ لا لتقوم بأعمال التجسس.
غير أن لورانس أنكر أن يكون جاسوسًا… ثم حدق في هذا الرجل الذي أتهمه بالتجسس، وقال:
٣٣٧٧
أؤكد لكم أنني صديق مخلص طالما دافع عن قضيتكم في أوساط القيادة العليا في القاهرة … وقد جئت إلى
هنا حتى أكون لكم سندًا وعونًا في حملاتكم الثأرية لإخوانكم السوريين الذين يسامون العذاب ألوانًا على أيدي
الأتراك في دمشق.
فرد عليه السوري يقول:
ولكن هؤلاء الذين تتحدث عنهم لم يكونوا إ ّ لا عملاء للأجانب أي الإنجليز والفرنسيين …. ولم يكن
بينهم من كان مخلصًا للعرب وثورة العرب … والدليل على ذلك أنهم كانوا يخططون لتسليم البلاد للأجنبي الذي
أرسلك إلينا الآن كي تدخل في روعنا أن الإنجليز يودون مساعدتنا في ثورتنا ضد الأتراك….
وصمت السوري لحظة، ثم التفت إلى الأمير فيصل وقال بحماسة:
سيدي الأمير، يجدر بنا أن ، نبعده من هنا قبل أن يطلع على كافة أمورنا.
وهنا ابتسم الأمير فيصل، وهو يتطلع إلى لورانس، ثم قال بهدوء:
هلا عرفت الآن مدى الهوة التي تفصل بيننا وبين الإنجليز… فنحن لا نستطيع أن نتحالف مع بريطانيا قبل
أن نلمس منها نيتها الحسنة نحو قضيتنا … إننا قوم شديدو الغيرة والحرص على بلادنا إلى الحد الذي يجعلنا لا
نثق بأية دولة أجنبية، أو أن نبادلها ودًا بود… ومن يدري ما إذا كانت الأيام ستغير من نظرتنا إلى الأمور…
وقاطعه السوري قائ ً لا بلهفة:
كلا ! لن يحدث ذلك أبدً ا… ألم يكفنا ما كشف لنا من نياته الصريحة حتى الآن عندما راح يتحدث عن
دمشق… ودمشق بعيدة عنا مئات الأميال … فما باله يتحدث كثيرًا عن عاصمة بلادنا؟ من يدري … قد يكون
فعل ذلك في محاولة منه ليعرف ما إذا كان في نيتنا أن نزحف عليها أم لا، ثم ينقل الخبر إلى أسياده فيسبقونها
إليها…
وفي مثل هذا الجو الذي تخللته أحاديث مثيرة، هاجت المشاعر من كوامنها، لم يجد لورانس ما يحاول به أن
يقنع الأمير فيصل ورجاله بصدق نياته، سوى المنطق يبرر به أسب اب وجوده في بلاد العرب، فتأمل لحظة ثم
قال بلهجة هادئة:
إنني مدرك تمامًا الشكوك التي تراودكم بالنسبة إلى إخلاصي نحوكم . ويقيني أنه ليس هنا من وسيلة يمكن
بها اقتلاع جذور هذه الشكوك من أذهانكم إ ّ لا بالمجئ اليكم … وهذه لعمري أفضل وسيلة يمكنني اللجوء إليها
لاثبات صداقتي وإخلاصي لكم.
إنكم تعلمون ولا شك بأن هناك العديد من الجنود البريطانيين في فرنسا … ولكن الشعب الفرنسي لم يراوده قط
الشعور بأن أولئك الجنود قد أرسلتهم بريطانيا لاحتلال أراضيها وجعل فرنسا دولة تدور في فلكها … وعلى
شاكلة ذلك، فإذا ما أرسلت بريطانيا يو مًا ما بعض ضباطها إلى بلاد العرب، وأبدت اهتمامها بالتحالف مع
العرب وتقديم المساعدة اللازمة لهم لمتابعة نضالهم ضد الأتراك كي يتمكنوا من تطهير بلادهم منهم …. أرجو
ألا يظن العرب بأن بريطانيا تستهدف من وراء ذلك بسط سيطرتها ونفوذها على العرب.
وهنا رد عليه الأمير فيصل وكأنه أراد أن يضع النقاط على الحروف، فقال:
٣٣٨٨
بالرغم من حرصي الشديد وحفاظي على بلادي، فإنني قد لا أشك البتة في ما تردده بريطانيا من أنها لا
تنوي الاستيلاء عليها … ولكن ما حيلتي ما دامت بريطانيا نفسها قد وضعت مثل هذا السلاح في يدي حينما
احتلت السودان بحجة أنها لا تنوي احتلاله … ويقيني أن ليس هناك ما يمنع الإنجليز من تحقيق محاولتهم
السيطرة على الأراضي النائية … قد يفعلون ذلك بدافع الرغبة في بناء مثل هذه الأراضي …. ولكن ذلك لا يكفي
لاستبعاد فكرة الاحتلال من أذهانهم … لا سيما وإن الإنجليز سيجدون البلاد العربية مرتعًا خصبًا لهم، ومنطقة
ثمينة لا يتخلون عنها بسهولة … وعلى كل، فأنا أعتقد بأن كل واحد منا ينظر إلى الخير والفضيلة من زاويته
الخاصة… كذلك، يجب ألا يغرب عن بالنا أن الخير والشر يصبحان على السواء، عندما يفرضان بالقوة على
الشعوب المغلوبة على أمرها، وهما كفيلا ن لأن يسببا لها مآسي وويلات متماثلة … ثم لا تنس أن الشعوب
الضعيفة تكون دائمًا ميالة إلى الضجيج والصخب تلوح بهما ضد من تخشى من سيطرته عليها.
إن هذه النظرة قد تتبدل في شعبنا عندما يأتي ذلك اليوم الذي يكتشف فيه حقيقة وجوده وشخصيته.
وكأني بلورانس قد أدرك أن فيصل كان يستهدف من وراء ذلك وضع حد لتلك المناقشات الصاخبة، وأدرك
بالتالي أن فيص ً لا كان يدعوه إلى تقديم الاعتذار عما بدر منه فأثار الحقد في نفوس بعض رجاله، فنهض
واعتذر للجميع عما صدر منه نحوهم.
والواقع أن الدرس الذي تعلمه لورانس عن شعور العرب، في تلك الدقا ئق المعدودة، كان أهم بكثير مما تعلمه
عنهم في الكتب والتجارب السابقة . فقد بات يدرك الآن أنه يستحيل على بريطانيا أن تستطيع شراء صداقة
العرب ببعض الفضة أو بشحنة من الأسلحة كما كان يخيل لمعظم رجال القيادة في القاهرة.
بل أدرك أن بريطانيا يجب أن تبذل المزيد من الوقت والجهد والإيمان إذا كانت تريد أن تحظى بصداقة
العرب وثقتهم بها.
غير أن ذلك أقلق بال لورانس وبات يخشى على مهمته الفشل . فقد كان يعرف أن معظم رجال القيادة
مفتقرون إلى الصبر والإيمان اللازمين في ثمل هذه الحالة . وفض ً لا عن ذلك، كان يدرك سلفًا بأن تقريره لن
تكون له تلك الأهمية التي تعطى لأي تقرير يرفعه ضابط أعلى منه مرتبة.
وهل بوسع ضابط بسيط مثله أن يقلب الأوضاع رأسا على عقب، وأن يدخل تفكير كبار القادة في القاهرة
نيات جديدة تكن المودة والعطف نحو العرب وتقديم المساعدة لهم؟ غير أنه فكر بأنه قد يكتب له النجاح إذا
ضمن تقريره بعض المعلومات الدقيقة المفصلة عن الخطط التي كان فيصل ينوي تنفيذها في المستقبل، وبعض
المعلومات المعقولة عن مدى قدرة الجيش العربي على التغلب على الأتراك وطردهم من أراضي الجزيرة
العربية.
ونتيجة لذلك فإنه صمم على أن يقنع فيصل بالاجتماع معه شخصي ًا. وقد شجعه على التفكير في هذا الاتجاه
لمسه في فيصل أثناء الاجتماع السابق من لباقة في الحديث، واتزان في التفكير.
عندما انتقل لورانس من خيمة الأمير فيصل إلى خيمة الضيافة التي أعدها له فيصل ليقضي الليل فيها، جلس
هناك يف ّ كر في الوسيلة التي يستطيع بها أن يتغلب على كافة المشاكل التي كانت تعترض سبيله.
٣٣٩٩
غير أن النعاس سرعان ما بدأ يداعب جفونه فاستسلم للرقاد . أجل، نام لورانس ملء جفونه وهو يعلل النفس
بنجاح مهمته في المستقبل، نام وهو يحمل بين ضلوعه أملا كبيرًا راوده منذ لمح صورة فيصل عندما كان
واقفًا بباب خيمته ليستقبله ساعة وصوله.
وفي اليوم التالي، اعتزم فيصل أن يقوم بجولة تفتيشية على جنوده . ففكر بأن من اللياقة أن يدعو لورانس
لمرافقته.
وقبل لورانس دعوته شاكرً ا. وتوجه فيصل بادئ ذي بدء إلى مخيم الفرقة المصرية التي كان الجنرال وينغات
قد أرسلها من السودان لتشترك في المعارك الدائرة في الجزيرة العربية.
وكانت هذه الفرقة تتألف من جنود المدفعيين الذين كانوا مقسمين إلى وحدتين : وحدة للمدفعية الثقيلة وأخرى
الخفيفة.
فكان لورانس، شأنه في كل مرة، ينتقد نوع الأسلحة التي كانت بحازة هذه الفرقة . غير أن فيص ً لا استدرك
الأمر بابتسامة، ثم التفت إلى القائد مولود وقال له بلهجة الواثق من نفسه:
أراكم قد تأخرتم في الوصول…!
وقاطعه مولود بقوله: تأخرنا، عن ماذا يا حضرة الامير؟
فرد عليه فيصل يقول بصوت أجش:
عن احتلال المدينة المنورة….
قال ذلك ولاذ بالصمت. ثم تابع يقول وقد تجهم وجهه:
م ولود ! هل لك أن تحدث ضيفنا عن كل ما تعرفه عن أمر تلك المعركة؟ ! واستجاب مولود لرغبة الأمير
فيصل، فطفق يسرد أمامه وقائع تلك الأحداث المريرة التي عاشها رجاله طيلة فترة الهجوم على المدينة
المنورة.
وتحدث مولود عن كل شئ، عن مقدرة الأتراك وتفوقهم على المناضلين ا لعرب من حيث السلاح والمؤن
والمال.
ومما يذكر أن المناضلين العرب كانوا لا يملكون ما يردونه به على مدفعية الأتراك المنصبة عليهم سوى
بضع رشاشات هزيلة.
ومما زاد موقفهم سوءًا أنهم كانوا لا يحملون بنادق كافية يستطيعون بها الدفاع عن أنفسهم.
ثم صمت مولود إذ أدرك أن الأمير فيصل يريد متابعة سرد أحداث تلك التجربة على ضوء ما كان يعرفه
عنها.
فقال فيصل ان الجيش التركي لم يكن متفوقًا على الجيش العربي من حيث العدد والعدة فحسب، وإنما من
حيث الخبرة والمعلومات كذلك.
فقد كان الجيش العربي تعوزه معرفة بعض المعلومات الصحيحة ع ن تحركات عدوه وتنقلاته وامداداته حتى
يمكنه على الأقل معرفة متى يجب عليه أن يشتبك معه بأية معركة . وقد ضرب مث ُ لا على ذلك بقوله : قرر
الجيش العربي ذات يوم أن يقوم بهجوم على الأتراك … وقد جاء قراره عفويًا إذ كان الأتراك في هذه الأثناء
٤٤٠٠
يعززون، مواقعهم باستقدام ال مزيد من الجنود، وذلك بعد أن وصل إلى علمهم أن الجيش العربي كان يعد العدة
للقيام بهجوم عليهم وكان أن نفذ الجيش العربي قراره فتعرض لهزيمة نكراء كان بوسعه أن يتفاداها لو كانت
لديه فرقة استخبارات سرية تمده بين وقت وآخر بالأخبار عن حالة العدو والأهداف التي ينوي تنفيذها، وعما
يقوم به من الاستعدادات والتحصينات.
ثم عاد الجيش العربي وارتكب غلطة مماثلة عندما قرر الهجوم على المدينة المنورة بينما كان الأتراك
يعززون حاميتها ويستقدمون المزيد من الجنود إليها لمساندة تلك الحامية.
ونتيجة لذلك أصيب الجيش العربي بهزيمة نكراء . وليت المشكلة توقفت عند حد التعرض للهزيمة والاندحار،
إذ ربما استطاع هذا الجيش أن يسترد شجاعته وتجميع صفوفه، فقد طارده الأتراك وقضوا على معظم جنوده
يشجعهم على ذلك علمهم بأن العرب عزل من السلاح.
وكأني بالأتراك لم تروهم دماء الرجال الذين قضوا عليهم، فداهموا مضارب خيام قبيلة بني سالم وراحوا
يقتلون الأطفال والنساء ويمثلون بهم أشنع تمثيل، مع العلم أن زعيم القبيلة أبلغ رجال فخري باشا التركي
استسلامه للأتراك يقينًا منه بأن مثل هذا العمل قد ينقذ رجال ونساء وأطفال قبيلته من خطر الموت.
غير أن الأتراك تجاهلوا نداء ذلك الشيخ ضاربين عرض الحائط بجميع قوانين الحرب التي تحرم قتل الأطفال
والنساء حتى في حالة عدم الاستسلام.
وكان من الطبيعي أن تثير أخبار هذه المذبحة الرهيبة التي ارتكبها الأتراك ضد نساء وأطفال قبيلة بني سالم،
الحقد والسخط في نفوس جميع سكان الجزيرة العربية على الأتراك.
ازاء هذا الواقع المؤلم بدأ العرب يدركون ألا مجال بعد اليوم للتفاهم مع اعداء لا يدعون للأطفال والنساء
حرمة، ولا يحترمون قوانين الحرب المتعارف عليها دوليًا.
ولكن أنى للحقد والسخط أن يكونا كافيين لقهر جيش منظم كالجيش التركي مهما بلغ عدد رجال القب ائل الذين
سينضمون إلى صفوف الثورة العربية.
وإنما كان هناك شئ واحد له من التأثير والفعالية ما يفوق الوصف … ألا وهو تزويد المناضلين العرب بمدافع
ميدان ثقيلة، ومدافع جبلية، وأسلحة حديثة، ومؤن كافية، يستطيعون بها التصدي لهذا العدو الذي يتربص بهم في
كل مكان.
صحيح ان جنود الفرقة المصرية الموفدة من السودان كانوا مجهزين ببطاريات ثقيلة من المدافع، غير أن هذه
المدافع كانت هزيلة بالمقارنة مع مدفعية الجيش التركي، كما ثبت في الهجوم الذي شنه العرب على المدينة
المنورة، ذلك لأن مدفعية الأتراك كانت تقذف قنابلها إلى مسافة ت بلغ أضعاف المسافة التي كانت المدفعية
العربية ترمي إليها.
وكان الأمير فيصل يتابع سرد قصة جيشه على مسمع من لورانس فقال إنه أوفد شقيقه الأمير علي إلى ميناء
رابغ، ذات مرة، بغية الاستفسار عن أسباب تأخر المؤن والمعدات عن الوصول في الوقت المناسب.
٤٤١١
ولكن شقيقه عاد من هناك ليعلمه بأن القيادة العليا في مصر أصدرت أوامرها بوقف عمليات شحن المؤن
والمعدات إلى المناضلين في الجزيرة العربية لسبب واه هو أن بعض رجال القبائل المناهضين للحركة العربية
وبدافع ولائهم للأتراك كانوا أحيانًا يتعرضون للقوافل التي كانت تنقل الإمدادات ويستولون على بعضها.
وقال فيصل انه على أية حال سيكون شاكرًا للإنجليز إذا أرسلوا له مقادير من الذخيرة والأسلحة تكون كافية
لشن هجوم ثان على المدينة المنورة . والجدير بالذكر أن فيصلا كان يخطط للقيام بالهجوم على المدينة المنورة
من جديد.
وفي هذه المرة كان ينوي الاشتراك شخصيًا في الهجوم الثاني الذي تقوم به الجيوش العربية على المدينة.
وإليكم عرضًا موجزًا لهذه الخطة الهجومية الجديدة : يهاجمها فيصل من ناحية الغرب على رأس جيش قوامه
ثمانية آلاف محارب … بينما يتقدم شقيقه علي نحوها بعد أن ينطلق من ميناء رابغ على رأس جيش قو امه ثلاثة
آلاف مقاتل.
وفي نفس الوقت كان من المقرر أن يقوم شقيقه زيد وهو شقيقه من والده بالهجوم على الفرقة التركية
المعسكرة بالقرب من بئر عباس، وبذلك يشغلها عن المعارك الدائرة حول المدينة المنورة ويقطع عليها سبيل
الانتقال إلى هناك لنجدة القوات التركية في المدينة المنورة . كذلك، كان على الأمير عبد الله أن يتقدم بالهجوم
على المدينة من الشرق على رأس جيش قوامه أربعة آلاف محارب.
وهكذا يصبح الجيش التركي في المدينة كأنه معزول عن العالم الخارجي لأنه سيكون مطوقًا من الجهات
الأربع.
وكان فيصل يتوقع لخطته هذه حت ى وإن فشلت أن تلحق خسائر فادحة بالقوات التركية وتقطع عليها
سبيل القيام بأي هجوم على مكة المكرمة حيث ترابط فرقة كبيرة من الجيش العربي بقيادة الشريف حسين
نفسه.
ولا مشاحة في أن حديث فيصل قد أزاح عن لورانس الكابوس الذي جثم على صدره ليلة البارحة.
وفي هذه ا للحظة بالذات كانت الشمس توشك أن تغيب فتذكر فيصل موعد الصلاة . وعلى الفور نهض من
مكانه بكل هدوء وراح يستعد لتأدية صلاة المغرب، في حين وقف لورانس يراقبه عن كثب بقلب يغمره الأمل
الذي كان فيصل يعكسه عليه بوقاره وهيبة طلعته وقوة أسر ملامحه … ثم طفق يتمتم في نفسه : ربي إنك
أرشدتني إلى ملك العرب الذي سيتوج في دمشق.

خالد الحويطي
18-02-07, 01:09 AM
الفصل السابع

لورانس ضابط ارتباط

قام لورانس بجولة قصيرة على بعض المواقع الجبلية التي يسيطر عليها الأمير فيصل قبل مغادرته الجزيرة
العربية ليعود إلى القاهرة، ويقدم تقريره عن مشاهداته وانطباعاته فيها، لا سيما ما كان يتعلق بالجيش.
وكان أثناء تجوله وانتقاله يجري اتصالات شخصية مع بعض جنود الأمير فيصل كي يتعرف عن كثب على
مدى تأثرهم بالأحداث والظروف السائدة في الجزيرة العربية وكم كانت دهشته عندما وجدهم في حالة نفسية
٤٤٢٢
حسنة للغاية فض ً لا عن ولائهم العظيم للشريف حسين، وإيمانهم العميق ببداية الثورة التي كانوا يحملون لواءها
ضد الأتراك.
إ ّ لا أنه شعر بالقلق من شئ واحد، وهو الأهم، وأعني بذلك نوع الأسلحة التي كانوا يحملونها للدفاع بها عن
أنفسهم ضد الأتراك، كما عرفت أن القوات التركية كانت على درجة كبيرة من التنظيم ومجهزة بأحد ث أنواع
الأسلحة والمعدات، ومن هنا بدأ يفكر بضرورة تزويد الجيوش العربية بأسلحة حديثة، وذخيرة كافية، وأموال
وفيرة تضمن للثورة استمرارها وتحقيق أهدافها.
ومما كان يزيده تصميمًا على تنفيذ ذلك أنه وجد قلوب المناضلين العرب زاخرة بالحماسة والولاء.
وبعد ذلك، قفل لورانس عائدًا إلى جدة حيث علم أن الجنرال وينغات الذي كان سيرفع إليه تقريره عن رحلته
هذه، بصفته القائد العام للقوات البريطانية في شبه الجزيرة العربية كان قد غادر القاهرة وتوجه منها إلى
مدينة الخرطوم في السودان.
ولكنه التقى هناك الأميرال ويميس، قائد القوا ت البحرية في مصر. والجدير بالذكر ن أميرال ويميس كان من
المتحمسين للثورة العربية، ومن المدافعين عنها في أوساط القيادة العامة في القاهرة.
فلما عرف ويميس أن لورانس كان يقوم بدراسة خاصة للتعرف على أوضاع الثورة، وافق على أن يصطحبه
معه إلى الخرطوم ما دام سيتوجه إلى هناك بغية التشاور مع زميله الجنرال وينغات حول الأحداث الراهنة.
إ ّ لا أنه اشترط عليه أن يرتدي ملابسه العسكرية وألا يخرج على ظهر السفينة بملابسه العربية كما فعل مرة
أثناء سفره بإحدى السفن الحربية من ميناء رابغ إلى جدة.
وهنا حاول لورانس أن يدخل في روع ا لأميرال بأن ظهوره بالملابس العربية كان ضروريًا لإثبات وقوفه
بجانب العرب في نضالهم ضد الأتراك.
ومما يذكر أن لورانس بالإضافة إلى حماسته البالغة للقضية العربية ومودته الصادقة التي يبديها نحو القضية
العربية، كان يكثر من الظهور باللباس العربي، سواء في القاهرة أو غيرها من المدن العربية والأجنبية
وخاصة في باريس أثناء انعقاد مؤتمر السلم، لكي يلفت الأنظار إلى شخصه أكثر من اللزوم.
وفي هذه الأثناء، كانت أنباء الخطة الجديدة التي يزمع فيصل أن ينفذها وتقضي بشن هجوم جديد على
المدينة المنورة قد وصلت إلى مسامع الجنرال وينغات.
فداخله المزيد من الإرتياح والطمأنينة . ذلك لأن الجنرال وينغات، وكذلك الأميرال ويميس، كانا يتوقعان لثورة
الشريف حسين النجاح في القريب العاجل . والجدير بالذكر أن وينغات وويميس كانا ينظران إلى الثورة العربية
نظرة تختلف عن نظرة غيرهما من ضباط القيادة العليا.
إ ّ لا أن عيب وينغات الوحيد أنه كان جنديًا شريفًا، ولم يكن سياسيًا محنكً ا. ولذا فإنه كان يجهل معرفة الأسباب
التي ستجعل العرب يشعرون بالنفور والضغينة من وجود بعض القوات الأجنبية بين ظهرانيهم.
وذلك لأنه كان يسعى لتنفيذ خطة كانت تقضي بإرسال قوات كبي رة من البريطانيين والفرنسيين إلى الحجاز
بغية مساعدة الأمير فيصل في ثورته ضد الأتراك دون أن يقدر العواقب التي تترتب عن وجودها هناك . كذلك
٤٤٣٣
كانت تلك القوات، حسب خطة وينغات، ستتوجه فيما بعد نحو الشمال حتى تلتقي بالقوات الرئيسية التابعة للقيادة
البريطانية لتشترك معها في الزحف على سوريا.
وكان الكولونيل بريموند، ممثل فرنسا لدى العرب في جدة، يحاول ما أمكنه ذلك أن يشجع الجنرال وينغات
على تنفيذ هذه الخطة إذ كانت خطوطها تلتقي مع خطوط سياسة بلاده الطامحة إلى السيطرة على سوريا، وربما
حققت له حلمه بتعيينه حاكمًا عليها.
ذلك ما كان يدبر له بريموند في السر، أما في الظاهر فقد كان يحاول أن يدخل في روع العرب أن القوات
الأنجلو فرنسية لن توجد في بلادهم إ ّ لا لتساعدهم على استعادة حريتهم والظفر باستقلالهم.
ولا مشاحة في أن لورانس كان مدركًا لما كان بريموند له في الخفاء : فقد سبق له أن اجتمع به في جدة،
وسرعان ما بدأ أحدهما يشعر بكراهية نحو الآخر.
ولذا عارض لورانس بشدة عندما قابل الجنرال وينغات، فكرة إرسال أية قوات أجنبية إلى أراضي الجزيرة
العربية.
وقال في معرض معارضته لتلك الفكرة ان وجود مثل هذه القوات هناك لن يحقق النتائج المرجوة ، بل ان
العاقبة ستكون وخيمة ليس فقط بالنسبة إلى مجرى الحرب برمته، بل كذلك بالنسبة للثورة العربية.
فقد كان يتصور بأن وجود قوات أجنبية في الجزيرة العربية سوف يحفز رجال القبائل على العودة إلى
منازلهم وإلقاء السلاح من أيديهم.
وهذا يعني أنهم سيكفون عن متابعة النضال. ثم أخذ يشرح له بوضوح الأشياء التي يرجو فيصل الحصول
عليها من الإنجليز لدعم حركته.
فقد كانت مطالب فيصل تنحصر في المال والسلاح والمؤن بالإضافة إلى نفر قليل من الضباط البريطانيين
لتدريب رجال القبائل على كيفية استعمال الأسلحة الحديثة.
ومثل هذه المطالب ستكون كافية، في حالة تنفيذها، لأن تعزز حركة الأمير فيصل وتزيده صمودًا وثباتًا في
نضاله ضد الأتراك إلى ما لا نهاية.
غير أن نظرة الجنرال وينغات إلى الحرب الدائرة في الجزيرة العربية كانت تختلف عن نظرة لورانس، فقد
تصور وينغات أن لورانس كان يسعى إلى تعزيز قوة العرب بلا مبرر، وإعطائهم قوة دفاعية لا يستهان بها
أبدًا.
ومن هنا كان مصدر معارضته لتنفيذ ما جاء في تقرير لورانس من توصيات بشأن ثورة الشريف حسين.
وأدهى من ذلك أنه قرر أن يتجاهلها كليًا، ثم بعث ببرقية إلى القيادة العامة في القاهرة طلب فيها إرسال عدة
فرق عسكرية من القوات الحليفة إلى الحجاز فورًا.
ومن هنا كان شعور لورانس بخيبة الأمل يحز في أعماقه . وأخيرًا قرر أن يتوجه إلى القاهرة، بعد أن يئس
من إقناع وينغات بصواب فكرته، عساها تستطيع إقناع الجنرال وينغات بعدم تنفيذ خطته.
تلك الخطة التي اعتبرها لورانس هوجاء لا بد لها أن تؤدي إلى تعكير صفو العلاقات بين بريطانيا والعرب،
وتقضي على كل أمل للقيام بعمل مشترك فعال لدعم الثورة . ولذا أسرع بالسفر إلى مقر القيادة العامة في
٤٤٤٤
القاهرة وهو مصمم على أن يدافع عن فكرته ويوضح قضيته، أمام السر "ارشيبالد موراي" الذي كان قائدًا عام ًا
للقوات البريطانية.
وكم كانت دهشته عندما استقبله السر موراي بحرارة . والواقع أن لورانس كان قد مهد أمامه طريق الوصول
إلى القيادة العامة بتقريره الذي بعث به إلى الكولونيل كلايتون وضمنه رأيه السديد بعدم إنزال أية قوات حليفة
إلى شاطئ الجزيرة العربية.
ومما ي ذكر أن تقريره وجد صدى طيبًا لدى العديد من ضباط القيادة وأركانها، لا سيما وإن القيادة العامة لم
تكن في وضع يسمح لها بالاستغناء عن بعض قواتها وإرسالها للقيام بأية مغامرة غير مأمونة العواقب.
وفض ً لا عن ذلك، فقد كان الأمل ضئي ً لا بالحصول على موافقة الحكومة البر يطانية بشأن اتخاذ مثل هذه
الخطوة نظرًا لانشغالها عن أحداث الجزيرة العربية بالأحداث الدامية التي كانت تمثل في أوروبا.
ناهيك عن أن المستر لويد جورج، رئيس الحكومة البريطانية، لم يكن شديد العطف على القضية العربية.
ومن هنا شعرت القيادة العامة أن لورانس قد بعث بتقريره في الوقت المناسب بحيث جاء ليدعم فكرتها
المناوئة لفكرة الجنرال وينغات وتوصياته الخاطئة.
أما لورانس الذي كان مدركًا لأهمية هذا التحالف الجديد، لا سيما بينه وبين السر موراي والجنرال ليندون
بيل، رئيس أركانه، فإنه عرف كيف يجني ثماره قبل أني فوت الأوان . وغني عن البيان أن الجنرال بيل وافق
على اقتراحه الرامي إلى إرسال المؤن والمعدات للعرب، وايفاد بعض الضباط لتدريبهم على كيفية استعمال
الأسلحة.
وأخيرًا، تلقى لورانس تعليمات بالعودة إلى الحجاز بعد أن عين ضابط ارتباط بين القوات البريطانية وقوات
الأمير فيصل.
وحاول لورانس أن يحتج على تعيينه لهذا المنصب متذرعًا بأنه غير كفء لتولي مثل هذا المنصب الذي
يحتاج إلى رجل عسكري، وليس إلى رجل مثله صرف معظم حياته بين الكتب والدراسات العلمية، ومع ذلك
فإنه لم يذهب بعيدًا في احتجاجه. فقد كان حريصا على ألا يحتج بشدة لئلا تضيع عليه هذه الفرصة إلى الأبد.
وهكذا، لما كرر الكولونيل أمره للورانس بقبول المهمة، وجدناه يسرع في الخروج من مكتبه وهو لا يصدق
أن أحلامه كانت ستحقق بمثل هذا التسلسل الرائع والسرعة المذهلة، خرج من المكتب وهو يشعر بنشوة عارمة
لا يشعر بها إ ّ لا أولئك الذين تتغلب م طامحهم على مشاعرهم بحيث يصبحون شديدي اللهفة على ترجمتها إلى
حقائق ملموسة لدى أول فرصة تتاح لهم.
وكيف لا ينتشي لورانس من خمرة هذه اللحظة الحاسمة في تاريخ حياته ما دام سيعود الآن إلى شبه الجزيرة
العربية لا بصفته في مقام فرد بل كمبعوث أوفدته القيادة البريطانية من مصر، كي يمثلها هناك بصفة رسمية.
وهكذا وافقت القيادة البريطانية أخيرًا على تعيين لورانس لتوجيه خطى الأمير فيصل وقيادة الثورة العربية
نحو تحقيق الهدف المنشود، ألا وهو احتلال مدينة دمشق.
ومع ذلك إن هذا الحلم الذي ظل يراود أحلامه بأن يخلق ملكًا للعرب و يتوجه في مدينة دمشق، لم يشعره
بالثقة المطلقة في هذه المرحلة المبكرة من مهمته، بضمان عرش العرب لسيده المختار، ألا وهو الأمير فيصل.
٤٤٥٥
ذلك لأنه عندما كان في القاهرة علم بوجود معاهدة سرية أطلق عليها اسم معاهدة سايكس بيكو، هذه
المعاهدة التي اتفقت بريطانيا وفرن سا بموجبها على أن تشكلا حكومات عربية مستقلة في كل من دمشق وحلب
والموصل، وذلك بعد أن يتم لهما النصر النهائي على الإمبراطورية العثمانية ودحرها.
وكان الهدف من وراء تلك المعاهدة تقسيم ما سيتبقى من البلاد العربية بين كل من بريطانيا وفرنسا وروسيا،
وتحويلها إلى محميات تضمن لهم سلامة مواصلاتهم من البحر الأبيض المتوسط إلى المحيط الهندي.
وغني عن البيان أن هذه التدابير كانت تناقض الوعود التي أعطاها السير هنري مكماهون، خليفة كيتشنر في
مصر، للشريف حسين، قبل اندلاع الثورة العربية.
تلك الوعود التي كانت تعني لدى الشريف حسين، وجميع أولاده، وأنصارهم ولورانس، إعطاء العرب، كل
العرب، حريتهم، واستقلالهم ووحدتهم، حالما يتم دحر الأتراك وطردهم من البلاد.
وفي أوائل شهر تشرين الثاني، عاد لورانس إلى ميناء ينبع . وينبع هو ذلك الميناء الصغير الذي يقع على
ساحل البحر الأحمر إلى الشمال م ن ميناء رابغ. وهنا كادت أحلام لورانس الحلوة تتبخر من ذهنه، لأنه فوجئ
بمظاهر الهزيمة منعكسة على وجوه رجال الأمير فيصل الذين تجمعوا في ينبع وكم كان ذهوله عندما علم بأن
جيش الأمير فيصل تعرض لهزيمة شنيعة أخرى واضطر للإنسحاب إلى ينبع حام ً لا معه مآسي الهزيمة
وويلاتها.
ومما يذكر أن هجوم الأتراك على قوات الأمير فيصل كان مفاجأة غير سارة لفيصل إذ أنه جاء قبل إحكام
عملية تطويق كان جيشه وجيوش إخوانه سيقومون بها لتضييق الخناق على القوات التركية وحصرها في
المدينة المنورة، ومنعها من الوصول إلى أية منطقة تقع على الساحل.
وهكذا استطاع الأتراك ليس فقط أن يفلتوا من الحصار الذي كان سيضرب عليهم بل أن يدحروا جيش فيصل
ويرغموه على التراجع إلى ميناء ينبغ، وأسر الأمير زيد، وإرغام قوات الأمير علي على البقاء في ميناء رابغ
رغم أنها كانت تقف على أهبة الاستعداد للتحرك باتجاه المدينة المنورة لتنفيذ دورها في الهجوم.
وحدث لقوات الأمير عبد الله ما حدث لقوات علي إذ أنها فوجئت بالهجوم التركي فترددت في التحرك من مكة
المكرمة.
وكان الجو في ينبغ مشحونًا بالمخاوف، وكل شئ فيه ينذر بشر مستطير لولا بقية من أمل تركه في النفوس
منظر بعض المدرعات البريطانية التي ألقت مراسيها في ميناء ينبع.
ومما كان يزيد الحالة سوءًا أن أبناء الشريف حسين كانوا يوجهون التهم إلى بعضهم بعضًا، ويحاول كل منهم
أن يضع مسؤولية الهزيمة التي لحقت بقواته، على الآخر.
وعندما عاد الأمير علي إلى ميناء رابغ كان يهدد ويتوعد بأنه سيكف عن متابعة النضال. والأدهى من كل
ذلك أن كثيرًا من المناضلين العرب فروا بأسلحتهم عائدين إلى منازلهم . وقد حدث كل ذلك بينما كانت بعض
السفن الحربية تفرغ في ميناء شحنات كبيرة من مختلف الأسلحة والإمدادات والذخيرة.
كما نقلت بعض الضباط البريطانيين الذين أوفدتهم القيا دة العليا لتدريب أفراد الجيش العربي على استعمال
سائر أنواع الأسلحة وأساليب الحرب الحديثة.

٤٤٦٦
أما لورانس فإنه وجد نفسه عاجزًا عن القيام بأي عمل من شأنه أن يعيد إلى النفوس طمأنينتها وسلامتها ما لم
يهتد إلى مكان الأمير فيصل ويتباحث معه في الحلول اللازمة لوضع حد لهذا التدهور الخطير في الموقف.
والجدير بالملاحظة أن لورانس ما كان ليتصور أن العرب كانوا سيشعرون باليأس إلى هذا الحد الذي أقعدهم
عن النضال ضد أعدائهم.
أجل، فقد شعر لورانس بخيبة أمل مريرة تحز في أعماقه وهو يشاهد آثار تلك الهزيمة بارزة أمامه على
وجوه من أو فد لمساندتها ومساعدتها وقال في نفسه : ترى، أتكون هذه بداية النهاية؟ لا أبدً ا! والواقع أن هذه
المظاهر البائسة لم تكن إ ّ لا لتزيده قوة في التصميم على تحقيق المستحيل لمحو آثار هذه الوصمة التي كادت
تلوث مهمته بالعار قبل أن يباشر بها
وعلى الرغم من جميع هذه المآس ي والنكسات التي حلت بقوات الأمير فيصل، لم يجد اليأس ثغرة ينطلق منها
إلى قلب الأمير، بل ظل كما عهده لورانس … دائم الابتسامة، طافح القلب بالأمل لدرجة أنه لم يتأثر بفرار
الكثير من جنوده وعودتهم إلى منازلهم.
فقد كان فيصل يدرك أكثر من سواه مدى التأثير الذي تركت ه الشائعات المغرضة التي كان صغار النفوس
يروجونها بين رجاله.
وسرعان ما عاد الهدوء إلى نفس لورانس بعد أن شاهد ما شاهده على ملامح فيصل من أمل عارم وعزيمة
لا ينتزعان مهما بلغت حدة النكسات والنكبات . وكم كانت دهشته عندما وجد فيصلا يطوف على رجاله ويحاول
أن يعيد إلى نفوسهم الأمل، وأن يرفع من معنوياتهم التي كادت تحطمها تلك الهزيمة الثانية.
يا للروعة ! ان فيصل الذي تعرض هزيمة نكراء كان يطوف على رجاله، ويصغي إلى شكاواهم ومشاكلهم
ويحاول أن يحلها لهم، وأن يقضي على جذور الشائعات المغرضة التي كادت تقضي على معنوياتهم.
تلك الشائعات التي كانت تقول ألا أمل هناك للجيوش العربية لمتابعة الحرب إثر الهزيمة.
وهكذا قضى فيصل ولورانس بضعة أيام بذلا خلالها جهودات فائقة حتى تمكنا من إعادة الطمأنينة إلى نفوس
جميع الجنود والمناضلين من رجال القبائل.
ثم حولا جهودهما إلى النواحي الأخرى المتعلقة بمجرى الحرب، فكانا يمضيان الساعات في إعادة تنظيم
صفوف المحاربين وتدريبهم على استعمال الأسلحة، وصيانتها، والإشراف على أعمال حفر الخنادق في
المناطق الأمامية.
ثم افتتحا مراكز جديدة لتدريب رجال القبائل على كيفية استعمال الأسلحة الخفيفة، وتفجير الديناميت.
وكان الضباط الجدد يساعدونها في تنفيذ كل ذلك . وكان الجنود الآن يقبلون على خيمة الأمير فيصل في
المساء وكأني بهم يجيئون للتزود منه بمعين أكثر من الثقة بالنفس والأمل بالحياة.
بعد ذلك، كان فيصل ولورانس يتناولان طعام العشاء معًا، ثم يحتسيان بعض القهوة الع ربية، إذ ليس هناك شئ
يروي الغليل ويقضي على آفة العطش في الصحراء، وخاصة بعد الأكل، كالقهوة العربية الصرفة.
ثم كانا يستريحان ساعة أو بعض ساعة يقومان بعدها بالطواف على الجنود وهم نيام في خيامهم إمعانًا منهما
في الاطمئنان على راحتهم وسكينتهم وانضباطهم.
٤٤٧٧
والجدير بالذكر أن لورانس كان يأبى على نفسه أن يدع فيصل يقوم وحده بجميع تلك المهمات مهما كان
يصيبه من تعب وإرهاق، ومهما كان يشعر به من حاجة إلى النوم . ذلك لأنه كان مدركًا بأنه ما دام فيصل
محتفظًا بإرادته ووعيه فسيبقى قادرًا على أن يقود جيشه إلى النصر النهائي.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان الأتراك يستعدون لمتابعة هجومهم على المنطقة التي انسحب إليها فيصل
سعيًا منهم للإلقاء به وبقواته في البحر.
وقد كان فيصل ولورانس يتوقعان ذلك . وفي ذات ليلة، أطلقت صفارات الإنذار. فقد وردت أنباء من محطات
الاستطلاع تقول أن قوات العدو أصبحت على مسافة ثلاثة أميال فقط من ميناء ينبع، وأنها كانت تزحف على
المدينة.
فصدرت الأوامر للجنود بالتوجه إلى المراكز الدفاعية، فتوجهوا إلى هناك بكل هدوء ورباطة جأش خلافًا لما
كانوا يفعلون في الماضي كّلما اقتربت ساعة المعركة إذ كانوا يتدافعون ويتزاحمون و هم ينشدون أناشيد الحرب
أعلى أصواتهم، الأمر الذي كانوا يتعرضون بسببه لأوخم العواقب.
وهذا ما أوحى لفيصل بأن التدريبات العسكرية التي كانوا يتلقونها بدأت تعطي ثمارها . وهكذا، فقد ساد جو
المعسكر صمت عميق أشبه بالصمت الذي يسبق هبوب العاصفة، وقبع المناضلون في الخ نادق يقبضون على
البنادق بأيديهم، ويضعون أصابعهم على زناداتها، ولبثوا منتظرين الأوامر حتى يبدأوا بإطلاق النار.
إ ّ لا أن هذا الجو الصامت أدخل الخوف إلى نفوس الأتراك . فقد وجدوا أنفسهم في جو مرعب لم يسبق لهم أن
عهدوه من قبل.
ومما كان يزيد الخوف في نفوسهم أن ا لمدرعات البريطانية الموجودة في البحر كانت تسّلط أضواء بطارياتها
الكشافة على المنطقة التي يتوقع أن يشنوا منها هجومهم على المدينة.
والواقع أن الأتراك فوجئوا بهذا الجوّ الصامت المخيف يرافق هجومهم على القوات العربية التي لم تتعوّد في
الماضي أن تبسط مثل هذا الستار المفرّع على تحركاتها.
وكان لا بد لهم أن يشعروا بالرعب، وأن يحسبوا للمعركة القادمة ألف حساب، لا سيما أن الأضواء الساطعة
التي سلطتها المدرعات البحرية عليهم قد كشفت مواقعهم بصورة واضحة كل الوضوح، وجعلتها تحت متناول
مرمى بنادق العرب.
من هنا بدأوا يتصورو ن بأن القوة العربية التي كانت تنتظرهم في ينبغ لابد أن تكون أكثر منهم عددًا وأوفر
عدّة.
وهكذا انطلت عليهم هذه الحيلة بفضل التكتيك الجديد الذي اتبعه العرب الآن وطبقوه بحذافيره، فقرر قائدهم
الانسحاب تحت جنح الظلام قبل أن يلحق بهم العرب ويقضوا عليهم.
ومع إشر اق الشمس انكشف العرب كيف أن عدوهم خشي من مجابهتهم فقرر الانسحاب دون أن يطلق عليهم
ولو رصاصة واحدة.
٤٤٨٨
وكانت ساعة مشهورة تخللها تبادل الابتسامات والتحيات بين هؤلاء المناضلين . وبعد فترة قصيرة، وصل
فيصل ولورانس إلى المراكز الدفاعية وأخذا يشجعان الجنود على النضا ل ضد عدو ليس أقوى منهم بأسًا ولا
أرفع نسبًا لا سيما وأنهم قد شاهدوه بأم أعينهم كيف ينهزم أمامهم دون أن يستعملوا أي سلاح.
والواقع أن انسحاب القوات التركية وتراجعها إلى الوراء كان بمثابة هزيمة فظيعة قّلما تعرضت لمثلها طيلة
سني الحرب في الحجاز.
ان تردّد الأ تراك في الهجوم على ميناء ينبع، وتخوفهم من التعرّض للهزيمة، كان تحو ً لا حاسمًا طرأ على
مجرى أحداث الحرب في الحجاز

خالد الحويطي
18-02-07, 01:10 AM
الفصل الثامن

تقدم في الحجاز

كانت النية الآن تتجه إلى مطاردة الجيش التركي الذي كان يتقهقر حتى وصلت طلائعه إلى أبواب ميناء ينبع .
ولذا فقد توجّه لورانس إلى رابغ للتشاور مع الكولونيل ويلسون حول الخطوة التالية التي يجب عليها تنفيذها.
وكم كانت دهشته إذ وجد أن الكولونيل بريموند قد سبقه في المجيء إلى مقر الكولونيل ويلسون الذي كان
متغيبًا عن مكتبه في مهمة رسمية، وهدفه ان يحاول إقناعه بتنفيذ خطته الرامية إلى شنّ هجوم أنجلو فرنسي
على المدينة المنورة وكان عذره الوحيد لتبرير ذلك هو أن الثورة العربية قد منيت بالفشل، وأن الأوان قد حان
لبريطانيا وفرنسا كي تأخذا على عاتقيهما مهمة متابعة الحرب، وتطهير أراضي الحجاز من القوات التركية،
ومتابعة زحفهما على مدينة دمشق.
هذا ما كشف الكولونيل بريموند النقاب عنه أثناء حديثه مع لورانس، ولكنه لم يذكر له شيئًا عن الأوامر التي
بعثت بها حكومته إليه.
والجدير بالذكر أن حكومة باريس شددت على ممثلها هذا بضرورة السعي للحصول على ضمانات وتأكيدات
من الحكومة البريطانية بعدم التعرض للخطوات التي ستتخذها في سبيل الاستيلاء على سوريا.
وهذا يعني استعجال تنفيذ معاهدة سايكس بيكو . ونعتقد انه كان يمهّد السبيل لذلك لأنه لم يمانع في أن
تستولي بريطانيا على العراق كمكافأة على الجهود التي كانت تبذلها في الحرب . وإعطاء الشريف حسين منطقة
الحجاز يقيم فيها مملكة له، وتكون بمثابة، مكافأة له مقابل خدماته. ثم قال مراوغًا:
" لا أحسبك تؤمن إيمانا قويًا وعميقًا بقدرة هؤلاء المتوحشين يقصد العرب على إدارة دفة شؤونهم
الداخلية… صدقني لأنني أعرفهم معرفة أكيدة … فقد أمضيت في المغرب عدة سنوات كنت خلالها قائدً ا على
فرقة كبيرة من الجنود العرب…"
فقاطعه لورانس يرد عليه بحدّة ويقول : "أن بوسع هؤلاء العرب الذين تحاول النيل منهم أن يناضلوا بضراوة
ضد الأتراك، وأن يثبتوا بأنهم في مستوى الثورة التي يحملون لواءها ضدهم لو أنهم فقط يعطون الفرصة
الكافية والمساعدة اللازمة لتحقيق ذلك".
٤٤٩٩
وما دام هذا هو إيمانه بقدرة العرب وشجاعتهم، فلا عجب ان نجده يسعى جهده لإعطاء الجيش العربي حريته
الكاملة في النضال والعمل، ومطاردة فلول الجيش التركي الذي كان يتقهقه وينسحب من مواقعه الرئيسية.
ولا عجب أيضًا إذا وجدناه يرّد بحدة وعنف على مزاعم ال كولونيل بريموند، ويحاول ان يحبط مساعيه
الرامية إلى إرسال قوات انجلو فرنسية وانزالها إلى بر الحجاز، ولو عن طريق القوة.
وذلك لأنه كان يدرك الهدف الذي كان يسعى بريموند إلى تحقيقه، فقد كان هذا يهدف إلى أن يدخل في روع
رجال شريف مكة المكرمة وأنصاره أنه أي ا لشريف كان خائنًا حتى يتخلوا عنه ويتركوه تحت رحمة
الحلفاء.
واشتد النقاش بين لورانس والكولونيل بريموند إلى حد أنهما كانا في أحيان كثيرة يوشكان أن يشتبكا بالأيدي،
وذلك بدافع تأثير ذلك النقاش على أعصاب كل منهما، وبسبب الحماسة البالغة التي كانت تسيطر عليهما،
وبسبب اقتناع كل منهما اقتناعًا أعمى بصواب رأيه وخطته . وامتد النقاش بينهما ساعات طوا ً لا دون أن يتمكن
أحدهما من إقناع الآخر بما كان يعتقده صوابًا.
عند هذا الحد من النقاش وصل الكولونيل ويلسون وراح لتوه يضم صوته إلى صوت لورانس ويدعم فكرته .
ولكن ويلسون كان يحمل في جعبته خبرًا مزعجًا كان قد تلّقاه برقيًا من القيادة العامة في القاهرة.
فقد بعثت القيادة العامة ببرقية إلى ويلسون ذكرت فيها أن السر موراي قد قرر في آخر لحظة أن يستبقي في
القاهرة فرقة مختلطة من الجنود الإنجليز والفرنسيين بغية تعزيز العمليات الحربية في ا لحجاز متى اقتضى
الأمر ذلك.
وفهم أيضًا أنه وافق على إيفاد بعض الضباط إلى الحجاز، وذلك للبحث في تنسيق العمليات الحربية بين
العرب والإنجليز. وأشارت البرقية إلى أن الضباط كانوا في طريقهم إلى الحجاز.
إ ّ لا أن لورانس تصوّر بأن هذا الإنقلاب المفاجئ سيرجّح كفة ا لكولونيل بريموند عليه، وربما أدى إلى فشل
خطته، وعليه فقد قرر أن يقوم بخطوة حاسمة تكون كفيلة بعرقلة كل محاولة تستهدف إحباط الخطة التي كان
يزعم تنفيذها.
ومما يذكر أن أفكار لورانس وويلسون كانت تلتقي حول فكرة الأخذ بزمام المبادرة من الأتراك . وكانت
الأحداث خير ما يشجعهما على تنفيذ أية خطة لقلب الأوضاع رأسًا على عقب، وتحويل وجهة الأحداث لصالح
العرب والحلفاء، وذلك لأن وضع الأتراك في الجزيرة العربية كان سيئًا للغاية.
ففض ً لا عن المرض الذي كان يفتك بالجنود الأتراك، كان الرعب يتغلغل في نفوسهم بسبب الهزيمة التي لحقت
بهم في ينبع، وبسبب تزايد قوة العرب وارتفاع مستواهم من حيث التنظيم والانضباط العسكريين، وتوجيه دفة
المعارك الحربية.
ومما كان يقلق القيادة التركية أن كميات المؤن المخزونة تكاد أن تنفذ كلها، وفي ذلك ما يؤثر على معنوية من
تبقى من الجنود الأتراك في حالة جسدية مناسبة لمتابعة الحرب والقتال.
وعلاوة على كل هذه الأمور التي كانت تنشر الذعر والرعب في صفوف الجنود الأتراك، فإن أعدادا وفيرة
من الرجال ناهيك عن المواشي كانت تلاقي حتفها بصورة متزايدة، وبسرعة جنونية، ويومًا بعد يوم.
٥٥٠٠
كذلك، كان قد أشيع خبر مفاده أن فخري باشا، قائد القوات التركية في الجزيرة العربية، كان منهمكًا في وضع
الترتيبات اللازمة لنقل جنوده من مواقعها الحالية إلى مشارف المدينة المنورة وتوزيعهم هناك على مراكزها
الدفاعية.
ولذلك، فقد رؤي بأن الفرصة كانت سانحة، أكثر من أي وقت مضى، لمطاردة فلول وقات العد و وهي
متقهقهرة، منهوكة القوى، خائرة العزائم، فتنتشر الفوضى بين صفوفها.
وكانت الخطة التي وضعها ويلسون تقضي بأن على قوات الأميرين زيد وعلي أن تتابع زحفها على مواقع
البحر الأحمر وتحاول الاستيلاء عليها والتمركز فيها، وأن على قوات الأمير عبد الله أن تقوم بحرك ة التفاف
سريعة حول المدينة المنورة فتهدد بذلك سلامة الخط الحجازي الذي يعتبر شريان المواصلات الرئيسي بين
دمشق والمدينة.
أما الأمير فيصل، فكان عليه أن يزحف على ميناء وجه الواقع على البحر الأحمر، والذي يبعد مسافة مائة
وسبعين مي ً لا إلى الشمال من ميناء ينبع، و محاولة احتلاله. وكانت هناك ست مدمرات بريطانية بقيادة القبطان
بويل، ستتجه في البحر شما ً لا، وبمحاذاة الخط الذي كانت قوات الأمير فيصل ستسلكه في هجومها على ميناء
وجه.
وكانت تلك المدرعات البحرية تقل خمسمائة جندي عربي وبضع وحدات من جنود البحرية البريطانية . وكان
على هؤلاء أن يقوموا بالهجوم على ميناء وجه من البحر لحماية ظهر قوات الأمير فيصل وهي زاحفة عليه من
البر.
وقد عين يوم الثامن والعشرين من شهر كانون الثاني موعدًا لتنفيذ جميع تلك العمليات العسكرية.
وكانت السفن البريطانية، بالإضافة إلى عملية إنزال الجنود من ا لبحر، ستقوم بتزويد القوات البرية بالمؤن
ومياه الشرب، لأن مياه الشرب كانت نادرة الوجود في تلك البقاع، ونظرًا لتحريم الشرب من مياه تلك الآبار
بعد أن ثبت بأن الأتراك قد لوثوها بالسموم.
وكان يتصور كل من لورانس وويلسون أنه إذا ما كتب النجاح للهجوم على ميناء وج ه، وتم الاستيلاء عليه،
فإن الأتراك سيصبحون في وضع لا يحسدون عليه البتة في الحجاز وبالتالي سيصبح بقاؤهم هناك محفوفًا
بالمخاطر.
وعندئذ، فلن يبقى تحت سيطرة الأتراك غير ميناء العقبة الذي يبعد مسافة خمسمائة ميل تقريبًا عن المدينة
المنورة.
وعلى أية حال، فإذا م ا تمكن الحلفاء من الاستيلاء على ميناء وجه، كما نجحوا سابقًا في الاستيلاء على ينبع
ورابغ وجدّة، فإن المشكلة قد تسهل كثيرًا بالنسبة لتموين قوات الشريف حسين المتمركزة في تلك الأماكن التي
تستطيع منها أن تهدد حامية المدينة المنورة، وسلامة خط الحجاز الحديدي.
ولكن بقيت هناك عقبة وحيدة كانت تحول دون المباشرة بتنفيذ هذه الخطة، إذ كان يعارضها الأمير فيصل،
كما أعرب عن رأيه بذلك أمام لورانس وويلسون عندما اجتمعا معه في ينبع لمحاولة اقناعه بفوائدها.
٥٥١١
وكان الأمير فيصل، بغض النظر عن ثقته بمقدرة رجاله على الدفاع عن أنفسهم ضدّ أي هجوم يشنه الأتراك،
واطمئنانه إلى ولائهم، غير مقتنع بالفوائد التي توخاها لورانس وويلسون من الخطة المذكورة بعد تحول قواته
من وضع هجومي إلى دفاعي.
كذلك فإنه لم يتقنع بالفوائد المتوخاة من خروج جنوده من ميناءي رابغ وينبع بغية شن هجوم على ميناء لا
يعرف ش يئًا عن وضع القوات التركية التي كانت ترابط فيه، ناهيك عن المسافة الطويلة التي كان ينبغي على
رجاله أني قطعوها قبل وصولهم إليه، وعدم توفر مياه للشرب على طول تلك المسافة.
ويذكر لنا لورانس كيف استطاع أن يقنع الأمير فيصل بالنتائج الحميدة المتوخاة من خطة ويلسون في حالة
تنفيذها فأكد له بادئ ذي بدء، أن القوات البحرية البريطانية كانت ستبقى قريبة من ميناءي ينبع ورابغ كي
يتسنى لها الدفاع عنهما في حالة قيام الأتراك بالهجوم عليهما.
كما وافق معه على إدخال بعض التعديلات على دور قوات الأمير عبد الله من الخطة المذكورة.
فقد أصبح دور قوات الأمير عبد الله أن تقوم بحماية قوات فيصل من الخلف، وأن تؤمن له خط التراجع إذا ما
وجد هناك حاجة إلى التراجع.
كما أصبح عليه أن يشغل الأتراك بمعارك جانبية مع قواته في الجهة الشمالية من المدينة المنورة بغية ابعاد
الخطر عن جيش فيصل، وان يتصدى للقوافل الوافدة إليها من منطقة الخليج العربي.
وإزاء جميع هذه الضمانات، وافق الأمير فيصل على الخطة التي نوى الإنجليز تنفيذها ضدّ القوات التركية.
وبعدئذ، توجّه لورانس إلى مقرّ الأمير عبد الله كي يحصل منه على وعد قاطع بتنفيذ دوره في تلك الخطة، ثم
عاد إلى مق رّ الأمير فيصل، في الرابع عشر من شهر كانون الثاني، كي يكون إلى جانبه في مقدمة الهجوم
المنتظر.
وهذه صورة حقيقة عن مسيرة قوات الأمير فيصل، بقلم لورانس نفسه:
"بدت المسيرة رائعة منذ أن تحركت … فقد سار الرجال وهم ينشدون الأناشيد الحماسية بأصوات مجلجلة
مدوية كانت تخترق عنان السماء…
وكانوا وهم ينشدون لا ينسبون أن يمتدحوا الأمير فيصل ويذكرون أشياء كثيرة عن خصائله وخصائل أسرته
الحميدة… وكان فيصل يسير في الطليعة … بينما كان الشيخ شرف الذي اعتمر بكوفية حمراء اللون، وتسربل
بعباءة كان لونها أقرب إلى لون الحّناء منه إلى الأحمر، كان الشيخ شرف هذا يسير إلى يمينه، وكنت أنا أسير
إلى شماله …. وقد ارتديت عباءة بيضاء اللون وتمنطقت بحزام قرمزي… وسار خلفنا ثلاثة رجال كانوا
يرفعون بيارق حمراء اللون بأيديهم … وتبعهم حملة الطبول وهم يقرعون بها الألحان المشجعّة… تبعهم عدد
كبير من المق اتلين كان عددهم يربو على اثني عشر ألف مقاتل… فيا للروعة!! تصوّر كيف سيكون مشهد اثني
عشر ألف رجل وجمل وهم يسيرون في صفوف غاية في الانتظام … والحقيقة أن مشهدنا كان يستثير الحماسة
في النفوس، وخاصة ما كانت تتركه تلك الأناشيد الحماسية في نفوس الرجال الذي كانت تن طلق من حناجرهم
فتتردد أصداؤها في جوانب الوديان، والبطاح العربية، وكثبان الرمال … ثم تعود إلينا لتشنف آذاننا بمثل روعتها
السابقة ونغماتها الحماسية ومعانيها العميقة…"
٥٥٢٢
… وقطعنا حوالي نصف المسافة دون أن يفقد موكبنا شيئًا من روعته وحماسته ودّقة انتظامه … بل ان
الحماسة في نفوس الرجال ازدادت عندما علموا باستيلاء قوات الأمير عبد الله على قافلة تركية كانت تنقل
عشرين ألف ليرة ذهبية … وتوغل قوات الأميرين علي وزيد إلى ما وراء خطوط العدو حتى غدت على مقربة
من أبواب المدينة المنورة …. وقد تعاظم سرورهم وحماستهم حيث أكدت لهم الأخبار أن قائد القافلة الأسير كان
من المغامرين المشهورين الذين كانوا يعملون لحساب الأتراك في طول البلاد العربية وعرضها … والجدير
بالذكر أن قائد القافلة، أشرف بك التركي، كان مفطورًا على أعمال السلب والنهب … وقد سبق له أن اشترك في
ثورة ضد السلطان… ولكن قبض عليه ونفي من البلاد حيث ظلّ في المنفى مدة خمس سنوات.
ومما يذكر أنه اختطف ذات مرة أحد أبناء حاكم تركي، وهرب به إلى الجبال رافضًا أن يعيد الطفل إلى ذويه
ما لم يدفعوا له مبلغ خمسمائة جنيه … كذلك اشترك في محاولات كثيرة للسلب والنهب وفرض الأتاوات على
جميع القوافل ا لتي كان يصادفها في الصحراء … ثم يتوارى عن الأنظار ويعتصم في مكان ما يقع بين الجبال
أو الوديان … وأدهى من كل ذلك نه كان يفتك بمن كان لا يستطيع، أو يرفض لسبب من الأسباب أن يدفع له
المبلغ الذي كان يفرضه عليه … كذلك، فقد استخدمه أنور باشا التركي أثناء الثورة الت ي قامت بها منظمة تركيا
الفتاة ضدّ السلطات العثماني لخلعه عن عرشه، وتسّلم مقاليد الحكم والسلطة، بغية تنفيذها مخططاته الإجرامية
التي كان يدبّرها ضدّ كل من تسوّل له نفسه معارضته . وكان يدفع له مبالغ طائلة مقابل ذلك… وعندما اندلعت
نار الحرب العالمية الأولى، كان أشرف بك هذا يفكر بال ّ كف عن متابعة أعماله الإجرامية.
غير أن السلطات العثمانية شعرت بحاجتها إلى خدماته فاستخدمته لتنفيذ بعض مخططاتها التخريبية في
مختلف المناطق العربية …. ويبدو أن القدر كان له بالمرصاد كي ينتقم منه لدماء الأبرياء الذين فتك بهم ظلمًا
وعدوانًا فوقع أسيرًا بأيدي قوات الأمير عبد الله بينما كان متوجهًا إلى اليمن ليقوم بمحاولة تسهيل المواصلات
بين القيادة التركية وحامياتها المعزولة هناك، وشراء ضمائر زعماء القبائل اليمنية بالذهب الذي صودر منه،
واقناعهم بالتن ّ كر للثورة العربية وعدم مساندتها أو الانضمام إلى صفوف المناضلين في سبيلها…"
قلت أن كثيرين، وخاصة أولئك الذين سبق لهم وتعرّضوا لتهديدات أشرف بك التركي بالقتل إذا لم يدفعوا له
الأتاوة، شعروا بالفرح والسرور يغمران قلوبهم لدى سماعهم خبر القاء القبض عليه، ومصادرة الأمير عبد الله
جميع الليرات الذهبية التي كانت بحيازته.
وسروا كذلك من الأنباء التي تفيد بأن قوات الأمير عبد الله استولت كذلك على بعض المواقع التي كانت تؤثر
إلى حد كبير على دفة الأحداث التي تحولت الآن ولا ريب لصالح الثورة العربية.
أما لورانس، فكان يشعر في تلك الساعة بأن خططه بدأت تؤتي ثمارها، وخاصة في اعقاب هذا التغيير غير
المتوّقع الذي طرأ على مجرى المعارك الحربية، فقلب وضع القوات التركية رأسًا على عقب، إذ استفاقت لتجد
نفسها في موقف الدفاع عن النفس بد ً لا من الهجوم

خالد الحويطي
18-02-07, 01:11 AM
الفصل التاسع

احتلال ميناء وجه

أثناء الهجوم الذي كانت قوات الأمير فيصل تقوم ب ه لاحتلال ميناء وجه، برز إلى المسرح خلاف غير متوّقع
وكاد يهدد مصيره.
فقد ساءت العلاقات بين لورانس والملازم فيكري الذي كان ضابطًا في الفرقة التي يقودها الكولونيل
نيوكومب، وكان هذا الأخير قد ألحقه بالقوات التي عهد إليها بشنّ الهجوم على ميناء وجه.
والذي يبد و أن فيكري كان مسؤو ً لا عن هذا الخلاف بمقدار ما كان لورانس، فقد كان فيكري كثير الاعتداد
والاعتزاز بنفسه لدرجة أنه كأني صل به اعتزازه إلى حد التعنت والتعصب.
أما العلاقات بين لورانس والكولونيل نيوكومب فكانت حسنة للغاية مما يدل على أن الخلاف بين لورانس
وفيكري كان شخصيًا.
والدليل على ذلك أن الثقة بين لورانس ونيوكومب ظّلت متبادلة، ومجال التعاون بينهما كان أفضل منه في أي
وقت مضى.
لا سيما وقد سبق للورانس أن تعاون مع نيوكومب في القاهرة، كما تعاون معه في بعثة كانت قد أوفدت إلى
صح راء سيناء للقيام بمهمة تخطيطها ووضع خرائط لها.
وكلاهما كان ينظر إلى الثورة العربية نظرة مشبعة بالأمل والتفاؤل بنجاحها.
أما الوضع بالنسبة إلى فيكري فإنه كان يختلف، وسبب ذلك أن فيكري كان يبدي تحفظًا شديدًا بالنسبة لعلاقاته
مع العرب، حتى نه كان يصل بتعّنته إلى حد المكابرة.
والأدهى من ذلك ك له أنه كان بدافع احترافه الجندية وتعلقه الأعمى بها، لا يدع سانحة تمر دون أن يطعن
بكفاءة لورانس العسكرية، وبموقفه السياسي.
وكان يكرر القول إن التقرب الذي يظهره لورانس نحو الحركة العربية يكتنفه الغموض والشكّ.
ومما كان يضايق لورانس أكثر من أي شئ آخر أن فيكر ي كان ملمًا باللغة العربية، فض ً لا عن خبرته الحربية
الواسعة في الصحراء.
تلك الخبرة التي آلت إليه بفضل المعارك العديدة التي خاضها في صحراء السودان عندما كان قائدًا لإحدى
الفرق المحلية هناك.
من هنا بدأ لورانس يحس بالخطر يهدّد مركزه من جراء وجود منافس قوي له كالضابط فيكري. فراح يتذرع
بمختلف الأسباب عّله يستطيع أن يقضي على هذا الخطر المتجسّد في شخص فيكري . فكان لا يدع أية فرصة
سانحة دون أن يهزأ بزميله فيكري ويوجّه له اللوم والتوبيخ تحت سمع وبصر جنود الأمير فيصل، والجدير
بالملاحظة أن لورانس كان شديد الغيرة والحس اسية والحرص على مركزه والاحتفاظ به كقائد من قوّاد الثورة
العربية.
٥٥٤٤
وكان يبدو أحيانًا كما لو أنه في صراع مرير مع نفسه . هذا، وعلى الرغم من موافقة القيادة العامة على تعيينه
كضابط إتصال بينها وبين فيصل، فقد ظل تابعًا للكولونيل جويس الذي كان قائدًا للقوات البري طانية التي كانت
تعمل آنذاك مع قوات الشريف حسين بالنسبة للشؤون العسكرية، بينما كان بالنسبة للأمور السياسية مسؤو ً لا تجاه
المكتب العربي وهو المكتب الذي كان يجزي اتصالاته بالشريف حسين عن طريق الكولونيل ويلسون .
ولم يصبح لورانس سيد نفسه إ ّ لا بعد مجيء الجنرا ل اللنبي كقائد عام للجيوش البريطانية في الشرق، واتخاذه
ذلك القرار الذي قضى بموجبه أن تتم الاتصالات بينه وبين لورانس مباشرة.
هذا، ولما تيقن لورانس من أن فيكري كان أوسع منه خبرة في التخطيط لحروب الصحراء، واكثر منه دراية
باللغة العربية، بدأ الخوف يخامره بفقدان منصبه وتعيين فيكري مكانه.
والواقع أن لورانس لم يكن يتقن العربية، كما لم يكن يجيد النطق بها كأهل البلاد، كما يتصور البعض.
وانطلاقًا من هذا الشعور بالنقص، أخذ لورانس يختلق شتى المعاذير لمضايقة فيكري وحمله على الرحيل .
فكان لا يدع أية فرصة دون أن يتحرش به.
وأخيرًا، لم يعد بوسع فيكري أن يحتمل أكثر مّما احتمل من مضايقات لورانس، وف ّ كر فع ً لا بالتخلي عن
مركزه واخلاء الساحة للورانس . فترك قوات الأمير فيصل في منتصف الطريق إلى ميناء وجه، والتحق
بالقوات البحرية التابعة لقيادة بويل.
غير أن المتاعب بدأت تتولى على جي ش الأمير فيصل فور أن خرج فيكري من صفوفه والتحق بالقوات
البحرية تخلصًا من مضايقات لورانس إياه، فقد اعيا الجنود الإرهاق من طول المسافات الشاسعة التي قطعوها،
والتي كان عليهم أن يقطعوها.
ناهيك عن أن تلك المنطقة كانت مقفرة، جرداء … لا مياه للشرب فيها، ولا أعشاب ، ولا بشر . كذلك كان
عليهم أن يستحثوا الخطى كي يصلوا إلى قرية حبّان التي تبعد مسافة خمسين مي ً لا عن ميناء وجه ليتفق
وصولهم إلى هناك حسب الخطة المرسومة بنفس اللحظة التي كانت قوات القائد بويل ستصل فيها.
ولكن أنى لقوات فيصل أن تحقق ذلك ما دامت قد منيت بالفشل ف ي الوصول إلى هدفها في الموعد المحدّد
لذلك.
وهنا أخذ نيوكومب على عاتقه مهمة التوجّه إلى مركز قوات بويل، عّله يدركها قبل أن تصل إلى ميناء وجه
وتجد نفسها وحيدة في الميدان. وكان يهدف من وراء ذلك أن يقنع بويل في حالة رفض الأخير تأخير شن
الهجوم ريثما تصل قوات فيصل أن يقنعه بتوجيه إحدى سفنه الحربية لموافاة قوات فيصل في نقطة تبعد
مسافة عشرين مي ً لا عن وجه، وذلك بغية تزويد تلك القوات بالمؤن والماء.
وفي هذه الأثناء، كانت قوات فيصل تتابع سيرها في تلك الأرض الصحراوية الصعبة المسالك، وقد انخفضت
معنوياتها إلى الحضيض وشاعت الفوضى بين صفوفها.
ومما كان يزيد الحالة سوءًا أن رجال القبائل يجهلون فوائد الانضباط العسكري كما يفهمه الجندي الأوروبي
ويقدره، ولم يتقبلون الأوامر العسكرية بمثل الروح التي يتقبلها بها الجندي النظامي الذي سبق له أن تدرّب على
فنون الجندية وحياتها.
٥٥٥٥
ولذا فإن كثيرًا منهم بدأوا يخالفون النظام بمتابعتهم السير كيفما اتفق لهم وحيثما أرادوا . وبعد فترة قصيرة
اختلط حابل رجال فيصل بنابلهم إذ اندفع بعضهم اثر قافلة للجمال كانت تمرّ من هناك، وهي تنقل بعض المؤن
لقبيلة بني بّللي، يريدون اللحاق بها قصد الاستيلاء على جزء من منقولاتها.
وهنا، ثارت ثائرة الأمير فيصل، فلحق برجاله حتى أدركهم وانزل بهم أشدّ العقاب، لا سيما وأن القافلة كانت
تابعة لقبيلة بني بّللي التي بعث الأمير فيصل، منذ زمن قريب، إلى شيوخها برسائل أعرب فيها عن فائق
صداقته لهم، كما ناشدهم أن يمدوا يد المساعدة لرجاله عندما يصلون إلى منطقتهم القريبة من ميناء وجه.
وفي الليل، وصلت قوات فيصل إلى قرية حبّان بعد أن أعياها الإرهاق والأعباء . وتوجه رجاله إلى الشاطئ
حيّث كانت ترسو إحدى السفن الحربية ليحصلوا منها على كميات من مياه الشرب والمؤن والغذاء.
والجدير بالملاحظ ة أن الرجال كانوا يسمعون هدير القنابل التي كانت المدرعات الحربية الأخرى تطلقها من
مدافعها على ميناء وجه.
أما الأمير فيصل ولورانس فإنهما وقفا يتبادلان بصمت نظرات الأسى والأسف بسبب الهجوم الذي شّنه القائد
بويل على ميناء وجه قبل وصول قواته.
وبعد لحظات صعدا إلى تلك المدرّعة ليستفسرا عما كان يحدث في وجه . وكم كانت دهشتهما بالغة عندما قيل
لهما ان القائد قرّر ألا يؤجل ساعة الهجوم على ميناء وجه كيلا يجد الأتراك فرصة للانسحاب منه أو طلب
النجدة لتعزيز حامياتهم.
في تلك الساعة، كانت جميع الدلائل تشير إلى أن المعركة ما تزال محتدمة الوطيس في ميناء وجه.
وكان الأمير فيصل يتوّقع سقوطه بين لحظة وأخرى بأيدي القوات الأنجلو عربية، وذلك نظرًا لتفوق هذه
القوات من حيّث العدد والعدّة على القوات التركية التي كانت تدافع عنه . ومع ذلك، فقد كانت دلائل الكآبة بادية
على ملامح الأمير فيصل لدى عودته إلى الشاطئ من السفينة.
ثم انهمك في إعادة تنظيم صفوف رجاله تمهيدًا لمتابعة الزحف على ميناء وجه . وكذلك كانت حال لورانس،
إذ شعر بخيبة أمل تحزّ في نفسه من جراء التغيير المفاجئ الذي طرأ على أول مخططاته التي كان يتوقع لها
النجاح، وتحقيق النصر بقيا دته للقوات العربية، ومما زاد في ألمه معرفته أن الذي خطط لذاك الهجوم وتولى
قيادة الفرقة العربية لم يكن سوى منافسه الضابط فيكري.
هذا، وقد وصلت طلائع قوات فيصل إلى ميناء وجه، بعد ثلاثة أيام أي بعد أن تمكنت القوات الأنجلو
عربية من الاستيلاء عليه وتركيز نفسها هناك.
ولبث الضابط فيكري في ميناء وجه يترّقب وصول لورانس بين لحظة وأخرى، إذ كان مصممًا على أن يشفي
غليله منه إثر الانتصار الذي حّققه لنفسه ضدّ القوات التركية . حتى إذا شاهده قادمًا من بعيد توجّه صوبه وهدفه
أن يحرج موقفه أمام الجنود العرب الذين احتشدوا في الساحة، وينال من كرامته ومعنوياته.
كانت الابتسامة الماكرة التي ارتسمت على محيّاه تعكس بوضوح مدى الحقد الذي كان يتفاعل في نفسه حيال
زميله في النضال.
٥٥٦٦
وتأمله لورانس فيما كان يدنو منه وهو يقول في نفسه : إذا كان هذا هو شأنه بالنسبة إليّ فما عساه يكون
بالنسبة إلى الأعداء . ولكنه اعتصم بالصمت، وكأني به أراد أن يتيح له المجال للتنويه عن مشاعره بالشكل الذي
يريد. وعندئذ، يكون لكل حادث حديث.
استهل فيكري حديثه عن الخطة التي وصفها بأنها حكيمة والتي رسمها لاحتلال ميناء وجه . ثم أخذ يتحدث
عن نفسه بعنجهية واضحة . فحدّثه ع ن دوره في المعركة، وعن الخسائر الطفيفة التي تكبدّتها قواته مقابل
الانتصار الذي أحرزته على الحمية التركية.
كان لورانس يتوّقع منه أن يتطرّق إلى ذكر الخسائر في الأرواح والمعدات لكي يتمكن من الدفاع عن نفسه،
لأنه ليس هناك ما هو أهم من تفادي الخسائر في الحرب بالنسبة إلى الجنود.
فهذا موضوع يهتم له كل جندي يريد أن ينتصر على أعدائه ويبقى حيًّا كي يجني ثمرة الانتصار الذي اشترك
في إحرازه . ولذا، فقد رمقه لورانس بازدراء، ثم راح يرّد عليه بلهجة قاسية ويقول : أراك تتصور بن النصر
أشبه بسلعة تجارية ويمكن مقايضته بأرواح الج نود، ولكن هذا خطأ … بل جريمة لا تغتفر… ثم أراك تتجاهل
أن الجنود العرب الذين تسببت بقتلهم في تلك المعركة كانوا من الأصدقاء الذين يثقون بحكمة القيادة البريطانية
وخبرتها الواسعة في توجيه دفة المعارك والحروب، وإ ّ لا لما كانوا وضعوا أرواحهم رهن أيدي الضباط
المشرفين عليها … كذلك، أراك تتجاهل وجود جيش الأمير فيصل، مع العلم أنه لو أرجأت موعد الهجوم ريثما
وصل الأمير على رأس جيشه لما كان أحد من جنودك لاقى حتفه بمثل تلك الصورة الفظيعة.
وأهم من ذلك أن الأتراك كانوا على وشك أن يستسلموا لشعورهم المسبق بهزيمتهم إذا ما سمحو ا لأنفسهم
بمواجهتنا جميعًا في معركة حاسمة … لو أنكم أرجأتم موعد الهجوم إلى موعد لاحق … وخلاصة القول، لقد
دخلتم في معركة ضد الأتراك كنتم في غنى عنها، وفي غنى عن تعويض الجنود العرب لموت مؤكد … لا
لشىء، إ ّ لا أنكم استعجلتم الهجوم لغرض في النفس … وعليه، فإنني لا اعتبر هذه المعركة مضيعة للوقت وهدرًا
للأرواح والمال والمعدات فحسب، بل اعتبرها جريمة كبرى لا يمكن أن تغتفر.
ونعتقد أن لورانس قد أثبت وجوده، وأعاد الاعتبار إلى نفسه، مرة ثانية، وبذلك فشل فيكري في أن يظهره
بمظهر المتخاذل أمام أصدقائه العرب.
ولقد طوى فيكري خيب ته بين ضلوعه وتوارى عن الأنظار، بينما فارقه لورانس ليقوم بجولة في المدينة . فقد
كانت الحال فيها تبعث على الاطمئنان لا سيما وأن معنويات الجنود كانت عالية، وفي المدينة من المؤن
والذخيرة ما يكفي لمتطلبات أية معركة تطرأ في المستقبل.
أجل، كان كل ما يبدو لناظري لورانس يدل دلالة واضحة على أن الحركة العربية بعد الانتصارات المتتالية
التي أحرزها رجالها والمناضلون في سبيلها، أصبحت وطيدة الأركان في ديار الحجاز.
وليس هناك من يعرقل عجلتها أو يؤخر خطاها سوى تلك الحامية التركية التي غدت معزولة عن العالم
الخارجي في المدينة المنورة

خالد الحويطي
18-02-07, 01:12 AM
الفصل العاشر

حشد رجال القبائل

اغتاظ الكولونيل بريموند كثيرًا عندما سمع الأنباء التي انتشرت عن سقوط ميناء وجه بأيدي القوات العربية البريطانية. والواقع أن القوات العربية البريطانية كانت قد خططت وشنت هجومها على ميناء وجه الذي يقع على شاطئ البحر ا لأحمر دون أن تعلمه بذلك، الأمر الذي كان له أسوأ الأثر في نفسية بريموند . خاصة، وأن ذلك يعتبر تجاه ً لا مقصودًا نحوه بصفته ممث ً لا رسميًا لفرنسا في شبه الجزيرة العربية. ومما زاد في غيظه وخيبة أمله أن حكومته تضامنت من حيّث لا تدري مع فيصل ولورانس في عرقلة جهوده ومساعيه الدائبة لمشاركة الإنجليز في بسط النفوذ على البلاد العربية. فقد بعثت حكومته ببرقية إليه توبخه فيها توبيخًا قاسيًا، وتتهمه بالتقصير في القيام بمهمته كما يجب . وكان المارشال فوش قائد القوات الفرنسية هو الذي بعث إليه بتلك البرقية العنيفة اللهجة، واتهم ه فيها بالوقوف وقفة اللامبالي من تلك الأحداث التي كانت تجري في الجزيرة العربية. وذكره فيها بأن موقفه المائع هذا قد يدخل في روع العرب والبريطانيين على السواء أن فرنسا تحاول أن تضايق بذلك العرب وتحصرهم في الحجاز حتى تصبح في مأمن من خطرهم بالنسبة إلى خطة تن وي تنفيذها في سوريا بغية الاستيلاء عليها وضمها إلى مناطق نفوذها. وعليه، فقد تصور بريموند لتوه أن هذا التعنيف القاسي الذي يعنيه شخصيًا قد يكون ردًا على المعلومات التي تسربت إلى حكومته عن محاولته كشف النقاب عن بعض الأسرار المتعلقة بالخطط التي كانت فرنسا تنوي تنفيذها في المنطقة، و ردًا على الاحتجاج الذي بعث به لورانس إلى مقر القيادة العامة البريطانية في القاهرة وندد فيه بموقفه الغريب من بعض الأحداث الجارية في الحجاز. والجدير بالذكر أن التعاون بين بريطانيا وفرنسا بالنسبة إلى الأحداث في المنطقة لم يكن آنذاك أس وأ منه في أي وقت مضى. وممّا تجدر الإشارة إليه كذلك أن كبار ضباط القيادة البريطانيين كانوا ينظرون إلى محاولات القيادة الفرنسية وسلوك بعض كبار الضباط المنتمين إليها نظرة استخفاف وازدراء أين منها نظرتهم إلى واقع النضال العربي. وقد بلغ الاستخفاف في نفوس بعض الضباط البريطانيين بمواقف فرنسا من الأحداث الجارية في المنطقة حدًّا جعلهم يبتكرون النوادر الساخرة ويعلقون بها على مثل تلك النيات والمواقف، كأن يخاطب أحدهم الآخر بقوله : من الذي أنبأك بأن فرنسا لن تحارب … ربما كان يجهل حقيقة الأوضاع الراهنة… لأن فرنسا سوف تحا رب بكل تأكيد … أنها سوف تحارب إلى آخر قطرة من دماء الإنجليز … هلا عرفت ذلك الآن … زه زه !…. أما السلاح الذي تقدمه للعرب فحدث عنه ولا حرج.. إلى آخر المنوال. وكان الضباط الإنجليز يرشحون الأسلحة التي تقدمها فرنسا للعرب كأفضل ما يصلح لتزيين جدران المتاحف الأثرية، وذلك نظرًا لقدمها وتفاهتها.
٥٥٨٨
ومما كان يزيد في استخفاف ضباط القيادة البريطانية بزملائهم الفرنسيين أن العرب كانوا يرفضون الأسلحة الفرنسية بعد أن يكتشفوا بأنها غير صالحة للحرب، وأن الفرق العسكرية الفرنسية كانت مفتقرة إلى التنظيم والتدريب وإلى ضباط أكفاء يتوّلون قيادتها وتدريبها. تلك هي بعض الأسباب التي شجّعت القيادة البريطانية على توجيه التقرير الذي بعث به لورانس إليها واحتج فيه بشدة على المناورات التي يقوم بها بريموند، رجل فرنسا في جدّة ضد الإنجليز والعرب على السواء إلى الحكومة البريطانية بعد أن أضافت إليه رغبتها في أن توجّه الحكومة البريطانية احتجاجًا عنيفًا إلى الحكومة الفرنسية. غير أن عزيمة الكولونيل بريموند كانت أقوى من أن تنهار بسهولة تحت تأثير الاستخفاف الذي يقابله به الإنجليز أو اللوم الذي وجهّته إليه حكومته. فقد كان بريموند متمرسًا على شّتى ضروب النضال وحبك الدسائس. ويعلم جيدًا أن القدرة على ضبط الأعصاب هي الشرط الرئيسي لنجاح كل من يعمل في حبك المؤامرات ودس الدسائس. والظاهر أنه تمكن من السيطرة على أعصابه وضبط نفسه إذ أنه توجه إلى القاهرة واتصل هناك بمقر القيادة البريطانية وحاول أن يقنع أركانه ا بأن يتبّنوا خطته المتعلقة بتوجيه العمليات الحربية في الجزيرة العربية في المستقبل. وكم كانت دهشة بريموند عندما فوجئ بوجود لورانس في القاهرة ! والواقع أن لورانس قد حضر إلى القيادة دون علم سابق منه بمجيء بريموند إليها. وكأنه قد جاء إلى القاهرة كي يثبت وجوده، بل ليفرض نفسه على القيادة في اعقاب سلسلة من الانتصارات حّققها لنفسه بمعاونة الجيش العربي ومساندته له، فقوبل فيها بتقدير وترحيب لم يكن يتوّقعهما من ضباط طالما أعلنوا أمامه من استخفافهم بقدرة العرب على الصمود في حربهم ضدّ الأتراك. ونعود الآن إلى حديثنا عن الكولونيل بريموند. فعندما وجد نفسه وجها لوجه أمام لورانس، ضبط أعصابه، وتقدّم نحوه يحييه بحرارة مفعمة بالسرور ثم هنأه على الانتصارات الباهرة التي حققها، وخاصة انتصاره الأخير في ميناء وجه، وقال مراوغً ا: "لا اكتمك القول بأنني كنت اعتقد بأنك رجل تتمتع بمواهب عسكرية نادرة… وها أنت اثبت صحة اعتقادي بك، بالانتصارات التي حققتها، مما يهيىء الشجاعة الكافية لمصارحتك بما يدور في خلدي من خطط أنوي تنفيذها في المستقبل القريب إذا وعدتني بالمساعدة … وسوف ترى أنها ستحقق لك المزيد من الانتصارات. والجدير بالذكر أن بريموند كان يخطط لهجوم تقوم به القوات الفرنسية بالاشتراك مع القوات البريطانية على ميناء العقبة. لقد كان ميناء العقبة المركز الوحيد على البحر الأحمر الذي ما يزال في أيدي القوات التركية. ثم طفق بريموند يشرح له أي للورانس أهمية ميناء العقبة بالنسبة إلى خطوط مواصلا ت الجيوش الحليفة وسهولة تزويدها منه بالمؤن والإمدادات، وسهولة عبور الفرق العسكرية منه إذا ما قررت القيام بهجوم على وادي الأردن وسوريا من منطقة السويس.
٥٥٩٩
والظاهر، بل الواقع أن الكولونيل بريموند لم يكشف النقاب للورانس عن أهم ما كان يبغي التوصل إليه من وراء تنفيذ تلك الخطة، فمن الثابت أن بريموند كان شديد الحماسة لشنّ هجوم ساحق كاسح على ميناء العقبة، ولكن من الثابت كذلك أنه كان لا ينوي إشراك العرب في ذلك الهجوم، بل تركهم يحاربون في الحجاز دون هدف، بينما تقوم القوات الفرنسية البريطانية بذلك الهجوم، وهدفه من ور اء تأمين مركز مناسب لتموين الجيشين أثناء متابعة هجومهما نحو الشمال لاحتلال سوريا. ولا ريب في أن لورانس حضر إلى القاهرة ليعرض هو أيضًا خطة مماثلة للهجوم على ميناء العقبة، ولكن بالتعاون مع الجيش العربي الذي يقوده فيصل . وشأنه شأن بريموند في ذلك، إذ لم يكشف ا لنقاب له عن خطته ولا عن سبب وجوده في القاهرة. وكان من الطبيعي ألا يكترث لورانس كثيرًا بالموضوع، وألا يكون ردّه مشجعًا لزميله الفرنسي على الخوض في شرح خطته إلى النهاية. فلما أدرك ذلك، ف ّ كر باللجوء إلى التهويل على لورانس بما لا يرضى عنه مطلقً ا. فقد هوّل عليه بأنه سيعود إلى الحجاز ويعرض الخطة على الأمير فيصل . غير أن لورانس لاذ بالصمت، ولكنه صمم في قرارة نفسه على أن ينتزع مه زمام المبادرة فيستبقه في السفر إلى الحجاز والاتصال بالأمير فيصل وتحذيره من الخطر الذي سيلحق بعرشه من جراء أية خطة يقترحها بريموند عليه ويطلب منه أن يساعده في تنفيذها. وأسرع لورانس بالسفر إلى مقر الأمير فيصل في ميناء وجه وأطلعه على مجمل التفاصيل المتعلقة بالخطط التي يضعها بريموند، كما أطلعه على النيات الحقيقية التي يكنها الفرنسيون نحوه، وشرح له المخاطر التي ستحيق بعرشه إذا قيض لتلك الخطط أن تنجح. كذلك تدارس معه الوضع وتباحث في الموقف الذي يحسن به أن يقفه من خطة بريموند ساعة يتصل به ليطلعه عليها. وبعد عشرة أيام وصل بريموند إلى الحجاز فاتصل على الفور بمقر الأمير فيصل طالبًا السماح له بالاجتماع به لسبب خطير، وكان له ما أراد. في هذه المرة، فكر بريموند أن يقدم للأمير بضعة مدافع رشاشة قبل أن يعرض عليه خطته المزعومة، وذلك يقينًا منه بن هذه البادرة ستترك أثرها في نفسيته فيقف من خطته موقفًا يتفق وأهواءه ومطامحه.وقدم فعلا تلك الرشاشات لفيصل، غير أنه أي فيصل رفض قبولها بحجة أنها كانت من النوع الخفيف، الأمر الذي يجعلها تافهة بالمقارنة مع الأسلحة الثقيلة والمدفعية البعيدة المدى التي كانت القوات التركية تستعملها
في حربها ضد العرب. ثم أخذ يداوره ويناقشه بكل ما عرف عنه من لباقه ومهارة في المناقشة حتى وصل بحديثه إلى النقطة التي يمكنه منها أن ينطل ق إلى إثارة موضوع المدافع الثقيلة التي كانت القوات الفرنسية تحتفظ بها في منطقة السويس وهي منطقة بعيدة عن ساحة المعارك.
٦٦٠٠
ثم قال له : "الحقيقة أننا لسنا بحاجة إلى مثل هذه الرشاشات الخفيفة وإنما بحاجة إلى مثل تلك المدافع المجمدة في السويس . ولست أرى ما يحول ب ينكم وبين تزويدنا بمدافع مثلها، لا سيما وأنت تعلم بأن القوات التركية مجهزة بمدافع ثقيلة مصنوعة في فرنسا. فمن بديهات الأمور إذن، أن تكون قواتنا مجهزة بأسلحة أقوى وأمضى وأجدى من تلك الأسلحة التي يملكها أعداؤنا حتى ننتصر عليهم". هنا تبين أن بريموند فقد سيطرته على أعصابه بعد أن فاجأه فيصل بطلبات لا يمكن له لها أبدًا أن تتفق وأهدافه الخاصة، فرد عليها بما يحقق رغبات فيصل بالحد من مداخلاته. وقال بريموند، وقد تملكه الغضب فيما كان يرد على الأمير فيصل : "إن الجندي العربي لن يحتاج إلى استعمال المدفعية الثقيلة ما دامت واجباته ستكون محصورة في تسلق الصخور كالعنز وتخريب بعض قضبان الخط الحديدي. "
ووجد فيصل في هذا التعريض تهجّمًا وقحًا على كرامة الجندي العربي، وقدره، وشجاعته، وتضحياته، فثارت ثائرته، وسولت له نفسه أن يلّقنه درسًا في السلوك لا ينساه ما دام في قيد الحياة، ولكن تقاليده العربية منعته من الإقدام على عمل من هذا النوع ضدّ من يعتبره ضيفًا عليه، واكتفى بتذكير الكولونيل، وبلهجة عنيفة، أن الجندي العربي كان أصل عودًا، وأشد بأسًا، وأوفر كرامة من الجندي الفرنسي. وهنا أدرك بريموند أن فيصل كان جادًا فيما يقول، وأن المناقشة قد تتطور إلى ما لا تحمد عقباه ويحبط خطته ويكسبه عداوة فيصل إذا سمح لنفسه بالتطاول أكثر من اللزوم على سمعة العرب وكرامتهم، فابتسم ابتسامة عريضة وكأنه يريد أن يقول: "كفى، وعفى الله عما مضى." وعاد يطرق موضوع ميناء العقبة وشرح أهميته من الناحيتين، العسك رية والمدنية. وكذلك، فإنه أخذ يشدد على ضرورة طرد الأتراك، عاجلا أم آجلا، من ذلك الميناء، خدمة لقضية العرب ونضالهم في سبيل الاستقلال والحرية. وأخيرًا، اقترح على فيصل أن يمارس بعض وسائل الضغط على الإنجليز كي يوافقوا على شنّ هجوم على ميناء العقبة واحتلاله. فتطّلع إليه فيصل وقال بتهكم ظاهر: "لكن كيف يليق بي يا عزيزي أن أضغط الآن على الإنجليز لكي يساعدوني وذكرى مساعدتهم لنا في احتلال ميناء وجه ما تزال ماثلة في أذهاننا؟". والمدهش في هذه القضية أن لورانس كان جالسًا في زاوية الخيمة يصغي للمناقشة، ويبتسم لفيصل كّلما أعجبه رد من ردوده على أسئلة بريموند، ولكن دون أن يشترك معهما في الحديث والمناقشة. وكان منظره وحركاته الساخرة الصامتة تثير الغيظ في نفسه بمقدار ما كان فيصل يثيره بردوده وحكمته الشديدة الساخرة.
٦٦١١
ومع ذلك، فقد كان يستقبح أن يتقبّل الهزيمة بسهولة ويعود صفر اليدين من هذه المقابلة. وقال لنفسه : سوف ألجأ إلى آخر سلاح في جعبتي .ولكن، يا لله كم كان ساذجًا؟ ! وكم كان مقصرًا بحق نفسه عندما توهم بأنه سيكون قادرًا على إعادة الاعتبار لنفسه في حالة لجوئه إلى استعمال سلاحه الأخير. ترى، هل كان بريموند من السذاجة بحيث توهم أن بإمكانه تحقيق المعجزة في آخر لحظة؟ فإذا توهم ذلك فنحن نظن أنه كان مخطئًا إلى حد كبير، لأن لورانس وفيصل كانا يعلمان بأن الدسيسة هي سلاح بريموند الأول والأخير، ولكن لقد فاته أن يعلم بأن لورانس وفيصل قد تفاهما وتباحثا في الموقف الذي يجب أن يقفه فيصل من خطته إذا ما جاء يعرضها عليه. ومع ذلك، نجد أن بريموند حاول أن يبذر بذور القطيعة بين كل من لورانس وفيصل . فقبل أن يغادر الخيمة، التفت إلى فيصل وقال له بصوت وبلهجة من يريد أن يظهر نفسه بمظهر الحريص على مستقبله : "عجبًا يا عزيزي، ما لي أراك ساكنًا لا تطلب من الإنجليز أن يزودوك بالأسلحة الثقيلة والمصفحات والدبابات… فلديهم منها المئات في منطقة السويس.." وهنا تدخل لورانس بدوره ليقول بسخرية وتهكم: "يجدر بك أن تعرف أن عشرات الدبابات والمصفحات هي في طريقها الآن إلى الجزيرة العربية … " لم يكتم غيظه بين جناحيه وأخذ سبيله إلى الخارج دون أن يقول لفيصل كلمة وداع يخفي بها خيبة أمله وفشله الذريع. وبعد ثلاثة أيام، سافر لورانس إلى القاهرة حيّث علم أن الكولونيل سبق وأطلع القيادة العامة على خطته المتعلقة بالهجوم على ميناء العقبة، وعلم كذلك أن القيادة لم تقتنع بفائدة خطته فردّته على أعقابه. غير أن بريموند رفض الهزيمة وفكر بالعودة إلى جدة عله يستطيع هناك بدسائسه ومؤامراته أن يزرع بذور الخلاف بين الأمير فيصل والإنجليز.
والظاهر أن بريموند كاد ينجح في زرع بذور الخلاف نظرًا لخبرته الطويلة في مضمار الدسائس والمؤامرات لولا أن الحكومة البريطانية أقدمت على عمل حاسم وضع حدًا لدسائسه. فقد أوعزت الحكومة البريطانية إلى سفيرها في باريس بأن يتصل بالحكومة الفرنسية وينقل إليها رغبة حكومته في ضرورة استدعاء ممثلها من جدة. صحيح أن الحكومة الفرنسية لم تلب رغبة الحكومة البريطانية، ولكنها، رفضت تقد يم مساعدتها اللازمة له بحيث أصبح عاجزًا عن حبك الدسائس والاستمرار في تنفيذ مؤامراته. والواقع أن الحكومة الفرنسية لم تكف عن تقديم المساعدة لممثلها في جدة إلا عندما بدأت تركز اهتمامها على سوريا، بد ً لا من الحجاز، وذلك يقينًا منها بأن سوريا أهم بكثير من منطق ة الحجاز، بالنسبة إلى مواقع نفوذها فيما وراء البحار. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، كان الأمير فيصل بعيد الاستيلاء على ميناء وجه منهمكا في تنظيم رجاله واعداد العدة اللازمة لشن هجمات جديدة في المستقبل. في هذه الأثناء، كانت الأموال والمؤن والأسلحة والذخيرة تتدفق عليه بطريق البحر من مصر. فقد غدت القيادة البريطانية في القاهرة سخية جدًا الآن في إعطاء، بدليل أنها أرسلت له أجهزة ومعدات حديثة لبناء محطة للإذاعة في الحجاز فضلا عن عشرات المدافع الثقيلة والمصفحات والدبابات.
٦٦٢٢
وبالطبع فان سخاء القيادة البريطانية في القاهرة واندفاعها في العطاء كان مرده إلى واقع أنها اكتشفت في العرب خير مساعد وحليف لها في الحرب التي تشترك بها لتقويض دعائم الإمبراطورية العثمانية. أما لورانس فقد كان منهمكا بوضع خطة شاملة يتصور بأنها ستكون كافية لإلحاق الهزيمة بالأتراك وطردهم من سائر أنحاء الجزيرة العربية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن لورانس كان يعتمد على النظريات الحربية التي طالع عنها كثيرًا في الكتب، وعلى خبرته الواسعة في المنطقة، لوضع خطة الهجوم الذي كان يزمع القيام به على ميناء العقبة. وكان من بين الكتب التي استوعبها كتاب وضعه المارشال فوش وركز فيه على أهمية معرفة مواقع العدو للانتصار عليه.
غير ن لورانس كان يرى أن هناك بونا شاسعًا بين ما ترتئيه نظرية فوش والواقع، لأنها كانت تتعلق بالحروب الحديثة، والمنظمة لا ما تقتضيه هذه الحرب غير المنظمة التي كانت تدور بين العرب والأتراك. ولذا فإن إمكانية الخوض فيها بناء على نظرية فوش قد استبعدت. وهكذا بات عليه أن يقارن بين جميع النظريات أخرى التي عمل بها غير فوش في حروبهم المختلفة . وراقت له الخطط التي كان هنيبعل يطبقها في معاركه، والخطط التي كانت شائعة أبان الحروب المعروفة باسم "حروب نابليون". وعلى ضوء ذلك فقد ارتأى أن يعتمد إحدى هذه النظريات الأخيرة لوضع خطة هجومه المنتظر على العقبة. ذلك لأنه كان يدرك ن العرب لن يصمدوا طويلا بوجه القوات التركية المنظمة . ولكن إذا لجأ العرب إلى
تطبيق فنون حرب العصابات في مقاومة الأتراك فسيكونون قادرين على أن يضايقوهم ويدخلوا الذعر إلى نفوسهم. والجدير بالذكر أن قوات الشريف حسين كانت الآن تسيطر على مكة المكرمة، وهي أهم مدينة في منطقة الحجاز، وعلى مدينة الطائف وجدة وينبع ورابع ووجه . بينما كانت القوات التركية محصورة في المدينة المنورة
وبعض المواقع القائمة على امتداد الخط الحديدي الذي يربط، أو بالأحرى يؤمن خطوط المواصلات بين المدينة المنورة ودمشق، وذلك يعني أن العرب كانوا يسيطرون على معظم مناطق الجزيرة العربية باستثناء قسم صغير جدًا منها. وما هو أهم من ذلك أن القوات التركية أصبحت في وضع خطير للغاية. فلم يكن بوسعها مثلا أ ن تتحرك من المدينة المنورة أو من المواقع أخرى على خط الحجاز إلا إذا سمح العرب لهم بذلك. ان شيئًا غريبًا كان يحاصرهم ويقض عليهم المضاجع، ويضيق الخناق حولهم، وهو شئ غريب لا عهد لهم به من قبل … شئ واسع المدى، مترامي الأطراف أمامهم وحولهم، شئ بعيد الحدود … شئ لا تدرك العين مداه، وأعني به تلك الصحراء اللا متناهية بحدودها وامتدادها، ومن هنا كان مصدر ضعف الجيش التركي وحيرته وارتباكه وتخبطه على غير هدى. لقد كانت الصحراء أمامه وخلفه، وكذلك البحر . وكلاهما مصدر قلق للأتراك. وكما كان الجيش التركي يبدي مقاومة هزيلة في المعارك المفتوحة التي كانت تنشب بينه وبين العرب، كذلك كان يخشى حتى مجرد التفكير
٦٦٣٣
بالاقتراب من الساحل نظرًا لضعفه وقلة تمرسه على المعارك البحرية بالمقارنة إلى خبرة القوات البحرية البريطانية التي كانت تساند القوات العربية في كل هجوم تقوم به على أي ميناء. وكلما كان لورانس يركز تفكيره في اتباع تكتيك حرب العصابات ازداد اقتناعًا بانتصار القوات العربية على القوات التركية متى استطاعت أن حصر القوات التركية في المدينة المنورة. ومما كان يزيد في اقتناعه بإمكانية انتصار العرب على الأتراك في الحجاز أنه كان يعرف مواضع ا لضعف في صفوف الأتراك، وافتقارهم إلى القوة اللازمة لسحق الثورة العربية الموجهة ضدهم . فمن المعلوم أن الأتراك كانوا يحاربون على جبهة واسعة الأطراف والحدود، وتتطلب منهم وضع ما لا يقل عن نصف مليون جندي في الميدان، بينما لم يكن عندهم سوى مائة ألف جندي … مما أحدث ثغرة عميقة في حدة مقاومتهم للثورة، وخاصة إذا عرفنا أن مساحة الجبهة تبلغ حوالي ألف ميل مربع. وعلى ضوء هذا الواقع كان لورانس يدرك بأنه يستحيل على الأتراك أن يحتفظوا بسيطرتهم على المنطقة، أو أن يمارسوا أعمال اقمع اللازمة والفعالة للقضاء على الثورة إذا ظل وا يعتمدون على مثل هذا الجيش المنهوك القوى، القليل العدد الهزيل العدة. وعلى ذلك، فإذا قيض للورانس أن ينجح في تنفيذ خطته فسيغدو قادرًا ليس على طرد الأتراك وتطهير أراضي الجزيرة العربية منهم فحسب بل والهجوم كذلك على سوريا. وحتى يتم له ذلك كان لا بد له من إقناع زعماء القبائل بالترفع فوق الخلافات العشائرية القائمة بينهم منذ عدة قرون، وتناسيها.وكان عليه أيضًا أن يعضدهم في الدفاع عن حرمة أراضيهم وحريتهم وبذل أرواحهم ودمائهم في سبيل تحرير جميع البلاد العربية من نير العثمانيين وطغيانهم بد ً لا من أن يظّلوا منهمكين في أعمال الثأر. وكم كان سرور لورانس عندما وجد الأمير فيصل يقابل فكرته هذه بالاستحسان والرضى والقبول، حالما أطلعه عليها. حتى ن فيصل وضع تحت تصرفه رجلين من خيرة رجاله كي يرشداه إلى مضارب خيام القبائل وليظلا معه أثناء تنقلاته التي ينوي القيام بها للاتصال بجميع زعماء القبائل تحقيقًا لفكرته. وفي اليوم التالي غادر لورانس مقرّ الأمير فيصل مزودًا بنصائحه وإرشاداته اللازمة، وذلك بغية القيام بمهمة هي غاية في الخطوة والأهمية، ألا وهي الاتصال بزعماء القبائل واقناعهم بتأييد الثورة العربية والاشتراك مع القائمين بها ضد الأتراك. كان لورانس فور وصوله إلى كل قبيلة يدعو شيوخها إلى الاجتماع به حيّث يطلعهم على تفاصيل مهمته وخطته. فكان يخاطبهم بلغة عربية أصيلة.
ولا خلاف في أن زعماء القبائل كانوا يستقبلونه بالترحيب والتكريم، وخاصة عندما كان يخبرهم أنه موفد من قبل الأمير فيصل. وفي المساء، كان لورانس يجالس العرب بعد صلاة العشاء ويحدثهم عن أمجادهم الغابرة، ثم يقارن بين تلك الأمجاد وحالة الذل والتعاسة التي يعيشونها الآن في ظل الحكم التركي.
٦٦٤٤
كذلك كان يحاول أن يطلعهم على بعض المعلومات المتعلقة بخطته ومجرى الحرب . وكأنا به كان يحاول بذلك أن يثير فيهم الحماسة ويحثهم على ضرورة الانضمام إلى صفوف الشريف حسين قبل فوات الأوان. وكان يذهب إلى أبعد من ذلك في مخاطبته إياهم، إذ كان يذكرهم بأن ترددهم في الانضواء تحت راية الثورة العربية لا يعتبر تهرّبًا من القيام بواجب مقدّس فحسب، وإنما يعتبر أيضًا خروجًا على طاعة الله سبحانه وتعالى… إلى أن يقول لهم : إن الفرصة سانحة لكم الآن اكثر من أي وقت مضى للتخلص من نير الاستعباد والقضاء على عدوكم اللدود، لا سيما إذا عرفتم بأنه ينوء تحت وطأة المعارك الخاسرة التي يشترك بها ضد الجيوش البريطانية والإيطالية والف رنسية والروسية … تلك المعارك التي أفقدته القدرة على مقاومة الثورة العربية." وقد نجح لورانس في إقناع زعماء القبائل وإزالة خلافاتهم الدموية والاتحاد معًا في جبهة واحدة لمحاربة عدوّ لا يكن لهم سوى فكرة التقتيل والتشريد والتعذيب. وهذا ما أثبتته الأحداث التالية. فقد شرعت القبائل في الحجاز تعلن عن ولائها للثورة العربية وتضع مصيرها في أيدي قادتها ولما تمض بعد سوى بضعة أشهر على بدء مساعيه.
وكانت أول قبيلة أعلنت ولاءها للحركة هي قبيلة حرب الضاربة في منطقة صحراوية تقع بين المدينة المنورة ومكة المكرمة.
أما القبيلة الثانية فكانت قبيلة الجهينة وهي قبيلة موفورة العدد تمتد مضارب خيامها من ساحل البحر الأحمر إلى مشارف المدينة المنورة.
والقبيلة الثالثة هي قبيلة بّلي التي كانت تضرب خيامها على طول المنطقة المحاذية لميناء وجه.
وجدير بالإشارة إلى أن قبيلة حرب كانت واحدة من أكبر قبائل الحجاز إذ يبلغ عدد أفرادها حوالي مأتي ألف نسمة.
وفضلا عن ذلك، كان الكثير من الرجال في هذه الأثناء يتصلون بمقر الأمير فيصل معربين عن رغبتهم في الانضمام إلى جيشه. بينما راح بعضهم يعلن الولاء للحلفاء ويبدي الرغبة في الانضمام إلى جيوشهم . وكان في مقدمة هؤلاء شخص يدعى جعفر باشا. ولا بدّ الآن من إعطاء لمحة خاطفة عن حياة هذا الرجل، ولد جعفر باشا في مدينة بغداد . ولما شب التحق بإحدى مدارس التدريب العسكرية الألمانية وتخرج منها برتبة ضابط. ثم انخرط في صفوف الجيش التركي. وبعد مدة قصيرة رقي إلى رتبة كول ونيل نظرًا لما أظهره من الشجاعة والبسالة في الحرب . والجدير بالملاحظة أن جعفر باشا كان قد خاض عدة معارك ضد الإنجليز في ليبيا، وأبدى مهارة نادرة في القتال، وقدرة فائقة في توجيه المعارك.
٦٦٥٥
وأخيرا وقع أسيرًا بيد البريطانيين. غير أنه تمكن من الهرب من السجن بعد مدة وجيزة. وكان أن سمع عن الثورة العربية، وأحداثها المؤلمة، وأحكام الإعدام التي كان الأتراك ينفذونها بإخوانه السوريين، فراح يعرض خدماته على الحلفاء. وما علم فيصل بانضمام جعفر إلى صفوف الحلفاء حتى أبدى رغبته بتعيينه قائدًا عامًا لجيشه. وكان يشجعه على اتخاذ مثل هذه الخطوة ما سمعه من ضروب الشجاعة والجرأة والإقدام التي أبداها جعفر في المعارك السابقة، غير أن الشريف حسين رفض بدافع حساسيته وشعوره المرهف قبول جعفر باشا لا كقائد عام للجيش كما اقترح فيصل فحسب، بل ورفض قبوله كجندي عادي في الجيش. ولم يوافق على انضمامه إلى القوات العربية إ ّ لا بعد أن تعهّد فيصل بقبوله على مسؤولية الشخصية في جيشه. أما الشخص البارز الثاني الذي جاء يعرب عن رغبته الالتحاق بجيش فيصل فهو الزعيم نوّاف الشعلان، الابن الأكبر للزعيم نوري الشعلان الذي كان قد ساعد فيصل على الهرب من دمشق . والحقيقة أن نوّاف يمتاز بخبرة واسعة في الحروب.
هذا، وفي يوم من أيام نيسان دخل رئيس التشريفات على فيصل وهو مجتمع بلورانس في جلسة مهمة، وتقدّم نحوه بحماسة ظاهرة ليهمس في أذنه خبرًا كان يعرف بأنه سيسره جدًا.
والواقع أن لورانس لم يستطع أن يخفي شعوره بالسرور فور معرفة الخبر بالرغم من الجهد الذي بذله لضبط أعصابه وكتم مشاعره، وقال بلهفة: ماذا تقول؟! أعوده هنا؟! اسمح له بالدخول فورًا."
وبعد لحظات كان "عودة" يقف في وسط الخيمة بقامته المديدة وجسمه القوي، وتقاطيع وجهه الدراماتيكة. ولابد لنا الآن من إعطاء القارئ لمحة موجزة عن سيرة الشيخ عودة. كان عودة بن تايه واحدًا من كبار زعماء قبيل الحويطات، وواحدًا من زعماء القبائل الذين كانت حياتهم أقرب إلى الأسطورة منها إلى الحقيقة. والواقع أن الغزوات التي قام بها وضروب الشجاعة والبطولة التي أبداها كانت شبيهة بالأساطير يتناقلها رجال القبائل ويروون وقائعها وأحداثها إلى أولادهم.
ومما يذكر أن الشيخ عودة صرف حوالي أربعين عامًا من حياته في شن الغزوات ضد القبائل الضاربة في شمال الجزيرة العربية والمناطق القريبة من الحدود السورية. ولكنه كان يشن معظم غزواته ضدّ الأتراك. ويذكر أنه قتل خمسة وسبعين شخصًا من رجال القبائل وعددًا كبيرًا من الأتراك.
ويقال ان هذا الشيخ المحارب الشجاع، والذي حنكته الأيام كان سريع الغضب حاد الطبع، لكنه قوي الإرادة بحيث يستطيع أن يضبط أعصابه ويكتم غيظه متى يشاء . كذلك يقال أنه كان سريع اللجوء إلى أعمال العنف والبطش ومقابل كل ذلك، كان متواضعًا، صريحًا، أمينًا، مخلصًا، طيب القلب. وكان أصدقاؤه وأعداؤه على السواء، يكنون له كل مودة ومحبة وتقدير والآن، بعد أن أعطينا القارئ لمحة
خاطفة عن سيرة الشيخ عودة بن تايه وأعماله، نعود به إلى الحديث عن ذلك اللقاء الرائع الذي جمع بين ر جلين
٦٦٦٦
وأتاح أمامهما الفرصة كي يناضلا معًا في سبيل هدف واحد آتى ثماره في دمشق، وذلك بغض النظر عن اختلاف نشأتهما وتربيتهما وتفكيرهما.
فقد لبث الشيخ عودة واقفًا في الخيمة بضع دقائق دون أن ينبس ببنت شفة، وكان خلالها يتبادل وفيصل الابتسامات والنظرات المفعمة بالمودّة والأمل والتفاهم. وكأني به يريد أن يقول لفيصل على حدّ قول لورانس "هاأنذا قد جئت إليك طواعية لكي أضم قوتي الحربية إلى قوتك الفكرية فتضمن النصر للجيوش العربية."ولابد من القول أن وصول الشيخ عودة في تلك اللحظة الحاسمة وطلبه الانضمام إلى صفوف الأمير فيصل كان بمثابة صفقة رابحة، بل انتصار عظيم حققه القدر.
ذلك لأن فيصل كان يعلم تمام العلم بأنه ما لم يضمن ولاء زعماء قبيلة الحويطات للثورة العربية، أو وقوفهم على الحياد من الصراع الدائر بينه وبين الأتراك فإن قواته ستتعرض للمخاطر والمتاعب في كل هجوم تقوم به نحو الشمال، حيّث مضارب تلك القبيلة. فقد كانت قبيلة الحويطات تحتل رقعة واسعة من الأرض تبلغ مساحتها ثلاثة آلاف ميل مربع تقريبًا، بين مدينتي وجه ومعان . من هنا كان الأمير يدرك بأن أية محاولة سيقوم بها جيشه للعبور من تلك المنطقة ستكون محاولة جنونية إلا إذا حصل على تأييد زعماء قبيلة الحويطات ومساندتهم لتلك المحاولة. وأهم من كل ذلك، أن فيصلا كان لا يخشى فيما لو حاول عبور تلك المنطقة دون موافقة زعماء الحويطات أن يتصدّوا له فحسب بل كان يخشى أيضًا من أن يشغلوا الجيش عن أهدافه الأساسية بمناوشات واصطدامات لا طائل تحتها.أما وقد حضر الشيخ عودة شخصيًا لمقابلة الأمير فيصل وأعلن الولاء له، فليس هناك أي مبرر بعد اليوم للتشكك في ثباته أو الخشية من سوء عاقبة أي هجوم تشنه قواته على معان أو ميناء العقبة.
وبعد لحظات تكلم الشيخ عودة وقال : "سلام الله على سيدنا وقائد المؤمنين". ثم أخذ يتحدث مع فيصل معربًا عن دهشته للأسباب التي جعلته يفكر بتجميد الجيش ومنعه من متابعة زحفه إلى المناطق الشمالية بعد استيلائه على مينائي ينبع ووجه.
والذي يبعث على الدهشة هو أن الموقف الإيجابي الذي وقفه الآن الشيخ عودة من الثورة العربية كان له تأثير
عظيم على شيوخ القبائل الآخرين فحولهم عن مواقفهم السابقة من هذه الثورة. إذ أنه لم يكد ينتشر خبر انضمام الشيخ عودة إلى صفوف الأمير فيصل وإعلان ولائه له حتى بادر كثير غيره ممن كانوا في حيرة من أمرهم وتقرير موقفهم من الثورة، بادروا بالإسراع في الانضمام إلى الجيش العربي وإعلان ولائهم له.
فمنذ اليوم الأول لبدء الثورة كان الأمير فيصل في حيرة من أمره لا يدري كيف يستطيع التغّلب على المنازعات والخصومات التقليدية الموروثة، تلك المنازعات والخصومات التي كانت تولد الشقاق والانقسام في صفوف القبائل منذ زمن مغرق في القدم.
ولو أجرينا مقارنة بسيطة بين المكاسب التي ستعود على العرب من جراء توحيد صفوفهم في جبهة واحدة ليحاربوا معًا ضد الأتراك، وبين الخسائر التي ستلحق بهم من جراء بقائهم منقسمين على أنفسهم شيعًا لأدركنا مدى الحماقة التي يرتكبها العرب بحق أنفسهم ولا شك في أنهم وحدهم سيكونون الخاسرين.
٦٦٧٧
إذن كان على العرب أن يتغلبوا على أهوائهم وعواطفهم وأن يطمئنوا خلافاتهم إذا أرادوا النصر لأنفسهم . وما عدا ذلك، فيكون من المحال عليهم أن يتغلبوا على عدوّ يفوقهم عدة وعددًا. وكانت هناك عقبة ثانية تفقد النضال كثيرًا من أهميته وشدته : وهي عقبة ناجمة عن عدم الثقة التي كان الكثير من أمثال الأمير فيصل وغيره من المثقفين العرب ينظرون بها إلى أولئك الذين رأوا من مصلحتهم تحريرهم.
فقد كان هؤلاء يعتقدون بأن وعود الإنجليز والفرنسيين لتحريرهم من العبودية لم تكن سوى ستار يحاولون الوصول من ورائه إلى احتلال بلاد العرب بدافع القتال في سبيلها ونزعها من الأتراك. ومما كان يزيد الحالة سوءًا هو أن معظم سكان الجزيرة العربية كانوا غارقين في لجة خلافاتهم ومنازعاتهم العشائرية، وفي أحداث الثأر الدموية التي كانوا يمثلونها ببعضهم بعضا، والتي كانت تحول بينهم وبي ن توحيد الصف والنضال تحت راية الأمير فيصل.
ونرجو ألا يفسر البعض هذا القول بأننا نتهم أولئك الرجال بأنهم كانوا يتهربون من حمل السلاح أو مؤازرة الثورة العربية، ولكننا نود القول بأنهم كانوا لا يثقون ببعضهم بعضًا بسبب خصوماتهم المزمنة. كان بعضهم يتردّد في حمل السلاح والانضواء تحت راية فيصل خوفًا من مغادرة الخيام وترك النساء والأطفال وراءه تحت رحمة رجال قبيلة أخرى ربما انتهزوها فرصة مناسبة للانقضاض بدفاع من عداوة قديمة. وكان البعض الآخر يرفض الاشتراك في المعارك من غيرهم من رجال القبائل بسبب التقاليد التي كان تشده
إلى قبيلة دون القبائل الأخرى. وقس على ذلك الكثير من الأمثلة التي لا تعد ولا تحصى.
لذا كان نجاح الأمير فيصل ولورانس في المدة الواقعة ما بين سنة ١٩١٦ وسنة ١٩١٨ ، في كسب ولاء وثقة
جميع الفئات والقبائل العربية، وصهر ذلك الولاء في جبهة واحدة متراصة الصفوف، واشتراكها في الحرب مع الحلفاء ضد الأتراك، على اختلاف نزعاتها ومشاربها من اعظم المنجزات التي توصلا إلى تحقيقها في تلك الفترة.
ورب قائل يقول: لكن ذلك قد تم كله بفضل الذهب.
وهذا كذب. وينسى هؤلاء كما قال لورانس أن الرشوة أشبه بسف ذي حدين . ذلك لأن ال رشوة وسيلة غير مأمونة النتائج . فمن ذا الذي يستطيع أن يضمن صداقة المرتشي الذي لا يكتفي من الرشوة ! فمثل هذا الذي لا يشعر بالقناعة يبقى شأنه شأن عدوك مهما حاولت أن تعطيه، أو مهما حاولت أن تدفع له ثمنًا لصداقته.
ولكن هناك من يهبك صداقته مقابل مبلغ ضئيل من المال يعتبره كمساعدة تقتضيها طبيعة العمل، وليس كثمن لبيع نفسه. ومثل هؤلاء كنت تجد منهم المئات بل الألوف في أنحاء الجزيرة العربية.
والواقع انه كانت هناك عوامل أخرى لا علاقة لها بالمال ولا بالذهب مطلقًا هي التي حققت المعجزة … معجزة توحيد العرب وجمع شملهم تحت راية الأمير فيصل . وأعني بهذه العوامل… قوة الصبر والإرادة وتقديم التضحيات مهما بلغ الثمن … ولا عجب إذا وجدنا هذه الخصال الحميدة تتجسد يومذاك في
فيصل… لورانس… والشيخ عودة ابن تايه

خالد الحويطي
18-02-07, 01:15 AM
الفصل الحادي عشر

معركة آبار أبو اللسان

لقد أسهبنا ف ي الحديث عن ذلك الهجوم الذي قامت به قوات الأمير فيصل بالاشتراك مع القوات البحرية
البريطانية، على مدينتي ينبع ووجه، ولم نذكر شيئًا من قوات الأمير عبد الله وتحركاتها.
وها نحن نحاول أن نلقي بعض الضوء على الدور الذي قامت به قواته أثناء المعارك التي دارت بين ق وات
فيصل والقوات التركية في ينبع ووجه . فعندما كانت قوات الأمير فيصل تشن هجومها على تينك المدينتين،
كانت قوات الأمير عبد الله تتقدم نحو الشرق باتجاه المدينة المنورة.
وأثناء زحفها إلى هناك تصدت لها بعض الدوريات التركية التي كانت تحرس المنافذ المؤدية إلى الم دينة
المنورة لتعرقل مسيرها، ولكن قوات عبد الله انتصرت عليها وتمكنت من نسف الخط الحديدي في عدة مراكز،
مما سبب خروج عدة عربات حديدية عن الخط.
وهنا فكر عبد الله في أن يبعث إلى قائد الحامية التركية التي كانت تدافع عن المدينة المنورة برسالة ينصحه
فيها بالانسحا ب، ليس فقط من المدينة وانما من جميع أراضي الجزيرة العربية قبل فوات الأوان، هذا إذا كان
يريد حقًا الخلاص لنفسه وجنوده.
فطوى رسالته ووضعها في مكان ظاهر بالقرب من مدخل إحدى العربات، ذلك لأنه كان من عادة الأتراك أن
يهرعوا إلى أي مكان يتعرض للنسف لمعاينته وإصلا حه، ولابد من أن يهرعوا الآن إلى هذا المكان فيلاحظوا
الرسالة، فيلتقطوها ونم ثم ينقلوها إلى قائد حامية المدينة.
في هذه الأثناء، كانت الأنباء قد وصلت إلى القوات التركية الزاحفة صوب مكة المكرمة عن سقوط مدينتي
ينبع ووجه بأيدي القوات العربية، وكذلك وصلتها أخبا ر الهجمات الصاعقة التي كانت قوات الأمير عبد الله تقوم
بها، وأخبار تقدمها بعد أن وصلت في زحفها إلى نقطة لا تبعد سوى مسافة مائة ميل إلى الجنوب الشرقي من
المدينة. فتولاهم الرعب، ودب الذعر في صفوفهم إلى درجة باتوا معها يشعرون بالقلق الشديد على المصير
الذي سيحل بهم على أيدي هذه القوات الزاحفة.
ومما كان يزيد في قلقهم وفزعهم أن الأمير زيد كان بدوره يقود شراذم من الجنود العرب، يوجهون الضربة
تلو الضربة للأتراك حيثما التقوا بهم وأينما وجدوهم.
هذا، وعلى الرغم من قلة عدد الرجال الذين كان زيد يقودهم فقد استطاعوا بهجما تهم المتتالية وضروب
البسالة التي أظهروها أن يوهموا الأتراك بأن جيشًا عظيمًا لا يعد ولا يحصى كان يطاردهم ويتربص بهم في
كل زاوية من زوايا الجزيرة العربية.
ويبدو أن الطبيعة قد تحالفت يومذاك مع العرب ضد الأتراك . فقد اشتدت حرارة الشمس إلى درجة أنها
أصبحت فوق طاقة احتمال الأتراك، وقويت العواصف الرملية إلى درجة أنها عرقلت خط مسيرهم.
٦٦٩٩
ومع ذلك، فقد استطاعت القوات العربية، وقد آزرتها حرارة الشمس بلسع أجساد الأتراك واعشاء أبصارهم
استطاعت أن توالي هجماتها ضد الأتراك وتلحق الهزيمة تلو الهزيمة بهم، وتسجل لنفسها في كل ساعة من
ساعات النهار، انتصارًا جديدًا تضيفه إلى انتصاراتها السابقة.
فقد احتل العرب في غضون أيام قليلة كثيرًا من القرى والقلاع، بل انهم احتلوا العديد من المواقع التركية
القريبة من حدود المدينة المنورة. فأثاروا بذلك الرعب في نفوس قواد الجيش المرابط هناك.
وفي منطقة البحر الأحمر احتل العرب قريتي ذبى ومويلي بالإضافة إلى بعض المواقع الحصينة، مرغمين
الأتراك على الانسحاب منها إلى بعض المراكز الخلفية.
وطبيعي ان تتأثر معنويات الأتراك بكل تلك الهزائم المتتابعة ينزلها بهم عدوّ طالما استهانوا بقوته وقدرته
على الحرب و المقاومة، فوجدوه في ساحة النضال قوى الشكيمة، فائق الشجاعة، يشن عليهم هجمات مخيفة
قلبت أوضاع الحرب التي كانت قائمة، رأسا على عقب.
وبالإضافة إلى جميع تلك العوامل التي كانت تنشر الذعر والرعب والقلق بين الأتراك، فقد لجأ فيصل
ولورانس إلى تشكيل فرق محدودة العدد أوكلوا لرجالها مهمة التسلسل إلى ما وراء خطوط العدو لترويج أخبار
مختلفة عن الانتصارات التي أحرزها العرب، بالإضافة إلى ترويج الأخبار عن انتصارات وهمية وتضخيم أنباء
الخسائر التي كانوا ينزلونها بالقوات التركية . وبذلك أصبح الرعب شام ً لا جميع أوساط الجيش التركي بما في
ذلك قادته.
ونجحت هذه الخدعة نجاحًا عظيمً ا. وعلى أثر ذلك قرر القادة الأتراك أن يتراجعوا إلى المدينة المنورة، والى
بعض المواقع المنتشرة على طول امتداد خط الحجاز الحديدي، وحصروا اهتمامهم في الدفاع عنه لتأمين
خطوط مواصلاتهم بين المدينة المنورة ودمشق.
وكنتيجة لذلك لم يبق من القوات التركية في الجزيرة العربية سوى حامية واحدة، لكنها قوية وكثيرة العدد،
مهمتها الدفاع عن المدينة المنورة، وحامية ثانية في نقطة قريبة جدًا من ميناء العقبة بالإضافة إلى بعض القوات
الموجودة في الميناء نفسه، وبضع فرق صغيرة موزعة على مواقع استراتيجية منتشرة على طول الخط
الحديدي لحراسته من أعمال النسف المدمرّة التي بدأ العرب يقومون بها.
والجدير بالذكر أن القيادة التركية كانت تعتبر ميناء العقبة موقعًا استراتيجيًا غاية في الأهمية بالنسبة إلى
مجرى الحرب، ليس في الجزيرة العربية فحسب بل وفي مصر وفلسطين وسوريا كذلك . وخاصة بعد ضياع
مدينتي مكة المكرمة وجدّة بأيدي القوات العربية.
كذلك كان الأمير فيصل يقدر أهمية ميناء العقبة من الناحية الاستراتيجية تمامًا، كما كان يقدر أهمية المدينة
المنورة من الناحية الروحية . وكذلك كانت حال لورانس الذي كان يأمل أن ينفذ خطة جريئة وعلى أوسع نطاق،
وهي خطة طالما حلم بتحقيقها إذا ما تمكن في يوم من الأيام من احتلال ميناء العقبة.
الثابت ان ميناء العقبة كان يمتاز بأهمية عسكرية استراتيجية رفيعة منذ اقدم العصور حتى اليوم . ففي زمن
الفتوحات الإسلامية، احتل العرب ميناء ال عقبة وجعلوه مركزًا لقيادتهم العامة. ومنه كانوا يشنون هجماتهم
ويوجهونها ويرسلون المؤن والإمدادات والمعدات إلى جيوشهم الزاحفة.
٧٧٠٠
هذا وتكمن أهمية ميناء العقبة الاستراتيجية في واقع كونه يشكل من الشرق درعًا فعالا ضد أي جيش يعتزم
القيام بهجوم على مصر أو على منطقة السويس، بينما يشكل من الجنوب درعًا فعا ً لا لصد أي جيش يعتزم
الهجوم على سوريا أو فلسطين.
وانطلاقًا من هذا الواقع كان الأتراك يحتفظون فيه بقوة كبيرة من الجيش، وذلك منذ اليوم الأول لإعلان
الحرب العالمية الأولى . وهدفهم من وراء ذلك أن يوفروا الحماية اللازمة لخ ط الحجاز الحديدي، والقيام منه
بهجوم صاعق على مصر، في الوقت المناسب بغية احتلالها وطرد الإنكليز منها.
أما خطة لورانس فكانت تستهدف إقامة قاعدة قوية للجيش العربي في ميناء العقبة لاستخدامها في شن هجوم
كاسح على سوريا. وأنها لعمري خطة طموحة جدًا لو تحققت وان كانت محفوفة بالمخاطر.
وهذه لمحة قصيرة عن الهجوم الذي كان لورانس ينوي أن يشنه على ميناء العقبة . كانت خطته بادئ ذي بدء
تستهدف عزل الحامية التركية في المدينة المنورة عن باقي الحاميات التركية وتضييق الخناق عليها ما أمكن،
بحيث تغدو عاجزة عن التحرك لنجدة غيرها من الحاميات التركية التي كانت تحرس خط الحجاز، أو نجدة
حامية ميناء العقبة.
ثم يقوم الجيش العربي بهجومه المنتظر على العقبة، حتى إذا كتب له النصر وتمكن من إلحاق الهزيمة
بحاميته التركية تابع زحفه على مدينة دمشق، بينما كانت جيوش الحلفاء ستقوم من الجهة الأخرى بهج وم على
منطقة سيناء وفلسطين.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن جيش فيصل هو الذي كان بموجب خطة لورانس سيقوم بالهجوم على ميناء
العقبة.
أما القوات التي كانت بقيادة الأمير عبد الله، فقد كان عليها ان تقوم بغارات متتابعة على جميع مراكز القوات
التركية التي تحرس الخط الحديدي. كما تقوم بنسف الخطوط الحديدية بحيث لا يعود بوسع فخري باشا قائد
حامية المدينة المنورة ان يضمن انسحاب قواته من المدينة في حالة الخناق عليها، أو إرسال نجدات لمساندة
حامية ميناء العقبة في حالة القيام بهجوم عليها.
غير ان سلوك الأمير عبد الله وموقفه ال مائع من الحرب الدائرة في الحجاز، كما ظهر في المدة الأخيرة، كان
يقلق لورانس . فقد هاله أن يغدو عبد الله غير مهتم بقواته مثل اهتمامه بمجرى الحرب الدائرة في فرنسا
وحفلات تتويج الملوك في أوروبا . وعلى ضوء ذلك راح يبحث عن سبب هذا التحول المفاجئ الذي طرأ على
سلوك عبد الله في المدة الأخيرة وموقفه المتخاذل من الحرب الدائرة هنا فعرف ان بريموند كان يوجه نشاطه
ناحية عبد الله، بعد ان خذله فيصل، عله يستطيع اقناعه بشن هجوم على مدينة دمشق بالاشتراك مع الجيوش
الأخرى التي كانت بقيادة اشقائه.
كذلك عرف لورانس أن بريموند كان يس عى ما أمكنه السعي لاحداث ثغرة في وحدة ابناء الشريف حسين،
وفي تحالفهم مع الإنجليز، حتى إذا ما فرق بينهم، احدث الفرقة بعد ذلك ما بينهم والانجليز.
٧٧١١
وتحقيقًا لهذه الغاية حاول بريموند أن يحيط عبد الله بأكبر عدد ممكن من مستشاريه الفرنسيين . واستطاع ان
ينجح نوعًا ما في مسعاه هذا، بدليل ان عبد الله كشف للورانس عن رسالة موجهة إليه من بريموند عندما اتصل
به لمعرفة اسباب فتوره عن تأييد الحركة، كعهده في السابق.
وقد ضمنها بريموند قوله ان الإنجليز كانوا يستغلون مشاعر العرب بالتقرب منهم حتى يمكنهم تحقيق مآربهم
في الحجاز ومصر والعراق.
ثم طلب من لورانس أن يوضح له حقيقة نيات الإنجليز فرمقه لورانس وقال مراوغً ا: أرجو أن تسئ الظن بنا
ساعة ترانا نسئ الظن بحلفائنا ونشك في نياتهم تجاهنا.
وعلى أية حال، فقد ادرك لورانس أن الوقت كان لا يسمح له بالاستمرار في المناقشة مع الأمير عبد الله ، لا
سيما وان الاحداث كانت تتوالى بسرعة مذهلة، والحرب في الصحراء تستلم السرعة في التصميم والعمل
والتنفيذ.
وأهم من ذلك، كان عليه ان يقوم بنسف بعض قضبان الخط الحديدي في عدة مناطق تمهيدًا لشن الهجوم
المتوقع على ميناء العقبة.
وهكذا، فقد عاد لورانس إلى ميناء وجه حيّث حشد قوة لا يستهان بها لشن غارات صاعقة على خطوط
مواصلات العدو بغية نسفها وتدميرها . وكانت هذه القوة تتألف من ثمانمائة رجل من قبيلة الحويطات ومائتين
من قبيلة الشرارات وتسعين من قبيلة ثالثة.
وفي اليوم الثامن عشر من حزيران عام ١٩١٧ انطلقت هذه القوة م ن ميناء وجه متوجهة إلى رأس خليج
العقبة.
كان هذا الجيش بقيادة الشريف ناصر، وهو قائد من أقدر القادة في جيش فيصل، وكان لورانس يرافقه بصفة
مستشار وكان من عادة لورانس أن يراقب العمليات الحربية مع أحد الزعماء المحليين . هذا، ولا مجال للانكار
بأن معظم انتصاراته و اسباب نجاحه تعود إلى واقع انه كان قادرًا على أن يدخل في روع المناضلين العرب
انهم يقاتلون لمصلحتهم، ولذا فان عليهم ان يتولوا الحرب ويقوموا بالحملات العسكرية.
ويعطينا زحف هذا الجيش على ميناء العقبة صورة واضحة عن مقدرة لورانس في توجيه جيش فيصل
بالرغم مما كان يفتقر إليه من الخبرة والدراية في الشؤون العسكرية.
ومما يذكر أن لورانس قسم تلك القوة إلى وحدات، ومن ثمن سار على رأس احدى هذه الوحدات مسافة الف
ميل تقريبًا إلى الشمال من ميناء وجه.
ولكن بدلا من أن يتابع زحفه بمحاذاة الشاطئ نحو العقبة وجه رجاله نحو الداخل أي إلى قلب الصحراء
حيّث قام بنسف عدة اميال من الخطوط الحديدية القريبة من المدينة المنورة.
وكان يهدف من ذلك إلى ترويع قائد حامية المدينة التركي وأخذ زمام المبادرة منه . ثم وجه رجاله باتجاه
وادي سرحان الذي تكثر فيه الافاعي السامة، وعبروا منه إلى منطقة قبيل ة الحويطات الواقعة شرقي البحر
الميت، ثم غيروا وجهة مسيرهم إلى الشمال.
٧٧٢٢
وهنا كان لورانس يختار بعض الرجال ويتسلل معهم أثناء الليل إلى ما وراء خطوط الأتراك لتنفيذ بعض
أعمال النسف والتدمير.
ثم يعودون سالمين إلى مخيماتهم . والواقع ان لورانس استطاع أن ينسف قطارً ا بالقرب من عمان، وأن ينسف
جسرًا بالقرب من درعا . وادهش من كل ذلك انه نجح في التسلل مئات الاميال خلف خطوط العدو واستطاع أن
يزرع فيها الألغام حتى حدود مدينة حمص السورية.
والجدير بالذكر أن قدرة المناضلين العرب على التحرك بسرعة وتحمل مشقات السير في الصحراء هي التي
كانت تتيح المجال للورانس أن يشن هجوماته ضد الأتراك على نطاق واسع . فقد كان باستطاعة المناضلين
العرب ان يتوغلوا في قلب صحراء إلى مسافات بعيدة جدًا، بحيث كانوا يقضون عدة أسابيع يخوضون خلالها
عدة معارك ضد الأتراك، قبل أن تدركهم الحاجة للعودة إلى المراكز التي انطلقوا منها لأخذ قسط من الراحة أو
للحصول على مؤن جديدة.
والمدهش ان المناضلين العرب كانوا يتنقلون في الصحراء بأمان وسلام.
ودون أن يخالجهم أدنى شعور بالخوف من الأتراك . والواقع أن هؤلاء المناضلين كانوا يقلقون بال الأتراك
ويقضون مضاجعهم بكثرة الغارات التي كانوا يشنونها على مواقعهم ومراكزهم، وكان الأتراك لا يجرؤون البتة
على مطاردتهم خوف ان تبتلعهم الصحراء.
ومعلوم أن حروب الصحراء تتطلب ممن يشترك فيها أن يكون مدركًا لاسرارها وخفاياها ومعالمها، ومتمرسًا
بركوب الجمال، وان تكون ارادته من الصلابة بحيث يمكنه أن يثابر ويكابد ويحتمل المتاعب والمشتقات، وما
اكثرها، التي ستبرز أمامه في الصحراء.
هذه هي الصفات التي كانت تعوز الجندي التركي حتى يمكنه الصمود في وجه رجال القبائل العرب
ومطاردتهم. وفضلا عن جميع هذه الصفات التي يتحلى بها العرب، فإنهم كانوا كذلك اكثر احتمالا من الأتراك
لمقاومة الجوع والعطش.
وقد يتصور البعض ان مثل هذه الصفات ليست من الاهمية بحيث تؤثر على مجرى الحرب، والواقع انها هي
التي تقود صاحبها إلى الانتصار، كما ثبت في هذه الحرب الغامضة الغريبة.
ولا بد لنا الآن من اعطاء القارئ فكرة خاطفة عن المخطط الذي وضعه لورانس لشن تلك الغارات على
مراكز الأتراك ونسف الخط الحجازي.
بعد ان توغل لورانس ورجاله بعيدًا في الصحراء، ارتأى ان يقسم جيشه إلى عدة فرق صغيرة، وذلك بغية
شن هجمات صاعقة على مواقع العدو ومراكزه، من كل حدب وصوب.
وكانت هذه خطة حاذقة استطاع بها أن يثير ا لرعب والذعر في نفوس الأتراك، جميع الأتراك، وأن يجعلهم
يتخبطون في لجة الحيرة والارتباك . والواقع انه اوقعهم في حيرة من امرهم. وذلك لأنه بينما كان بعض رجاله
يشنون غارة عليهم في مدينة جرش بالاردن، كان بعضهم الآخر يشن عليهم غارة في ضواحي مدينة دمشق
بسوريا، كل ذلك والاتراك لا يجرؤون على مطاردة المغيرين خيفة أن تقضي الصحراء على البقية الباقية منهم.
٧٧٣٣
وهكذا ظل يوالي الهجمات على مواقع الأتراك، ويقوم بنسف الخطوط الحديدية إلى أن أصبح في نقطة لا تبعد
سوى ستين ميلا عن ميناء العقبة.
وهنا ارتأى أن يقوم بما من شأنه ان يوهم الأتراك بأنه لا ينوي الهجوم على هذا الميناء حتى تصل الجيوش
الباقية التي كانت في طريقها إلى هناك . وعليه فقد شن هجومًا قويًا على مدينة معان الواقعة بين المدينة المنورة
والبحر الميت وحيث كان الأتراك يحتفظون بحامية قوية.
وفي الوقت ذاته، كانت أخرى تشن هجومًا خاطفًا على قرية الفويلة، وهي محطة لسكة الحديد فقضت على
حاميتها.
في هذه الاثناء، وصلت انباء سقوط حامية محطة الفويلة إلى اسماع قيادة حامية معان فبادر قائدها بارسال
فرقة آلية متحركة لنجدتها.
ولكن الفرقة وصلت بعد فوات الاوان، إذ ان رجال لورانس كانوا قد انسحب وا إلى الصحراء حيّث اصبحوا
بعيدين عن خطر الأتراك، أو أي هجوم معاكس قد يقومون به ضدهم.
ثم راح يشن الهجمات على المناطق التي نزح الأتراك عنها لنجدة المواقع التي تعرضت قبلا للغارات
الخاطفة. ولم ينس لورانس شأنه دائمًا، أن يزرع المنطقة بالالغام، وينسف الخطوط ال حديدية والقطارات
بالمتفجرات.
وبعد أيام انضم رجال قبيلة بني عطية وكان عددهم يومئذ يقارب الاربعة آلاف مقاتل إلى قوات لورانس
والشريف ناصر، والفئة الموالية للشيخ عودة ابن تايه من قبيلة الحويطات . والحقيقة ان هذه الفئة كانت تتألف
من رجال يعتبرون من افضل المقاتل ين في الجزيرة العربية . وكان قائدهم هو الشيخ عودة نفسه الذي أصبح من
أقرب الرجال إلى لورانس.
في هذه الاثناء، قرر قائد الفرقة التركية التي كانت تطارد العرب ان يقضي الليل في واد قريب من بعض
الآبار في قرية أبو لسان، التي تبعد حوالي اربعة عشر ميلا عن مدينة معان.
وفي الوقت ذاته غادر لورانس معسكر قواته وتوغل في الصحراء ليبحث عن مكان الأتراك . حتى إذا أدرك
بغيته عاد إلى معسكره فأيقظ رجاله وقادهم إلى التلال المجاورة لقرية أو لسان وتمركزوا هناك، بانتظار انبلاج
الفجر. وفي الصباح استيقظ الأتراك ليجدوا انفسهم محاصرين من جميع الجهات.
ثم بدأت المعركة بين العرب والاتراك . وقد ظل العرب يطلقون نيرانهم على الأتراك اثنتي عشرة ساعة بلا
انقطاع. والواقع ان العرب كانوا يضيقون الخناق على قوات الأتراك، ومع ذلك كان لورانس يعرف تمامًا ان
الأتراك كانوا يستطيعون الافلات نم الطوق المضروب حولهم إذا كان قائدهم شجاعًا.
ولكن يبدو أن قائد هذه الفرقة كان مفتقرًا إلى الجرأة والشجاعة .. فراح رجاله يدفعون ثمن تخاذله وتردده من
ارواحهم ودمائهم.
قلت ان الشجاعة كانت تعوز قائد الحامية التركية للاقدام على عمل ما يكون من شأنه ولا ريب أن يشق لنفسه
ثغرة بين صفوف المناضلين العرب ينطلق منها إلى الخلاص وانقاذ من يمكن انقاذه من رجاله.
٧٧٤٤
ولما كان ذلك هو وضع القوات التركية وشأن قائدها، فقد انتهز الشيخ عودة بن تايه هذه الفرصة ليقوم بهجوم
مباغت على الأتراك، كما ان الاستجابة لدعوة الشيخ عودة للمتطوعين اظهرت ان البلاد ستهب عن بكرة ابيها
لتسعى لتحريرها.
وبالاضافة إلى ذلك فقد كانوا يبعدون عن دمشق مسافة تعادل بعدهم عن العقبة، فلماذا يتوجهون إذن في
الإتجاه المعاكس بينما في امكانهم تحقيق هدفهم من اقصر الطرق؟ وهنا قرر الشيخ عودة ان شن هجومه
المباغت على الأتراك.
ولست اعتقد أن الأتراك كانوا يتوقعون من العرب ان ينقضوا عليهم بمثل هذه السرعة والجرأة . ولكن الرياح
كانت تجري على ما يبدو، بعكس ما كان يشتهي ربان سفينة القيادة التركية، إذ انقض الشيخ عودة بهجومه على
الأتراك مع خمسين رج ً لا، وراح يحاربهم في عقر حصونهم.
في هذه الاثناء، كا ن لورانس يراقب الهجوم بهدوء وحماس ثم هب واقفًا وأمر رجاله بالهجوم على الأتراك،
وقد شجعه على ذلك ما رآه من الفوضى الضاربة اطنابها بين صفوف الأتراك . وسرعان ما اشتد وطيس
المعركة بين الفريقين.
والواقع ان العرب ظلوا محافظين على وحدة صفوفهم أكثر من الأتراك، لكن المعركة تحولت الآن إلى معركة
بالسلاح الابيض، إذ ان العرب هبطوا عن ظهور ابلهم وراحوا يقاتلون الأتراك وجهًا لوجه.
وغاب عن بال القائد التركي انه حين أمر رجاله بالتفرق عن بعضهم بعضًا، أنه بذلك رجح كفة العرب
واعطاهم الفرصة التي كان لورانس يتوقع أن تتوفر للعرب للتغلب على الأتراك. لأن العرب كانوا متمرسين
على النضال غير المنظم أكثر من سواهم من الجنود النظاميين.
ونتيجة لذلك، تعرض الأتراك لهزيمة شنيعة في "بئر لسان"، فلاقى معظمهم حتفه على أيدي العرب . وهرب
من استطاع الهرب تحت ستار ظلام الليل وراح يتخبط في جوانب الصح راء خبط عشواء. ومن لم يجد وسيلة
للهرب وقع اسيرًا بيد العرب الذين بسطوا سيطرتهم على هذا الموقع المهم المؤدي إلى ميناء العقبة

خالد الحويطي
18-02-07, 01:16 AM
الفصل الثاني عشر

الزحف على ميناء العقبة

حالما انتهى من الوليمة الكبرى التي اقامها الأمير فيصل تكريمًا للشيخ عودة ابن تايه بمناسب ة انضمامه إلى
صفوف الثورة العربية، وهي الوليمة التي حضرها لورانس، والشريف ناصر، ابن عم فيصل ومساعده
العسكري الخاص، وعدد كبير من زعماء القبائل دعي المجلس الحربي إلى الانعقاد بجميع اعضائه، وذلك
لبحث الامور الطارئة، والاوضاع السائدة في الجزيرة العربية.
وبهذه المناسبة لا بد لي من التلميح إلى ان التقاليد الجارية في الجزيرة العربية تعطي لكل رجل يحضر مثل
هذه الاجتماعات والمؤتمرات وغيرها الحق في ان يعبّر عن ارائه بمنتهى الصراحة، وان يقترح على زعيمه أو
قائده، كائنًا من يكون، أي اقتراح يراه ضروريًا لنجاح الخطة المعروضة للبحث والمناقشة قبيل تنفيذها.
٧٧٥٥
وهذا ما يشابه الحق الذي تعطيه قوانين القبيلة والعشيرة لكل رجل في ان يدفع ظلامته إلى زعيم القبيلة دون
ان يكون لزعيم هذه القبيلة أي حق في عدم الإصغاء إلى شكواه . هذا، وبعد مناقشة جميع الاقتراحات
والموضوعات المطروحة على بسا ط البحث، والرد عليها، يقرر القائد نوع الخطط والاوامر التي يجب تنفيذها
والتقيد بها.
كان لورانس يعتبر هذا الاجتماع مهمًا جدًا له . فقد كان يرى ان من الضروري جدًا الحصول على موافقة
العرب على خطته التي رسمها لاحتلال ميناء العقبة كخطوة ثانية في سلسلة الهجمات التي أزمع تنفيذها.
قبل هذه الفترة، كان لورانس يستلم بين وقت وآخر بعض الرسائل التي يبعث بها إليه كلايتون من القاهرة،
والذي كان يخبره فيها ان اركان القيادة العامة كانوا يعتقدون بأن القيادة التركية العليا ارسلت تأمر فخري باشا
بالانسحاب من المدينة المنورة.
وكانت القيادة البريطانية تشدد في رسائلها على الجيوش العربية كي تبذل قصارى جهودها لاحتلال المدينة
المنورة والقضاء على حاميتها التركية . ذلك ان القيادة البريطانية كانت تشدد على ضرورة قيام العرب بهجوم
كسح على المدينة المنورة، لأن السير ارشيبالد موراي كان سيقوم بش ن هجوم آخر على مدينة غزة الواقعة في
الجهة المقابلة، فتصيب عصفورين بحجر واحد.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، كان الكولونيل جويس وزميله الكولونيل نيوكومب يعتقدان ان بالامكان
احتلال المدينة المنورة بمجرد تضييق الخناق حول حاميتها التركية والسيطرة على مواقع خط الحج از
الحديدي… فيتوقف سيل الامدادات الواردة إليها، فتضطر إلى الاستسلام، أو انها ستقوم بمحاولة يائسة لشق
طريق لها إلى البحر.
وهذه المحاولة ستكون فاشلة للإلقاء بالمائة، مهما كانت الظروف والاحوال . بيد أن لورانس لم يكن مقتنعًا
بفائدة هذه الخطط والتدابير التي تضعها القيادة العامة بالنسبة إلى احتلال المدينة المنورة.
كما كان مقتنعًا بفائدة عدم زج العرب في معركة ضد قوات عسكرية متفوقة عليهم من حيّث التنظيم
والتدريب. كذلك كان لا يرى أية فائدة ترجى من اشراك العرب بهجوم ضد قوات فخري باشا بل انه كان يرى
من الخير للقوات ا لبريطانية إذا أمكن للقيادة البريطانية القيام بذلك أن تبقي قوات فخري باشا محصورة في
مكان كالمدينة المنورة.
إذ أنها ستبقى هناك بعيدة عن مجرى الاحداث، مما سيحول بينها وبين الأتراك في أية معركة تحدث بين أية
قوات بريطانية أو عربية اثناء قيامها بأي هجوم على مواقع الأتراك الأخرى.
وحتى يمكن تضييق الخناق حول القوميات التركية المتمركزة في المدينة، كان لورانس يرى امكانية تحقيق
ذلك بشن سلسلة من الغارات على خط الحجاز مما يحرمها من المؤن والامدادات التي ستبعث بها القيادة التركية
إلى هناك لتعزيز الحامية، ويجعلها عاجزة ع ن شن أي هجوم كان، حتى وان كان مثل هذا الهجوم ربما تقوم به
بدافع انقاذ نفسها.
هذا، وعلى الرغم من فشل لورانس في اقناع رؤسائه بالفوائد المتوخاة من تنفيذ خطته، فقد صمم على أن
يمضي برفقة شلة من المناضلين العرب لنسف خط الحجاز، بينما كان الأمير فيصل سيزحف على رأ س جيشه
٧٧٦٦
لغاية أن يصل إلى النقطة التي ستلتقي عندها قواته مع قوات الكولونيل جيوس . والجدير بالذكر أن لورانس كان
قد اطلع كلايتون والأمير فيصل على خطته هذه.
وفي ذلك الحين، لم يبد فيصل حماسًا زائدًا لتنفيذها أو شن هجوم على ميناء العقبة ما لم يضمن انضمام الشيخ
عوده به تايه إلى صفوفه. أما وقد تم ذلك الآن، فقد وافق على خطة لورانس بغير تردد.
ذلك ما كان يجول في خاطر لورانس اثناء انعقاد المجلس الحربي في اجتماع عام . ونعود الآن للتحدث عما
جرى في ذلك الاجتماع.
ذكرت ان الأمير فيصل دعا المجلس الحربي إلى اجتماع عام اثر انت هاء الحفلة التي اقامها تكريمًا للشيخ
عودة. وهناك دارت مناقشات قصيرة حول بعض الأمور، قام لورانس بعدها بعرض خطته التي كان ينوي
تنفيذها. فالمعلوم ان المسافة كانت لا تزال بعيدة جدًا من هناك إلى العقبة، ومسالكها شاقة صعبة مما يجعل من
المتعذر على الجيش الذي سيقو م بالهجوم عليها ان ينقل معه اسلحة ثقيلة ومعدات ضخمة كالمدافع مثلا، أو
كميات كبيرة من المؤن . لذا، فقد عرض لورانس أمام المجلس خطة جديدة وطلب على أساسها من المجتمعين
أن يسمحوا له بأخذ بعض الرجال ليقوم معهم بحركة التفاف يصل بعدها إلى المنطقة الواقعة ضمن المناط ق
التي تسيطر عليها قبيلة الحويطات، تلك المنطقة التي تبعد مسافة مئتي ميل إلى الشمال الشرقي من العقبة.
وكان هدفه من وراء ذلك أن يشكل من رجال قبيلة الحويطات قوة ضاربة يتوجه بها إلى العقبة من الشرق .
ذلك ان لورانس كان يفكر بالزحف على العقبة من الشرق . وكانت جميع التقارير السرية عن الحالة في العقبة
تقول ان الأتراك كانوا يركزون تحصيناتهم في جهة المدينة المواجهة للغرب، أي الجهة المواجهة للبحر، مما
يدل على ان الأتراك كانوا لا يتوقعون هجومًا بشن على العقبة من الشرق أي عبر الصحراء وانهم كانوا
يتخوفون من هجوم يأتيه م من البحر، أي من الغرب، وذلك نظرًا للمسافة الطويلة التي كانت تفصل بين العقبة
ومواقع الجيوش العربية القائمة في قلب الصحراء.
وهكذا نجد ان الأتراك حصروا اهتمامهم في تحصين الجهة الغربية المقابلة للبحر وتركوا الجهة الشرقية تحت
حراسة زمرة من الجنود.
وما أسرع، ما كان الشيخ عوده في استجابته لخطة لورانس وموافقته على تنفيذها . وقال أيضًا فيما كان يعدّد
الفوائد المتوخاة من تنفيذ مثل هذه الخطة، ان بالمستطاع تنفيذ أية خطة كانت متى وجدت المتفجرات والمؤن
والمبالغ المالية اللازمة لها.
كذلك فإن الشيخ عودة أقسم بأن يضع كافة إمكانيات قبيلة الحويطات في خدمة الهجوم المنتظر وتنفيذه.
ثم حذا حذوه الأمير فيصل فوافق على خطة لورانس بغير تردّد ووعد بتنفيذها ومساندتها . وبعد مناقشة
قصيرة دارت حول الطريقة التي سيتم بها تشكيل القوة والاتجاه الذي يجب أن تسلكه، اتخذ المجلس قراره
بالموافقة ورفع الاجتماع.
وفي التاسع من شهر أيار، غادر لورانس ميناء وجه يرافقه الشيخ عودة وابن عمه محمد الدهيلان، والشريف
ناصر والشيخ نسيب البكري السوري، وخمسة وثلاثون رج ً لا من رجال قبيلة العجيلي.
٧٧٧٧
وقد حملوا معهم ساعة انطلاقهم بالاضافة إلى المؤن والمواد الغذائية و البنادق، مبلغ عشرين ألف ليرة ذهبية
تسلمها لورانس من الأمير فيصل.
وكان هذا المبلغ من المساعدة التي كانت بريطانيا تقدمها له كي يشتري بها الامدادات والمؤن ما يكفيه لمتابعة
الحرب. أما الأمير فيصل فإنه بقي في ميناء وجه بانتظار وصول المراسلات من القيادة البريطا نية في القاهرة،
إذ أن جيشه كان سينضم بموجب تلك الارشادات إلى قوات الكولونيل جويس عندما يحين موعد تنفيذ المخطط
البريطاني المتعلق بنسف خط الحجاز الحديدي.
هذا، وعلى الرغم من التناقضات التي تجمعت في العناصر التي تألفت منها هذه الرقة التي يقودها لورانس،
فانه يمكن القول أنها كانت فرقة رائعة.
فمن بين من ضمتهم الشيخ عدة الذي كان مشهورًا بنزعته القبلية ومعرفته عن معالم الصحراء التي لا
يضاهيه فيها أحد … وضمت أيضًا الشيخ ناصر الذي كان مشهورًا بنزعته الارستقراطية وثرائه الفاحش …
والشيخ نسيب البكري الذي كان مشهورًا بميله إلى قرض الشعر ونظم الالحان الموسيقية.
ومما يذكر أن الأتراك كانوا قد حكموا الشيخ البكري بالإعدام لاشتراكه في انقاذ الأمير فيصل وتدبير خطة
هربه من دمشق … وأخيرًا، لورانس، الذي كان مشهورًا باندفاعه وراء ركوب المغامرات والمجازفات فانضم
إلى صفوف العرب ليشاركه م مصيرهم المجهول … لقد انضم لورانس إلى صفوف العرب قبل أن يكون لنفسه
فكرة واضحة عن مدى الفائدة التي سوف تجنيها قضيتهم من خدماته، أو الفائدة التي كان سيجنيها هو باستمالتهم
إلى خدمة أهدافه الخاصة.
ذلك لأن لورانس كان مندفعًا وراء حلم طالما راوده وعّلل به الاما ني بتحقيق بناء إمبراطورية عربية شاسعة
الأطراف، وتنصيب الأمير فيصل إمبراطورا عليها بينما يبقى هو تلك القوة الدافعة لعجلة تلك الإمبراطورية من
وراء الستار.
وعند هذه المرحلة من مراحل مغامراته، بدأ لورانس يطبع نفسه بطابع عربي بحت . ومّما تجدر الإشارة إليه
الآن هو أن لورانس كان قبل مغادرته لميناء وجه خاضعًا لرقابة وسلطة الكولونيل جويس والقيادة العليا في
القاهرة.
بيد أن الأعمال التي قام بها فيما بعد، وطريقته الجديدة في الكتابة إلى كلايتون والقرار الخاص الذي اتخذه
بمنأى عن القيادة بالزحف على ميناء العقبة على رأس ش لة من المناضلين العرب، كل ذلك كان بمثابة خطوة
جريئة خطاها نحو قطع العلاقات بينه وبين رؤسائه.
وكأني به كان يتجاهل منصبه كضابط ارتباط بين القيادة البريطانية وبين الجيش العربي عندما بدأ يتصرّف
كما لو أنه كان ممث ً لا للأمير فيصل لدى هذه القيادة. يالغرابة أطواره وشذوذ افكاره!
ولدينا أدلة كافية عن مدى التحوّل الذي طرأ على حياة لورانس وتفكيره بالنسبة إلى تعشقه عادات العرب
وتقاليدهم. فقد أصبح يرتدي اللباس العربي أي العباءة والكوفية والصندل ويرفض باباء أن يستبدله بغيره
من الأزياء.
٧٧٨٨
وأصبح أيضًا يحمل نفسه أكثر مم ا تستطيع أن تتحمله من شظف الحياة الصحراوية وخشونتها . كما يحاول أن
يمارس التقاليد العربية إلى أقصى حد مستطاع.
والحقيقة أن تعلق لورانس بالحياة الصحراوية القاسية ينبع من صميم اعتقاده بأن القدر قد ربط مصيره
بمصيرها.
والحقيقة أنه قد اثبت القول بالعمل . إذ كنت تراه يسير دائمًا في طليعة المواكب الزاحفة إلى أمام بعزيمة جبارة
وإرادة لا تلين، غير آبه لا لحر الشمس ولا لرمضاء الصحراء ولا للجوع أو العطش.
وكأني به يريد أن يتحدى رجاله بسرعة جريه ورشاقة حركاته وتنقلاته، وبقدرته على تحمل مشقات الحياة
وشظفها في الصحراء.
ليس ذلك فقط، بل انه كان يستوقف رجاله عند كل نقطة من نقاط الخط الحديدي لينسفها … حتى إذا انتهى من
ذلك توارى ورجاله بعيدًا عن الأنظار، متوغلين في قلب الصحراء … ثم كانوا يعاودون الكرة من جديد فيقومون
بنسف موقع آخر من مواقع الخط الحديدي الهامة ويتوارون ثانية عن ا لأنظار… وهكذا دواليك…. وفي الليل،
كانوا يبحثون عن الراحة والدفء في ظل أكمة، أو مرتفع، أو خلف منعطف.
فكانوا يصرفون ساعات الليل بحكاية أقاصيص الحب والحرب والمغامرات، واحتساء القهوة العربية اللذيذة.
وفي ذات ليلة، بينما كان لورانس مستريحًا من عناء يوم شديد القيظ، إذ به يشاهد غلامين قادمين نحوه
وعرف فيما بعد بأنهما ينتميان إلى قبيلة العجيلي وطلبا منه الحماية.
فسألهما أول ما سألهما عن المكان الذي جاءا منه وعن القبيلة التي ينتسبان إليها . فرد عليه أكبرهما سنًا والذي
كان قوي البنية والعضلات وقال ان اسمه داود، واسم صديقه الذي كانت ملامحه جذابة وجميلة كملامح الفتاة،
فرّاج.
ثم تابع حديثه يقول ان صديقه فراج حاول أن يضرم النار في خيمة شخص يدعى سعد هو أحد شيوخ القبيلة
وكان أن أدركهما ووقف الفتى صاغرًا يصغي إلى حديثه.
ولكنه شعر به فانتهره ثم لحق به عندما هرب يه دد ويتوعد بانزال أشد العقاب به . فسر لورانس من
صراحة الغلام وعرض وساطته للتوفيق بينهما وبين سعد الذي صفح عنهما نزو ً لا عند رغبة لورانس.
أخيرًا، اقترب فرّاج من لورانس ولثم يده، ثم يد سعد . وهرول مسرعًا نحو مضارب خيام القبيلة يغمر قلبه
الفرح والسرور . وكم كانت دهشة لورانس إذ شاهد داود وفراج، في صباح اليوم التالي عائدين إليه ليطلبا
الانضمام إلى فرقته. وقبلهما لورانس وعينهما في عداد حرسه الخاص.
وهكذا ظل لورانس ورجاله متابعين مسيرهم في الصحراء وفقًا لتوجيهات الشيخ عودة وارشاداته . فكانوا
يمرون من فوق الجبال حينًا، ثم يمرون من بين الوهاد والوديان حينًا آخر، أو يسيرون على أراضيٍ رملية
ناعمة يتخللها الشوك والعشب.
في تلك الأيام، كان الحر يبلغ أقصى مداه فيخيل اليهم أن الصحراء معدومة الحياة … إذ أن الغزلان كانت
تختبئ في أوكارها والطيور تبحث عن ثقب تحتمي وراءه من الحرّ الش ديد، والأفاعي تلوذ بجحورها، والجرذ
كذلك… فلا غزلان تقفز أمامهم، ولا طيور تحلق فوق رؤوسهم، ولا أفاع تزحف على بطونها، ولا عشبًا
٧٧٩٩
تحر ّ كه الرياح … ولا جرذًا تقرض الأعشاب بأسنانها … وكانت الرياح الخمسينية تهبّ في بعض الأحيان لتزيد
من شدّة القيظ ولتلسع وجوههم بذرات الرمال التي كانت تنقلها معها فتسيل منها الدماء.
ومضت عشرة أيام لم يقطعوا خلالها سوى مئة وخمسين مي ً لا. ولكنهم كانوا يتوقفون خلالها ليقوموا بنسف
بعض مواقع الخط الحديدي، أو بتدمير بعض عواميد الهاتف والتلغراف.
وكان عليهم الآن أن يقطعوا مسافة مئتي مي ً لا في ا لصحراء قبل أن يصل بهم المطاف إلى أرض فيها مياه
صالحة للشرب . وكانت المنطقة التي يتوقعون الوصول إليها تدعى صحراء النفود، ثم يصلون منها إلى آبار
رفحة ضمن المناطق التي تسيطر عليها قبيلة الحويطات، أي القبيلة التي كان الشيخ عودة، مرافقه ودليله، ينتمي
إليها.
وفي اليوم السابع والعشرين من أيار، أي بعد مرور ثمانية عشر يومًا على مغادرتهم لميناء وجه، وصلوا إلى
آبار رفحة وهم على أشد ما يكون التعب والإرهاق والجوع والعطش . وهنا شن بعض رجال قبيلة شمر
المعروفة بعدائها لقبيلة الحويطات، شنوا غارة عليهم.
ولكن محمد ابن عم الشي خ عودة أفسد عليهم هذه المحاولة، إذ تصدى لهم على رأس زمرة من الرجال فردّوهم
على اعقابهم فاشلين. ومع ذلك فقد أبى الشيخ عودة إ ّ لا أن يتابعوا سيرهم نحو مضارب خيام قبيلته
الحويطات وذلك بغية الحصول من بقية شيوخها المقيمين في اقصى وادي سرحان على ضمانة بعدم ال تصدي
لهم أو محاولة الاعتداء عليهم إذا ما وصلت طلائعهم إلى هناك.
كذلك كان الشيخ عودة ينوي الاتصال بالشيخ نوري الشعلان الذي يعتبر زعيم منطقة وادي سرحان والذي
كان أميرًا لقبيلة الرولا، وواحدًا من أمراء الجزيرة العربية العظام، والمشهور أيضًا بأنه ثعلب الصحراء.
ومن البديهي أن نذكر بأنه سبق لنوري الشعلان أن مهد السبيل أمام الأمير فيصل للهرب من دمشق . بيد أنه
لم يكن قد أعلن بصراحة عن وقوفه بجانب الثورة العربية.
هذا، وبما أنه كان يشارك قبيلة الحويطات زعامتها في منطقة وادي سرحان، فقد رؤي من الخير القيام
بمحاولة كس ب رضا الشيخ شعلان أو اقناعهم الوقوف على الحياد في الصراع القائم بين أركان الثورة العربية
والإمبراطورية العثمانية، واقناعه أيضًا بعدم التعرض لقبيلة الحويطات بعد انضمام رجالها إلى الجيش الذي
سيقوده هو ولورانس لشن هجوم على ميناء العقبة.
ومما يذكر أن الشيخ عو دة كان سيقوم بكل ذلك بطريقة سرية تنفيذًا لفكرة الأمير فيصل الذي أراد أن يقوم
الشيخ شعلان باعلان ولائه لتركيا بعد الحصول منه على كافة تلك الضمانات والتعهدات.
فقد كان الأمير يهدف من وراء هذه الخطة إلى تطمين جمال باشا بحيث يستنكف عن ارسال جيوش إلى هذه
المنطقة لتعزيز حامياتها التركية إذا ما أعلن الشعلان عن ولائه لتركيا.
وهكذا فقد يخلو له الجوّ ليعد العدة الكافية لشن الهجوم المنتظر على ميناء العقبة في جوّ يتخّلله الأمان
والاطمئنان.
٨٨٠٠
والواقع أن الضرورة كانت تقضي باللجوء إلى تدبير خدعة كهذه . فقد كان الحماس يتغلغل في صدور رجال
القبائل الذين كانوا يتوافدون بالمئات إلى مركز الأمير فيصل معلنين عن ولائهم التام له وانضمامهم إلى صفوف
الثورة العربية.
وخاصة، عندما علموا بعودة الشيخ عودة ووقفوا على حقيقة الهدف الذي كان يصبوا إليه.
من هنا كان فيصل يخشى من أن يتسرب شئ من ه ذه الأنباء والمشاهد المثيرة إلى اسماع القيادة التركية،
وانباء تشكيل الجيش الذي سيحشده تمهيدًا للزحف على مدينة دمشق، فتفسد عليه خطته، وربما وضعت في
وجهه المشاكل والعراقيل.
ويذكر أيضًا أن الشيخ نسيب البكري عرض على لورانس خطة أخرى لهجوم مفاجئ يقومون به على سوريا.
وكان الشيخ البكري يعّلل الأماني بتشتيت صفوف الأتراك عندما يفاجأون بمثل هذا الهجوم الكاسح . وما
استجابة رجال القبائل الشاملة للنداء الذي وجهه الشيخ عودة كي يبادروا إلى التطوع في الجيش العربي إ ّ لا دلي ً لا
واضحًا على أن سوريا كانت ستهب هبة رجل واحد بوجه الأتراك والترحيب بمقدم جيش التحرير العربي
وطلائعه.
ومن جملة الأسباب التي أهابت بالشيخ البكري إلى تفضيل الهجوم يقومون به على مدينة دمشق بد ً لا من ميناء
العقبة هو أن النقطة التي وصلوا إليها الآن كانت أقرب إلى دمشق منها إلى ميناء العقبة.
وختم الشيخ البكري دف اعه عن خطته يقول : انه طالما سيتحقق هدفهم بمثل هذه السهولة، فلا داعي هناك للقيام
بهجوم يبعدهم كثيرًا عن دمشق؟
بيد أن لورانس لم يكن مثل ذلك المغامر الذي يدفعه الحماس إلى حد المقامرة بأرواح الرجال . فإنه قد عرض
مستقبله للخطر حينما قرر أن يزحف على ميناء العقبة للاستيلاء عليه من القوات التركية هناك.
وقد خالف بذلك أوامر القيادة العليا . ولكنه كان يفعل ذلك نظرًا لأهمية ميناء العقبة الاستراتيجية، وبغية توسيع
رقعة الحرب، والاقتراب من مواقع القوات البريطانية الضاربة في سيناء، وبغية تذليل الصعوبات التي تعرقل
الاتصالات معها.
وعليه، فإنه لن يغامر مرة أخرى بمستقبله في سبيل الزحف على مدينة دمشق . من هنا كانت معارضته لفكرة
الشيخ البكري وقال : إن من الجنون القيام بمحاولة الهجوم على دمشق الآن، خاصة وان قوات الأمير فيصل لم
تكن بعد قد تحركت من ميناء وجه، والقوات البريطانية لا تز ال بعيدة جدًا إذ كانت في غزة، بينما الأتراك
يرسلون قوات جديدة إلى مدينة حلب لتعزيز مواقعهم في طول البلاد وعرضها

خالد الحويطي
18-02-07, 01:17 AM
الفصل الثالث عشر
"احتلال العقبة"
على الرغم من أن لورانس رفض خطة الشيخ نسيب القاضية بشن هجوم فوري على سورية، على اعتبار أن
هذه الخطة محفوفة بالمخاطر، إ ّ لا أن الجدال الذي دار حولها قد بذر في دماغه جرثومة فكرة أخرى، لا تق ل
إ ّ لا بمقدار قليل عن فكرة غزو سورية من حيّث الخطورة ألا وهي فكرة القيام برحلة سريعة إلى سورية
ليرى بنفسه ماهية الأشياء في دمشق، مدينة أحلامه.
أما ما كان يرمي إليه، وما كان يتوقع أن يجده هناك فأمر ما زال غامضًا. ولقد كان لورانس صريحًا على
الدوام عند الحديث عن أي موضوع إ ّ لا هذا، فقد كان يقول : "إنه يريد الذهاب إلى دمشق ليرى أكثر أصدقاء
فيصل السريين، وليرى بنفسه المواقع التي يمكن أن نشن عليها هجماتنا المقبلة".
ولكنه اعترف بأن "نتائج مثل هذه الرحلة لا تعادل المخاطرة بالقيام بها"… والحق يقال إنه لمن الصعب أن
يخمّن المرء ما تستطيع مثل هذه الرحلة أن تحققه زيادة على ما تحققه الرسائل التي كان يبعث بها عدد من
الوكلاء السريين الذين يتجولون باستمرار بين دمشق ومواقع الجيوش العربية، إ ّ لا إذا كان لورانس يعدّ العدّة
للقيام بهجوم مب ّ كر على سورية . وهو يتركنا لنستخلص من موقفه هذا أنه لم يكن يقف الموقف الشجاع الذي كان
يقفه دائمًا بالنسبة لرفاقه من العرب حاملي السلاح.
ولما عاد إلى المعسكر، كانت استعدادات قبيلة الحويطات للزحف على العقبة قائمة على قدم وساق. وقد عاد
الشيخ عودة مسرورًا عن مقابلته مع نوري الشعلان، وقسم وقته بين إرشاد أفراد قبيلته، وتطويع المحاربين
وجمع المعدات اللازمة للزحف، وتخزين كميات هائلة من الارز واللحم، مما كانت تقدمه قبيلة الحويطات
إعرابًا عن أريحية شيوخها.
عاد لورانس من سوري ة في السادس عشر من شهر حزيران، وبعد عودته بثلاثة أيام، تحركت الحملة باتجاه
العقبة. وخلافًا للفئة القليلة التي تحركت من "وجه" كانت جماعة عودة مؤلفة من أكثر من خمسمائة مقاتل،
يمتطي كل منهم هجينًا ناشطًا، وهو يشتعل حماسة لمقاتلة الأتراك والاستيلاء على ما يمكن ه الاستيلاء عليه بعد
احتلال العقبة.
ورافق لورانس ابن أخ الشيخ عودة، "المدعو "زعل" ومائة من الرجال، وقاموا بشن هجوم مباغت على
المنطقة الشمالية الواقعة ما بين عمان ودرعا لنسف خط الحجاز، وذلك لمنع الأتراك من ارسال النجدات إلى
العقبة.
وكان لزامًا على هذه الج ماعة أن تقطع مئة من الأميال، وقد قطعتها في ست وثلاثين ساعة، كان أفرادها
خلالها يغذون السير ليل نهار ويستريحون كل ست ساعات ساعة أو ساعتين.
وبعد أن نسفت الجماعة جزءًا من الخط الحديدي وكانوا يأملون أن يمر أحد القطارات ليستولوا على ما فيه
فوجئوا بدورية تر كية. فعادت الجماعة لتنضم إلى قوات عودة، وأثناء تقهقرهم مروا بمركز تركي صغير
يحرس محطة للسكة الحديدية تبعد مسافة أربعين مي ً لا عن عمان.
٨٨٢٢
وفاجأت تلك الجماعة الأتراك على حين غرّة، واستطاعت بما اطلقته من نيران أن تحتل المركز وتضرم في
بنايته النار، وأن تستولي على كل ما لدى الجنود الأتراك من اسلحة وذخيرة ومؤن بعد أن قتلتهم جميعًا.
وعلى كل، فإن محاولات لورانس لإخفاء آثار جماعته عن أعين الأعداء، لم تكن ناجحة تمامًا، فقد اكتشف
أثناء الزحف أن الأتراك قد دمروا كل الآبار التي كان الشيخ عودة يعول عليها لتزويد رجاله وجماله بالماء.
ولكي يحول دون هذه الأعمال الشريرة، أرسل فريقًا من رجاله كدفعة استطلاعية لاحتلال الآبار في "أبي
لسان" التي كان يزمع التوقف عندها في المرحلة التالية، وتقع بين سفح آخر جبل يفصله عن العقبة.
وقد قامت تلك الفرقة بما عهد إليها من عمل، بعد أن قتل أفرا دها جميع من وجدوا من الأتراك، ولكن أنباء
المعركة عمت جميع الوحدات التركية المجاورة، وهكذا وجد عودة ولورانس لما وصلا إلى هناك أن مدخل
العقبة قد سدّ بفرقة من الجنود الأتراك المسلحين بالمدفعية.
ومن حسن الحظ أن الأتراك لم يكونوا قد أخذوا احتياطاتهم الضرورية، كوضع رجال للحراسة مما سهل
لرجال عودة أن يتسلقوا التلال المجاورة، وأن يقوموا بإشارة متفق عليها باطلاق النار على القوات التركية التي
كانت مرابطة عند المضيق الضيق الذي يقع اسفل التلال.
غير أن مواسير البنادق في ذلك اليوم الحار من أيام حزيران لم تحتمل حرارة ال جو وحرارة البارود، فأخذت
تنفجر، كما أن الرماية لسوء الحظ لم تكن موفقة.
ومع ذلك، فإن العرب الذين شرعوا يتمركزون في مواقعهم الحصينة في التلال، كانوا أبعد منا ً لا عن مدفعية
الأتراك. وهنا هجم عودة على خيمة لورانس، وهو في حالة من الهياج الشديد، وقال : "وماذا جرى بالحويطات؟
إنهم يتكلمون ولا يفعلون" (وكان بذلك يشير إلى وعد قبيلة الحويطات بمساندتهم عند بدء الهجوم على العقبة).
واهتاج لورانس، لأنه لم يكن يتوقع قيام العدو بإقفال الطريق بهذا الشكل وقال : "صحيح والله … لقد اطلقوا
الكثير من القذائف، ولكنهم لم يؤثروا علينا إ ّ لا قلي ً لا".
ونزع عودة كوفيته عن رأسه ومزقها والقاها أرضًا، ثم خف نحو التلال، مناديًا على رجاله بأن يتبعون
راكبين على جمالهم . وبعد لحظات قليلة استطاع عودة أن يقود جماعة مؤلفة من خمسين خيا ً لا ومباغتة بطارية
المدفعية التركية، فأُخذ رجالها على حين غرة فراحوا يتراكضون للنجاة بأرواحهم.
وقد قام "ناصر" بمساعدة لورانس مع المحاربين من راكبي الجمال بهجوم مضاد على الأتراك الذين أخذوا
يتقهقرون سريعًا، مخلفين وراءهم سيو ً لا من دماء قتلاهم وجرحاهم الذين مات معظمهم تحت سنابك الخيل.
وهنا قاد لورانس قوته من الهجانة إلى ا لأمام، منتهزًا فرصة الحظ هذه ، ومطلقًا رصاص مسدسه على
مؤخرة فلول العدو المتقهقرة . وفجأة سقط جواده ميتًا، واغمي على لورانس نتيجة وقوعه ارضًا، ولما ثاب إلى
وعيه اكتشف أنه قتل جواده بمسدسه الخاص.
في تلك الأثناء، كانت المعركة قد انتهت، وخسر الأتراك ثلاثمائة ق تيل وأسر العرب مائة وستين جنديًا منهم،
ولم ينج من القوة التركية التي كانت ترابط هناك سوى نفر قليل من جنود المدفعية وحفنة من الضباط الذين
استطاعوا أن يجدوا خيولا يهربون عليها، أما خسائر العرب فلم تعد القتيلين.
٨٨٣٣
وجاء عودة إلى لورانس ممتلئًا حماسة وفخرًا، ملق يًا اللوم كل اللوم في ما أصاب العرب على خذلان قبيلة
الحويطات إياهم، وعلى من اشترك معهم في القتال بسب رداءة تصويبهم، وقلة ممارستهم بفنون القتال.
وكان واضحًا أن عودة قد أمضى يوم جهاد ممتازًا، فأزاح بذلك الكابوس الذي كان يخيم عليه، وكانت ثيابه قد
تمزقت أثناء المعركة واخترقت عباءته ست رصاصات، محدثة فيها ثقوبًا… لو أنها انحرفت عن هدفها إنشًا
واحدًا لقضت عليه، ولكن حسن حظه الذي كان دائم الملازمة إياه، جعله ينجو من موت محقق.
ومهما يكن من أمر فإن عودة سيشكر الله ولا ريب مهما كانت نتائج تلك المعركة لأن الطريق إلى العقبة قد
فتح أمامه.
على الرغم من هذا الانتصار، فإن لورانس لم يكن في حالة تساعده على مشاركة عودة مباهاته بما أحرزته
القوات العربية في ذلك اليوم، وكان يجلس في إحدى خيام الأتراك التي خلفوها وراءهم، لا يكاد يسمع شيئًا مما
يقوله ذلك المحارب عما تم من أعمال في ذلك اليوم، إذ كان يفكر فيما ينتظره من أحداث، ثم نهض متمه ً لا
وتوجه نحو ميدان المعركة.
وبدا له أن القتلى من جنود العداء على جانب الكبير من الجمال، فقد كانت الأمسية براقة وضياء القمر يعكس
على وجوههم خيوطًا من النور، حتى لقد بدت وكأنها وجوه من العاج.
والأتراك أنصع بشرة من العرب، كما أن أولئك الجنود الصرعى كانوا ايفاعًا وصغار السن إلى درجة تجعل
المرء يشفق عليهم حتى بعد أن لاقوا حتفهم في كنف تلك الغابة التي اثقل الظل أوراق أشجارها، وهذه الغابة
تلتقي عند طرفها بسلسلة من التلال.
كانت أشعة القمر تلقي عليها ضوءً ا، أشبه ما يكون بانعكاس نور الشمس على صفحة البحر . ولاحظ كذلك أن
الجنود الأتراك مبعثرون في فوضى لا مثيل لها، ولكن بأوضاع تدل على أنهم قد استراحوا في النهاية.
وقد كتب لورانس في مذكراته يقول : "لقد قمت بترتيبهم في صفوف متوازية واحدًا اثر الآخر، وكم تمنيت
عندئذ أن يستريحوا في رقدتهم تلك، وألا أضطر للاستلقاء يومًا ما مثلهم، ولكن الموت شئ لا مفرّ منه سواء
ربحنا أم خسرنا، ومهما امتد بنا حبل الأجل".
وهكذا اكتشف لورانس ردّ الفعل لديه الذي نجم عن أول مذبحة يراها، وفي تلك اللحظة بالذات، أحس لأول
مرة في حياته بأنه ليس بريطانيًا ولا عربيًا، ولكنه مخلوق غريب، لا ينتمي إلى أي معسكر، وروح تحلق في
أجواء غير تلك التي يعرفها الناس.
ومن يدري أية أفكار أو تخيلات تلك التي تملكته في تلك اللحظة؟ فقد كان منذ نعومة أظفاره يعارض في
الرغبات الطبيعية لتحقيق رغبات الجسد، وكان يخجل من ال لجوء إلى أعمال العنف مهما كانت وضد أي كان،
وها هو الآن وعلى تراب الأرض المقدسة يجد نفسه يسير بقدمين مخضلتين بدماء أناس أبرياء، لا ذنب لهم
على الإطلاق.
كيف ألقت به المقادير إلى هناك، إ ّ لا إذا كان ذلك قد تم بقوة إلهية أو شيطانية؟ فهو لم يكن الجندي، ولا
بالعربي الكبير، ولم يكن يضمر أية ضغينة نحو العدو، وإن كان يكره القسوة والإكراه في جميع أشكالهما،
٨٨٤٤
وأحس بأنه يبتعد كثيرًا عن زملائه من البريطانيين وأنه في الواقع كان يعيش بمعزل عنهم كلما أتيحت له
الفرصة.
ومن الطبيعي القول بأنه لم يكن من الجنس العربي، وإن كان من المسلم به بأنه ميال إلى قضيتهم! فإلى أين
إذن تتجه ميوله من القضية العربية، تلك الميول التي تدفعه إلى تلك القضية دفعًا؟ ثم إلى أي هدف؟ من المؤكد
أنه لم يكن يريد إجراء مذابح في سبيل إرضاء بعض الأطماع غير الجديرة بالمجازفة، وأنه يجب أن تكون
مهمة حملته التهذيب والتثقيف، وأن تربح المعارك دون أن تخوضها، وأن تصون حياة الأفراد لا أن تبددها.
ومع ذلك، فإن نظريته هذه لم تكن تساعد في إراحة الموتى من الجنود الأتراك في رقدتهم التي لا عذاب فيها.
انقضت تلك الليلة في توجيه الرسائل إلى القبائل المحّلية، لإبلاغها ما تم تحق يقه من نصر، والطلب إليها بأن
تأسر أية وحدة تركية في جوارها.
وتم كذلك إقناع أحد الضباط الأتراك، ممن وقعوا في الأسر بأن يكتب إلى ما تبقى من مفرزات تركية مرابطة
على طول الطريق إلى العقبة، بأن تستلم إذا ما أرادت أن تنقذ حياة الجنود الأتراك.
ثم توجه بالأمر لل شيخ عودة بالسير قدمًا، ولعله خشي مغبة بقاء القوات العربية مدة أطول بين هذا العدد الكبير
من جثث الأتراك.
وما إن بزغ الفجر على منطقة ابي لسان، حتى رأت القوات منظرًا غريبًا، فلم يكن كل أسير تركي يمتطي
صهوة جمل فحسب، ويسير به وراء آسره العربي، بل كان أكثر من نصف القوات العربية ترتدي الملابس
التركية فوق ملابسها، على عادة العرب في ارتداء ثياب القوات المغلوبة، علامة على انتصارها في المعركة.
هذا وقد أثمرت حكاية كتابة الرسائل إلى شيوخ القبائل المحليين وإلى القادة الأتراك، إذ استولت القبائل العربية
على أول مركز ترك ي، قبل أن يصلوا إليه، واستسلم المركز الثاني بعد مقاومة رمزية، وبعد ذلك وجدوا كل
مركز يصلون إليه مهجورًا، بعد ان ارتدت قوات العدو إلى العقبة.
وبانضمام القبائل المحلية على طول الطريق، تضاعف عدد قوات الشيخ عودة كلما وصلت إلى نقطة تستطيع
منها أن ترى هدفها.
وعلى بعد بضعة أميال من العقبة، عقد كل من عودة وناصر ولورانس مجلسًا حربيًا في منحنى الرياح فيه
أول وادي "عتم"، وكان كشافوهم قد نقلوا إليهم معلومات تفيد بأن المدينة لا تحرسها غير حامية لا يعدو أفرادها
الثلاثمائة، وحتى هؤلاء كانت تنقصهم المواد الغذائية، ومع ذلك فمن الجائز ألا يستسلم الأتراك دون قتال.
ودارت مناقشات حادة ما بين رجال القبائل . فكان بعضهم يحبذ الحذر وبعضهم الآخر يدعو إلى المغامرة،
وكانت حجة الذين يدعون إلى الحذر واهية، أما حجة أولئك الذين يدعون إلى المغامرة فكانت ترتكز على أن
معظم المواقع الدفاعية للعقبة تقع في مواجهة البحر، وأن حامية قليلة العدد لا يمكنها أن تصد هجومًا يقع عليها
من البرّ.
وفي غمرة صياح مئات الرجال الذين لم يغتسلوا فترة من الزمن، وتنضح أجسامهم بعرق الصيف، والذين
امضوا ثلاثة أسابيع تقريبًا في سير تحت حمّارة القيظ، لم يجد لورانس بدً ا من أن يفض الاجتماع معلنًا أنه
سيرسل إلى الحامية التركية رسالة، مع حامل راية هدنة، يدعوها إلى الاستسلام.
٨٨٥٥
وخلافًا للعادة العسكرية، اطلقت المدفعية التركية نيرانها على حاملي الراية البيضاء قبل أن يصلوا إلى
الخطوط التركية، ثم حاول لورانس فيما بعد إنقاذ بعض الأ سرى من الأترك، ولكن الأتراك أجابوا على هذه
المحاولة بوابل من نيرانهم.
بعدئذ قام لورانس مع اثنين من حرسه الخاص هما داود وفيصل ومجموعة من البدو، باطلاق وابل من
نيرانهم على خنادق الأعداء، حتى لقد بذل ناصر مجهودًا جبارًا لحمل القوات العربية على إيقاف إطلاق النار ثم
جرت محاولة ثالثة أعطت نتائج أكثر، فقد أفاد الأتراك ألمهم على استعداد للاستسلام في غضون يومين، إذا لم
تصلهم تعزيزات من الشمال خلال تلك الفترة.
وقد قرر لورانس وناصر وعودة قبول هذا الشرط، لأنهم كانوا يعلمون بأنه ما من مساعدات ستصل إلى العدو
خلال الم هلة المحددة، بعد أن عرفوا عن طريق أسراهم من الأتراك بأن المراكز التركية التي تم سحقها، هي
التعزيرات الوحيدة للقوات التركية في العقبة.
وهكذا، وفي السادس من شهر حزيران، وبعد شهرين من مغادرة "وجه" دخل عودة العقبة، وتولى بمساعدة
ناصر ولورانس استسلام الحامية التركية المستسلمة.
وكان لورانس قد قطع ثمانمائة ميل، بد ً لا من أن يقطع مائتين وخمسين مي ً لا في زحفه على دمشق، ولكن هذه
المسرة، رغم طولها وما تضمنته من مشاق، كانت دلي ً لا على عبقريته . وكانت العقبة قد احتلت مرتين من قبل
على أيدي قوات الحلفاء، الأولى من قبل القوا ت الفرنسية، والثانية من قبل القوات البريطانية، ولكن الاتراك
الذين كانوا يتمركزون في المشرفة على البلدة، أجبروا الغزاة في المرتين على الانسحاب بحرًا.
ولكن لورانس استطاع بمداهمته قوات الأعداء من الخلف . ومن ناحية البحر، أن يضع الأتراك في مركز
حرج لم يكونوا على استعداد لمواجهته والدفاع عن مراكزهم.
كانت أول وأكثر مشاكل لورانس إلحاحًا في العقبة، هي مشكلة الجوع.
فقد كانت التموينات الغذائية على وشك النفاد، وبالإضافة إلى سكان المدينة شبه الجياع، جاء عدد كبير من
الأعراب المتغايري البلدان وغير النظاميين ورجال القبا ئل، والأسرى الأتراك الذين كان عددهم يزيد على مائتي
أسير.
أما المدينة ذاتها فكانت في حالة من الدمار لا توصف نتيجة قصفها بمدافع البحرية الأنكلو فرنسية . ولم
يكن هناك اتصال لاسلكي لا بلاغ القاهرة بضرورة إرسال المؤن بالسرعة الممكنة.
واسقط في يد لورانس، إذ ل م يكن أمامه إ ّ لا أ، يعتلي جم ً لا ويذهب بنفسه وبأقصى سرعة إلى السويس،
ليستدعي سفينة نجدة، وتبلغ هذه المسافة مائة وخمسين مي ً لا، وعبر صحراء سيناء الخالية من المياه.
فأية مكافأة تافهة هذه التي يكافأ بها لمغامرته في شبه الجزيرة العربية، وأخيرًا لاحتلاله العقبة ! لكن لورانس
كان يعرف أن العشرين ألف جنيه التي حملها معه من "وجه" قد نفدت أثناء الرحلة، على تجهيز الحملة من
وادي سرحان، إذن فليس معه أي ذهب ليغري به رجال القبائل كي يبقوا إلى جانبه.
٨٨٦٦
وكان يعرف أنه إذا لم يتمكن من الحصول على الطعام والمال بسرعة، فإن البدو سي عودون إلى الصحراء من
حيّث أتوا، وسيتركونه دون جيش ليحمي الانتصار الذي تم ّ كن من تحقيقه بمهارة، ولن يتمكن بعد ذلك من
متابعة الزحف شما ً لا ليتم الخطة التي يريد تنفيذها.
وقبل أن يذهب لورانس، اتفق على أن يتوجه عودة إلى "الغويرة" كي يحمي المرتفعات المؤدية إلى ال عقبة،
وينشئ مراكز حراسة في "البتراء" التي تقع على بعد عشرين مي ً لا إلى الشمال من العقبة، وعند نقطتين أخريين
تشرفان على سلسلة الجبال.
واتفق كذلك على أن يتولى ناصر، مع من يتبقى من القوات في المدينة لحراستها والدفاع عنها، مراقبة
الأسرى الذين بدأوا يثورون لما يعانون من جوع.
وهكذا تحرك لورانس المتعب، برفقة ثمانية من رجال قبيلة الحويطات، إلى ما يمكن أن يسمى بأخطر
مغامرات هذا الرجل.
صحيح أن رحلته إلى سكة حديد الحجاز إلى الشمال من عمان قد تمت بسرعة ولكنه كان في تلك الأثناء
متمالكا قواه، بينما في هذه المرة، وبعد احتلال العقبة كان يعاني إجهادًا جسديًا ومعنويًا، كما كان يشعر
بضعف لقلة الغذاء، ومع ذلك فغن رغبته في الوصول إلى السويس ليبلغ المسؤولين حاجات رجاله، والى
القاهرة ليبلغ القيادة أنباء نجاحه جعلته يقطع مسافة المائة والخمسين مي ً لا في تسع وأربعين ساعة دون أ ن
يتوقف إ ّ لا مرة واحدة ليتزود بالماء.
ووصل لورانس إلى النقطة البريطانية في "شط" التي تقع في الجانب الآسيوي من القناة بمواجهة السويس،
ولكنه وجدها مهجورة.
واستطاع أن يجد هاتفًا، فاتصل بالقيادة البريطانية في السويس وطلب مركبًا ليقله عبر القناة . وأجابه ضابط
في مكتب القيادة، بأنه لا يملك صلاحية تنفيذ مثل هذا الطلب، إذ أن "شط" أخليت بسبب انتشار مرض الطاعون
فيها، وعلى هذا فإن القيادة لا تستطيع مساعدته، كما طلب منه أن يتصل بمكتب الملاحة الداخلي".
لكن المكتب اعتذر بعدم وجود مراكب لديه في الوقت الحاضر، ووعده بأن ي رى ما يمكن عمله في اليوم
التالي.
وفقد لورانس هدوءه، فقد كان شعوره بأنه بعد أن اقترب من مكان يستطيع أن يستحم فيه ويرتدي ثيابًا نظيفة
بعد أن أمضى أربعة أشهر في الصحراء يفاجأ بعدد من الضباط يرغمونه على البقاء في قرية مهجورة
وموبوءة بالطاعون . وكان هذا أكث ر مما يستطيع احتماله . وبعد مكالمتين غير مجديتين أخريين، أشفق عليه
عامل الهاتف، فأوصله بضابط مختص بالنقل البحري، الذي كان ويا لسرور لورانس وراحته صديقًا قديمًا
له في الجيش.
ومن السويس، استقل لورانس القطار إلى الإسماعيلية، حيّث رأى، فيما كان ينتظر الا تصال بالقاهرة
الأميرال "ويمس" الذي كان في طريقه إلى السويس، برفقة عدد من الضباط الذين كانوا كما يبدو من ملابسهم،
عالي الرتب.
٨٨٧٧
وكانت هذه فرصة يجب ألا يضيعها، ليتأكد من أن التموينات التي طلبها من السويس سترسل بالفعل إلى
العقبة. ولكن رؤية ومقابلة الأميرال أمران على جانب بالغ من الصعوبة بالنسبة إلى لورانس الذي كان رغم
الحمّام الذي استحمّه مؤخرًا ظل يبدو في عباءته وصندله كأي متسول عادي، على الاقل في نظر الضباط
الكبار المرافقين للأميرال "ويمس".
ولما هم بالاقتراب من الأميرال صاح به أحد الضباط قائ ً لا: "قف مكانك يا هذا!" وكان الضابط يتكلم بالعربية،
ولما اعترض لورانس على ذلك باللغة الانكليزية قائ ً لا إنه يريد أن يقابل الأميرال "ويمس" قال له ذلك الضابط :
"ومن عساك تكون؟ تّنين مصّاص دماء؟".
وأجابه لورانس وسط ضحك بقية الضباط بأنه "ضابط في جيش مكة التابع للشريف " ولك ن الضابط أجابه
ساخرًا: "جيش مكة؟ إنني لم أسمع به".
فقال له لورانس بهدوء: "ستسمع به عما قريب.."
وفي تلك الأثناء استدار "ويمس" ولمح لورانس، وتذكر على الفور ذلك الضابط الذي رفض أن يقّله على
إحدى سفنه لأنه يرتدي ثيابًا عربية، فقال: "أنت مرة أخرى"؟ ولكن لهجته لم تكن عدائية.
عندها نسي لورانس، كعادته، أن يؤدي التحية العسكرية، ومر بين الضباط الذين اعترتهم الدهشة، وراح يقص
عليه القصّة فقال الأميرال : "رائع! إذن سأرسل "دوفرين" بحملة من المؤن في الحال، على أن تعود بما لديك من
أسرى، ولا ضرورة لاستشارة اللنبي في هذا الموضوع".
ودهش لورانس وسأل: "اللنبي"… ماذا يعمل هنا؟".
فقال الأميرال: "أوه أنه يتولى القيادة الآن… لقد عاد موراي إلى إنكلترا".

خالد الحويطي
18-02-07, 01:17 AM
الفصل الرابع عشر

اللنبي يقابل لورانس

لم ينتظر لورانس طوي ً لا قبل أن يستدعى لمقابلة القائد العام الجديد . وقوبل في القاهرة بترحاب كالأبطال،
ورّقي إلى رتبة "ميجور" ورشح لنيل وسام الحمام، ووسام صليب الفرسان الفرنسي، ونسي الكولونيل كلايتون
تمسكه بالتقاليد العسكرية، وخلافًا للأوامر، وافق دون تردد على أن يرسل ذهبًا وأي شئ يريده هذا المغامر
الشاب، وبأسرع وقت ممكن إلى العقبة، كما أطلع لورانس على مجريات الأحداث في مصر.
وكان "موراي" قد أعيد إلى انكلترا بعد هجومه الثاني على غزّة الذي لم يوفق فيه، وبخسارة بلغ عدد
الإصابات فيها ستة آلاف ما بين قتيل وجريح . ولكن بوجود اللنبي انبثق أمل جديد، إذ أنه تلقى إمدادات كثيرة
من الرجال والعتاد وكان اللنبي جنديًا متمرسًا ويؤمن بالحرب المتحركة، وقال له "كلايتون" إنه يعتقد بأن اللنبي
سيتبع خطة جديدة في الحرب ضد الأتراك. وسيكون قائدًا عامًا أكثر تعاونًا مع العرب من سلفه "موراي".
ومن المؤكد أن لورانس لم يغضب لأول صدام له مع اللنبي، فقد دخل إلى غرفته مرتديًا ملا بسه العربية،
وراح يعامل القائد العام، كما لو أنه يعامل صديقًا له، بل دعاءه ليتناول معه كأسًا.
٨٨٨٨
ومن الجائز أن يكون أغرب ضابط استقبله الجنرال في حياته . وقد وصف لورانس هذه المقابلة وصفًا حيًا
فقال:
"كانت مقابلة مضحكة …. فقد كان اللنبي ضخم الجّثة، وواثقًا من نفسه، مرتفع المعنويات إلى درجة أنه لم يكن
ليفهم من كانوا صغارًا مثلنا إ ّ لا بصعوبة … وكان يجلس في مقعده يتطلع إليّ… ولكن ليس مباشرة، بل من
طرف عينه، خلافًا لعادته … ولم يكن مستعدًا لمواجهة غريب مثلي… رجل ينتعل صند ً لا ويرتدي عباءة
ويعرض عليه أن يدمّر عدوّه عن طرق تبشيره، واذا أعطي مؤنًا وأسلحة ومبلغ مائتي ألف جنيه، ليقنع بها
اتباعه، ولم يستطع اللنبي أن يقدّر كم في عرضي هذا من العبقرية، ولا كم فيه من التدجيل، فقد رأيت المشكلة
تبرق في عينيه، وتركته دون أن يكون لدي أمل في أن يحلها … وقبل أن أغادر الغرفة، رفع يده عن ذقنه وقال
بهدوء: "حسنًا، سأفعل من أجلك كل ما استطيع فعله". وهكذا انتهت المقابلة.
وقد علق لورانس على ما قاله له الجنرال اللنبي بقوله، "ان ما وعدني به يكفي لإشباع أطماع رجالي".
وهذه القصة مغربية بحد ذاتها، ليس لأنها أول صدام بين هذين الرجلين اللذين قدر له ما أن يلعبا دورًا رئيسيا
في القضاء على الدولة العثمانية فحسب، ولا لأنها تظهر بكل جلاء ووضوح طبائع اللنبي، بل إنها مغرية لأنها
تكشف عن خفايا أخلاق لورانس نفسه.
"كم في قوله من العبقرية وكم فيه من التدجل؟ " وربما لم يستطيع لورانس أن يساعد الجنرال اللنبي على
الوصول إلى الحقيقة، لأنه نفسه لم يكن يعرف الجواب على ذلك السؤال.
ومن المؤكد أنه سأل نفسه هذا السؤال في ذلك الوقت لأنه وفقا لمذكراته كان يصاب بخيبة أمل
مستمرة، لما علمه من النيات الحقيقية الكامنة وراء اتفاقية "سايكس بيكو".
ومع ذلك، فإن الحقيقة الملمو سة تشير إلى أنه لم يكن هناك من سبب يدعو لورانس بشكل جدي للتخلي عن
المهمة التي كرّس نفسه لها، في تلك المرحلة بالذات، بل كانت كل الأسباب تدعوه إلى الاستمرار فيها . ويقول
لورانس: "لو لم أكن مجنونا لاستطعت أن أتبين، أنه إذا ربحنا الحرب، فلن تكون الوعود التي بذل ناها إ ّ لا حبرًا
على ورق، ولو أنني كنت مستشارً شريفًا لسرحت رجالي، ولما تركتهم يعرضون حياتهم للخطر من أجل هذه
المغامرة، ولكن الإيحاء العربي كان أداتنا الوحيدة لكسب الحرب، ولذا أكدت لهم بأن إنكلترا تحافظ على كلمتها
قو ً لا وعم ً لا… ولكن، وبطبيعة الحال.. كنت على الدوام متألما وخج ً لا من هذا التأكيد".
ولم يؤكد لورانس للعرب عندما تناهضت إلى مسامعهم شائعات الخيانة حسن ظن بريطانيا، بل ذهب
إلى القاهرة، ليضع الخطة التالية للحملة العربية، واقترح على "كلايتون" بأن احتلاله للعقبة، قد منحه الحق في
التصرف كما يريد، في تنفيذ مهمته، بوصفه ضابط ارتباط مع القيادة العربية.
مستق ً لا عن أوامر رؤسائه من البريطانيين، مثل "جويس" و"نيوكامب". والأهم من ذلك أنه اقتراح أن يصبح
جيش فيصل الجناح الأيمن لجيش اللنبي، وأن يكون خاضعا للقيادة البريطانية، واستنادًا إلى هذا، كان على
فيصل أن يفص ل من قيادة الشريف، وأن ينقل مقر قيادته من "وجه" التي أصبحت مركزًا خلفيا لتموين العقبة
بالمياه، والتي كانت ستعتبر مركز التموين في الحملة قدمًا نحو سوريا.
٨٨٩٩
واذا ما استثنينا تعيين "جويس" قائدًا للعقبة، فإن جميع الطلبات التي تقدم بها لورانس قد أجيبت سواء من
الجنرال اللنبي أو من اركان حربه.
فكيف أمكن لرجل مثل لورانس، متورط في الحركة العربية، ومعروف من الشعوب العربية، أن يمضي قدما
بقلب خلي رغم إطلاعه على الحقائق، وتأكده من أن الحلفاء لن يفوا بوعودهم، دون أن "يسّرح رجاله " ودون أن
يجنبهم "المخاطرة بأرواحهم لمثل هذه المغامرة"؟.
ربما شعر ذلك العبقري، بأنه بغض النظر عمن سيموت، يظل عليه هو أن يحقق مهمته، وأنه بعد احتلال
العقبة، "أصبح العرب في مركز يمكنهم ليس من مجرد مشاركة البريطانيين الحرب، بل وتحقيق النصر معهم
لتأكيد حقوقهم وتحقيق الوعود التي بذلت لهم، غير أن "المخادع" رأى أن في الحماسة العربية اداة الرئيسية،
لتحقيق اطماعه الشخصية في أن يكون القوة التي تقف وراء عرش إمبراطورية عربية جديدة.
ولقد كان رد الفعل عند لورانس، شأنه في ذلك شأن كثير من الرجال الذين سجلت اسماؤهم في صفحات
التاريخ، عندما ووجه بمثل هذا التحدي المعنوي وهذه الفرصة المادية كان قويًا جدًا.
فهل كان نادر المثال؟ إن ذلك ما يزال موضع جدال، كلما ثار النقاش حوله، ولم يستطع أحد أن يستخلص
حتى الآن أية ناحية من طبيعته كانت نتغّلب على الأخرى.
وإنه لمن الإنصاف القول بأن الخيانة والدسيسة، لم تكن وقفًا على الحلف اء في ذلك الوقت، إذ بينما كان
لورانس في جدة، ليحصل على موافقة حسين على إلحاق جيش فيصل بالقيادة البريطانية، تناهت إليه معلومات
أكيدة، وصلته من القاهرة تفيد بأن عودة كان يراسل الأتراك عارضا عليهم طرد الانكليز، فأسرع إلى "الغويرة "
وواجه زعيم قبيلة الحويطات هذا.
ولم يكن بمقدور أحد غير لورانس أن يعالج هذا الأمر بمثل هذه المهارة وذلك التفهم، ومن الجائز لو أن
ضابطا غيره عالج الأمر، أن يحتدم غيظه، وربما ثار في وجه عودة لما بدر منه مما اعتبره لورانس انقلابًا.
ولكن لورانس كان مطلعًا على طبيعة التفكير العربي، ذلك ال تفكير الذي يبيح للعربي أن يعتد برأيه ويدافع عن
كرامته.
وعلى كل، فقد انتهت المعركة بحفلة، كان خلالها عودة، بوجهه الذي كان يقطر سمنًا ودهنًا من خروف ذبح
خصيصًا للمناسبة، منشرح الصدر، وراح يروي تلك القصة التي أحسن حياكتها عن الحيلة التي اتبعها مع
الأتراك في "أبي لسان". وقد قال:
"لقد اخترقت عباءتي ست عشرة رصاصة، وصرع اثنان من بغالي تحتي…"
فأجابه لورانس ممازحً ا: "لكنك قلت في المرة الأخيرة إن عدد الرصاصات كان ستًا وعشرين وعدد البغال
الصرعى ثلاثة".
وضحك الجميع من مزاح لورانس . ثم توجه لورانس إلى العقبة ليتصل هاتفيًا بالقاهرة ليبلغ "كلايتون " أن كل
شئ على ما يرام في "الغويرة" وأنه ليس هناك شئ ما يبعث على الريبة.
٩٩٠٠
وكان لورانس يعرف أنه بذلك يخدع قادته، ولكنه شعر بأن من الضروري أن يبقيهم على ثقة من الموقف،
فهم لن يفهموا الدافع الذي حدا بالشيخ عودة للإتصال بالأتراك، ومن المصلحة بالنسبة لهم، أن تخفى الحقيقة
عنهم.

خالد الحويطي
18-02-07, 01:19 AM
الفصل الخامس عشر

"قصف السكة الحديدية"

انهى احتلال العقبة حرب الحجاز، وكانت المهمة التالية هي جعل هذا الميناء المهم الواقع على البحر الأحمر،
قاعدة فعّالة وامينة، للانطلاق منها شما ً لا، بما يتفق وخطة اللنبي الرا مية إلى القيام بهجوم عام على طول جبهة
. الحلفاء الداخلية قبل نهاية عام ١٩١٧
ولذلك أصبحت العقبة مركزًا لنشاط مستعر . ووصل جيش فيصل من "وجه" في قافلة سبل المواصلات كما
حضرت سيارات مصّفحة من السويس، وقوات مصرية وجزائرية، وضباط بريطانيون وفرنسيون، ومعهم
المدافع والبنادق، والبنادق السريعة الطلقات والمتفجرات السديدة، والاسلحة الصغيرة والذخيرة، حتى كادت
الأرض تميد تحت ثقل الأقدام وصناديق الأسلحة التي تراكمت حتى غدت بعلو التلال.
ولقد انشئ مطار، وشقت طرقات للإسراع في المواصلات بين الميناء ومركزه الدفاعي خلف التلال،
والمراكز الدفاعية الأخرى في الغويرة والبتراء، وكانت هذه المراكز قد عززت بكميات ضخمة من الأسلحة،
بما فيها المدافع والبنادق السريعة الطلقات، وأصبحت العقبة بعد ستة أسابيع فقط على احتلالها قلعة حصينة.
غير أن الحلفاء لم يكونوا وحدهم في نشاطهم واستعداداتهم، إذ أن الأتراك بعد هزيمتهم الأخيرة، أخذوا
يستعدون لاسترجاع العقبة، وكان ذلك مهما لسببين : الاول إعلام العرب من هم سادة شبه الجزيرة العربية،
وبالتالي عدم تشجيع قبائل الشمال على الانضمام إلى قوات الشريف.
والثاني منع الحلفاء من استخدام هذه القاعدة المهمة، في القيام بهجوم على القدس وسوريا وهو الهجوم
الذي كان الأتراك يعلمون بأن اللنبي يزمع القيام به.
وما إن انتصف شهر آب حتى كان الأتراك قد عززوا حاميتهم في معان بستة آلاف جندي من المشاة وفرقة
من الخيالة فرقة من الآليات، وفصيلة من الطائرات المزودة بالقنابل، وأرسل الأ تراك فرقتين من المشاة إلى
"أبي لسان" التي تركها العرب دون حراسة.
وعلى الرغم من أن العدو كان يتكبد خسائر فادحة من جر اء غارات العرب على دورياته ووسائل مواصلاته،
إ ّ لا أنه لم يتزحزح، بل على العكس راح يدعم قواته، بما يبدو أنه استعداد للقيام بهجوم كبير عن طريق العكس
راح يدعم قواته، بما يبدو أنه استعداد للقيام بهجوم كبير عن طريق المسالك الجبلية ذاتها التي استخدمها العرب
في احتلالهم العقبة.
وقرّر لورانس أن اللحظة قد حانت لتفريق هذا التجمع المخيف، وطلب إلى اللنبي إرسال طائرات لتقوم
بالمهمة.
٩٩١١
فأرسل على الفور سربًا من قاذفات القنابل الصغيرة ليؤدي المهمة من المطار الجديد الذي أنشئ في العقبة،
وكان هذا السرب بقيادة الكابتن "ستت" وكان هو والطيارون الآخرون يشكّلون عصبة من الشياطين الجريئة،
ومن الخبيرين بالقاء القنابل من علو بسيط والمتمرسين في فن الهبوط الاضطراري في الصحراء.
وقد بدأوا غاراتهم على معان، حيّث القوا اثنتين وثلاثين قنبلة على محطة السكة الحديد، والثكنات، والمطار،
ولم يتركوا من شرّهم كما يدعي لورانس حتى ولا مطبخ الجنرال التركي، حيّث أتوا على "افطاره "
وانزلوا خسائر فادحة في أطواب العدو . وفي اليوم التالي أغاروا مرّتين على التجمعات التركية في "أبي لسان "
وهبطوا حتى كادوا يلامسون الأرض، وشتتوا الرجال والخيول، ودمروا المدافع، وأحدثوا خرابًا هائ ً لا.
وبعد أن أفاق الأتراك من صدمة هذه الغارات قرروا القيام بهجوم قبل أن تلحق بهم خسائر أخرى تضعف
معنويات جنودهم وتضيع ما تبقى لديهم من معدات.
ومن الغريب أنهم اختاروا هدفًا لهجومهم مدينة البتراء التي تحرسها سلاسل من الصخور، والتي تشكل
ممرات ضيّقة لا تتسع لجملين في آن واحد، فهي والحالة هذه قلعة حصينة، إذا ما أحسن الدفاع عنها.
وقد رأى لورانس أن يرسل إلى هناك الشيخ مولود على رأس قوة من مائتي جندي مزودين ببنادق سريعة
الطلقات. وقد خسر الأتراك فرقة كاملة في هجومهم هذا، وأجبروا على التقهقر، دون أن يصيبوا أحدًا من
المدافعين عن المدينة الأثرية، الذين كانوا يختفون عن العيان بين الصخور الحمراء العالية المشرفة على الممر
المشهور، بحيث أصبح مصيدة موت للقوات الغازية.
وهكذا أوقف تهديد العدو للعقبة، غير أن لورانس رأس أن إنزال ضربة أخرى بالعدو، ستقضي على ت جمعاته
نهائيا.
وواضح أن يكون خط سكة حديد الحجاز هدفًا للضربة التالية، ولكن … أين بالضبط يجب إنزال هذه الضربة،
كيما تحقق أقصى ما يمكن من دمار؟ وبدا أن شمالي معان، يجب أن تكون نقطة الاختيار الطبيعية، وذلك
لضعضعة تجمعات الأتراك، ومنع وصول المزيد من القوات إليهم من دمشق وحلب.
غير أن لورانس ووجه هنا بصعوبات، فقد كان في المرة السابقة عندما أغار ونسف الخط الحديدي شمالي
عمان، أثناء الزحف من وادي سرحان، معتمدًا على رجال عودة الذين كانوا قريبين منه، وعلى القبائل المحّلية
التي كانت الدعاية قد فعلت فعّلها بينهم، فأصبح من الممكن الاعتماد على هذه القبائل، وأن تسمح للقوات المغيرة
بالتسلل عبر أراضيها.
غير أن التقارير الأخيرة كانت تدّل على أن تأثير تلك الدعاية قد زال، وأن الأتراك قد انتهزوا الفرصة فأخذوا
يقومون بدعاية معاكسة، قائلين ان فيصل قد باع نفسه للإنكليز الكفرة، وأن ه لم يعد سوى أداة طيّعة في أيدي
الاستعماريين الإنكليز والفرنسيين.
وكان الأتراك انفسهم قد نشروا معاهدة "سايكس بيكو " وكانوا يستعملون معلوماتهم إلى حد ما وكنتيجة لذلك
رفض قسم من قوات الشريف، كان في طريقه لتعزيز قوات فيصل، مغادرة الحجاز.
كما أن مجلس الشريف لم يكن ملمًا بتكتيك العدو، خاصة وأنه كان يتبع طرقًا ملتوية، مستعينًا بالدين، كما أن
الانشقاق الذي حصل في نهاية الحرب بين فيصل ووالده واخوته،ربما كان قد بدأ في ذلك الوقت بالذات.
٩٩٢٢
ولكي يهاجم خط السكة الحديدية من الشمال، دون مساعدة محلية، فإن الأمر يحتاج إلى قوة أكبر من تلك التي
كان لورانس يعتقد بأنها ضرورية، وهو لا يستطيع أن يخلي قاعدة العقبة من أجل القيام بهجوم على السكة
الحديدية، مهما كان ذلك الهجوم مهمًا.
وعلى هذا فقد قرّر أن يقتنع بشن هجوم على محطة المدوّرة التي تبعد حوالي ثمانين مي ً لا إلى الشرق من
العقبة، وهي هدف مهم، لأنها كانت مصدر المياه الوحيد عبر عدة مئات الأميال من امتداد الخط الحديدي عبر
الصحراء.
وقد اختار للقيام بهذا الهجوم جاويشين، أحدهما استرالي والثاني بريطاني، كان يناديهما "لويس " و"ستوكس "،
وبعد أن زوّدهما بمدافع المورتر والبنادق السريعة الط لقات، طلب إلى أحد الشيوخ من قوات فيصل يدعى "عيد "
بأن يصطحب معه عددًا من الجنود والجمال لنقل المتفجرات ومرافقة الجاويشين.
أما بصدد الحراسة فقد اعتمد على أفراد من قبيلة الحويطات اختارهم من "الغويرة" وهو في طريقة لإعداد
ترتيبات الهجوم.
والطريق إلى "المدوّرة" يمر عبر وادي "رم" وهو واد طويل فسيح، تحيط به صخور عالية حمراء، يبلغ
ارتفاعها ألف قدم أو أكثر . وقد وصف لورانس مروره بتلك الطريق الرائعة، والمنطقة الصخرية التي تحيط بها
بهذه الكلمات:
"أصبح ارتقاؤنا للطريق رفيقًا، حتى أصبح الوادي عبارة عن سهل مترامي الأطرا ف، أما التلال التي كانت
ترتفع تجاهنا فكانت حادة، يقابلها من الطرف الآخر سلسلة أخرى لا تقل عن الأولى ارتفاعًا، وجميع صخورها
حمراء اللون حتى لكأنها جبل اكتسى بالزنبق.
ولم تكن هذه الجدران الصخرية جدرانًا غير منفتحة إطلاقًا، ولكنها شيّدت بطريقة عفوية، شاءت ا لطبيعة أن
تجعلها أشبه ما تكون ببيوت الجن، وكانت تمتد على جانبي الطريق، وبشكل مستقيم …. وكانت الصخور متوّجه
بأعشاش من الأزهار تبدو كالقباب، ولا تقل حمرة عن لون الصخور ذاتها، وان كانت تبدو في بعض
الأماكن مصفرة بعض الاصفرار، فكان المنظر بحد ذاته يوحي للناظر بفكرة عن جمال الطبيعة، التي كانت
تبدو هناك وكأن فنانًا بيزنطيًا قد أبدع خلقها، بشكل لا يتصوره العقل.
والوادي فسيح مترامي الأطراف حتى ليمكن القول بأن الجيش العربي لو سار على غير هدى لضاع في
أرجائه، حتى إذا ما وصل إلى الممرّ المحاط بالصخور، فإن سربًا من الط يارات كان يكفي لإبادته مهما كان
كبير العدد.
وقد ازدادت قافلتنا الصغيرة وثوقًا بنفسها، وسيطر عليها هدوء غريب، رغم الخوف الذي كان يداخل نفوس
أفرادها الذين، لاح لي أنهم، خجلوا من إظهار فرقهم بين تلك التلال الصمّاء".
ولم يمض طويل وقت حتى لفت انتباه لورانس، إ لى أمر أصابه بهزة شديدة… فقد أصيب الشيخ عيد بالعمى
نتيجة للحرارة والغبار ولمعان النور، ولما خشي لورانس أن يصطحبه معه ليشترك في الغارة، فقد قرّر أن
يرسله مع بعض الجنود ليبقى في مضارب بعض البدو الذين يقطنون إلى الجنوب من "رم".
٩٩٣٣
وكانت حرارة شمس أيلول قد انهكت قوى بعض الجمال، وأصبح لزامًا عليه الحصول على جمال أخرى لنقل
المتفجرات.
ولكن القبائل البدوية التي وجدوها كانت من القبائل المستاءة جدًا من "عودة" والتي ساورها الشك في مجرد
ايوائه بينها.
وكان لورانس قد اضطر مؤخرًا إلى إخماد ثورة بدائية قامت بها جماعة من قب يلة الحويطات، في "الغويرة "
مؤلفة من عدد من الشيوخ، هددوا بالانفصال عن عودة إ ّ لا إذا أعطاهم نصيبهم من الذهب الذي أخذه من
الإنكليز.
كذلك كانت القبائل البدوية في "رم" لا تقل عنادًا عن شيوخ قبيلة الحويطات… ولذلك فقد أمضى لورانس ليلة
متعبة، بعد نقاش طويل مرير جرى في طقس بلغت درجة حرارته في الظل ١٢٠ درجة، فض ً لا عن أن الظل
كان "عبارة عن حصار من أسراب الذباب".
وفي اليوم التالي وصل ابن شقيق عودة، المدعو زعل، ليلتحق، بقوات لورانس . وبعد تمثيل دور ماهر في
تفريق القبائل بعضها عن بعض، تمكن لورانس من انتزاع وعد من القبا ئل بتأييدها شريطة أن يبعث فيصل
ممث ً لا يؤمن لها استقلالها عن عودة.
وقد تم تنفيذ ذلك، وإن كان تنفيذه أرغم المسكين لورانس على العودة إلى العقبة، ليطلب إلى الأمير فيصل أن
يرسل معه مبعوثًا إلى قبائل "رم".
وفي السادس عشر من شهر أيلول، توجه رجال القبائل والمغير ون معًا، نحو "المدوّرة"، غير أن تلك القوة
كانت قوة غير متماسكة، وقد اندفعت من "رم" يحدوها الطمع بالنهب أكثر من أي حافز آخر.
وقد اشتبك زعل، ومبعوث الأمير فيصل، وكان يدعى "الشيخ عبد الله" في مناقشة حادة مع أفراد القبائل، غير
أنهما فشلا في إقناعهم إقناعًا تامًا.
ولولا دبلوماسية لورانس التي استعملها خلال الأيام الأولى من الزحف، لما أمكن ايجاد نوع من التجانس بين
أفراد القوّة، وخاصة عندما ضربوا خيامهم في تلك الليلة، بعد أن أصبحوا على مرمى البصر من الهدف الذي
يقصدون إليه.
وقد أفادت فرقة استطلاع أرسلت بعد حلول ا لظلام، أن المحطة محروسة بشكل يزيد كثيرًا على ما كان
يتوقعه العرب، وأنهم بما معهم من قوات قليلة سيبدون أقل عددًا، وبشكل هائل، من الأتراك الذين يرابطون في
المحطة.
ولذلك قرر لورانس أن يتجاهل المحطة بالذات، على أن يجد مكانًا ما على الخط الحديدي لوضع لغم تحته
ونسف أول قطار يأتي من أي اتجاه.
وقد ساعدهم الحظ في العثور على جسر للسكة الحديدية، يمكنهم أن يضعوا تحته اللغم بحيث يحدث أقصى ما
يمكن من دمار، وحيث يشكل مخبئًا رائعًا للهجوم على الأتراك، بعد أن يتبعثروا، إثر نسف القطار.
ثم إنه تولى لورانس وضع المتفجرات، بي نما تولى "لويس" و"ستوكس" نصب المدافع السريعة الطلقات ومدافع
المورتر على أطراف الصخور التي تشرف على الطريق.
٩٩٤٤
وحوالي الظهر، من اليوم التالي، صاح أحد رجال الحرس من مركز حراسته الواقع في أعلى قيادة لورانس،
مبلغًا إياه أن ثمة قطارًا يقترب، فأمر لورانس كل رجل با ستلام مركزه، وانتظر حتى وصلت القاطرة فوق
الجسر مباشرة، قبل أن يوعز إلى "سالم"، أخلص عبيد فيصل، الذي أولك إليه شرف ضغط زر التفجير.
ودوى إثر ذلك انفجار . ولم يعد القطار ولا الخط الحديدي يريان، بعد أن غطتهما سحابة كثيفة من الدخان
والغبار الأسود. ثم تبع ذلك صوت ارتطام الحديد بالحديد وقرقعة اخشاب العربات.
ثم اعقب ذلك لحظة صمت مروعة، بعدها أطلقت الشياطين من عقالها . إذ أن البنادق السريعة الطلقات التي
كانت مع فوات لورانس بدأت تلعلع، وراح البدو يطلقون النار بفرح غامر متخذين من القطار المسكين هدفًا
لنيرانهم، بينما كان الأتراك يتدفقون إلى أسفل بالسرعة التي قذفوا بها من عربات القطار.
ثم الأتراك يتدفقون إلى أسفل بالسرعة التي قذفوا بها من عربات القطار.
ثم تمكن "لويس" بقذيفتين من مدافعه المورتر، أن يسكت آخر مقاومة لمن نجا من الأتراك، وكان بعضهم قد
حاول القيام بهجوم مضاد من وراء الصخور.
أما الذين نجوا من قذيفتي المورتر، فقد عمدوا إلى الفرار، وانقض البدو على القطار واعملوا فيه يد النهب
والسلب، حتى أنهم لم يتركوه إ ّ لا وقد أصبح بددًا مبعثرًا هنا وهناك. وقد كتب لورانس يقول:
"كان الوادي غريب المنظر، أما الأعراب فقد جّنوا سرو رًا، وراحوا يتراكضون في أرجائه بأقصى سرعة
لديهم، حاسري الرؤوس . شبه عراة، يصيحون في الهواء ويضرب بعضهم بعضًا بالأيدي والأرجل، بينما هم
يغيرون على عربات القطار، ويعودون محملين "بالبالات" الثقيلة التي كانوا يكوّمونها على جانب خط السكة
الحديدية، ويقذفون بكل شئ لا يرون فيه منفعة لهم … كانت هنالك آلاف السجاجيد والفرش والبطانيات حتى لقد
كانت ترى اكوامًا عالية، وملابس للرجال والنساء على حد سواء ومن مختلف القياسات، وساعات وأدوات
طهو، ومواد غذائية، وحلي، وأسلحة، وقد حمل كل منهم أقرب جمل إليه بكل ما وقعت عليه يده ثم قا د الجمل
نحو الغرب، ليأخذ ما تقع عليه يداه. وكنت أنا أشجعهم على ذلك".
ومرة أخرى كما حدث في أبي لسان عندما أباد العرب الأتراك، ونهبوا مخلفاتهم، أدار لورانس ظهره
لما يجري، ثم سار إلى حيّث سقط آخر المدافعين الأتراك، وراح يضع الخطط لإعادة تنظيم قوّاته.
وكما ثارت الضجّة فجأة، هدأت فجأة كذلك، وخيّم صمت عميق على الوادي، وتطلع لورانس حوله ليجد انه
وزعل، واثنين برتبة جاويش، وحدهم مع عدد من الأسرى الذين نجوا من المعركة.
أما البدو فقد اختفوا في الصحراء بما حصلوا عليه من غنائم، وفيما كانوا يغ ّذون السير عائدين إلى العقبة،
لاحقتهم دورية تركية قدمت من "المدورة" لتتعقب المهاجمين، ولكنهم نجوا منها بأعجوبة.
ولما عاد لورانس إلى معسكر قوات فيصل لم يكن يعرف بين البدو بالرجل القادر على جلب الذهب والأسلحة
بكميات لا حصر لها لقوات الشريف، بل كقائد غارة وقرصان صحراء، وزعيم عصا بات لا تعرف للحزن
معنى، وكرجل كان مجرد ظهوره في معسكر عربي يقابل بصيحات الترحاب والفرح "لورانس ….
لورانس….".
٩٩٥٥
وكذلك كان منظر جنوده من البدو وهم عائدون مع جمالهم التي كانت لا تكاد تقوى على السير لثقل أحمالها
من الغنائم، التي كانت تفكي لإثراء قبيلة بأسرها، وقد أثار هذا حسد بقية قوات جيش فيصل.
ثم انه انتشرت أخبار نسف جسر "المدورة" والاستيلاء على الغنائم من القوات التركية انتشار النار في الهشيم،
ووصلت إلى مختلف انحاء الصحراء، وإن كان تلك الأخبار لم تنقل على الدوام بشكل دقيق.
وهنا بدأت ألسنة نيران الثورة تندلع من جديد، بعد أن خبت إثر احتلال العقبة، كما أن اولئك الذين لم يمتثلوا
لرسالة فيصل، قد تأثروا جدًا للقصص التي تروى عن مغامرات قواته، تلك القصص الغريبة التي كانت تنشر
من معسكر فيصل بالذات.
وأدرك لورانس أهمية هذا المصدر الجديد من مصادر التشجيع، فقرّر القيام ب غارات جديدة على خط سكة
حديد الحجاز . ولما كان قد مل مساومات القبائل البدوية في الشمال، فقد حوّل نشاطه إلى قطاع معان، وتمكن
خلال الأشهر الأربعة التي تلت من أن يدمر سبع عشرة قاطرة ومئات من العربات والشاحنات.
وكانت تلك ضربة قوية للأتراك، إذ أنها أثرت عليهم ما ديًا ومعنويًا، فأعلن سائقو القطارات الإضراب،
وتوقفت المواصلات المدّنية بين دمشق والحجاز، أو كادت تتوقف، وأصبح السفر خطرًا غير مأمون العواقب
للأعداء.
وبات من جراء خسارة العدو لمخزونه من المؤن والمعدات، صعبًا عليه أن ينقل قواته في المدينة لدعم قواته
في فلسط ين، وراح يجمّع فلوله حول القدس، في الوقت الذي أصبحت فيه الجيوش البريطانية آخذة في التجمع
للقيام بهجومها العام الذي أصبحت فيه الجيوش البريطانية آخذة في التجمع للقيام بهجومها العام الذي جرى في
شهر تشرين الثاني.
وهكذا ما إن وصلته في منتصف شهر تشرين الأول أنب اء تفيد بأن اللنبي يريد أن يدرس دور الجيش العربية
في خطة الهجوم على غزّة، حتى أسرع لورانس إلى مقر القيادة العامة، يكاد يطير فخرًا لما حققه من منجزات.

خالد الحويطي
18-02-07, 01:19 AM
الفصل السادس عشر

شمالا نحو الازرق

مرة أخرى دخل لورانس إلى مكتب الجنرال اللنبي، مرحًا كطائر السنونو، وهو يرفل في ثيابه العربية.
ولكن الجنرال اللنبي لم يكن في هذه المرة في حالة تسمح له بأن يدع زائره يضيع الوقت سدى، فقد كان لدى
القائد العام من الأعمال الجدّية الشئ الكثير، واستنادًا إلى ذلك فإن أوقاته كانت محددة بكل دقة.
ولذلك فقد طرق الموضوع مباشرة، وسأل لور انس عما قصد بغاراته على خط السكة الحديدية، وما إذا كانت
هذه الغارات تعني أشياء أخرى غير الدعاية لقضية فيصل.
وقد فجرت هذه الاسئلة غير المتوقعة كبرياء لورانس، فدفعته إلى ان يجيب بشكل مباشر أن غرضه كان إبقاء
خط الحجاز عاجزًا عن العمل بحيث تبقى قوات "فخري" في المدينة حيّث "يمكن إطعامها بتكاليف أقلّ مما لو
سجنت في القاهرة".
٩٩٦٦
ولكن هذا الجواب لم يعجب اللنبي الذي كان يفكر في أسباب أفضل … فقد كان يريد خطة لثورة عربية عارمة
جامعة في الشمال، عندما يشن هجومه على خط غزة بئر السبع.
وتلقى لورانس هذا الاقتراح بقليل من ا لأهمية، فقد كان يعرف ان من الجائز أن يستولي على "درعا" التي تقع
بين دمشق وعمان، وذلك بمساعدة القبائل البدوية المحّلية . وكانت درعا، كما صوّرها هو، "القاعدة الرئيسية
للقوات التركية في سوريا".
ونظرًا لأنها نقطة الاتصال بين الخطوط الحديدية المؤدية إلى القدس و حيفا ودمشق والمدينة، فهي والحالة هذه
النقطة الحساسة بالنسبة لكل جبهة.
كما أن لورانس كان يعرف أن القبائل في تلك المنطقة، كانت تعتبر من خيرة المحاربين، وممن تثقفوا
وتسلحوا من قبل فيصل اثناء وجودها في العقبة، والشئ الأهم من ذلك أن زعماء تلك القبائل كانوا يلحّ ون على
فيصل ليأمرهم باحتلال درعا.
ومع ذلك فقد تردد لورانس، وبعد فترة من التفكير رفض مقترحات اللنبي . وكان السبب الذي شرحه فيما بعد
معل ً لا به هذا الرفض، هو شعوره بأنه لم يكن بمقدوره أن يتأكد من نية الجيش البريطاني وقيادته "غير المدربة "
في القيام بهجوم ناجح على غرة، وأنه طالما كانت القبائل مستعدة للثورة مرة، فإنها تتطلب منهم القيام بمخاطرة
كبيرة جدًا.
والحقيقة أن السبب الأصح، كما شرح ذلك هو نفسه، "هو أنه اعتبر القيام بهذه المغامرة" بمثابة دمار محقق
لمشاريع اللنبي، وليست بالمخاطرة التي قبل فيصل القيام بها إ ّ لا إذا كان لديه الأمل في أن يركز نفسه هناك".
ولم يكن لورانس يريد أن يحتل درعا أحد غير فيصل، فقد كان فيصل، هو مرشحه لاعتلاء عرش سوريا
ولتحقيق أحلامه في العالم العربي.
وقد علق لورانس على زيارته لمقر القيادة العامة، بأنه شعر بنفسه يكاد يتمزق بين سيديه، فيصل واللنبي،
وقال: إن هذا الشعور لم يكن قد انتابه لأول مرة.
غير أنه كان من الواضح أن لورانس كان يسعى منذ عدة أشهر لتفادي الاصطدام مع الأمير، وأنه على
استعداد للتضحية بمصالحه في سبيل ارجاح كفة أي شخص آخر على كفة فيصل.
والحقيقة التي لا مراء فيها هي أن مصالح ف يصل كانت تتفق ومصالح الحلفاء، وكان من حسن حظه أن يقود
الحملة ضد الأتراك، ولكنه ليس هنالك أدنى شك في أن لورانس لن يتردد بأي شكل من الأشكال في التضحية
بالربح الأكبر، الذي قد يحققه، بتنفيذ مطالب الملك البريطاني الذي اختاره هو ولعله كان يبرر موقفه هذا
بسبب ما لأنه كان يعلم أن الحلفاء سيضحون بفيصل، حالما تنتهي خدماته لهم.
وقد اقترح لورانس كحل وسط، ومن أجل إبقاء اللنبي مخلصًا لقضية العرب، أن يقود بنفسه جماعة من
الفدائيين لنسف جسر للسكة الحديدية على نهر اليرموك، بين درعا وبحيرة طبريا.
ومن الطبيعي أن يحتاج تن فيذ هذه الخطة إلى قطع مسافة تزيد على أربعمائة ميل، وراء خطوط الأتراك،
ولكن، إذا أمكن نسف الجسر، فإن وسيلة المواصلات الوحيدة للأتراك بين قواعدهم في الشمال وفلسطين،
ستع ّ طل، ولمدة أشهر، إذ أن تخريب الجسر سيحدث فجوة عريضة لا يمكن إعادة إصلاحها إ ّ لا بصعوبة بالغة.
٩٩٧٧
وقبل اللنبي الاقتراح، وأوعز إلى لورانس بأن ينفذه بأسرع وقت ممكن، إذ أنه يريد للجسر أن ينسف بعد أيام
قلائل من هجومه العام الذي كان يعتزم القيام به في الأسبوع الاول من شهر تشرين الثاني.
وهكذا اتخذت التدابير اللازمة للغارة بسرعة، ووافق فيصل على إيفاد علي بن الحسين محل الشريف ناصر
الذي لم يكن موجودًا وقتذاك، وعين أحد شيوخ قبيلة حارث يدعى عليًا، كان قد اشترك مع فيصل في الأسر في
دمشق، نظرًا لخبرته الواسعة في أعمال النسف والتدمير.
وكان الشيخ علي معروفًا بشجاعته وحبه لركوب الأخطار، وكان قد حقق للقوات العربية عدة انتصارات على
الاتراك، كما أنه كان يستطيع النهوض وهو راكع، رغم أن رجلين يقفان على كفتي يديه، ثم يركض وراء جمل
شارد مسافة نصف ميل، ثم يقفز فجأة إلى الهودج.
فهو والحالة هذه الرجل المناسب لمغامرة اليرموك الخطرة . وفض ً لا عن ذلك كان قريبًا إلى زعيم قبيلة بني
صخر التي يتم على المغيرين أن يمروا عبر أراضيها.
وكانت خطة لورانس تقضي بالتوجه إلى الأزرق التي تبعد مسافة مائتين وخمسين مي ً لا إلى الشمال الشرقي
من العقبة، لكي ينشئ قاعدة له هناك يشن منها هجومه على الجسر، حالما يتأكد من حصوله على التأييد الكافي
من القبائل المحليّة.
ولكن الأمر كانت تعترضه بعض المصاعب، فقد كان من المحتمل أن تقبل قبيلة " السيراحين" التي تقطن حول
الأزرق بالتعاون مخلصة مع الحلفاء، كما أفادت آخر التقارير التي وردت من المنطقة، غير أنه لم تكن هنالك
أية ضمانات بالنسبة للقبائل الأخرى التي تقطن حول ال هدف الذي كان يبعد مسافة مائة وخمسين مي ً لا عن موطن
هذه القبيلة.
ثم إن قبيلة الرولا التي يرأسها نوري الشعلان كانت قد عادت إلى مقرها الشتوي الذي يبعد مسافة مئات
الأميال، كما أن جيرانهم من قبيلة بني حسن كانوا مجهولي العدد والامكانيات.
وبينما كان لورانس يفكر في هذه المشكلة، حدثت مفاجأة أوحت إليه بالحل . فقبل أن تبدأ حملته ببضعة أيام،
متحركة من العقبة إلى هدفها، وصل أمير جزائري، هو الأمير عبد القادر الجزائري "الحفيد " لينضم إلى
فيصل.
والجدير بالذكر أن عائلة الأمير عبد القادر لها سجل حافل في ميدان النضال من أجل استقلال العرب، فقد
دافع جده عن الجزائر ضد الفرنسيين، كما أن شقيقه استشهد مؤخرًا بأيدي الاتراك.
وكان هو كشقيقه الشهيد، يعيش في المنفى بسوريا، بعد أن هرب إليها إثر مغامرات خيالية . أما بالنسبة إلى
لورانس، فقد كان يعتبره نصف مجنون، كما أن قصة هربه لم ترق إلى درجة تجعله يصدقها.
وقد تبين فيما بعد أن الأتراك كانوا يستخدمونه عميلا . ولكن فائدة كانت تكمن في الوعد الذي قطعه على نفسه
بتأييد زملائه الجزائريين الذين يعيشون في منفاهم الواقع في وادي نهر اليرموك.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن فيصل، وهو المعروف بتعقله، كان يعتقد بأنه مخلص له. ونظرًا لأن الدليل الوحيد
على خيانته جاء من "بريمون" الفرنسي فقد قرر لورانس أن يعتبره ذلك الدليل دعاية فرنسية مغرضة،
فاصطحبه معه في تلك المغامرة.
٩٩٨٨
وكان ذلك خطأ فاحشًا، كما أثبتت الأحداث، إذ أن عبد القادر تخلى عن رفاقه في أحرج اللحظات دون أن
يفعل أي شئ لمساعدتهم، وإن كان قد فعل الكثير لقلب خططهم رأسًا على عقب.
وغادرت الحملة مدينة العقبة في الرابع والعشرين من شهر تشرين الاول.
وبالإضافة إلى الشيخ علي وعبد القادر، كانت تضم ضابطًا بريطانيًا متخصصًا في أعمال العمار يدعى
"وود"، كما أنه متخصص في أع مال النسف، كما تضم بعض حرس لورانس الخصوصيين الذين بلغ عددهم
وقتئذ سنة، وعددًا من حملة البنادق السريعة الطلقات من سلاح المشاة في الجيش الهندي.
وقرّر لورانس أن يعتمد على حمايتهم بفضل من يستطيع استمالته من البدو المقيمين حول الأزرق، لتغطية
نسف الجسر، بدلا من اتعاب نفسه مع عدد كبير من البدو في مسيرته الطويلة نحو الشمال.
وقد سارت الأمور منذ البداية خاطئًا، فقد أصيب "وود" بمرض "الديزانطاريا" إثر تسممه من رصاصة كان قد
أصيب بها في فرنسا . كما أن عليًا وعبد القادر تخاصما، ولم يمنع أحدهما من قتل الآخر إ ّ لا سهر لوران س
ويقظته.
وكذلك فإن الهنود كانوا غير أكفاء لقيادة الجمال . وبينما كانت الحملة تسير جنوبي خط سكة حديد الحجاز وفي
موقع جنوبي معان، وبينما كانت في طريقها إلى معسكر عودة، قابلتها دورية تركية لم يكن ظهورها متوقعًا،
فاضطرت الحملة للاختباء، وبذلك تأخر موعد وصولها إلى الهدف.
والأسوأ من هذا كله، انه يوم عثر افرادها على معسكر عودة الشتوي قرب "الجفر" وجدوا الشيخ عودة قد
انقلب عليهم، وانضم إلى شيوخ قبيلة "الحويطات" ورفض طلب لورانس بأن ينضم إليه في حملته تلك، إ ّ لا إذا
دفع له مبلغًا كبيرًا من المال.
وكذلك رفض زعل الانض مام إليه، وعلل لورانس هذا الرفض بأنه قد أثرى بعيد الغارة التي قاموا بها في
الصيف.
وفي غمرة من يأسه من جراء هذه النكسات، والأخطاء، وأهمها أنه يضم بين رجاله عميلا للاتراك، في رحلة
محفوفة بالأخطار، اندفع لورانس نحو آبار "باير" ليجرب حظه مع أقارب علي من قبيلة بني صخر.
وبعد لحظات قليلة من تحركه تناهى إلى مسامعه صوت انفجار هائل يأتيه من بعد، فصاح بفرح بالغ، وأدار
جمله، قائلا إن حملة اللنبي قد بدأت، وأن الأتراك لا بد وأن يكونوا الآن يتقهقرون أمام نيران المدفعية
البريطانية.
وقد انضم الشيخ علي إليه بشكل تلقائي، و شاركه فرحه، ولكن ما إن ابتعد لورانس عن النظر، حتى همس
عبد القادر في أذن علي قائلا: "لا داعي للفرح… إن لنا اخوانًا مسلمين يموتون الآن بقنابل الكفرة ومدافعهم".
واحتفظ الشيخ علي بصمته، ولم يقل كلمة واحدة إلى لورانس عن تعليق الزعيم الجزائري، فقد كانت الأمور
حتى تلك اللحظة تسير من سيئ إلى أسوأ، ولكنهم سرعان ما وصلوا إلى أصدقاء لورانس، حيّث وجدوا منهم
التأييد المخلص.
والحقيقة أنهم ما إن بلغوا "باير" بعد أسبوع من تحركهم من العقبة، حتى بدا أن حظهم قد أخذ يتغير، فقد
استقبلوا هناك استقبالا ودّيًا من قبل افراد قبيل ة بني صخر الذين خرجوا لاستقبالهم تسبقهم صيحات الفرح، ولعلة
٩٩٩٩
طلقات البنادق في الهواء، والدعاء إلى الله بأن يمنح القوة للشيخ علي وزميله لورانس، حتى يخلصاهم من
اخطار ظالميهم، القادة الأتراك.
وقد أثار المنظر حسد عبد القادر الذي حاول عبثًا أن يلفت إليه الأنظار، عندما جلس متجهمًا في خيمة زعيم
القبيلة أثناء حفلة العشاء التي تلت غروب الشمس.
وكلما ازداد الترحيب برد الفعل لمدافع اللنبي، كان عبد القادر يزداد قنوطً ا. ولم تتحسن حالته، عندما تحركت
الحملة في صباح اليوم التالي متجهة "نحو الأزرق "، برفقة الشيخ "مفلح" شيخ بني صخر الذي كان مضيفهم في
الليلة السابقة مع عشرين من أخلص رجاله المحاربين.
وكان واضحًا أن الأمير الجزائري كان يضمر الخلف، ولذلك كان لورانس والشيخ علي لا يكفان عن التفكير
أثناء تحرك الحملة شمالا. ولم يكن يمنع وقوع الاصطدام بين علي وعبد القادر إ ّ لا تقاليد الصحراء.
ورغم أن عليًا لم يكن يثق بزميله عبد القادر إ ّ لا أنه استطاع أن يسيطر على أعصابه وأن يعتبر الأمير
الجزائري رفيقه في السلاح.
وكان هذا الاعتبار كافيًا لاحترام ذلك الرفيق، حتى تنتهي المعركة، وعندها يتحلل من تقاليد الصحراء التي
تمنع الاعتداء في مثل تلك الظروف، والتي تمنع حتى مجرد الشك من أن يرقى إلى مرتبة التأكد، وتمنع الرفيق
من أن يجرد سيفه في وجه رفيقه الذي يشاركه المصير في معركة خطرة، غير معروفة النتائج.

خالد الحويطي
18-02-07, 01:20 AM
الفصل السابع عشر

فشل في اليرموك

تمخضت الأيام الأربعة التي تبقت على الزحف نحو الأزرق، عن مزيج من ا لتطورات، كانت في معظمها
سيئة.
فاذا ما أردنا أن نذكر الحسن منها، فإننا نقول إن شيخين من قبيلة "زبن صخور" قد انضما إلى لورانس. وهما
"فهد" و"غضوب".
وكان هذان الشيخان أخوين ومحاربين شجاعين . وكان "فهد" بطبيعته رج ً لا صامتًا متجهم الوجه، له عينان
براقتان، وذلك على نقيض شقيقه "غضوب" الذي كان كثير الضجة ويتمتع بأنف ضخم، وعينين ضيقتين،
تنتقلان بجشع من هدف إلى آخر.
ثمّ، وعندما كانوا على وشك الوصول إلى "الأزرق" التقوا بعدد كبير من أفراد قبيلة "السيراحين" الذين كانوا
في طريقهم للانضمام إلى قوات فيصل.
وبدا ان هذا الل قاء ضربة حظ موفقة، لأن أفراد قبيلة "السيراحين" كانوا يعتقدون بأنه يتحتم على لورانس أن
يقود جماعته إلى الأزرق على أن يتولوا هم حراستهم.
غير أن هذه النيات ما لبثت أن اتضحت، إذ أن أفراد قبيلة "السيراحين" بعد أن انتهوا من وجبة العشاء، كشفوا
عن خطتهم، على لسان زعيمهم، وهو شيخ أدرد يدعى "مطير"، قال بأن الجسر لا يمكن نسفه، وذلك لسبب
واحد بسيط، هو كون المنطقة مكتظة بالأتراك.
١١٠٠٠٠
كما أنه أوضح بأنه لا يثق بالقرويين الذين يقطنون بالقرب من تلك المنطقة أي زملاء عبد القادر في
المنفى.
ووجد لورانس نفسه في ورطة كبرى، فلو أ ن أفراد قبيلة "السيراحيون" بقوا في يامهم ولم يتقدموا لمساعدتهم
لخذل بذلك خطة اللنبي خذلانًا شنيعًا وأحبط خطة بريطانيا في مساعدة فيصل في المستقبل، ولذلك استدعى كلا
من "علي" وفهد" و"مفلح" و"غضوب" ليدعموا جهوده في إقناع "مطير" وبقية شيوخ قبيلة "السيراحين" لمساعدتهم.
وقد كتب لورانس يقول : "لقد شرحت لهم الأمر شرحًا ليس بالموجز، ولكنه كان شرحًا مفص ً لا، وأفهمتهم بأن
مغامرتهم قد تعني فقدانهم لأرواحهم كما قد تعني الحياة الرغيدة لهم جميعًا، وقلت لهم إن عليهم أن يتحملوا
الكثير من الألم، وأنه من الجائز ألا يوفقوا في تق دمهم ولا في تقهقرهم، وقد يقتلون عن بكرة أبيهم، فاذا شاؤوا
التحقوا به والا بقوا حيّث هم".
وفي نهاية الجدال الطويل الذي جرى آنذاك، تبين أن شيوخ القبيلة كانوا محرجين، ولعلم خجلوا من تأجير
أنفسهم للجماعة المغيرة، فقرر لورانس ألا يضيع مزيدًا من الوقت، وبعد أن أمضى ليلة راحة، وسط ما تبقى
من آثار القلعة الصليبية في الأزرق، مضى قدمًا نحو هدفه.
كان هجوم الجنرال اللنبي قد بدأ منذ خمسة أيام، ولذا كان على لورانس أن يعجل ما أمكن، إذا ما أراد تنفيذ
الخطة المقررة.
وقيل بضع ساعات من تحركه، اكتشف أن عبد القادر قد اختفى . ونظرًا لما كان واضحًا من ميله إلى
الأتراك، ومن سلوكه اثناء المسيرة باتجاه الأزرق، فقد تأكد لدى لورانس أن عبد القادر هذا قد ذهب ليحذر
الأتراك، ويحدثهم بالخطة المبيتة.
ولذا فقد عقد هو اجتماعًا فوريًا مع كل من علي وفهد، ليطلعهما على ما تطورت إليه الأوضاع.
غير أن هذين كانا عنيدين، وليس من السهل إقناعهما، لذلك قرر لورانس، بعد مناقشة غير مجدية، أن يقامر،
عله يستفيد من تأخر الأتراك في القيام بعمل ما.
وقد ساروا مسافة الثمانين ميلا المتبقية إلى هدفهم بصعوبة فوصلوا إليه قبل فجر اليوم التالي، أي خلال ثلاث
عشرة ساعة من تحركهم.
ثم اتخذ لورانس الاستعدادات النهائية للخطوة الأخيرة من هجومهم، ولكن اختفاء عبد القادر افقده السيطرة
على أعصابه، ولولا تصميمه على ألا يقل جرأة على هذا العنيد علي لما واصل العمل.
وقد اختار أسرع الجمال وأحسن المقاتلين من الرجال من قبيلتي بني صخر والسيراحين، وقرر مهاجمة
الجسر بهدوء، قبل بزوغ الفجر، مصطحبًا معه جماعة صغيرة، على أن يهرب الجميع فور أن يتم نسف الجسر
عبر التلال. وأن يعودوا بأسرع ما يمكنهم إلى الأزرق.
ولكي ينفذ هذه الخطة، كان عليه أن يعمل بشكل مباغت . وعلى الرغم من انهم قابلوا دوريتي ن من الأتراك
اثناء الطريق، إ ّ لا أنهم استطاعوا الاختفاء . وأصعب ما صادفهم من عقبات كان ممثلا في أحد الرعاة الذي أخطأ
التقدير فظن أنهم خارجون على القانون، ويريدون سرقة أغنامه، فأطلق عليهم نيران بندقيته، ولما وصلوا إلى
١١٠٠١١
الجسر في "تل الشهاب " تحت وابل من المطر، ل م يظهر رجال الحرس الأتراك أية بادرة يمكن أن يستدل منها
على أن عبد القادر قد خان جماعته، وأنه قد انذرهم بالهجوم المرتقب، ليعدوا العدة لمواجهته.
هذا وقد قام رجال المشاة الهنود المزودون بالبنادق السريعة الطلقات، والبدو الذين يحملون المتفجرات، بانزال
حمولتهم بكل حذر وهدوء عن ظهور الجمال المتعبة، وكان الصوت الوحيد الذي يسمع في تلك الليلة التي لا
قمر فيها، هو خرير مياه النهر، الذي كان يتدفق على مسافة مئات الأقدام تحتهم.
وتولى "وود" مسؤولية الاشراف على الهنود الذين أوكل إليهم مهمة حراسة لورانس وعلي وفهد فيما هم
يتولون بث الألغام تحت الجسر.
ومما هي إ ّ لا لحظة، حتى كانت فرقة النسف تتحرك منحدرة على الصخور، لتصل إلى حيّث تقوم أعمدة
الجسر، وتبدو واضحة أمام العين المجردة.
وشاهدوا قبل ياردات قليلة من بلوغهم هدفهم حارسًا تركيًا، يروح ويغدو على الجسر الحديدي، وهمس
لورانس إلى فهد بأن ينتقل إلى موقع آخر، يمكنهم أن يبثوا ألغامهم منه دون أن يراهم الحارس.
ثم … وما إن بدأ الإثنان بالتسلل، حتى ألقى أحد البدو، وكان يحمل المتفجرات، بندقيته.
وفور ارتطامها بالصخور، اطلق الحارس التركي نفير الخطر، وراح يطلق نيرانه في الإتجاه الذي صد ر عنه
الصوت. ولما أصبح البدو في مركز حرج، اضطروا إلى الرد على النار بالمثل، بعد أن خرجوا عن مخابئهم
وراء الصخور.
وانتبهت نقطة الحراسة التركية إلى تبادل إطلاق النار، فهب رجالها يركزون نيرانهم على البدو، الذين ما إن
رأوا الرصاص يتساقط بالقرب من أكياس "الجلنجايت" التي معهم، حتى القوا بأنفسهم في النهر خشية أن ينفجر
ما يحملونه من متفجرات، ويقضي عليهم . ولم يكن هنالك ما يمكن عمله غير الهرب بأقصى سرعة ممكنة،
فأخذ البدو يتسلقون التلال، الشديد الارتفاع، حتى تمكن لورانس وبقية أفراد جماعته من الالتحاق ببقية الفرقة
الرئيسية التي ما إن اجتمعوا بأفرادها حتى ساءت الأمور أكثر فأكثر.
إذ ان الحملة قد فشلت . واثناء العودة، حدث أن بعض أفراد قبيلة "السيراحين" لم يعجبهم فشلهم في الاستيلاء
على الغنائم فهاجموا جماعة من القرويين كانوا عائدين من درعا وسلبوهم ما يحملون من أمتعة، الأمر الذي
حدا بالبدو الآخرين أن يهبوا للانتقام، وخاصة أولئك الذين كانوا يقطنون الأماكن المجاورة للمكان الذي وقع فيه
الحادث. وهذا ما جعل موضوع تراجعهم صعبًا وشاقًا….
وكانت اصوات قنابل مدافع اللنبي ما تزال تدوي وراء صفوف الأتراك، فكانت، وهي تتناهى إلى مسامع
لورانس من الجهة الجنوبية تزيد من تألمه لما أصابه من فشل في محاولته تلك.
ولقد كان للمحاولة التي قاموا بها للتنفيس عن حدة غضبهم، بنسف قطار اثناء عودتهم، أثر هزيل في رفع
معنوياتهم، فقد قام لورانس بوضع حقيبة من "الجلنجيات" تحت قضبان السكة الحديدية بمساعدة زملائه من
العرب، واخذوا ينتظرون مقدم القطار، ولكن سوء الحظ كان ما يزال يلازمهم، إذ أنه عندما ضغط على الزر،
لم يتفجر اللغم، ومر القطار بسلام.
١١٠٠٢٢
وكان ذلك القطار مليئًا بالقوات التركية الذاهبة لدعم الجبهة في فلسطين . وعندما مر القطار أدرك لورانس
فجأة، أنه أصبح مكشوفًا لقوات العدو التي كانت تتطلع إلى جماعته بواسطة المنظارات المقرّبة.
ونظرًا لأنه كان يتوقع أن ينجح في تفجير اللغم، فقد أهمل تغطية جماعته، ولكي ينقذ نفسه من مزيد من حب
استطلاع العدو، راح يلوح لهم، رغم استغراب العرب الذين كانوا يقبعون في مخابئهم وراء الصخور.
ولما عاد وانضم إلى الشيخ علي ومفلح، واجهاه بالاتهام بأنه تعمد ترك القطار يمر بسلام، وأخذ العرب
يهزون رؤوسهم، ويتحدثون عن "العين الشريرة " التي أصابتهم . ولما انتهرهم لورانس على سوء ظنهم، ثاروا
عليه، وهاجموه بعنف، ولكن عليًا دافع عنه بنبل، رغم أنه كان يرتجف من حمى أصابته، حتى أصبحت حالته
لا تطاق، وخاصة في البرد الذي كان يطغى على المنطقة، واستطاع أن يهدئ من سورة غضب العرب،
وتمكين لورانس من التقاط أنفاسه ليعود ويضع المتفجرات بشكل صحيح.
وبعد أن وضع المتفجرات في مكانها الذي اختاره لها، جلس لورانس ينتظر قدوم الق طار التالي، ومن حسن
الحظ أن القطار التالي كان هدفًا ممتازًا، تجره قاطرتان ويقل عددًا من الجنود بينهم جمال باشا نفسه الذي كان
مسرعًا للوصل إلى القدس للدفاع عنها في وجه تقدم اللنبي.
ولما ضغط على الزر، وقع انفجار هائل، فتحطمت القاطرة الأولى . ولكن لورانس وجد نفسه يحيط به سيل
عرم من الشظايا فضلا عن الرصاص الذي كان ينهال عليه من كل جانب، وأسرع عشرون من رجال بني
صخر لإنقاذه.
وعلى الرغم من أن سبعة منهم قد قتلوا برصاص الأتراك، إ ّ لا أن الباقين تمكنوا من سحبه إلى نقطة أمينة .
ولما تأكد للورانس أن قواته لا تستطيع مواج هة قوات جمال باشا، قرر الانسحاب مع من وقع من رجاله في
المعركة، بما فيهم فهد الذي كان قد أصيب بجرح بليغ في وجهه.
واذا عاد لورانس إلى خرائب الأزرق المعمورة بالجن، تردد في العودة إلى اللنبي، وأقر بفشله . وعلى كل،
فقد حدث نفسه قائ ً لا بأن المطر قد أخذ ينهمر مدر ارًا، ولا بد أن يتوقف هجوم البريطانيين، وعلى هذا، فإنه إذا
لم يكن ثمة من أمل في حدوث معركة في أية جبهة من الجبهات،، فلا أقل من أن يشغل نفسه في نشر الرسائل
التي تدعو إلى الثورة بين القبائل البدوية.
والواقع أنه كان مخطئًا، كما أن تقديراته الخاطئة كادت أن تف سد ما بينه وبين اللنبي، إذ أن القائد العام كان في
تلك الفترة بالذات يقوم بحركة بارعة حطمت الجبهة التركية، وفتحت أمامه الطريق إلى القدس.
وقد خدع الأتراك بهجوم مفتعل، فأوهمهم بأن القوات البريطانية محتشدة قرب غزة في الطرف الغربي من
الجبهة، ثم قام بهجومه الكب ير على أضعف نقاط القوات التركية، فأخذها على حين غرة، وتمكنت قوات المشاة
من البريطانيين من التقدم في فلسطين.
وقد ألبس "نيوكامب" نفسه ثوب فخار في هذه العملية، إذ أنه تمكن من إنشاء طريق تربط ما بين القدس وبئر
السبع ومنع تعزيزات الإمداد من التقدم، لدعم القوات التركية. كما تمكن بالاشتراك مع حفنة من الجنود، من
الاحتفاظ بموقعه ذلك مدة يومين، رغم هجومات القوات التركية العنيفة، حتى وقع أسيرًا بعد أن نفدت ذخيرته.
١١٠٠٣٣
وطبيعي ألا يكون لورانس مطلعًا على مجريات الأحداث، وهو مقيم في مقره في الأزرق، يتلقى مكالمات
هاتفية يومية ويستقبل وفودًا من شيوخ البدو المحليين وزعماء الدروز الذين كانوا يتوافدون من الصحراء
والجبال السورية لاستطلاع أنباء الثورة العربية . وكان لورانس لفترة من الزمن مقتنعًا بالدور الذي يقوم به،
والذي يتلخص في نشر الدعاية . وقد وجد بعد النشاط المحموم، والفشل المتواصل الذي مني به في الأسبوع
الماضي، أن هذه الحياة الجديدة تناسبه وتريحه، فانغمس فيها، مستمتعًا برفقة علي الذي كان بما يتمتع به من
قوة بدنية وشجاعة، وبما يتصف به من كبرياء فطري، من الرفقاء الذي يستحب المرء معاشرتهم.
ولكن لورانس بعد أسبوعين، أدرك بأن اللنب ي ربما كان محقًا في طلبه إحداث ثورة حول درعا، وكانت
اتصالاته اليومية مع شيوخ القبائل السورية قد أكدت له من جديد، أنهم على استعداد للقيام بأي عمل إذا ما بدأ
البريطانيون الزحف.
كذلك كان لورانس قد كسب تأييدًا مهمًا بانضمام "طلال الحرادين" إليه، وهو زعيم قبيلة عربية كبيرة تقطن
على بعد أميال قليلة من درعا.
وكان طلال هذا رجلا خارجًا على القانون، وضعت السلطات التركية ثمنًا لرأسه، نظرًا لأنه قتل ثلاثة
وعشرين تركيًا بيده، كما أنه كان يعرف المنطقة أحسن من غيره.
وهكذا وجد لورانس أن الفرصة قد حانت له كي يعاود هجومه على منقطة درعا ويحظر لتقدم الجنرال اللنبي،
وانه ليس هناك أفضل من طلال هذا القيام بدور الدليل في هذه المرحلة من المعركة

خالد الحويطي
18-02-07, 01:21 AM
الفصل الثامن عشر

أسر وتعذيب

أخذ لورانس وطلال يستكشفان الوضع في منطقة درعا . وبعد أن قام بجولة في القرى المحيطة بدرعا، قرر
لورانس أن يحتل درعا بنفسه، ولما كان طلال معروفًا تمامًا في المنطقة، فقد قرر لورانس أن يقوم بهجومه
بدونه، كيلا يكتشف أمره.
وما إن قطع صاحبنا بضع مئات من الياردات، حتى أوقفته دورية تركية، واتهمته بأنه هارب من الجيش
العثماني. ولقد حاول لورانس خداع الدورية بقوله إنه شركسي، وكان الشراكسة معفيين من الخدمة العسكرية،
ولكن الجزيرة العربية الجاويش أجابه بقوله: " إن ناهي بك يريد مقابلتك … تعال معي!.."
وعندما وصلوا إلى غرفة الحرس، أوضح ذلك الجاويش الغرض الذي يريد من أجله "ناهي بك " مقابلة
لورانس، فقد أوضح له أنه إذا ما اثبت كونه شر كسيًا، فسيترك وشأنه، والا فسيرسل إلى أحد معسكرات الأتراك
الخاصة بقوات المشاة.
ويؤخذ من مذكرات لورانس نفسه أنه قد سيق إلى بيت الحاكم، ثم أخذ مباشرة إلى غرفة نوم الحاكم . وهناك
أمر بالجلوس على الأرض.
وتولى أربعة من الجنود الاتراك جلد لورانس حتى أغمي عليه، و كان إذا ما أفاق من إغمائه تولى جندي آخر
جلده حتى يغمى عليه مرة أخرى وهكذا دواليك، وعندما سيق ثانية إلى "البيك" كان لحسن حظه رجلا غير
١١٠٠٤٤
صالح للتشرف بمحادثة "البيك" بعد أن اتسخت ثيابه بالدماء التي نزفت منه، وكان هم لورانس الأكبر وهو
يعاني ضرورة التعذيب ألا يظه ر للعدو أنه بريطاني، فأقدم على عض شفتيه، حتى لا تصدر عنهما أية
أصوات، ولكنه عندما أحس بتزايد ألمه لم يسعه إ ّ لا أن يشكو باللغة العربية، وأخيرًا لم يعد يحتمل العذاب فصاح
بالانكليزية قائلا: "ارحموا مرضي واجهزوا علي إن شئتم".
ولما انتهى الجنود من تعذيبه، سيق إلى غرفة مهجورة، حيّث وجد هناك ملابس للجنود الاتراك، فارتدى قسمًا
منها وانتظر حتى الفجر، ثم هبط من النافذة إلى الشارع المهجور.
ولكن ما هي حقيقة ما حدث في درعا؟ هل هي تلك التي كتبها لورانس أو أنه أخفى الحقائق بدافع خجله من
مواجهة الحقيقة؟ إن أحدًا ممن أرخوا حياة لورانس لم يجب على هذا السؤال، بشكل مرضي.
لقد نشر كل من "لويل توماس" و"ب. ه ليديل هارد" و"روبرت غرافس" و"ج. ب. فيلارز" ما دونه لورانس
دون مناقشة، أما ريتشارد ألدنجتون " الذي لم يكن يصدق الرواية، ولا ما جاء في كتاب اعمدة الحكمة السبعة
من ادعاءات عن ب طولات لورانس، فقد قال إن لورانس لم يقاوم في الواقع رغبة شاذة للضابط التركي، وأكد أنه
استسلم إليه مستشهدًا برسالة كان لورانس قد بعث بها إلى السيدة "جورج برنارد شو".
لكن "الدنجتون" كان كعادته يضلل قراءه، إذ أن هذه الرسالة توضح بكل جلاء أن لورانس قد قاوم رغب ة القائد
التركي في بادئ الأمر، ولكنه اضطر للاستسلام، لتفادي المزيد من التعذيب.
والانكليز يأملون ان يلد أحدهم ملكًا على كل حال . وثمة نظرية أخرى يسوقها "تيرينس راتيجان " في رواية
ألفها عن حياة لورانس، أدعى فيها أن لورانس نفسه كان صاحب مزاج جنسي شاذ، وأن الأت راك كانوا يعرفون
هذه الحقيقة عنه، واستنادًا إلى هذه النظرية، قدّر الكاتب، أن الأتراك، أو بصورة أوضح حاكم درعا، عرف
الطريقة التي يستطيع بواسطتها تدمير لورانس، فدمره، ظنًا منه بأن هذه التجربة الجنسية ستضع حدًا لنشاطه،
وبالتالي تنهي دوره في الثورة العربية.
وبعد أن قضى الحاكم وطره من ممثل بريطانيا، أطلق سراحه ليعود إلى أصدقائه العرب.
وعلى الرغم من أن التقاليد العسكرية التركية، كانت تتعارض مع إطلاق سراحه، رغم الجائزة التي كانت
مدفوعة للحصول على رأسه، وهي تتراوح بين عشرة وعشرين ألف جنيه، إ ّ لا أن الضابط أوضح بكل جلاء أن
الثمن المدفوع لرأس لورانس سيتضاعف ولا شك إذا ما قتل معنويًا، ولكنه إذا ما أطلق سراحه بعد أن هدمت
رجولته، فلن تكون لديه القوة أو حتى الرغبة في قيادة العرب في ثورتهم.
وليس من الضروري أن تكون كل هذه القصة صحيحة، بل لعل الأصح القول بأنها لا تستند إلى حقيقة وإنما
وضعت للتشنيع زورًا على الأتراك.
إذ أن لورانس سواء أكان أو لم يكن شاذا جنسيًا فلم تكن هنالك أية دلائل على أن الأتراك في درعا كانوا
يعرفونه، ولا انهم اشتبهوا في أمره، فالشراكسة مثل الأوروبيين بيض البشرة وزرق العيون، وفض ً لا عن ذلك
فإن القائد لو تعرف على جنسيته لما كان من الممكن أن يسمح له بالمغادرة، ولو أنه عرف شخصيته لما ترفع
عن المكافأة المعروضة لمن يلقي القبض عليه، ولو أنه كان يعرف شخصية سجينه لسمح لأحد الخصيان
١١٠٠٥٥
الأتراك على الأقل بقبض الجائزة، ولو كان أحد من جنوده يعرف شخصية لورانس لوشى بقا ئده ولكان قد
أعدم نتيجة خيانته للقضية التركية.
والحقيقة هي انه ما من رواية من هذه الروايات مؤكدة، ولذا فقد ظلت حادثة درعا غامضة، ولعل هناك سببًا
بسيطًا يبرر ذلك، وهو أن لورانس لم يخبر أحدًا طوال حياته بما جرى له في درعا، ولذلك فقد مات ودفن السر
معه.
وسنحاول في فصل أخير من هذا الكتاب أن نميط اللثام عن هذه الخفايا، التي كانت من غير شك هي السبب
الرئيسي في ما قام به لورانس بعد الحرب، وبعد انتهاء حملة الصحراء.
أما في الوقت الحاضر فنكتفي بالقول إنه مهما كانت التجربة التي مر بها، ومهما كانت فظاعتها، فإنها لا ري ب
قد احدثت نقطة تحول روحية في حياته، تغير على إثرها، بحيث يمكن القول إنه انقلب إلى شخص آخر . أقسى
وأعنف في معاملته ولأولئك الذين كانوا من حوله.
ولما عاد لورانس إلى الأزرق قرر بسرعة إ ّ لا يبقى هناك طويلا، وبعد أن ودع عليًا اصطحب أحد رجال
حرسه، وتوجها عائدين إلى العقبة . ولقد كانت رحلة جنونية، فقد كان المطر والبرد والثلج تصفعهم صفعًا
فتمزق وجهيهما وتشل أيديهما.
وكان لورانس قد أصابته حمى البرداء، وذلك كانت كل حركة من حركات جمله بمثابة عذاب له، ورغم ذلك
فقد كان رفيقه هو الذي تعب أولا، رغم أنه كان من اشجع وأقوى ا تباع لورانس، والذي تجاهل كل التماساته
للتوقف من أجل الراحة، وتابع السير.
وكتب لورانس يقول : "لقد وجدت نفسي أكاد انشطر إلى ثلاث شخصيات الأولى شخصية ذلك الرجل الذي
واصل السير بحكمة، موفرًا على جمله المتعب كل خطوة ممكنة، والثانية شخصية الرجل الذي لا يهمه إ ّ لا أن
يواصل السير مهما كانت النتائج، والثالثة شخصية الرجل المفكر الذي راح يتساءل عن السبب في بذل هذا
المجهود كله، وعدم الاستراحة لفترة قصيرة من الوقت.
أما كون الشخصية الثانية هي التي كانت مسيطرة عليه، فهذا أمر لا ريب فيه، لأنه كان يرغم نفسه على
تحمل ما لاطا قة للبشر عليه، حتى لقد بدا وكأنه يستعذب تلك اللحظة التي يسقط فيها منهوك القوى ومشلول
التفكير.
وكان يعرف بأن تلك اللحظة لم تعد بعيدة، ومع ذلك صمم على الوصول إلى العقبة، قبل أن يصيبه الانهيار
الذي كان لا مفر منه.
ولقد انهار لورانس بالفعل، فيما كان يهم بدخو ل المدينة عن طريق ذلك الوادي الذي قاد نهر الأردن ذات يوم
إلى البحر الأحمر، وكان ذلك في اليوم الثالث لمغادرته الأزرق.
وفي العقبة ابلغه "جويس" انباء نجاح اللنبي، وبعد خمسة أيام لم ينطق خلالها بكلمة واحدة، استدعي لمقابلة
القائد العام ليقدم تقريرًا عن أعماله.
١١٠٠٦٦
وما إن دخل مكتب اللنبي حتى بدأ يشرح له الوجه القاتم لاحتلال العقبة . ولكن كان من حسن حظه أن اللنبي
كان مشغولا جدًا بمتابعة حملته لاحتلال القدس، ولم يكن لديه متسع من الوقت للإصغاء إلى ما قاسه لورانس
من مصاعب قد لا يكون لديه مجرد علم بها.
وكذلك كان اللنبي من الحكمة بحيث لم يلمه على الفشل الذي مني به في اليرموك. وهكذا فبلاد من أن يطرد
ضابطه الصغير كما كان لورانس يتوقع طلب إليه أن يبقى بالقرب منه، ولما سقطت القدس في اليوم
التاسع من شهر كانون الاول، دعاه للاشتراك في الاحتفال بدخول القوات البريطانية، رغم أنه كما اعترف
لورانس "لم يفعل أي شئ لتحقيق هذا الانتصار".

خالد الحويطي
18-02-07, 01:22 AM
الفصل التاسع عشر

معركة في الطفيلة

بعد أن عاد لورانس إلى مقر القيادة، إثر انتهاء الاحتفالات بدخول القوات البريطانية مدينة القدس، درس
الخطط التالية مع اللنبي وأركان حربه . وكم كان سروره غامرًا عندما اكتشف أن القائد العام لمي فقد الأمل في
الثورة العربية، بل على العكس من ذلك كان متخمًا بالآراء حول الطرق التي بواسطتها يستطيع فيصل أن
يساعده في تقدمه.
وتقرر أن يتحرك العرب نحو البحر الميت بأسرع وقت ممكن ليوقفوا مرور المؤن إلى القوات التركية في
أريحا، التي ستكون هدف اللنبي التالي، والذي سيسعى لتحقيقه في شهر شباط.
فكان عليهم والحالة هذه أن يتقدموا نحو الطرف الشمالي من البحر الميت ليلتقوا بالقوات البريطانية عند نهر
الأردن في شهر آذار . وكان فيصل قد أعد العدة للتحرك نحو الطفيلة التي تقع قرب الزاوية الجنوبية ال شرقية
للبحر الميت، ولذا كان من الواضح أن خططهم، لا بدّ وأن تلتقي وتنّفذ.
وبعد أن قضى لورانس اجازة اسبوع في القاهرة، عاد إلى العقبة ليجد المدينة تعج بالنشاط مرة أخرى . فقد
قائد الفرقة الصومالية التابعة للجيش الفرنسي إمدادات هائ لة، بينها بنادق "Baisani تلقى الكابتن "بيساني
جديدة، ومدافع سريعة الطلقات وأسلحة أوتوماتيكية، وكان الجنود في شغل شاغل بانزال السيارات المصفحة من
طراز "تالبوت" و"ررولزرويس" و"فورد" وكذلك السيارات ناقلات الجنود.
كما وجد أن الجنود الثلاثة آلاف النظاميين في جيش فيصل قد دربوا على يدي جعفر ونوري السعيد، حتى
أصبحوا يشكلون وحدة مقاتلة فعّالة . وكذلك تمكن مولود، على الرغم من البرد الشديد، أن يطرد الأتراك من
"أبي لسان " واصبحت قواته تهدد "معان". كما أن خط سكة حديد الحجاز، كان على الدوام عرضة لغارات
القوات العربية.
هذا وقرر لورانس و"جويس" أن يجربا السيارات المصفحة الجديدة في الغارة على المدورة على أن ترافق
الحملة التي كان يجري إعدادها للتوجه إلى البحر الميت، وغالبًا ما كانت تلك السيارات تقل الجنود البريطانيين،
وبينهم شخص يدعى "رولز" هو الذي كتب وصفًا للدور الذي اشترك به مع لورانس في الاغارة التي تمت
بالسيارات المصفحة.
١١٠٠٧٧
ولم يكن هو وحده الذي اعترف للورانس بالسرعة، سواء أكان يستخدم الإبل أو الدراجات النارية أو السيارات
أو المراكب، فقد كانت السرعة هي "مرضه" كما قال "رونالد ستورز"، حتى لقد بات شأنه شأن الكثيرين لفرط
ما عاناه من إرهاق.
وكان لورانس يسرع بسيارته عبر البيوت الطينية الواقعة ما بين "الغويرة" و"المدورة" بمعدل ستين أو سبعين
مي ً لا في الساعة.
كما كان هو ورجاله يسرون لهذه الحرية في التنقل بسرعة، وبدلا من أن ينسفوا خط السكة الحديدية، تحت
أحد القطارات، قرروا مهاجمة معقلين من معاقل الأعداء، ليروا ك يف يمكن للسيارات أن تتحرك في مثل هذه
المعركة المكشوفة.
وعلى الرغم من أن الغارة أسفرت عن نتائج ليست ذات أهمية كبرى، إذا ما استثنينا اصابة القوات التركية
بالفزع، إ ّ لا أنها أثبتت أمرًا هامًا واحدًا، وهو أنه سيكون بإمكانهم، بمساعدة سرعة وحماية السيارات المصفح ة،
أن يشنوا هجومهم على السكة الحديدية، وعلى مراكز الحراسة الموضوعة عليها.
ومهما يكن من أمر، فقد كان هنالك درس آخر تعلمه لورانس قبل اثني عشر شهرًا من بدء معركة الحجاز،
إ ّ لا أنه ظل عاجزًا عن اقناع رؤسائه البريطانيين به، ألا وهو أن البدو لا يصلحون للقتال إ ّ لا في حرب
العصابات، وانهم تبعًا لذلك غير صالحين للحرب طبقًا للوسائل الأوروبية.
. وقد وافقه اللنبي على هذه الفكرة في النهاية، ولكنه لم يكن مقتنعًا بها في أوائل عام ١٩١٨
كان الجنرال اللنبي من كبار المؤمنين بسرعة التحرك، إ ّ لا أنه رغم إيمانه الشديد بهذه النظري ة العسكرية، لم
يستطع إ ّ لا أن يتبع هجومًا يعتمد على تشكيلات فأرسل الجنرال البريطاني "داوني" إلى العقبة، ليعلم جيش الأمير
خطته الجديدة.
ولما فشل لورانس في منع تحقيق هذه الخطة، عن طريق ارسال المبعوثين إلى القيادة العامة، أو عن طريق
جمع تأييد الضباط العرب ال نظاميين الذين تلقوا تدريبهم العسكري في الجيش التركي، والذين كانوا هم أنفسهم
أشد معارضة من لورانس لخطة اللنبي لم يسعه إ ّ لا أني زيد عد رجال حرسه، حتى بلغ عددهم تسعين رجلا
اختارهم من بين رجال العصابات السابقين الذين صقلتهم الخبرة، وتعلموا فنون القتال في الص حراء، اشتهروا
بشجاعتهم المطلقة واخلاصهم التام.
ولقد قدر أنه بقوة من هذا العدد يستطيع دائمًا أن يعمل مستق ً لا متى أراد . وكذلك اعترف لورانس بحاجته إلى
مثل هذه الحماية، بعد أنر فع الأتراك الثمن الذي دفعوه لاعتقاله حيًا إلى عشرين ألف جنيه، وميتًا إلى عشرة
آلاف.
ولكن الضباط الانكليز في العقبة لم يوافقوا على تأليف فرقة الحرس هذه وأطلقوا عليها اسم حزازي الحلاقيم "
فكان لورانس يجب على ذلك بقوله: "انهم لا يحزون الحلاقيم إ ّ لا بأمر مني".
ثم ان العرب كانوا يشتعلون حماسة في هذه المرحلة بالذات، وكان بإمكان القائد الذي ي ستطيع أن يكيف نفسه
وفقًا لمشاعرهم، ويحيط نفسه بمثل هذا العدد من رجال الحرس المزودين بالأسلحة الحديثة، ويرتدي أفخر
الثياب، أن يعتبر قائدًا عظيمًا حقًا.
١١٠٠٨٨
ولم يتوقف أولئك العرب ليفكروا بأن اموال التي تدفع لهم لم تكن من لورانس، بل من الذهب الذي كان فيصل
يتلقاه من البريطانيين، وأن الأسلحة قد استعيرت بوساطة لورانس من الجيش البريطاني، وأن الجمال التي
يمتطونها هي ملك لفيصل، وأن الملابس التي توزع عليهم ليست إ ّ لا حصيلة ما استولوا عليه من غنائم أثناء
غاراتهم التي شنوها على جيرانهم من البدو.
وحوالي منتصف شهر كانون الث اني، كانت كل الترتيبات قد اتخذت لاحتلال الطفيلة، البوابة المفضية إلى
البحر الميت. وكانت الخطة تقضي بمهاجمة المدينة من ثلاث جهات، هي الشرق والجنوب والغرب.
وكانت القوات التي ستهاجم من الشرق تحت قيادة الشريف ناصر، على أن يكون ن وري السعيد مسؤو ً لا عن
المدافع.
وقد اقتربت هذه القوة من هدفها عن طريق "الجرف" وهي محطة لسكة حديد الحجاز، ان تم الاستيلاء عليها
أمكن قطع الطريق على تدفق الامدادات التركية، سواء من معان في الجنوب أو من عمان في الشمال كيلا
تدعم القوات المدافعة عن الطفيلة.
وقد سقطت الجرف بكل سهولة أمام قذائف مدفعية نور السعيد وناصر، وانضم اليهما وقتذاك الشيخ عودة.
ومن ثم تقدموا نحو الطفيلة . ولما وصلوا إلى هناك قبل يوم من موعد وصول القوات الأخرى من الجنوب،
وجدوا القرية بحراسة مائة وثمانين جنديًا تركيًا فقط يضاف اليهم بعض القرويين المسلحين.
وكان القرويون في حالة خصام مع قبيلة بدوية مجاورة أعلنت ولاءها لفيصل، فأطلق أفرادهم النار على قوات
ناصر التي كانت تتقدم الجمع، الأمر الذي أثار غضب عودة لأنه كان يعتبر نفسه سيدهم فأسرع إلى
مدخل القرية وقصف بقنابله الحامية التركية التي أخذت على حين غرة.
وكان يصيح : "أيها الكلاب … ألا تعرفون عودة "؟… وكان قوله هذا كافيًا بالنسبة للقرويين وللأتراك، وما هي
إ ّ لا ساعة حتى كان ناصر يشرب الشاي مع الحاكم التركي، مخالفًا بذلك تقاليد الحرب التي كانت تتبعها قوات
الشريف مع أسراها.
وفي مساء ذلك اليوم بالذات، وصل الأمير زيد، أصغر أبن اء الشريف حسين، الذي كان فيصل قد عينه قائدًا
للحملة المتقدمة نحو البحر الميت. وقد وصل الطفيلة برفقة جعفر ولورانس.
ولقد أحدث وصولهم حالة غريبة، إذ تبين أن اثنين من حاشية زيد قد قتلا بيد ان عودة . ولما احتدم الجدل
بينهم حول الثأر، ثار الرجل العجوز، وبصق عليه م، وهددهم بجلدهم في ساحة السوق إذا ما تمادوا في مثل هذا
الحديث، ولما أبدى زيد تساهلا في الأمر، أمر عودة وجماعته من المحاربين بالعودة إلى الصحراء، الأمر الذي
أضعف قوته، وثبت فيما بعد أنه كان خطرًا جدًا.
وهكذا بقي زيد للدفاع عن الطفيلة مع مائة من الهجانة ور جال حرس لورانس وفصيلة من حملة المدافع
السريعة الطلقات مؤلفة من جنود مصريين ومغاربة.
ولم يعد بمقدور مدفعية نوري السعيد أن تعبر ممرات جبال مؤاب المغطاة بالثلوج، ولذلك تخلف هو والشريف
ناصر للدفاع عن "الجرف".
١١٠٠٩٩
وكانت هذه الحامية قليلة العدد بشكل مخيف فيما لو ف كر الأتراك في استعادة الطفيلة بأية قوة، مهما كان عدد
أفرادها. ومع ذلك فقد صمدت على أمل أن يسعفها الحظ، فيتحسن الطقس، حتى تتمكن الامدادات من الوصول
إليها.
ولكن هذا الأمل لم يتحقق، ففي الخامس والعشرين من شهر كانون الثاني، أي بعد انقضاء تسعة أيام على
احتلال الطفيلة، عاد الأتراك لاسترداد المدينة، ومعهم ثلاث فرق من المشاة، وتسعمائة من الخيالة ومائة من
الفرسان ومدفعان جبليان، وسبعة وعشرون مدفعًا سريع الطلقات، ونظرًا لأن العرب أخذوا على حين غرة،
وفوجئوا بهجوم الأتراك، فقد تركوا القرية في حالة من الفوضى، وخشي معظم سكان القرية انتقام الأتراك لأنهم
استسلموا دون أن يطلقوا طلقة واحدة على عودة وناصر، فهربوا إلى التلال.
واقترح زيد وجعفر أن تنسحب القوات العربية من القرية . على أن تدافع عن نفسها من واد يقع إلى الجنوب
من القرية لكن لورانس عارض ذلك معارضة شديدة، نظرًا لأن ال وادي لم يكن بالمكان الدفاعي الصالح، ثم إنهم
إذا تركوا الطفيلة، فسيلتقون بأولئك القرويين الشجعان الذين ظلوا معهم، والذين يمكنهم استخدامهم كمدافعين لا
يشق لهم غبار… لكن زيدًا كان هو القائد، فأصر على اعطاء الأوامر للقوات بالانسحاب.
لم يكن زيد بحاجة إلى طويل وقت ليدرك خطل رأيه، لأنه قبل بضع دقائق من هجوم الأتراك، تخلى عن
قيادته، فأسرع لورانس يضع الترتيبات اللازمة للدفاع عن القرية، مستعينًا بمن تبقى لديه من قوات قليلة،
وقرويين مسلحين.
وقد نظمهم في المرتفعات المشرفة على الطفيلة، بينما أوفد أحد رجال حرسه ويدعى "عبد الله" برفقة اثنين من
حملة المدافع السريعة الطلقات، ليحولوا انتباه القوات التركية، يومذاك فتح الأتراك نيرانهم مستعينين بالمدافع
الجبلية، وبينما كانت هذه المناورة تأخذ مكانها وتملأ التلال بشظايا القنابل، استطاع العرب الانسحاب من تل
إلى آخر تاركين العدو ي تقدم. وفي تلك الأثناء وصلت قوة عربية قوامها مائتان من القرويين المسلحين، ومائة
من البدو، جاؤوا من معسكر قريب.
وكان ذلك هو بالضبط ما يريده لورانس، فقد كانت خطته أن يدع الأتراك يتقدمون حتى منطقة التلال، ثم
يهاجم جناحي قواتهم، مستخدمًا كل بندقية يملكها . وبوصول هذه التعزيزات أصبح لديه العدد الكافي من القوات
لشن هجوم من ثلاث نواح، دون أن يضطر إلى سحب قواته المدافعة عن الطفيلة، من أجل إحكام الطوق الذي
نصبه للأتراك.
وتسلل رجال القبائل بصمت، وفتحوا نيرانهم على حملة البنادق السريعة الطلقات في القوات التركية، بعد أ ن
اقتربوا منهم إلى مسافة مائة ياردة، فأبادوهم عن بكرة أبيهم . وقام عدد من العرب من الناحية الثانية بمهاجمة
المدفعية التركية، وتمكنوا من تشتيتها وتحطيم مدافعها.
ولما رأى الأتراك ما حل بزملائهم في الميمنة والميسرة، هربوا في حالة من الفوضى لا توصف، تغلي الدما ء
في عروقهم للنصر الذي أحرزه العرب، كما أن القرويين الشركس ساعدوا بما لديهم من اتمام نصر العرب.
ولما توقف إطلاق النار أحصى العرب عدد أسراهم وغنائمهم التي تضمنت خمسين أسيرًا، وكل مدفع أحضره
الأتراك معهم.
١١١١٠٠
ولم يعد من الألف ومائة تركي الذين شنوا الهجوم، غير مائتين على قيد الحياة بعد أن هربوا عبر الجبال إلى
مقر قيادتهم.
أما الباقي من القوات التركية ممن لم يقتل في المعركة، فقد مات متأثرًا بجراحه، أو طعنًا بالمدى فيما كانوا
يحاولون الهرب.
وكانت تلك المعركة معركة مرموقة، انتصر فيها لورانس، وفيها أثبت قدرته وشجا عته، وإن كان هو بالذات
لم يشأ أن يعتبرها كذلك . ولذلك جاء تقريره إلى القيادة، حاشدًا بالنكات … حتى "لقد ظن رجال القيادة أنني
مجرد مهرج وليس بالمحارب".
وهكذا كانت معركة الطفيلة هي المعركة الثانية التي يخوضها لورانس دون استعداد . وقد علق على نتائج
المعركة بقول ه: "لقد أسفت لوقوع سدس قواتي في هذه المعركة التي لا تستحق كل هذه التضحيات ". ومع ذلك
فإنه يمكن القول بأن تلك المعركة قد ساعدت لورانس على قطع خطوط مواصلات الاتراك عبر البحر الميت
إلى قواته في أريحا

خالد الحويطي
18-02-07, 01:23 AM
لفصل العشرون

محاولة اعتزال

استطاع لورانس في الثامن والعش رين من شهر كانون الثاني سنة ١٩١٨ ، أي قبل أسبوعين من الموعد المحدد
عند اللنبي لقطع مواصلات الأتراك إلى البحر الميت بهجوم مباغت، أن يقطع الطريق على العدو، رغم أنه شن
ذلك الهجوم برفقة سبعين خيالا وسار ليلا عن طريق الكرك، البلدة التي كان الأتراك يستخدمونها لطح ن
الحبوب التي يجمعونها من الحقول الخصبة المحيطة بها.
وكانت قد بلغته بعض معلومات ومفادها أن قافلة من المراكب التركية المقلة للمواد الغذائية تنوي مغادرة
المنطقة في غد إلى منطقة أريحا، تحت حراسة قارب مسلح.
وقبل أن تنبلج أولى تباشير الفجر، كان العرب قد زحفوا إلى شاطئ البحر، ونزلوا في المياه، قبل أن يتمكن
الملاحون الأتراك من تمالك روعهم . ولما أخذوا على حين غرة، لم يبد الأتراك مقاومة تذكر، وما هي إ ّ لا
دقائق قليلة حتى كانت العملية كلها قد انتهيت . يومذاك أحرق لورانس مخازن المؤن بعد أن استولى جماعته
على محتوياتها، كما جروا المراكب إلى البحر وأغرقوها . ولم يتكبد العرب أية خسائر، بينما أسروا ستين
تركيًا، وعادوا إلى أماكنهم في الطفيلة يهنئ بعضهم بعضًا على ما أحرزوه من نصر سهل، ولعلهم في تلك
الغارة قد حققوا أول انتصار بحري بواسطة المشاة!.
ونفذ لورانس أول مهمتين من المهم ات الثلاث التي اتفق مع اللنبي على تنفيذها، وبقيت المهمة الثالثة، وهي
الاتصال بالقوات البريطانية عند نهر الأردن، إلى الشمال من البحر الميت، في شهر آذار.
ولكن ما أن أهل شهر شباط، حتى بدا أن إمكانيات تحقيق هذه المهمة قد تعذرت، لأن الطقس كان يسوء
باستمرار، وأ صبح السير بما معه من جمال، وسط الثلوج، وعبر جبال مؤاب التي تقع بين الطفيلة والشمال،
١١١١١١
ضربًا من الجنون . فاذا لم تهلك الجمال من التعب، عرضتهم كهدف سهل لبضعة جنود من الأتراك وهم يرتقون
تلك الجبال الشاهقة المغطاة بالثلوج.
وفي الوقت ذاته، كان البقاء في الطفيلة لا يستحق المغامرة، فالمغريات للبقاء لم تكن تعادل أخطار المجازفة،
وكان البرد في ذلك المكان الذي يرتفع خمسة آلاف قدم عن سطح البحر قارصًا، وكان الوقود نادرًا، وظروف
المعيشة قاسية.
هذا زيادة إلى ان نقود زيد كانت قد نفذت، لأنه وزع معظم الذهب الذي كان مقررًا صرف ه على تنظيم
المسيرة إلى نهر الأردن، على الأعراب مكافأة لما بذلوه في معركة الطفيلة . وانتهزها لورانس فرصة ليهرب
من هذه الأحوال القاسية فاحتج بأنه سيعود ليحضر المزيد من المؤن.
وكان الوقت أوائل شهر شباط، وثمة عاصفة تهب بعنف عندما تحرك إلى الجنوب . وكانت الرحلة صعبة
والجمال وراكبوها غير معتادين على السفر في مثل هذا الطقس، غير أن لورانس كعادته اندفع على جملة
ومعه رجال حرسه بأقصى سرعتهم حتى لم يعد للحيوانات المسكينة من طاقة على المشي بله الجري.
وبعد ظهر اليوم الثاني، وصلوا "قذرين ومنهكين يرتجفون بردًا وكأنهم هررة". وفي "الغويرة " كانت قيادة
وحدة السيارات البريطانية المصفحة، ومقر ضابط الاتصال بالأمير فيصل.
ووجد لورانس هناك "دوناي" و"جويس" يعتريهما الوجوم، فقد حاول فيصل قبل أسبوعين أن يحتل "المدورة "
بقوة مختلطة من رجال القبائل وأربع فرق من الجنود العرب النظاميين المزودين بمدافع "بيزاني " الفرنسية،
ولكنه مني بهزيمة منكرة.
فقد حدث، كما هي عادة رجال القبائل، أنهم تخلوا عن القتال عندما فشل أول هجوم شنوه لزحزحة الأتراك
عن مراكزهم، كما حدث أن نقل "بيزاني" مدافعه فاقترب بها أكثر مما يجب، ولم يستطع إ ّ لا أن يتركها إثر
الانسحاب.
وقل استقبل لورانس هذه الأنباء بشىء من التفلسف قائلا إلى الهزيمة من شأنها أن تعلم فيصل في المستقبل أن
يتبع نصائحه.
ثم أن لورانس عقد مؤتمرًا قصيرًا مع فيصل، عاد بعده إلى الطفيلة وفي جعبته ما يعادل ثلاثين ألف جنيه
ذهبًا. ولم تكن العودة بأفضل من مقدمه ، بل لعلها كانت أسوأ، لأنه كان عليهم أن يتحملوا وطأة الرياح الثلجية
والمطر الغزير المصحوب بالبرد من الحجم الكبير.
التي كانت كلها مجتمعة تكاد تقضي عليه وعلى رفيقيه من قبيلة عتيبة وهم يصعدون في الطرقات الوعرة
الممتدة إلى الجنوب من البحر الميت . وقد مروا في ن قطة ما فوق "أبي لسان" بجماعة من رجال مولود يعيشون
في جحور حفروها في الصخور، وراحوا يراقبون تحركات الأتراك على خط سكة حديد الحجاز، وكانوا لا
يملكون وقودًا إ ّ لا بعض الحطب المبتل، ويرتجفون في ملابسهم الخاكية الصيفية، بعد أن فقدوا أكثر من نصف
قواتهم من جراء البرد والإجهاد.
ورغم ذلك ظلوا يراقبون الأتراك وتحركاتهم التي كثيرًا ما كانت تصبح على مرمى بنادقهم.
١١١١٢٢
وقد سر لورانس كثيرًا من شجاعتهم، حتى لقد قال : "إننا مدينون كثيرًا لهم، ومدينون أكثر إلى مولود الذي
يرجع إليه الفصل في تثبيت رجاله في مراكزهم، لما عرف عنه من أخلاق عربية ووطنية .." لقد كانت له
شخصية قوية، مكنته من السيطرة على رجاله، كما كان قوي البنية حتى لقد استطاع أن يمضي ثلاثة فصول
شتاء بالقرب من معان، مع رجاله الذين يبلغ عددهم خمسمائة محارب، كل واحد منهم على استعداد لافتدائه".
وقرر لورانس ألا يكون أقل جلدً ا من مولود، فدفع جمله المثقل بأحماله وتحمل تجمد أطرافه وسار عبر
الجبال.
وحدث ذات مرة أنه كاد يغرق في جدول نصف متجمد، ثم وقع جمله في ممر مغطى بالثلوج، ولم ينهض من
سقطته تلك إ ّ لا بعد كثير من التهديد والوعيد، وأخيرًا اقتنع الحيوان المسكين بأن من الخير له أن ي واصل رحلته
إلى الطفيلة، حيّث سلم ما يحمله من كنوز إلى زيد، وسط كثير من تهليل رجال الأمير الذين أمضوا عدة أسابيع
دون رواتب ودون وسائل راحة.
وبعد أن طلب إلى الأمير، إثر دفع رواتب الجنود، أن يحتفظ بما تبقى معه من ذهب لينفق في العمليات
القادمة، ألقى لورانس بجسده المنهك طلبًا للراحة.
وما إن بلغ الأرض حتى سمع صوتًا يقول له بالانكليزية : "هل لك أن تأخذ بطانيتي؟ إنك تبدو على وشك
التجمد". وكان المتحدث هو الملازم "كير كبرايد" من ضباط سلاح الهندسة الملكي، وقد أصبح ذات يوم
سفيرًا لبريطانيًا لدى الأردن وكان قد أُرس ل من قبل القيادة العامة لدراسة إمكانات إنشاء طريق من بئر السبع
عبر الممرات الجبلية المؤدية إلى الطفيلة، وهو مشروع اقتنع بأنه غير عملي.
وكان "كير كبرايد " شابًا في العشرين من عمره، يتقن التحدث باللغة العربية، كما يتقن أعمال النسف . ولما كان
شابًا ومتحمسًا فق د رأى لورانس أنه سيقدم له المساعدة اللازمة، فقال له : "إنني سأطلب نقلك إلى قواتي ".
وتصافح الرجلان، وبدءا صداقة جديدة استمرت حتى دخول دمشق، وأنقذت حياة لورانس في أكثر من مناسبة.
وفي اليوم التالي، توجه لورانس مع "كير كبرايد" وأفراد حرسه لاستكشاف الطريق إلى ن هر الأردن . كان
الثلج قد بدأ يذوب، وبات من الممكن أن يحفظ موعده مع اللنبي، في شهر آذار، أو قبل أسبوعين من الموعد.
وقد أثبتت عمليات الاستكشاف أن كل شئ على ما يرام . لذا كتب لورانس يقول: "كانت كل خطوة من طريقنا
سهلة وتقودنا إلى حيّث تنضم إلى القوات البريطانية ". وهكذا عاد إلى زيد بروح مرتفعة، لكنه ما إن شرح
خطته في الزحف حتى قاطعه الأمير قائلا: "إن الرحلة تحتاج إلى كميات كثيرة من الأموال"!
وأجابه لورانس بقوله : "كلا… ليس ضروريًا على الإطلاق، إن الأموال لمتوفرة ستغطي نفقات الرحلة، بل
وتزيد على متطلباتها"!
وانزوى زيد في مقعده الكبير، بينما بدأت الوساوس تنتاب لورانس، أو سأله كم تبقى لديه من الذهب الذي
أحضره من "الغويرة"… فتطلع زيد إلى الأرض بخجل وقال: "لم يبق منه شئ… لقد أنفقته على التعويض مجددًا
على شيخ الطفيلة والقرويين ورجال القبائل ". واعترض لورانس : "ولكنك تعر ف بأن العادة أن تدفع رواتب
أفراد القبائل عندما يقومون بعمل ما، وليس أثناء استراحتهم في فصل الشتاء".
فقال زيد: "ورغم ذلك… لقد دفعت لهم أجورهم".
١١١١٣٣
كانت هذه الأقوال آخر دليل على أن العرب لن يتصلوا بقوات اللنبي في شهر آذار، لأن من المستحيل القيام
بالزحف دون ما ل. وكذلك كان من الصعب الطلب إلى القيادة العامة أن تتحمل ما هو فوق طاقتها من جراء
إسراف زيد . وبينما كان لورانس يفكر في هذه المعضلة، دون أن يجد لها حلا، وصل "جويس" على غير انتظار
من "الغويرة" وعرض أن يعود إلى فيصل ويسأله المساعدة.
غير أن زيدًا لم يكن متحمسً ا للفكرة، كما أن لورانس كان قد صمم على العودة إلى القيادة ليسألها قرضًا
جديدًا.
وإنه لمن الصعب على المرء أن يقول كم كان هذا التراجع صعبً ا! وليس من شك في أن لورانس كان قد
ضاق ذرعًا بتصرفات زيد الذي كان ضعيفًا وعنيدًا، وأبدى حماقة منذ اللحظة الأولى التي سلم فيها قيادة حملة
البحر الميت.
والواقع أن لورانس كان قد سئم تولي القيادة، حتى لقد أخبر اللنبي في مقر قيادته في بئر السبع بأنه لم يعد
راغبًا في إعطاء أية أوامر، وأنه يريد منصبًا يستطيع عن طريقه أن يتلقى أمرًا، لا أن يصدر أمرًا.
غير أن الذي خفف عن لورانس ما يشعر به من ضيق، كان ما سمعه من أخبار في القيادة العامة، فقد علم
بأن اللنبي احتل أريحا، وأخذ يعد العدة للهجوم النهائي على سوريا . وكان الجنرال جان سمطس … قد جاء
مندوبًا عن وزارة الحربية البريطانية في لندن، لبحث على ضرورة إخراج تركيا من حومة الحرب بأقرب وقت
ممكن، وذلك من أجل تحرير ما أمكن من القوات البريطانية للاشتراك في الجبهة الغربية، في فرنسا
والفلاندرز.
وقد أبلغ اللنبي مرؤوسه لورانس، بأنه ما زال يتطلع إلى مساعدة أصدقائه العرب في هذا الهجوم الأخير على
دمشق، وأن هذا الظرف ليس بالظرف المناسب لإضعاف معنويات ا لجيش العربي، وذلك عن طريق سحب الثقة
في مقدرته وقيادته.
كان ذلك، على ما يبدو، كافيًا بالنسبة إلى لورانس، وبعد أن قدم شروحه واعتذاراته، قدم مضحيًا بنفسه،
وأصبح بمستطاعه أن يعود الآن لحث فيصل على أن الضربة النهائية يمكن أن تقوم بها القوات العربية، ويجب
على ه ذه القوات أن تصل إلى دمشق قبل أية قوات أخرى . وفي الرابع عشر من شهر آذار سنة ١٩١٨ عاد
لورانس إلى العقبة

خالد الحويطي
18-02-07, 01:23 AM
الفصل الحادي والعشرون

تقدم وانسحاب

كانت خطة العمل الجديدة تقضي كما رسمها اللنبي بشن هجوم عبر نهر الأردن من بلدة أريحا، في
الخامس من شهر أيار، وذلك بقصد التفريق بين الجيوش التركية التي تدافع عن الخط الواقع بين يافا وشمالي
البحر الميت، واحتلال مدينة السلط وتقع على بعد عشرين ميلا إلى الغرب من عمان، وكذلك، من أجل الهجوم
الأخير، وتدمير خط السكة الحديدية جنوبي عمان . وكان دور القوات العربية في هذه الخطة احتلال بلدة معان،
ومن ثم الالتقاء بالقوات الانكليزية في نقطة تقع شمالي أريحا.
١١١١٤٤
وأختير لورانس ليحمل الأخبار السارة إلى فيصل، والتي تشمل الوعد بتسليمه مبلغ ثلاثمائة ألف جنيه ذهبًا،
ليشتري بها ما أمكنه شراؤه من تموينات محلية متوفرة، وسبعمائة جمل بالإضافة إلى الأسلحة.
وتدعم الفرح لهذا العرض الذي قدمه اللنبي، والذي في غمرته، نسيت هزيمة العرب في الطفيلة، إذ تخلى
عنها زيد للأتراك، بعد أن شنوا عليها هجومًا معاكسً ا. وقد أعرب فيصل عن مخاوفه بأن إعادة احتلالها قد
يتمخض عن تدمير سمعته.
وانتهز لورانس الفرصة ليلقي على الأ مير محاضرة قاسية حول عدم أهلية شقيقه الصغير ومسؤوليته في
تأخير التقدم. ثم عاد الاثنان دون مزيد من المهاترات للإهتمام بأعمال المستقبل.
وقد وضعوا ترتيبات احتلال معان بالاشتراك مع "جويس" وفيصل. وبموجب هذه الترتيبات كان على جعفر
ونوري السعيد أن يهاجما بمساندة الجنود العرب النظاميين، وكان على "جويس" و"دوناي" أن يقطعا خط السكة
الحديدية عند "المدورة".
ولكن قبل ذلك كان عليهما أن يمنعا تقدم الأتراك من المدينة أما لورانس فكان عليه أن يحرض قبيلة بني
صخر في منطقة عمان.
وما إن فعل حتى وردته أنباء عن احتلال السلط، وبل غته كذلك الأوامر بأن، يهاجم الأتراك المتراجعين من
الخلف.
وكانت الخطة لاحتلال معان تقضي بوضع القوات العربية على امتداد خط السكة الحديدية إلى الشمال، لقطع
الطريق أمام وصول أية إمدادات إلى المدينة بأي شكل كان، وكذلك التموينات، ومن ثم إجبار العدو على
الانسحاب إلى مكان مكشوف . غير أنه ما إن سمع مولود وضباط الجنود العرب النظاميين هذه التعليمات، حتى
عارضوها بشدة، وأصر مولود على القيام بهجوم مباشر . وقد استمر النقاش حول هذه المسألة عدة أيام، وأخيرًا
تولى فيصل أضعف جوانب المسألة وسمح لمولود بأن يختار الطريق التي يريد ها، لأن الأمر قد أصبح موضوع
كرامة بالنسبة للمحارب القديم وجماعته من الضباط.
ولقد قبل لورانس بهذا القرار على مضض رغم خلوه من الحكمة، ورغم ما أظهره فيصل من ضعف أمام
مولود، وتوجه في أول شهر نيسان إلى "عطارة" ليقيم فيها مقر قيادته . وهذه القرية تعتبر مركز قبيل ة بني
صخر، وتقع إلى الجنوب الشرقي من عمان، حيّث كان كل من مفلح وفهد ينتظرانه هناك.
وأثناء الطريق تلقى نبأ يفيد أن داود، أحد رجال حرسه، قد توفي من تأثير البرد في الأزرق، حيّث أقام مع
الشيخ علي بعد حادث درعا . وقد تأثر لورانس كثيرًا لهذه الفجيعة، ولو على الأ قل مشاركة منه لصديق داود،
وحبيبه المخلص فرّاج، الذي أصيب بضرب من الذهول أفقده القدرة على القيام بواجباته، وكانت جمة . ولم
يستطع لورانس أن ينهي هذا الوضع الشاذ إ ّ لا بعد انقضاء فترة من الوقت.
وحدثت المفاجأة بعد أسابيع قليلة، فبعد وصولهم إلى "العطارة" وردتهم أنباء تفيد أن الانكليز قد احتلوا، ليس
السلط فحسب بل وعمّان أيضًا، فأمر لورانس بتتبع فلول قوات العدو المتقهقر، ولكنه ما إن شرع بهجومه حتى
وصلته أنباء تقول بأن الأتراك قد استعادوا المدينتين، وأنهم أخذوا يطاردون قوات اللنبي عبر وادي الأردن،
وأن جمال باشا قد يعود إلى القدس خلال بضعة أيام.
١١١١٥٥
وفي الوقت ذاته، ولكي يزداد رعب القوات العربية، انتشرت شائعات عن دفع الأتراك جوائز ضخمة لكل من
يل على أولئك الذين تمكنوا من مساعدة القوات البريطانية في هجومها على السلط.
والظاهر أن لورانس لم تخفه التجربة التي مر بها في درعا لأنه قرر الذهاب بنفسه لاستقصاء الحقائق، فدخل
عمان مع فراج، وهما متنكران في زي امرأتين بدويتين . وسرعان ما اكتشف أن الأتراك يسيطرون على
المدينة. ولم يمضيا في المدينة مدة طويلة، حتى اعترضتهما جماعة من الجنود الأتراك، الذين حاولوا إقناعهما
بإمضاء الليلة مع بع ض الضباط الأتراك، حيّث ستنالان مبلغًا لا بأس به، وكان ذلك خدعة كما يبدو أو شكًا من
الجنود بالبدويين البيضاوين على الأقل.
ولم يكن هنالك أية بادرة توحي بقرب تقدم القوات البريطانية، ولا أية بوادر تشير إلى أن القوات التركية
مستعدة للتقهقر، أو أن القوات العربي ة مستعدة لتحدي انذارات الأتراك . لذلك لم يجد لورانس أمامه سوى الهرب
والانسحاب إلى مقر قيادة فيصل، حيّث ينتظر هجوم اللنبي من جديد.
وحدث أثناء عودته مع رجال حرسه، أن التقوا بدورية من الجنود الاتراك، ولقد أراد العرب ن يفتحوا النار
على الاتراك، ولكن لورانس فكر في أنه قد يكون من الأفيد لهم ألا يضيعوا ذخيرتهم على مثل هذه الجماعة
القليلة.
وفجأة، وفيما هو يشرح خطته لمح فراج يندفع إلى أمام، مخالفًا تعليمات رئيسه، وما لبث الجميع أن لحقوا به،
ولكن فراج كان يتقدمهم معرضًا نفسه هدفًا سهلا لبنادق الأتراك . وقد اخترقت الرصاصة الأولى جسده ممزقة
معدته، فانفجر منها سيل من الدماء، قبل أن يلحق به أفراد جماعته.
وفيما كان هؤلاء يفكرون فيما إذا كان من الممكن انقاذه، وكيف، بلغهم نبأ مفاده أن دورية من الجنود الاتراك
تقترب من مكانهم، وأن عدد أفراد الدورية يزيد على خمسين نفرًا، وانهم يتقدمون على امتداد خط السكة
الحديدية.
وهنا قرر لورانس في غمرة غضبه أن يفعل كل شئ إ ّ لا أن يسمح بوقوع فراج في أيدي القوات التركية،
وتحمل التعذيب الذي كان الأتراك يقومون به تجاه الأسرة من القوات العربية.
وكان من المعروف عن الاتراك أنهم يحرقون الخونة وهم أح ياء. وكان لورانس قد اتفق مع رجاله على أن
يجهز أي منهم على أي شخص يسقط جريحًا. وقد وصف لورانس آخر لحظات فراج بقوله:
"لقد ركعت إلى جانبه، حاملا مسدسي، مصوبًا إياه إلى رأسه، بحيث لا يرى ما أقصد إليه، وإن كان من
المؤكد أنه حرز قصدي، لأنه فتح عينيه ولمسني بيده المرتعشة الناحلة التي يتميز بها أهالي نجد، وانتظرت
لحظة فقال :" إن داود سيغضب منك " وعادت الابتسامة إلى ذلك الوجه المتجهم، فأجبته: سلم لي عليه . وفي
النهاية أغمض عينيه ومات.
وقد وجد لورانس في مقر قيادة فيصل بالقرب من معان أن اللنبي قد فشل بالفعل بالاحتفاظ ب مدينة السلط، وأن
العرب، كما كان يتوقع، لم يتمكنوا من احتلال معان، فقد ثبت أن مدافع نوري السعيد غير قادرة على تدمير
المدينة، كما أن مولود قد جرح، وأخذ عودة يتخاصم مع كل انسان، بما في ذلك فيصل ونوري، وكان يتهمهما
١١١١٦٦
بأنهما يصران على اتباع تكتيك حربي لا يناسب رج ال القبائل، وهو اتهام كان نوري يرد لعيه بألا فائدة من
قبيلة الحويطات.
وقد قاد نوري جماعة إلى محطة سكة الحديد في معان، ولكنه أخطر فاضطر للانسحاب عندما نفذت الذخيرة
من المدافع التي كانت تحت إمرة "بيزاني". وكان النجاح الوحيد الذي استطاعوا تحقيقه هو قطع السكة الحديدية
على أمل استحالة إصلاحها، في نقطة تبعد عشرة أميال إلى الجنوب من المدينة.
وكإجراء حسن، قام "دوناي" بغارة على "المدورة" برفقة لورانس واثنين من الضباط البريطانيين، كانا قد
وصلا حديثًا، أحدهما "هو رنبي " الخبير بالمتفجرات و"بيك" الذي قدّر له أن ينشئ فيما بعد "الجيش العربي "
الغارة ناجحة، إذ أن المحطة قد دمرت بشكل يفوق مقدرة فخري باشا على اصلاحها من جديد.
على أن كل ما حققه قطع السكة الحديدية، لا يعدو محاصرة الأتراك في مراكزهم القوية في المدينة ومعان
وعمان، دون أن يساعد فيصل على التقدم بامتداد الجناح الأ يمن للحلفاء. ومرة أخرى خشي لورانس أن فشل
الجنود العرب في تنفيذ خطة متفق عليها، سيعرضهم إلى غضب القائد العام، ومرة أخرى كذلك أسرع يقدم
اعتذاراته ويشرح أسباب ذلك التخلف إلى اللنبي.
وقد استقبلته لدى وصوله إلى القدس أنباء تفيد بأن البريطانيين قد أعادوا احتلا ل السلط، وشكرًا للمساعدة التي
قدمتها قبيلة بني صخر، وخاصة شيوخها الذين قدموا سرًا إلى أريحا ليعرضوا خدماتهم الممثلة في عشرين ألفًا
من رجال القبائل، عرضوا اشراكهم في الهجوم التالي الذي سيقوم به الانكليز.
ولم يستطع لورانس أن يصدق ما سمعه، فقد كان يسوءه أن ي حقق الانكليز دورهم، بينما يعجز العرب عن
تحقيق دورهم . وكذلك فقد كانت إعادة احتلال المدينة، بمساعدة القبيلة التي كان من المفروض أن يجندها هو
إهانة لكبريائه ومركزه.
ثم كان هنالك وجه آخر غير سار في القضية، ويتلخص في أن القاهرة قد عينت ضابطًا بريطانيًا جديدًا يدعى
"يونغ" ليعمل مساعدًا للورانس في مهمة ضابط الاتصال بقوات الشريف . وكان "يونغ " هذا مستشرقًا يجيد
التحدث بالعربية، وجنديًا مخلصًا، ولكن لورانس كرهه ولم يثق به منذ اللحظة الأولى التي وصل فيها، ظنًا منه
بأنه إنما أرسل ليبلغ القيادة عن اتصالاته وأعماله.
ولما كان لورانس يود التخلص منه بأسرع وقت ممكن فقد أرسله ليدافع عن مركز مراقبة يقع بين معان
وعمان، أي في ذات المنطقة التي كانت قبيلة بني صخر تقيم فيها، وهناك أبلغ بوصفه من ضباط قيادة اللنبي
بأن البريطانيين قد جندوا أفراد القبيلة لمساعدتهم على استرداد السلط.
وكان ذلك كثيرًا بالنسبة لاعتداد لورانس بنفسه، ويجب الاعتراف بأن الرجل قد ارتاح كثيرًا، عندما سمع بعد
ساعات قليلة بأن الهجوم قد فشل، وأن الانكليز اضطروا مرة أخرى للانسحاب، نظرًا ن افراد قبيلة بني صخر
فشلوا في المحافظة على تعهداتهم.
وانتهز لورانس الفرصة، وأو حى إلى أركان حرب اللنبي، بأنه يستحين في المستقبل استشارته قبل الإقدام على
أمر يتعلق بالعرب . وحدث انسحاب انكليزي آخر، علم البريطانيين أن "يصبرا أكثر" على مشاكل فيصل، كما
١١١١٧٧
أنه، أعطاه الفرصة لرفع اللوم عن العرب، كما اصبح بامكانهم القول بأن "عناد اللنبي قد تمخض عن إرغامنا
على البقاء محاصرين في معان".
وعلى كل، فقد كان هناك قليل من الشك في أن لورانس قد تصرف، بدافع من غضبه، تصرفًا أهوج، في
زيارته تلك لمقر القيادة العامة، إذ كان في جميع مناقشاته يتحدث بلهجة من هو أكثر معرفة من سواه.
والواقع أنه كان باستطاعته آنذاك أن يدعي بأنه يعمل منفردًا في تحقيق عملية باسلة وناجحة، ولكنه في هذه
المرة تصرف كطفل فاسد، إذ راح يبرر الفشل الذي تم على يديه، ويقلل من قيمة النجاحات التي حققها زملاؤه
البريطانيون.
أما كيف أمكن اللنبي أن يحتمل هذا التصرف الأهوج، فأمر يمكن أن يرد ولا ريب إ لى ما لدى هذا القائد العام
من صبر وتفهم للطبائع الإنسانية، فقد كان لديه ما يكفيه للتفكير بما يثقله من مشاكل، وليس من حاجة لتحمل
هذا الموقف الحرج، إذ طلبت إليه وزارة الحربية الامبراطورية أن ينتهي مع الأتراك بأسرع ما يمكن.
وفي الوقت ذاته كانت الوزارة الحربية في لندن تلح عليه بتوفير ما أمكنه من الجنود لدعم جبهة أوروبا.
ولكن الجنود الهنود الذين وعد بارسالهم إليه من جبهة العراق لم يكونوا قد وصولا، ليحلوا محل القوات
البريطانية التي كان من المقرر أن يستغنى عنها لتدعيم الجبهة الأوروبية.
ولما كان اللنبي مضطرًا للا نتظار وتأخير هجومه فقد كان كل ما بوسعه أن يفعل، هو أن يأمل في الاحتفاظ
بمراكزه، والا يقوم الأتراك بهجوم معاكس، وبقوة تفوق قوة الانكليز.
ثم جاء لورانس ليضع على رأس هذه المشاكل مشكلة أخرى تتلخص في طلبه إلى القيادة العامة القيام بغارات
جوية، على معان وعمان، وعلى خط سكة حديد الحجاز، لتكفيك تماسك الأتراك واجبارهم على الخروج إلى
ميدان المعركة بشكل مكشوف.
واستدعى اللنبي الجنرال المسؤول "سالموند" الذي كان يقود القوات الجوية، واتفق معه على القيام بتلك
الغارات. وهنا طلب لورانس أن يعطي الجمال الالفين التابعة لقوة ا لهجانة الامبراطورية، وكان قد تقرر حل
تلك الفرقة، باستثناء فصيلة واحدة تبقى تحت قيادة كولونيل المشاة "بوكستون".
واستدعى اللنبي الضابط المسؤول عن الممتلكات وسأل لورانس أمامه عن السبب الذي يريد من أجله هذه
الحيوانات.
وقد أجاب لورانس دون أن يضيع لحظة في التر دد، "لكي أضع تحت تصرفكم وفي أية لحظة الفي رجل في
درعا، بل وفي اليوم الذي تحددونه . وابتسم اللنبي وهز رأسه للضابط وقال موجهًا حديثه له : "لقد خسرت
الرهان يا سيدي".
وقد يتراءى للمرء أن لورانس، أو أي شخص في مكانه في تلك اللحظة بالذات سيكون قادرًا على اعطاء
الأمر، رغم أنه كان يحادث قائده العام، نظرًا لما كان يتمتع به من شخصية قوية.
ولكن الحقيقة هي أن اللنبي كان يثق ثقة عمياء بهذا الضابط الشاب، بل ربما كانت ثقته به تفوق ثقة لورانس
بنفسه.
١١١١٨٨
واعترافًا بحكمته في القيادة الحربية كتب الجنرال اللنبي يقول : "لقد كانت تحت إمرتي … ولكنني بعد أن
أطلعنه على خطتي العامة، اطلقت يده … وكان تعاونه يتميز بالإخلاص المطلق، حتى لم يكن لدي ما أقوله فيما
يفعله، غير الإطراء والثناء، ذلك لأن ما كان يفعله كان له أكبر الأثر في نجاح الحملة".
ولو أن الجنرال اللنبي لم يكتشف هذه الخصائص في لور انس، لكان هذا قد انتهى بعد أول فشل صادفه، وذلك
لكثرة ما كان له من أعداء في القيادة العامة وفي القاهرة، وما كان في مقدوره أن يمضي قدمًا لولا تأييد القائد
العام.
وقد أدرك لورانس إدراكًا تامًا مدى الدّين الذي يثقل كاهله بالنسبة للقائد العام.
وعلى الرغم من أ نه كان مشغولا في استلام ما يستطيع استلامه من القيادة العامة، من ذهب ومؤن، فقد أسرع
بالعودة إلى فيصل ليبلغه انباء انتصاراته، وليعلن إليه بأنه لن يكون مضطرًا في المستقبل، لتنفيذ الخطط التي
يرسمها الأمير، ما لم تحظ بموافقته

خالد الحويطي
18-02-07, 01:24 AM
الفصل الثاني والعشرون

نبذ فيصل

كان أحر استقبال لاقاه لورانس هو ذلك الاستقبال الذي قوبل به لدى عودته إلى معسكر فيصل الذي سر
كثيرًا عند سماعه نبأ حصوله على الألفي جمل. وقد بلغ من شدة سروره أنه عجز عن الكلام لفترة من الزمن.
ولكنه ما لبث أن قفز واقفًا وراح يقبل لورانس، ثم أخذ يصفق بيديه ف أسرع إليه خدمه، فأمرهم باستدعاء عودة
وزعل وفهد وغيرهم من الشيوخ الذين يتولون قيادة جيشه.
ولما اجتمعوا كلهم قال لهم : "إن الله قد بعث الينا بهدية من شأنها أن تحمل العرب الآن على السير قدمًا نحو
النصر، دون أن يهددهم أحد، ومن ثم فسينالون حريتهم". وشكروا لورانس بحرارة وهنأوه على نجاحه البارع.
ثم انقلب الشيوخ إلى مجادلة بعضهم بعضًا حول أفضل الطرق التي يمكنهم بها استخدام هذه القوة الإضافية
التي أرسلها إليهم الله!.
وأسرع لورانس ليبلغ "جويس" تلك الأخبار الطيبة، إذ كانت تلك اللحظة هي اللحظة الحاسمة، لأن وسائل
النصر كانت واضحة أمامه. فهو قد أصبح، وبعد طول انتظار، يملك المفاتيح التي ستفتح له بوابات دمشق.
ولقد أحس بأن الآلام التي عاناها خلال السنتين الماضيتين قد ولت، وأنها كانت تستحق أن يعاني ما عانى من
أجلها بعد أن أصبح متأكدًا من حصوله على النصر المؤزر في النهاية، فعرش سوريا أصبح جاهزًا للملك الذي
سيتربع عليه، وأصبح "صانع الملوك" مستعدًا لتقديم الملك ليستلم العرش.
ولذا فقد وقف لورانس وسط الشيوخ الذين كانوا يضحكون بسرور طاغ، مستمتعًا بما استطاع تحقيقه حتى
الآن للأمير.
وقد أصبح متأكدًا من حصوله على الجائزة القيمة ال تي سيقدمها له هذا الأمير المعطاء . ولكي يتأكد أكثر من
صدق تخميناته قال لفيصل، إن لحظة النصر ستعني لحظة تسريحه من الخدمة، الأمر الذي اعترض عليه
١١١١٩٩
فيصل، كما كان لورانس يأمل ويتوقع، وأسرع يقول : " يجب أن تبقى معنا دائمًا… وليس حتى دمشق، فقط، كما
وعدتك في أم لحج". والواقع أن لورانس كان في ذلك الوقت هو القوة الكامنة وراء عرش شبه الجزيرة العربية.
غير أن إشراقة شمس هذه اللحظة البطولية، سرعان ما اختفت، بل وبأسرع مما بزغت فيها.
وكما يكون الحلم أحيانًا زاخرًا بالآمال، فإن الأشباح السوداء سرعان ما تشوبه، حتى يصبح كابوسً ا. إذ أ،ه لم
يمض أكثر من شهر، حتى وجد لورانس أن كل شئ جاهد من أجله قد أخذ يتلاشى تدريجيًا، إذ بلغه بأنه لن
تكون هناك شبه جزيرة عربية حرة ومتحدة، لأن العرب كانوا مختلفين فيما بينهم، ولان فيصل أضعف من أن
يوحدهم أو يبعث فيهم الحياة . وكان لورانس حتى تلك اللحظة يرفض الإذعان لكل ما كان باديًا له من إشارات،
وواصل سعيه رغم علمه بأن الحلفاء يتآمرون لجعل شبه الجزيرة العربية مستعمرة لهم، اعتقادًا منه بل لعل
من الأصح القول إنه أجبر نفسه على الاعتقاد بأن العرب سيظهرون قوتهم، ويرغمون بذلك البريطانيين على
تنفيذ ما بذلوه لحسين من وعود، بعد أن يتم طرد الأتراك من بلادهم.
لقد كان يغضب … ولكنه ما كان ليعارض أو يعترض، عندما كان العرب يظهرونه بمظهر الفاشل، وعندما
يعللون عدم تحقيقهم للانتصارات بسبب نقص الرجال والأسلحة والجمال . ولكنه كان يكتشف كل أسبوع أنه مرد
عدم إقدام العرب على الحرب بحماسة، يعود إلى قلة الثقة في قلوب آل الشريف الحسين، وليس لقلة الامكانيات
الحربية.
وقد هبط الوحي على لورانس في منتصف شهر حزيران، بعد أن عاد هو وناصر وعودة من شن غارة على
خط حديد الحجاز لمنع الأتراك من إرسال أية إمدادات إلى حاميتهم المحاصرة في معان، بعد أن وردت الأنباء
تفيد بأن القوات التركية تتجمع في عمان.
وكانوا على الرغم من تعرضهم لقنابل الطائرات التركية قد تمكنوا من تحقيق مهمتهم، فنسفوا مسافة أربعة
أميال من خطة السكة الحديدية، بالإضافة إلى ثلاثة جسور وبعض بنايات المحطة في "الحسا" التي تبعد مسافة
ستين ميلا عن معان، ومحطة أخرى تقع إلى الشماء من "الحسا".
وقد شرح لورانس أمر العملية للأمير فيصل بقوله : "إن هذه العملية تعني تجميد القوات التركية في مركزها
قرب عمان مدة لا تقل عن شهر، وربما امتدت إلى ثلاثة أشهر، وخلال هذه الفترة ستصل الإبل الجديدة
وستكومن جاهزة للعمل".
وكان على اللنبي أن يؤخر هجومه حتى شهر تشرين الأول لأنه لم يكن يملك العدد الكافي من القوات، واذا ما
كان العرب على استعداد للهجوم منفردين في شهر أيلول، عندما تصل الإبل، فستكون أمامهم كل فرصة
لاحتلال دمشق وحدهم.
واقترح لورانس على فيصل أن يطلب إلى ابيه الحسين نقل وحداته النظامية لتلتحق بقوات فيصل، كي تشترك
تحت قيادة عبد الله وعلي وفيصل في هذا الهجوم العربي . ولو جاءت هذه الوحدات لرفعت عدد قوات فيصل
النظامية إلى عشرة آلاف مقاتل، وهذه يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام، القسم الأول للدفاع عن معان، والثان ي
ليقوم بالهجوم في قطاع درعا دمشق، أما الثالث فلكي يلحق بقوات اللنبي في أريحا.
١١٢٢٠٠
فالهجوم على قطاع درعا دمشق سيضطر الأتراك إلى سحب فيلق من فلسطين، وبذلك يمكن مساعدة اللنبي
لدعم هجوم العرب، كما أنه يعني أن العرب سيدخلون دمشق في ذات الوقت الذي تتقدم فيه ال قوات البريطانية،
وهكذا يكون بامكانهم الاستفادة من الدعم البريطاني، بدلا من أن يعرقل تقدمهم.
ووافق فيصل فورًا على هذه الخطة، وبعث بالرسائل الضرورية إلى والده في مكة . ثم طلب لورانس إلى
"وينغات" الذي خلف مكماهون في القاهرة، أن يضيف رسالة أخرى إلى مجموعة الرس ائل هذه، يؤكد فيها على
الشريف حسين بأن البريطانيين يؤيدون مطالب فيصل الخاصة بدعمه بالقوات النظامية، وأن الشريف حسين لن
يكون مسرورًا إذا ما رفض طلبًا يدعمه الضابط البريطاني للمدفوعات.
وقد تم له ما أراد، وإن كان لورانس يقول : ان لهجة رسالة المندوب السامي البريطاني "وينغات " كانت أشد
كثيرًا مما ينبغي. وبعدها ذهب لورانس إلى مقر القيادة العامة ليبلغ اللنبي آخر التطورات.
وابتسم القائد العام وأبلغه بأنه جاء متأخرًا، فالقوات الهندية أخذت تصل، كما أن اللنبي قرّر تقديم موعد
هجومه العام إلى أيلول، قبل وصول لورانس بثلا ثة أيام، وعلى هذا فإن الجيوش العربية لن تهاجم منفردة بل
جنبًا إلى جنب مع حلفائها البريطانيين.
وقد تقبل لورانس الأمر على علاته، وإن كان قد تألم لتأكده من أن العرب لن يتمكنوا من لعب دورهم
منفردين.
ثم نزلت الضربة الفعلية . فبعد أن حصل على تأييد اللنبي على خط ته بفعل الوحدات النظامية التابعة لقيادة
علي وعبد الله إلى قوات فيصل، ذهب إلى جدة ليقابل الشريف حسين.
ولكن الشريف لم يعر قدومه أي اهتمام، واحتج بحلول شهر رمضان ولجأ إلى مكة للتعبد، حيّث لا يجوز لغير
المسلمين أن يدخلوا تلك المدينة . وقد اتصل به لورانس هاتفيً ا من جدة ليحاول حمله على اتخاذ قرار، ولكن
الشريف رفض أن يقيد نفسه بوعدٍ ما.
والواقع أن الشريف حسين كان يحسد ابنه فيصل على ما حققه من انتصارات وراح يشك في تقربه من
البريطانيين، وعلى هذا الأساس أوضح أمرًا واحدًا، هو أنه لن يرفع إصبعًا في سبيل مساعدة فيصل عل ى
احتلال دمشق، وانه يكرس كل قواه لرفع مستوى كل من علي وعبد الله اللذين اعلن أ،هما على التوالي وريثا
عرش الحجاز وعرش سوريا . أما فيصل ومستشاره الانكليزي فقد كانا يتبعان سياسة تخالف رغباته، ولذلك فهو
لن يشارك بها.
ولكن الشريف حسين بدافع من حسده وشكه ارتكب حم اقة كبرى، إذ أنه لم يدرك أن سياسته التي يتبعها
ستلقيه في أيدي الفرنسيين الذين كانوا رغم شكه في البريطانيين شكًا عميق الجذور يعتزمون ضم سوريا وما
يمكنهم ضمه من البلاد العربية إلى منطقة نفوذهم بعد تحرير شبه الجزيرة العربية.
والواقع إن شكوك لورانس في ذلك ا ليوم القاتم الذي قضاه في جدة، كانت تعبيرًا عن شكوك الشريف حسين،
تلك الشكوك التي أحيى بها الفرنسيون بما قدموه من دسائس وأكاذيب لاقت قبولا لديه . ألم يكن "بريموند " هو
الذي حرض عبد الله على الوقوف ضد البريطانيين؟ ثم … ألم يكن غريبًا بينما كان فيصل بعيدًا أن يقوم عبد الله
١١٢٢١١
بتسميم أفكار والده عليه وعلى حلفائه البريطانيين، مستخدمًا الشائعات عن الصفقة الانكلو فرنسية حول
اقتسام شبه الجزيرة العربية، من أجل زيادة غضبه؟.
ومع ذلك، فإن ما هو أسوأ كان سيتبع كل ما حصل، إذ أن شكوك الشريف حسين في ابنه فيصل قد انقلبت
إلى اتهام مباشر بعد شهرين فقط من تلك الحادثة، بل وتعدت تلك الشكوك الأمير فيصل إلى قواته.
وحصل في أحد أيام شهر آب أن تلقى الأمير فيصل برقية من مكة فيها نبأ تعيين جعفر باشا قائدًا عامًا للجيش
العربي الشمالي، وهو لقب لا يمكن أن يحمله غير الأمير فيصل ذاته.
ولما لم يشأ جعفر أن يقحم نفسه في مثل هذه الخلافات العائلية، فقد أبرق إلى مكة عارضا استقالته، غير أن
فيصل رفض ارسال البرقية، وبعث ببرقية إلى والده يحتج فيها عليه لمحاولته انتزاع القيادة منه لمجرد حسد لا
مبرر له ولمجرد شبهات لا أساس لها تحوم ضده وضد قواده في الحملة على سوريا.
وتلقى فيصل برقية جوابية تصفه بأنه خائن وخارج على القانون، وعندها عرض فيصل استقالته فقبلها
الشريف، وعين زيدًا مكانه غير أن ابنه الأصغر رفض قبول المنصب رفضًا باتًا.
وكان من الواجب إملاء الفراغ بأسرع وقت ممكن، لأنه لم يبق على هجوم العرب سوى بضعة أسابيع، وكان
على الجنرال اللنبي أن يقرر، بل وطلب إليه أن يتدخل وقرر، ما إذا كان يجب على فيصل أن يستمر في
منصبه رغم إرادة والده، أم انه يجب أن يعلن استقلاله عن مكة.
ومضت عدة أيام حافلة بالقلق، كان كل شخص ينتظر خلالها، وقام اللنبي بضغط على الشريف حسين ليقنع ه
باعادة تعيين الأمير فيصل، غير أن خطوط اللاسلكي من المدينة المقدسة كانت تحمل رسائل تزيد من الاتهامات
الموجهة إلى فيصل . ولكن لورانس نجح في تخفيف محتوياتها قبل أن يعرضها على فيصل، وذلك في محاولة
منه لتخفيف حدّة الخلاف . وخلال ذلك حدث تمرد في صفوف القوات العر بية النظامية التي تناهت إليها شائعات
الأزمة، الأمر الذي فسر انسحاب فيصل ولو بشكل مؤقت، من ميدان توزيع الأموال . غير ان هذا التمرد امكن
السيطرة عليه بعد أن قام لورانس بتقديم الأمير لقواته وتذكيرهم بأن وجوههم ميممة شطر دمشق، وليست شطر
مكة.
وأخيرًا أقنع الشر يف حسين بسحب إرادته غير العادلة، ولكنه لم يستطع، في البرقية التي حملت نبأ عدوله عن
عزل فيصل، إ ّ لا أن يكرر اتهاماته له ولكل من يؤازره من الأشراف.
ومرة أخرى تمكن لورانس من تخفيف لهجة البرقية قبل أن يسلمها إلى فيصل الذي صرح بأن "البرقية قد
انقذت شرفه"، ثم همس في اذن لورانس قائلا: "إنني أعني شرفنا جميعًا".
وهكذا انتهى الحادث بضحكة … ولكن ما كانت تخفيه من نذير كان واضحًا، فإن وحدة شبه الجزيرة العربية
التي عمل كل من لورانس وفيصل على تحقيقها بمختلف الطرق وبمنتهى الحذر، وبكل الوسائل الدبلوماسية
الممكنة، وأعدّا لها الخطط ورسما المشاريع قد بدأت تنهار، وفي اللحظة ذاتها التي كان يترتب فيها على
جيوش الشريف أن تشن هجومها على دمشق وتحرر سوريا، حتى يكون فيصل الأولى بالعرش.
وفي تلك اللحظة بالذات كانت الحركة العربية بأسرها مهددة بخطر الانقسام بدوافع الحسد والغيرة.
١١٢٢٢٢
ولقد ع اد لورانس إلى القاهرة رج ً لا محطمًا، قد انقلبت حماسته إلى يأس، كما أن شعوره بمسؤوليته وأطماعه
الشخصية قد اضمحلت حتى غدت كنقطة في بحر

خالد الحويطي
18-02-07, 01:25 AM
الفصل الثالث والعشرون

تحليلات شخصية

لما عاد لورانس إلى القيادة العامة، القى بنفسه في خضم العمل من أجل إعداد الترتيبات اللا زمة للحملة
الأنكلو عربية المشتركة على دمشق . وكان ذلك يتضمن إعداد خطط مخاتلة، توحي للأتراك بأن هناك
تجمعات هائلة من السيارات والخيام والطائرات، سيستخدمها اللنبي في إعادة الهجوم على السلط وعمان، في
الوقت الذي تكون فيه القوات البريطانية زاحفة باتجاه الشاطئ في حركة التفاف سريعة.
وكان على القوات العربية أن تساعد في إبقاء الأتراك يتوقعون حدوث المعركة في قطاع عمّان ووادي نهر
الأردن، مع قيام حركة تمرد في درعا "النقطة الحسّاسة بالنسبة للجيوش التركية " وهدف القوات البريطانية
الرئيسي.
ونظرًا لأن قوات فيصل لن تكون على أهبة الاستعداد حتى شهر أيلول، فقد اتفق على أن ترسل فرقة الهجانة
بقيادة الكولونيل "بوكستون" للقيام بسلسلة من الغارات على خط سكة حديد الحجاز، من "المدوّرة" حتى عمان.
وكان المأمول أن تساعد هذه العمليات في إبقاء الضغط على الأتراك، بينما تيسر للقوة العربية الضاربة أن
تتمركز في الأزرق، استعدادًا للزحف على درعا.
وبعد أن قاد لورانس رجال "بوكستون" حتى وادي "رم" لتلقينهم الطرق والعادات التي تتبعها القبائل العربية،
تلك الطرق والعادات التي ينتظر أن يلاقوها اثناء هذه الحملة، أسرع إلى مقر قيادة فيصل في سهل "الجفر" الذي
يقع إلى الشمال الشرقي من معان.
وقد وجد لورانس المكان يعج بالنشاط، ذلك النشاط الذي يسبق الزحف في العادة . وكان مقر قيادة فيصل كذلك
يتميز بالتوتر الذي نجم عن زيارة "نوري الشعلان" الذي جاء في النهاية ليعرض تأييد قبيلة "الرولا".
وأخذ لورانس بهذا الهرج وا لمرج، ولكنه لم يستطع أن يقاوم رغبته في خوض الحديث عن الحرية، ذلك
الحديث الذي كان يملأ خيام الأمير فيصل . وعلى الرغم من أن لورانس كان يعرف بأن مستقبله النهائي مرتبط
بمستقبل قضية العرب، إ ّ لا أنه كان يشعر في قرارة نفسه بأنه ينبغي عليه أن يشعر بنوع من التبكيت و تأنيب
الضمير.
حتى لقد كتب يقول : "عندما أتحدث عن الشرف، أشعر وكأنني قد فقدته قبل سنة، عندما أكدت للعرب ان
انكلترا ستحافظ على كلمتها".
ولكن لورانس بدافع من حقده، وشعوره بالخيانة للقضية التي كرّس نفسه من أجلها، وما كان ينتابه من نوازع
الشك في مقدرة العرب عل ى التغلب على دوافع خيانة قضية الحلفاء بأسرها، راح يستمع إلى تقارير فيصل
يوميًا، وكأنه يستمع إلى رواية.
١١٢٢٣٣
ولم يمض طويل حتى كان أحد الأشخاص الرئيسيين في الميدان، وإن كان دوره لا يعدو المراقبة والانتظار،
بينما يقوم الممثلون بتمثيل أدوارهم على المسرح حتى نهاية المأساة.
وفي تلك الأثناء، انصرفت شكوك لورانس التي كانت تعذب دماغه إلى جهة أخرى، فقد وصل "دوناي" يحمل
أنباء سارة عن نجاح "جويس" في احتلال "المدورة" كما يحمل إنذارًا إلى فيصل بالا يستعجل الهجوم على
دمشق، إ ّ لا عندما يتأكد من أن الانكليز قد اخترقوا خطوط الاتراك الدفاعية.
وقد أجاب فيصل مبتسمًا بأنه "سيحاول الهجوم خلال الخريف على دمشق، حتى ولو سقطت السماء على
الأرض، وحتى لو لم يكن الانكليز على استعداد لتحمل قسطهم في ذلك الهجوم، بل حتى لو اضطر إلى انقاذ
شعبه عن طريق عقد صلح مع الاتراك".
وكان لورانس يعلم منذ مدة بأن الأمير فيصل كان يكاتب جمال باشا، ولكنه اعتبر بطريقته البيزنطية أن
تبادل الرسائل بين الطرفين مجرد محاولة لتقسيم صفوف الأتراك، على اعتبار أن قسمًا من أركان حرب جمال
باشا كان يعارض في التحالف مع الألمان وهذا يمثل القسم المتعصب للإسلام ويعارض في ا تخاذ
إجراءات انتقامية ضدّ الحجاز، كيلا تمتدّ المقاومة للحكم التركي إلى أجزاء أخرى من الامبراطورية العثمانية.
وكانت الاتصالات قد بدأت بعيد فشل اللنبي في احتلال السلط، وعندما جاء شقيق عبد القادر، المدعو محمد
سعيد كمبعوث من قبل جمال باشا، ليجس نبض الأمير فيصل حول امكانية عقد مفاوضات للتسوية.
وكان جمال باشا يدرك بأن ورقته الرابحة هي اتفاقية "سايكس بيكو "، ولذلك فقد دعا بشدة إلى ضرورة
تحالف المسلمين واتحادهم معًا، حتى يتمكنوا من إبعاد الغربيين الكفرة.
ولكن فيصل اعاد ذلك الرسول ليبلغ جمال باشا بأنه مستعد لوقف القتال "إذا ما اخلى الأتراك عمان وسلموا
اقليمها لإدارة عربية".
وكاد جمال باشا أن يشنق محمد سعيد لفشله في الوصول إلى احسن من هذا الحل، ومنذ ذلك الوقت استمرت
الرسائل بين الجانبين . وعلى الرغم من انتظامها إ ّ لا أن فيصل كان لا يرد بشىء إيجابي ويكتفي بأجوبة غام ضة
على كل طلب تركي.
ولكن لورانس حذره عن حكمة، بوجود الاتفاق الانكلو فرنس، ونلطه قد اعتقد بأنه أقنعه بأن مصلحته
تقضي بألا يعقد معاهدة صلح مع الأتراك بل أن يثبت ولاءه للانكليز الذين لا يمكن أبدًا ويا للعار أن
يتنكروا للوعود التي قطعوها لوالده. والآن.
وعلى الرغم من أن هذا الاعتقاد كان يهتز بشدة لدى فيصل، والشخص الذي اختاره ليجعل منه ملكًا يهدد بعقد
صلح مع الأعداء فقد حس لورانس بأن الكابوس يقترب.
ولم يعد قادرًا على الجزم وحده بمن يثق وبمن يضع عليه اللوم لتلك الخيانة والخداع، اللذين كان
يمارسهما، واللذين أصبحا عبثًا ثقي ً لا على ضميره.
ولكي يريح دماغه، قرر لورانس أن يتوجه برفقة "جويس" وفرقة من السيارات المصفحة ليعيد استطلاع
منطقة الأزرق، حيّث كان من المقرر أن تحتشد قوات فيصل استعدادًا للهجوم النهائي.
١١٢٢٤٤
ولقد وجد لورانس في هذه الرحلة عزاء بين الجنود البس طاء لفرقة السيارات المصفحة أثر على تطوير آخر
اثنتي عشرة سنة من حياته . وكان لورانس عندما يتحدث إلى من هم في مثل رتبته أو أعلى من رتبته، يتحدث
بلهجة لا تخلو من هياج، أما عندما كان يتحدث إلى من هم دونه رتبة، فقد كان يتحدث بلطف، على الرغم من
أن أولئك الذين قابلهم اثناء الحرب لا يملكون عشر ما يملكه من معرفة وثقافة.
وذلك لأنه بين اولئك الجنود كان لا يحس بضرورة اظهار نفوذه حتى يظهر في المركز الأعلى، وحتى يتغلب
على الشعور بالنقص الذي لازمه منذ ولادته . وكان يجد بين هؤلاء الناس، سواء أكانوا عربًا أم بريطانيين
راحة ن فسية، لم يضعفها كون الرياح تجري بعكس ما كان يتمنى، والتي كانت تضاعف من شعوره بالنقص في
كونه رج ً لا كبقية الرجال.
وكان يجد في تلك الحالة النفسية مهربًا من حقيقته، ومن المسؤولية التي بات يؤمن بأنه لم يعد قادرًا على
تحملها أكثر مما تحملها.
غير أن أحدًا ما كا ن ليعر ما يعتمل في صدر لورانس من مشاعر متناقضة، فقد غدا عبء المسؤولية الملقاة
على عاتقه فجأة غير محتمل، لاسيما بعد أن أصبح حلمه الخاص الذي كان يأمل في تحقيقه يتلاشى.
وقد احتمل كل عذاب وألم جسديين، كما احتمل بالإضافة إلى ذلك كل ضروب العذاب الروحي بما يكفي ، لو
كان هذا الصبر ضروريًا، ليربح العرب قضيتهم، وها هو يحد نفسه أعجز من أن يقرر ما إذا كان سيقود بنجاح
أو يسئ قيادة العرب. فيدفعهم إلى التحالف مع الآخرين.
كان لورانس في غمرة هذه اللحظات الحرجة يكاد يصل إلى درجة الجنون، فقد دفع نفسه أكثر مما يستطيع
عقله أو جسمه أن يتحمل، وأصبحت الخاتمة الآن شيئًا لا مفر منه : نصرًا أجوف أو انسحابًا مروعًا، والسؤال
الآن هل كان بمستطاعه أن يتحمل أيًا من الاحتمالين؟

خالد الحويطي
18-02-07, 01:26 AM
الفصل الرابع والعشرون

قطع شرايين العدو

حدث تجمع كبير للعرب، قبل أسبوع من بدء هجوم اللنبي، وذلك في الأزرق استعدا دًا لشن آخر هجمات
الربيع. فقد كان هنالك فيصل ومعه جنوده الخمسمائة تحت قيادة نوري السعيد، بالإضافة إلى رجال مدفعية
"بيزاني" أو "بيساني" وفرقة من الهجانة المصرية بقيادة "بيك".
وقد انضم إليها عودة ونوري الشعلان والشريف ناصر وفهد وغضوب وطلال ومحمد الفيلان، وع دد من
الشيوخ الآخرين مع بضعة آلاف من رجال القبائل الذين يؤيدون هؤلاء الشيوخ من الحويطات والرولا والزبن
والسيراحين.
وكذلك عد من الدروز الذين قدموا من تلال سوريا ومدن الشمال . وكان لورانس قد وصل بسيارة مصفحة
برفقة "جويس" و"يونغ" واثنين من الضباط الشباب هما "سترلنغ" و"ينترتون" وفرقة من السائقين البريطانيين يقدّر
عددها بأربعين سائقًا، وعدد من حملة البنادق السريعة الطلقات.
١١٢٢٥٥
وكذلك وصلت طائرتان من العقبة بقيادة الضابطين "مورني" وجونور" اللذين كانا قد كوفئا مؤخرًا لبسالتهما
في الغارات التي شنوها على القوات التركية وخطوطها الدفاعية.
وكانت خطة تطويق درعا تتضمن القيام بثلاث غارات على خطوط السكة الحديدية التي تقود إلى خارج
البلدة، بحيث تبقى الخطوط معطلة لمدة لا تقل عن أسبوع، حتى لا يقوم الأتراك بأية تجمعات أو يهبوا من
الأردن وسوريا لنجدة قواتهم في جبهة فلسطين، عندما يبدأ الحلفاء هجومهم.
ونظرًا لأن ما كان لدى الحلفاء من طائرات لم يكن كافيًا للقيام بغارة مباشرة على درعا وتدمير محطتها، فقد
تقرر البدء بنسف خطة السكة الحديدية إلى الجنوب، لقطع دعم عمان (وكان بركستون وفرقته من الهجانة قد
أمر بالقيام بهذه المهمة، غير أنه لم يس تطع تنفيذها لوجود قوة تركية تفوق القوة التي كانت معه ) ثم يتجهون
شمالا لنسف خط سكة حديد دمشق، ثم ينسفون أخيرًا خط السكة الحديدية لفلسطين.
وواضح أن المخاطرة بهذه العمليات من الأمور التي يصعب تصورها، فقد كان كل شئ يعتمد على نجاح
هجوم اللنبي، وهذا الهجوم يعتم د بدوره على القدر الذي يمكن فيه إيهام الاتراك بأن الهجوم الرئيسي موجه إلى
درعا.
فاذا فشلت القوات العربية في خداع الأتراك، أو إذا فشل اللنبي في التغلغل غربًا، فان ذلك يعني أن جيش
فيصل سيقع بكامله، كما يقع الفأر في المصيدة . وكان هذا الجيش يعمل ضمن عدة مئات من الأميال، داخل
الخطوط التركية، والطريق الوحيدة له للتراجع مهددة بالحامية التركية التي كانت ما تزال موجودة في معان
وعمان.
ونظرًا لتفوق قوات الأعداء في كل من عمان ومعان ودرعا، فقد كان ما ينبغي على العدو عمله هو أن يتعلم
في حالة فشل الخطة أن يهجم من الشمال والجنوب ومن ثم يقطع قوات فيصل قطعًا صغيرة.
ولم يكن أحد ليعرف مدى خطر هذه المغامرة، التي كان من المقرر أن تقوم بها القوات العربية، أكثر من
لورانس الذي كان سيرافق تلك القوات . غير أن حالته النفسية لدى وصوله إلى الأزرق، كانت لا تقل حماسا،
حتى ليمكن القول بأنه كان غير مبال بالأخطار التي كانت تهدّده.
وخلافًا للبهجة التي كان يشعر بها اثناء الزحف على "الوجه" والهجوم الصعب على العقبة، فقد كان الآن
عاجزًا عن الشعور بأي حماس لذلك الجو الذي كان يخيم على معسكر فيصل.
وقد كتب يقول :"لقد كان كل واحد مبتهجًا وبصحة جيدة ما عداي… فقد كنت متعبًا لدرجة الموت من هؤلاء
العرب، الذين كنت اشعر نحوهم بالشفقة … إنهم يدركون عدم ثقتنا في مقدرة معداتهم الحربية، أو حتى مقدرتهم
على القيام بخير أو شر".
وأحس لورانس بشىء من الراحة، فعاد وترك اتخاذ القرار لزميله "جويس" وكان "بيك" قد أوفد ليقوم بعمليات
النسف مع فرقة الهجانة التي يقودها، والتي درب أفرادها على فنون العمار من أجل هذا الغرض.
ولكن…. بينما كان لورانس يستعد للسفر في اليوم التالي مع قوات الطليعة إلى قاعدة "أم طايع " التي تبعد
مسافة أميال قليلة إلى الجنوب من درعا، جاءته رسالة مفا دها أن فرقة الهجانة التي أوكلت إليها مهمة نسف
١١٢٢٦٦
الخط الحديدي، قد اعترضتها جماعة من القبائل الموالية للأتراك، بالقرب من النقطة التي كان مقررًا أن يجري
النسف فيها لقطع السكة الحديدية المؤدية إلى عمان.
وجمع لورانس، الرجل المتعب، قواته، وأسرع برفقة "جويس" و"ينترتون" واثنين من الضباط، في سيارتين
مصفحتين، ليقوم بالمهمة بنفسه.
وقد اندفعت هذه القوّة على صغرها، فنسفت المركز التركي ودمرته ولم ينجح من جنوده غير خمسة، أخذتهم
أسرى، كما دمرت جسرًا يبلغ طوله ثمانين قدمًا لقطع اتصال درعا بالجنوب.
وأثناء عودة هذه القوة من غارتها هذه، كادت تقع في أسر دورية تركية، ولكن المصفحتين راحتا تطلقان
المدافع، حتى كادت الذخيرة أن تنفذ، قبل أن يتمكن أفراد القوة من الهرب، تاركين العدو في حالة ذهول لا
توصف.
وقد حدث شئ ما، أثر على لورانس، فغيره من ذلك الشخص اللامبالي الذي كان في الأزرق، إ لى رجل
مجنون، انهمك خلال الأسبوعين التاليين في القتال كرجل أصيب بكرب شديد دفعه إلى ما يشبه الهذيان.
ولكنه عندما عاد والتحق بالقوة الرئيسية التي كانت بقيادة نوري السعيد شمالي درعا، كانت في عينيه نظرة
غريبة تنطوي على مزيج من الكره والقسوة على تلك الروح التي كان يتحلى بها والتي كانت تحمله على
المحافظة على الحياة ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
لقد أحاله اليأس إلى رجل غضوب، ثم أصبح فاتكًا لا يتورع عن تشجيع البدو على عدم الاكتفاء بالثارات،
حتى ليمكن القول بأن تهوره والأعمال التي قام بها خلال اليومين أو الأيام الثلاثة التي تلت، إن دلت على شئ
فإنما تدل على عزمه على الانتحار، إذ أنه لم يسبق له أبدًا عرض نفسه لرصاص العدو، أو قام بأعمال جنونية،
كما فعل في تذلك الأثناء.
وقد قام خلال الزحف حول الجانب الشرق من درعا، بمجهود لا يكاد يذكر لإخفاء نفسه أو تحركاته، فكان
يتقدم على مرأى من سكان البلدة التي كان يعلم بأنها محصنة بثلاثة آلاف جندي، بينها فرق ألمانية ونمساوية،
وكان من الممكن في أية لحظة أن تشاهد قواته القليلة العدد، والتي لا تزيد على بضع مئات، منق بل دوريات
العدو الجوية، وكانت كثيرة النشاط.
وبالتالي كان من الممكن أن تباد قوته عن بكرة أبيها نظرًا لتفوق العدو في العدد والعدّة.
ولكن العدو ظلّ وراء أبوابه بعد أن خدع بشائعات كاذبة مفادها بأنه سيحاصر بقوة من العرب المزودين
بأسلحة كاملة، يبلغ عدد افرادها ثمانية عشر ألف مقاتل . وكانت النقطة التي اختار لورانس أن ينسف فيها جسر
السكة الحديدية بين درعا ودمشق، قريبة جدًا من المدينة، ولا تبعد عنها غير ستة أميال.
ولقد حالفه الحظ مرة أخرى، إذ أن الأتراك ما كانوا ليفكروا في أن ثمة من يجرؤ على مهاجمتهم من هذه
النقطة القريبة إلى درعا، ولذلك فإنهم لم يدعموا مراكز حراستهم . وقد تمكن العرب، بمساعدة قذائف "بيزاني "
من مهاجمة المركز الذي يتولى حراسة الجسر واجهزوا على كل من كانوا فيه.
١١٢٢٧٧
ثم قام الأتراك بهجوم عارم قبل أن تم عملية النسف، مستخدمين أعدادًا كبيرة من الجنود، واسقطوا إحدى
الطائرتين اللتين كانتا قد استدعيتا من العقبة، بعد محاولة بطولية قام به ا قائدها "جونور " لتحطيم تجمعات
الأعداء.
وتشاء الصدف أن يقوم لورانس وحده بانهاء المهمة . فبعد أن وضع قوة صغيرة من حملة البنادق السريعة
الطلقات، لحماية تراجعه، ولاشتغال أية دورية تركية قد تجيئ لإصلاح الجسر تقدم لانجاز المهمة التي كانت
تقضي بعزل درعا، وذلك عن طريق تدمير خط حيفا والوسائل المؤدية التي تسلكها التعزيرات التركية من
الجيشين السابع والثامن التي كان من المفروض أن تقف في وجه هجوم اللنبي . وكان ذلك في اليوم السابع عشر
من أيلول، أي قبل يومين فقط على موعد هجوم الحلفاء النهائي.
في تلك الأثناء كان العدو ق د أخذ علمًا بالأحداث، ولكنه ظل، كما كان اللنبي ولورانس يتوقعان، مخدوعًا في
أن كل هذه العمليات إنما تهدف إلى القيام بهجوم عام على درعا، ولذلك فقد كان "ليمان فوق ساندرز " الجنرال
الألماني الذي أرسل لدعم القوات التركية في دفاعها عن فلسطين، مخدوعًا بشكل كلي بما كان لورانس يقوم به
من هجمات مفتعلة، على خط السكة الحديدية.
فشغل بذلك عن التجمعات البريطانية الهائلة التي كانت تحتشد في وادي الأردن، وهكذا بعث بتعزيزات فورية
إلى قطاع درعا.
وما ان وصلت هذه التعزيزات إلى وجهتها، حتى نصب لها لورانس المصيدة التي كان من المف روض أن تبقي
تلك القوات محاصرة في درعا . ومن أجل اتمام هذا العمل، اختار هدفين، الاول محطة "المزيريب " والثاني
جسر اليرموك، الذي كان قد نجا من التدمير في شهر تشرين الثاني الماضي.
وتوجه لورانس، برفقة رجال حرسه وعدد من رجال القبائل، وفصيلة من قوات نوري السعيد ا لنظامية، وعدد
من رجال مدفعية "بيزاني" الذين كانوا قد تعلموا بسرعة ان يصبحوا خبراء في المدافع المضادة للطائرات، بعد
أن وقعت عليهم كثير من غارات الأتراك توجه إلى محطة "المزيريب". وتمكن من احتلالها بعد قصف قليل
بالمدفعية، أدى إلى مقتل معظم المدافعين عن تلك المح ّ طة.
وترك رجال القبائل يستولون على الغنائم وتوجه نحو الجسر، وكان في هذه المرة يأمل أن يحقق أمله عن
طريق الرشوة، فقد كان الضابط المسؤول عن حراسة الجسر أرمنيًا، وعلى استعداد تام لعمل كل شيء ضد
الأتراك الذين يكرههم.
ولكن الخطة لم تنفذ بشكل صحيح عندما اع تقل ذلك الضابط بتهمة الخيانة، فتحتم على لورانس أن يتوجه نحو
هدف آخر، وهو جسر عال فوق نهر اليرموك:
كان الأتراك هناك بأعداد كبيرة، وعلى الرغم من نجاح مدافع "بيزاني" في تدمير تحصيناتهم، إ ّ لا أنهم لجأوا
إلى صف من الخنادق على امتداد خط السكة الحديدية . ومن هناك واصلوا صب وابل من النيران على
المغيرين، الأمر الذي جعل فرقة لورانس للتدمير تخشى نقل المتفجرات تحت هذا الوابل من النيران، إذ أن
رصاصة واحدة لو أصابت "الحلنجيات" لكانت كافية لتمزيقهم إربًا.
١١٢٢٨٨
ولكن رجال حرسه كانوا أجرأ من اولئك، وتمكن بمساعدتهم من أن يضع الأل غام تحت قوائم الجسر. ولما كان
هذا الجسر، هو الذي شاء القدر أن يكون التاسع والسبعين في سلسلة الجسور التي هدمها لورانس، فكان
وهذا هو الأهم له مركز ستراتيجي، وكان عليه أن يعيش مقابلة في "ام طايع" حتى يصل اللنبي وينقذه . وقد
أكمل المهمة.
وعندها دوى الانفجا ر. وكانت الألغام تحتوي على ثمانمائة رطل من "الحلنجيات " وبعد أن انقشع الغبار
والدخان، لم يكن هنالك أي شيء قد تبقى غير مجموعة من الحجارة والحديد المكسرة.
وهكذا أنهى لورانس المهمة الموكولة إليه قبل أربع وعشرين ساعة من بدء هجوم اللنبي، وبذلك أصبحت
درعا معزولة من الشمال والجنوب والغرب، ولم تعد هناك أية إمكانية لتحرك الأتراك من وإلى فلسطين بطريق
السكة الحديدية، وبات على الجيوش التركية أن تصمد بحزم وإلا أبيدت، إذ لم يعد أمامها أي خط للتراجع ولا
أي أمل في الحصول على تعزيزات بسرعة.
والواقع أن مهمة لورانس قد نفذت، وكانت التعليمات المعطاة إليه، تقضي بأن ينتظر حدوث مزيد من
التطورات، ولكنه بدافع من نوبة الطيش التي كانت تستولي عليه في تلك الأثناء، لم يستطع أن يلبث شرقي
درعا، منتظرًا وصول القوات البريطانية.
وقد كتب يقول : " بعد أسبوعين أو ثلاثة، يجب أن أصر على إعفائي من مهام عملي … لقد انهارت أعصابي،
وسأكون محظوظًا لو أن انهيارها لم يكتشف بسرعة ". وقرر العودة للالتحاق بقوات فيصل في الأزرق، فقد كان
في تلك الأثناء يعلم علم اليقين، بأنه ينبغي عليه أن يطلب اعفاءه من مهامه بعد اسبوعين أو ثلاثة، ولكن … ليس
قبل أن يرى فيصل في دمشق. وبعدئذ يعتزل مهامه في حملة شبه الجزيرة العربية

خالد الحويطي
18-02-07, 01:27 AM
الفصل الخامس والعشرون

مذبحة… وانتقام

كانت الانباء التي استقبلت لورانس لدى عودته إلى "ام طايع" قط جعلته يؤمن بأنه لن يحتاج إلى الانتظار أكثر
مما انتظر، حتى تنتهي أعماله . فقد جاءت إحدى الطائرات من فلسطين تحمل رسالة من القائد العام يقول فيها :
إن القوات البريطانية وقوات الحلفاء قد تمكنت خلال اليومين الأولين على هجومها أن تحطم وتمزق الجيشين
السابع والثامن للعدو، كما استولت من مدينتي نابلس وحيفا، وأن العدو يتقهقر شمالا في فوضى تامة . وكان
ناصر وطلال موجودين ليسمعا هذه الأنباء السارة.
ولما كانا قد حصلا على وعد شفهي من القبائل، فقد طالبا بزحف عربي فوري على دمشق، غير أن لورانس
الذي تحمل الكثير من شظايا قنابل الأتراك اثناء محاولتيه الأخيرتين لنسف السكة الحديدية، شعر بأن الجيش
العربي يجب أن يكون لديه دعم جوي أكثر، إذا ما أراد العرب الزحف على دمشق، رغم سلاح الجو التركي.
فأسرع يستقل الطائرة إلى مقر قيادة اللنبي، حيّث وجد القائد العام غير مكترث إ ّ لا بأنباء نجاح حملته … فقد
أصبحت فلسطين تحت سيطرته، وعليه الآن أن ينتقل للمهمة التالية التي كان يراها حقيقة مقرّرة.
١١٢٢٩٩
وكانت الم همة التالية كما أخبر لورانس بها القائد العام تقضي بتوجيه ثلاث ضربات، واحدة إلى عمان،
بوساطة فرقة الجنرال "شايتور" النيوزيلندية، وأخرى إلى درعا بوساطة الفرقة الهندية بقيادة الجنرال "بارو "
وثالثة إلى دمشق بوساطة الفرقة الاسترالية بقيادة الجنرال "شوفيل".
وكانت الأوامر التي أعطيت إلى لورانس تقضي بأن يساعد هذه الهجمات الثلاث، شريطة "إ ّ لا أنفذ تهديدي
الوقح باحتلال دمشق، حتى نكون جميعًا معً ا". وقد أتاحت هذه الأوامر الفرصة أمام لورانس فطلب دعمًا جويًا،
ووصف بالتفصيل ما لقيه هو وفرقة التدمير، عندما هاجموا درعا.
وكان لورانس ورجاله يعيشون في قاعدتهم في "ام طايع" بحالة هي أشبه ما تكون بعش للدبابير. فقد كانت تلك
القاعدة محاطة بمطارات الأتراك، والقوات الموجودة فيها معرضة لينكشف أمرها لدى أدنى تحرك من قبل
طيارات المراقبة، ومهاجمتها بالقنابل ورصاص البنادق السريعة الطلقات.
وكانت قوات لورانس قد حاولت تدمير المطارات والطيارات، ولكنها لم تنجح، فاذا كان عليها أن تساهم في
دعم قوات الحلفاء لدى قيامها بهجماتها الثلاث والتحرك باتجاه دمشق، فان التغطية الجوية إذ ذاك تغدو أمرًا لا
مفرّ منه.
وقد استمع اللنبي إلى هذا الوصف ومعه قائدا سلاحه الجوي، "سالموند" و"بورتون"، اللذان ما إن فرغ لورانس
من طلبه حتى وعدا بتقديم مقاتلتين من طراز بريستول، وطائرة نقل تستعمل كقاذفة للقنابل وكورشة لإصلاح
المقاتلتين فيما إذا أصيبت أي منهما بعطب . وقد تبدو اليوم هذه المساعدة قليلة، ولكنها كانت كافية في ذلك
الوقت لإرضاء لورانس الذي عاد إلى "أم طايع" راضيًا بما كان يعتبره معاملة كريمة من قبل رؤسائه
البريطانيين الذين لم يطلبوا منه غير أن ينتظر دخول الحلفاء إلى دمشق.
ولم يمزق هجوم اللنبي الجيشين التركيين في فلسطين فحسب، بل وأرغم جيش جمال باشا الذي كان يعرف
بالجيش الرابع، على الانسحاب من شريد في الأردن . وكانت الأوامر المعطاة إلى لورانس تقضي بأن يواصل
ضغطه على تلك القوات المتقهقرة حتى تتمكن القوات النيوزيلندية من طردها خارج عمان ثم الإجهاز عليها
اثناء تراجعها نحو درعا ودمشق، ولكن بعد نسف مسافة كبيرة أخرى من خط سكة الحديد عمان درعا، حتى
يقطع الأمل من إمكان التراجع شما ً لا بوساطة السكة الحديدية.
وقد قام لورانس بإلهاء الأعداء بالقبائل البدوية، بينما اسرع هو بنفسه إلى درعا، ليواصل الضغط على
الأتراك، ومنعهم من تحقيق أية إعادة تنظيم لصفوفهم لتصبح مؤخرة للجيش.
وقد قام بالاشتراك مع عودة ونوري الشعلان وظلال وناصر ونوري السعيد، وقوة ازداد عددها بانضمام
المزيد من رجال قبيلة "الرولا" حتى أصبح أربعة آلاف، بالتوجه إلى مكان الأسبوع الماضي.
فاتجه اولا إلى الشمال، ثم، وبعد أن نسف عدة أماكن من خط سكة حديد دمشق، إلى غرب درعا . وقد قام
عودة وطلال ونوري الشعلان اثناء الطريق، بقيادة فرق عسكرية كانت مهمتها اختبار قوة الحاميات التركية
الباقية بين د رعا ودمشق، وعاد كل منهم ليعلن وقوع مئات من الأسرى الأتراك الذين تركوا دون اسلحة.
وكذلك القت الطائرات منشورات تقول إن القوات الهندية بقيادة ا لجنرال "بارو" والقوات الأسترالية بقيادة
الجنرال "شوفيل" تقود أمامها آلافًا من الأسرى الأتراك.
١١٣٣٠٠
ثم وردت رسالة إلى طلال تفيد بأن الألمان في درعا يضرمون النار في طياراتهم ومخازنهم، استعدادًا لإخلاء
المكان، وقد شوهدت أعمدة الدخان الأسود ترتفع بشكل لا يدع مجا ً لا للشك في طبيعة ما يقدم عليه الألمان.
ولكن طلا ً لا لم يكن ليفكر في درعا في تلك اللحظة، فقد قدر بأن الأتراك المتقهقرين أمام الهنود، كما أفادت
التقارير، لابد وأن يمروا بقرية طفس " التي هي قريته الخاصة. وكانت التقارير تفيد بأن عدد الأعداء يزيد على
الألفين ولذلك فقد خشي على سلامة أهله وذويه.
ولذلك وافق لورانس على طلبه بأن تقوم القوة العربية وباقصى سرعة ممكنة لقطع الطريق على الأتراك
المتقهقرين، قبل أن يصلوا إلى "طفس" وأسرهم. ولما وصلوا إلى منتصف الطريق بلغهم أنهم قد تأخروا، فقد
ابلغتهم جماعة من الأعراب قابلتهم بأن القوات التركية دخلت بالفعل "طفس".
وكان العرب يقودون أمامهم جماعة من الأسرة الأتراك في اسوأ حال، ظهورهم العارية زرقاء اللون من
الضربات والسياط التي تلقوها من آسريهم، ولكن نظرًا لأن لورانس والآخرين كانوا يعلمون بأن اسراهم هم من
قوات البوليس في درعا، تلك القوات التي ذاقوا على أيدي أفرادها أشد العذاب، لم يشعر أحد بأية شفقة تجاههم،
بل لقد شجع لورانس العرب على التنكيل بهم.
وربما كان لدى لورانس نوع من الشعور كما كان لدى طلال أوحى إليه بما سيجده في "طفس " بعد أن
دخلتها القوات التركية . فمن المؤكد أن الشعور ا لذي ساورهم وهم يسيرون باتجاه القرية لا يمكن أن يكون هناك
شعور افظع منه، فقد قام الأتراك بارتكاب أفظع أنواع الجرائم، في اهل تلك القرية.
وقد وصف لورانس الحادث بقوله : "كانت القرية عندما دخلناها ما تزال تلفها سحب من الدخان، ورأينا كت ً لا
رمادية، بدت وكأنها اخت فت بين الحشائش عن أعين القوات التركية. ولما تفحصنا تلك الكتل، وجدناها بشرًا
محترقًا ميتًا، وكان من بينها طفل صغير قتل بوحشية . كان هذا الطفل في الثالثة أو الرابعة من عمره، تجمد
الدم على كتفه بعد أن نزف من جرح كبير، ربما كان طعنة حربة.
وقد جاءت هذه الطعنة ف ي المكان الذي يتصل فيه العنق بالجسم… ومررنا بأجسام أخرى لرجال ونساء …
وخارج القرية توجد أكواخ طينية واطئة، لعلها زرائب للغنم، ووجدنا في أحدها شيئًا ابيض وأحمر، فاقتربت
فوجدته جسد امرأة نزعت ثيابها، وطعنت بحربة في المكان الحساس من جسمها، وكان المسكينة حاملا، وحولها
ترقد أخريات، ربما كان عشرين، وجميعهن قتلن بوحشية لا مثيل لها… "
لكن كل هذا الوصف معظمه مبالغة قصد منه استثارة العرب.
ورأى طلال بعض أهله قتلى، واطلق صرخة كحيوان جريح، والقى بكوفيته على وجهه وتلثم، وأعد بندقيته
وانطلق وراء الأتراك المتقهقرين، الذين كانت صفوفهم ما تزال ترى من القرية، بعد أن غادروها.
ولقد دهش الأتراك لرؤيتهم هذا الشخص الفرد يطاردهم على حصانه . ولما وصل طلال على بعد ياردات
قليلة من العدو المذهول، وكان ما يزال يركض بحصانه بجنون، وقف على سرجه وصاح صيحة الحرب التي
اعتادها "طلال… طلال… " وفي اللحظة الثانية اطلق الأتراك النار من بنادق ومدافع سريعة الطلقات، وسقط
المحارب القديم ميتًا عند أقدامهم، وقد تمزق جسده برصاصهم.
١١٣٣١١
وقد شاهد عودة ولورانس الحادث من أوله، ولما انتهى قال زعيم الحويطات "فليرحمه الله … إننا سنأخذ
بثأره!". وعاد لورانس إلى رجاله، وكان كل تردد لديه في ارتكاب القتل الجماعي قد تبخر، ولم يعد يفكر في
تلك اللحظة إ ّ لا بالثأر.
وقال لرجاله : "إن احسنكم هو الذي يحضر لي أكبر عدد من الأتراك " ثم… مضى مع قواته للعمل، وأمرهم ألا
يأخذوا أي اسير.
ولما لحقوا بالقوات التركية المتقهقرة، انقضوا عليها، وكما قال لورانس: "في جنون، مبعثه الرعب الذي
شاهدناه في طفس… ورحنا نقتل ومن نستطيع، بل ونسحق رؤوس الموتى بحوافر الخيل.
وكأن وفاتهم ورؤيتنا لدمهم المسفوك سيخفف من حزننا ". ولم يبق من القوات التركية غير فرقة واحدة مؤلفة
من مائتي شخص، أسرتهم جماعة من العرب، ل م تسمع أوامر قائدها. وكان لورانس ينوي الإبقاء على هؤلاء
الأسرى ، عندما شاهد على مقربة منه رجلا ملقى على الأرض، قد غرزت الحراب في ساقيه وكتفيه.
ولكنه كان لم يفارق الحياة بعد، وكان له من القوة ما استطاع بها أن يقول إن هؤلاء الأسرى هم الذين فعلوا
به ما فعلوا.
وعلى الأثر أصدر لورانس اوامره الوحشية باطلاق النار عليهم وهم اسرى عزل من السلاح . فهل كان ذلك
بايحاء سابق من اللنبي!
وما إن غابت شمس ذلك اليوم حتى كانت تلك المعركة اليائسة قد انتهت بمقتل عدد لا بأس به من الجنود
الاتراك الذين دخلوا "طفس" وبأوامر من لوران س عالم الآثار الرقيق الذي يكره احتراف الجندية. والذي هاجم
قبل أشهر قليلة أحد الضباط البريطانيين هجومًا مريرًا لأنه أوقع عشرين قتي ً لا في احتلال بلدة "وجه "… هكذا
كان ثقل الكابوس الذي كان يرزح تحته . وقد قال له فراج : "إن الله سيعفو عنك" والواقع أنه لو كان بمقد وره أن
يرى روحه في أواخر أيام حرب الصحراء، وما يعتمل فيها من حب لسفك الدماء، ذلك الحب الذي أحاط عقله
وغير اخلاقه، لو كان قادرًا على ذلك فلابد وان يكون من اكثر مخلوقات الله تعذيبًا.
وهكذا صار لورانس "بطل الامبراطورية" سفاكًا وقاتلا ونذلا فيما بعد

خالد الحويطي
18-02-07, 01:28 AM
الفصل السادس والعشرون

"دمشق"

أصبحت جذور الجيوش التركية ميتة، وفي فجر اليوم التالي على مذبحة "طفس" دخل لورانس درعا، ليجد
الشريف ناصر قد اتخذ له مقرًا في دار البلدية بعد أن تقهقر الأعداء . وكان ناصر قد قام بمذبحة فظيعة في
القوات التركية والألمانية لدى انسحابها من درعا، فقتل ثلثي الفرق الثماني التي حاولت مغادرة المدينة في
السابع والعشرين من شهر أيلول، قبل أن تصل دمشق.
وبينما كان لورانس يدرب الشريف ناصر على واجباته الجديدة، بوصفه السيد الجديد لمدينة درعا، وردت
رسالة تقول بأن قوات الجنرال "بارو" تقترب من المدينة، فأسرع لورانس ليقابل الجنرال.
١١٣٣٢٢
وقد نجا من الموت بأعجوبة، عندما اطلق فريق من القناصة الاستراليين النار عليه، بعد أن أساؤوا معرفة
شخصيته وافراد الجماعة التي كانت ترافقه للترحيب بالجنرال ، وظنتهم عصابة من القتلة . وقد استقبل الجنرال
"بارول" لورانس بتجهم، واستنادً ا إلى ما رواه شاهد عيان، فإن لورانس قد استقبل الجنرال استقباله لطالب
مدرسة، وبترفع كبير، مع إشارة إلى تعاونه مع الجنرال اللنبي.
ولما كان الجنرال "بارول" ضابطًا محترفًا صارمًا، فقد استنكر هذه المعاملة من قبل ضابط برتبة "ميجور" يقل
عنه رتبة كما يقل عمرًا.
وعندما ركبا معًا في طريقهما إلى درعا، أوضح الجنرال "بارو" أن قواته هي التي ستسيطر على المدينة
وأعمالها الإدارية، وبدا مندهشًا، عندما أخذ يشرح مختلف الأمور التي يجب العناية بها كالصحة وحفظ النظام،
لما قال لورانس إن كل شيء قد يتم تنظيمه.
وعندها انتقل "بارو" إلى المرحلة التالية … الدخول إلى دمشق، وأوضح بأنه سيغادر المدينة غدًا ليلتحق
بالجنرال "شوفيل" والقوات الأسترالية، كي يدخلا المدينة معًا، وعرض بكبرياء على لورانس أن يرافقه مع قواته
العربية على أن تشكل هذه القوات جناحه الأيمن، ولكن لورانس كان يملك أفكارًا أخر ى، وإحدى هذه الأفكار أن
يتنقل فيصل من الأزرق إلى درعا، استعدادًا للزحف النهائي لقوات الحلفاء.
وقد تقدم كل من عودة وافراد قبيلته ونوري الشعلان وقبيلة الرولا والشريف ناصر لتعقب آخر فلول قوات
الجيش التركي الرابع، وهي عبارة عن فرقة مؤلفة من الفي جندي مهلهلي ا لثياب، يحاولون عبثًا تجنب هجمات
العرب أو صدها بعدد قليل من المدافع الجبلية استطاعوا إنقاذها من المركز الذي أخلوه.
وعلى الرغم من أن الأتراك المنهزمين كانوا في مركز يستطيعون منه بشق النفس إنزال أية خسارة بأي أحد،
إ ّ لا أن رجال القبائل لم يستطيعوا مقاومة رغبت هم في الاستيلاء على الغنائم. فشددوا هجومهم، حتى أصبحت
القوات التركية الألفين بين قتيل أو أسير، واستولت القوات العربية على كل ما كان مع الأتراك.
ثم أخذ الاستعداد للمعركة النهائية يقترب، فتوجه لورانس إلى "الكسوه" وهي قرية تبعد بضعة أميال إلى
الجنوب من دمشق، كان الجنرال "شوفيل" وقواته الاسترالية ينتظرون فيها وصول الجنرال "بارو " وقواته
الهندية.
ولا شك في أن عشية النصر، بالنسبة لرجل عمل وحلم طوال سنتين من أجل ان يدخل دمشق مع الملك الذي
اختاره دخول الفاتحين لا شك في أن عشية كهذه لا بد وان تكون مثيرة لدرجة مميتة.
ولكن الحقيقة كانت عكس ذلك، فبد ً لا من أن يفخر وينفعل، أحس بالخذلان والخجل، واذ كان يسير في
المعسكر، دون أن تلتفت إليه القوات البريطانية والاسترالية، وقد أحس فجأة وبكثير من الألم بالوحدة القاتلة التي
يعيش بها وبتفاهة مركزة، إذ كانت تلك القوات تعتبره ضابطًا من العرب.
في تلك الليلة بالذات، ليلة الثلاثين من أيلول سنة ١٩١٨ ، انسحبت آخر القوات التركية والألمانية من دمشق،
وما إن ابتعدت مؤخرتها عن سراي المدينة، حتى رفعت الراية العربية، رفعها أعضاء لجنة فيصل في دمشق.
وكان ناصر ونوري الشعلان تواقين للزحف على المدينة في المساء ذاته. غير أن لورانس ثناهما عن ذلك.
١١٣٣٣٣
وكان لورانس ما يزال يملك قوة الإقناع التي يجب أن تتوفر في القائد، وهكذا اقنعهما بأنه من الخير لهما أن
يدخل الشيوخ المدينة مع فيصل ومعه هو "بهدوء فجر اليوم التالي". فقد بقي أمامه يوم واحد قبل أن يتحرك
الاستراليون، وكان عليه أن يفعل الشيء الكثير في ذلك اليوم.
ولما ت حركت القوات مع أول إشراقة الفجر، يقودها ناصر، تكريمًا له للمعارك الخمسين التي خاضها ضد
الأعداء، وصل فارس من جهة المدينة، وعلم أنه أرسل من قبل شكري الأيوبي، قائد لجنة المقاومة في دمشق،
وكان فيصل ق د اتصل به في الليلة الماضية. وبعد أن أدى الفارس التحية لفيصل ولورانس وهو يكاد يطير
فرحا، سلمهما كمية من العنب الأصفر قائ ً لا: "أخبار طيبة، إن دمشق تحييكما".
ثم، عندما اقتربوا من مداخل المدينة، وجدوا استقبا ً لا غريبا في انتظارهم، فقد تجمع الناس لتحيتهم، ولكن هم
كانوا صامتين من تأثير فرحتهم، بتحررهم، فاختنقت أصواتهم في حناجرهم.
وقد كتب لورانس يصف هذا الاستقبال فقال : "كانت الطريق غاصة بالناس الذين اصطفوا على جانبي
الطريق، أو تجمعوا في النوافذ أو على الشرفات واسطحة المنازل . كان كثيرون منهم يبكون، وقليلون يرددون
هتافات خافتة، وهتف بعضهم باسمائنا، ولكنهم في الغالب كانوا ينظرون، ولا يملون النظر والفرحة تلمع في
اعينهم".
ولكن بعد أن دخلوا دمشق، انقلب هذا الفرح الصامت إلى فرح صاحب، عندما اندفعت جموع غفيرة لتحية
القادمين، وراح أفرادها يصيحون بأعلى أصواتهم "فيصل لوران س ناصر " بينما راح آخرون يرقصون
ويهزجون، ويقتربون من السيارة التي كانت تقل ملكهم ومحررهم إلى العاصمة.
ودوت الصيحات والهتافات في الشوارع والميادين، حتى لقد بدت دمشق وكأنها تمر بعاصفة . وقد نسي
لورانس للحظة من الزمن مخاوفه من المستقبل، عندما رأى هذه الهتافا ت المدوية، وقدر بأنها لابد وأن تكون
كافية لتقف وراء فيصل وتدعم عرشه وتجعله سيدًا على سوريًا.
غير أن الحلم كان قصير العمر، فقد كان ناصر ونوري الشعلان قد وصلا إلى قاعة المدينة وجلسا على مقاعد
المجلس، وتمكن لورانس أخيرًا من أن يشق طريقه وسط جموع أهالي دمشق، الذين كانوا يحيطون بكرسي
الحكومة، ولشد ما كان استغراب لورانس عندما رأى أن الأمير عبد القادر يجلس إلى جانب ناصر ونوري،
ومعه شقيقه محمد سعيد، الأداة التي استعملها جمال باشا لإغواء فيصل.
وقبل أن يتمكن لورانس من ان يتمالك نفسه، تقدّم محمد سعيد منه وقال له إنه وشقيقه وشكري قد ش ّ كلوا
حكومة تحرير، واعلنوا أن الشريف حسين الموجود في مكة هو "ملك العرب".
ولما أخذوا لورانس بهذا البلاغ التفت إلى شكري راجيًا الحصول منه على نفس أو تكذيب، ولكن الرجل لم
يكن بقادر إ ّ لا على أن يؤيد ذلك، قائلا أن الجزائريين ومعظمهم من المت طرفين بالنسبة للدين، قد سيطروا
على لجنته بالقوة.
وقال إنه ليس راضيا عما تم على ايديهم لأنه رأى بنفسه كيف وقفوا مع الأتراك، حتى ولى الأتراك الأدبار،
ولكن ماذا يستطيع أن يفعل؟ إنه لم يكن من القوة بحيث يستطيع مقاومتهم.
١١٣٣٤٤
ولم يشعر لورانس بأية مرارة نحو شكري، ل تسليمه للجزائريين ، فقد ظل يعمل أثناء الاحتلال التركي، رغم
كل ما قاساه على يدي جمال باشا، وها هو الآن يصل إلى نهاية عمره.
ولكن الضرورة تقضي بأن يفضح أحد ما خيانته، فالتفت لورانس إلى ناصر ليتولى زمام المبادرة . وفي تلك
اللحظة سمع في الغرفة زئير مألوف لصوت م عروف، وصمت العرب الذين كانوا في الغرفة الداخلية . ثم
تكشف الأمر ليتضح أن صاحب الزئير هو عودة وانه يضرب أحد مشايخ الدروز، إذ أهانه فغلى الدم في
عروقه، حتى كاد يفقده صوابه . وبعد أن أبعد الرجلان عن بعضهما، وأخرج المضروب من قاعة المدينة، راح
لورانس يبحث عن ناصر.
لكنه كان قد اختفى مع الجزائريين، تاركًا لورانس وحده وسط خليط عجيب من العرب والدروز والبدو
ورجال القبائل وأهالي دمشق والفلاحين، وكانوا منتشين بالنصر المفاجئ الذي حقق لهم، ويصيحون باسماء
زعمائهم وابطالهم، ويتعارك بعضهم مع بعض بقبضات الأيدي . إن صيحة خطر تن بعث الآن من هؤلاء
الحمقى، وثمة عرش يتهدده غاصبون.
وراح لورانس يعمل بمرارة من أجل إنقاذ دمشق لصالح فيصل، فبعث يستدعي عبد القادر وشقيقه، ولكنهما
رفضا في بادئ الأمر الامتثال لدعوته، ثم أذعنا فيما بعد، ليجدا نفسيهما مطوقين بفرقة من قوات نوري السعيد،
وفرقة أخرى من قواته النظامية، وفرقة ثالثة من قوات نوري الشعلان.
وأبلغهما لورانس أنه بوصفه يعمل نيابة عن الأمير فيصل، فقد أمر بالغاء حكومة عبد القادر، على أن يعين
بد ً لا عنها شكري الأيوبي بمنصب نائب حاكم ونوري السعيد بمنصب حاكم عسكري.
وقد تحدى محمد سعيد على الفور ه ذا القرار، ووصف لورانس بأنه كافر بريطاني، ودعا ناصر ليؤكد
سلطانه. ولكن الشريف لم يكن باستطاعته إ ّ لا أن يجلس بخزي، وهو يرى نفسه يجرد من أصدقائه . وهنا حاول
عبد القادر القيام بهجوم مباشر، فاستل خنجره وهو يقسم الأيمان المغلظة على قتل الانكليزي الذي بدد خططه،
ولكن عودة انقض عليه كالصقر ومنعه من ذلك.
ثم ان لورانس والآخرين انهمكوا في معالجة المشاكل العملية التي من شأنها أن تعيد للبلد حكومته ونظامه،
وكان من الضروري إنشاء قوة بوليس، كما ألفت فرقة مطافئ، وراحوا يعملون من أجل إعادة التيار الكهربائي،
واتخذوا الاجراءات الصحّية، ونظفت الشوارع من القاذورات وشظايا سيارات الأتراك وغير ذلك من الانقاض
التي تخلفها الحرب . وكان من الضروري إحضار المؤن والمساعدات لسكان نصف جياع منذ أيام، وكذلك كان
عليهم أن ينظفوا المستشفيات ويحضروا الأدوية ليستطيعوا التغلب على انتشار مرضي التيفوس والديزنطاريا.
وكذلك الحال بالنسبة للمواصلات والسكك الحديدية والمواصلات اللاسلكية كل ذلك كان بحاجة إلى
إصلاح. وقد عملوا طيلة الليل كالمجانين، يحدوهم تصميم على أن يظهروا لقوات الحلفاء متى وصلت في اليوم
التالي ماذا يستطيعون عمله من أجل أن يحكموا أنفسهم، وأ ن يخلقوا النظام وسط الدمار، لكن المنجزات لم تكن
بالنسبة إلى لورانس سوى واجهة البناء، أما واقع الأمر فقد كان ما رآه في قاعة المدينة والمنازعات التي قسمت
عائلة الشريف.
١١٣٣٥٥
وأخيرًا عندما أغمض عينيه ليأخذ قسطًا بسيطًا من الراحة سمع المؤذن يدعو الناس للصلاة . وبعد أن انتهى
الأذان، ولبى أهل دمشق النداء للصلاة وشكر الله على تحريرهم، أحس لورانس مرة أخرى بوحدته، وطيشه في
كل ما قام به، إذ أنه كما كتب يقول: "كم كانت الأحداث يومذاك مؤسفة والنتائج لا معنى لها".
وبعد ساعة استيقظ لورانس ليبلغ أن عبد القادر قد أعلن الثورة، فق د دعا رجاله إلى اجتماع كما دعا الدروز
أيضًا الذين كانوا قد أعلنوا سخطهم والذين راحوا ضحية سهلة لدعايات الجزائريين القائلة بأن فيصل واتباعه
ليسوا سوى أذناب للكفرة الانكليز، ويجب إزالتهم إذا ما أريد للدين الاسلامي أن يصان من الفساد.
وأسرع لورانس ونوري السعي د يتخذان الترتيبات اللازمة لمواجهة هذا التمرّد . فأمر نوري فريقًا من حملة
المدافع السريعة الطلقات بالمرابطة في نقطة استراتيجية، بينما توجه لورانس برفقة كيرك برايد فقط يخطبان في
الناس ويشرحان لهم إخلاص فيصل ابن الملك حسين لقضية العرب.
وكانت مهمة شاقة تعرض خ لالها للموت أكثر من مرة، على أيدي الدروز المتطرفين في وطنيتهم، الذين
اشعلتهم دعاية عبد القادر بنار الحقد والكراهية، فكانوا يهاجمونه محاولين قتله، ولكن "كيرك برايد" كان يستعمل
مسدسه في صدهم.
وكان الجنرال "شوفيل" وقواته الاسترالية قد وصلوا في الوقت الذي اند لعت فيه نار الثورة فعرض بأن تساهم
قواتهم في إخمادها، غير ان لورانس رفض العرض … ربما لأنه كان يرى في الأمر ما لا يستحق الاهتمام،
وربما بدافع العرض… ربما لأنه كان يرى في الأمر ما لا يستحق الاهتمام، وربما بدافع من كبريائه.
وبعد ساعات قليلة على فتح نيران المدا فع السريعة الطلقات على المتمردين، هرب عبد القادر، تاركا شقيقه
ليقع أسيرًا في أيدي القوات العربية.
هذا وقد بلغ لورانس في تلك اللحظة أقصى حدود الإعياء، فهو لم ينم غير ثلاث ساعات منذ أن غادر درعا
قبل أربعة أيام . وكان عليه أن يحمل عبء تركيز عرش فيصل وحكومته، وان يكشف مؤامرات المتربصين،
كما يعيد الحكم المدني إلى بلد تركه محتلوه السابقون في حالة من الفوضى لا مثيل لها.
والأصعب من ذلك كله أن يحاول جعل مواطنين ثوارًا حفظة على القانون، مواطنين امضوا سنين من حياتهم،
والسنتين الأخيرتين بصورة خاصة في تحدي السلطة وخرق القوانين، على اعتبار أن هذين العملين من أعمالهم
الوطنية.
وهكذا فقد كانت مهمة لورانس تفوق احتمال شخص واحد، ناهيك عن شخص مجهد جسميًا يكاد يصاب
بانهيار الاعصاب.
ومع ذلك، فقد كان هنالك خطر آخر يجب تفاديه . ففي العشاء الذي أقيم في اليوم الثاني لدخولهم دمشق، طل ب
أحد الأطباء الاستراليين إلى لورانس أن ينظف أحد مستشفيات الأتراك مع القاذورات التي تراكمت فيه، حتى
لقد هجره أطباؤه وممرضوه، ولم يكن هذا الطبيب مغاليا في وصفه، عندما شاهد لورانس بنفسه ما يحتويه من
قاذورات، وقد كتب لورانس يقول في وصف ذلك المستشفى:
"اوساخ ت جعل السليم مريضًا، ولما فتحت عيني، رأيت منظرًا مفزعًا، كان بلاط المستشفى مغطى بجثث القتلى
الذين رصوا الواحد إلى جانب الآخر، بعضهم في بزاتهم العسكرية الكاملة، وبعضهم في ملابسهم الداخلية
١١٣٣٦٦
وبعضهم عارون تمامً ا… وكان القليل من هؤلاء جنودًا قتلوا حديثًا، والباقون قد قتلوا منذ أمد طويل، وكانت
الوان بعض الذين قتلوا حديثًا صفراء وزرقاء وسوداء . وبعضهم قد انفتحت بطونهم وتدفقت منها سوائل نتنة لا
يمكن لمخلوق أن يشمها".
ومضى لورانس و "كيرك برايد " يبحثان عن المساعدة، بعد أن رفض الاستراليون تقديم أية مساعدة، غير أن
بعض الأط باء الأتراك الذين وقعوا في الأسر، وبمساعدة فريق باسل للحفر من الأسرى الأتراك، جندوا للعمل
ودفن الموتى وتنظيف العنابر التي كانت، لدهشة لورانس، ما تزال تضم عددًا من الأتراك الجرحى الذين كانوا
من أن يأتوا بحركة غير التلويح بأيديهم طلبًا للرحمة.
وقد أشرف "كير كبرايد " على دفن الموتى، أما لورانس فإنه بعد أن تلقى قائمة الإصابات من الأطباء، وكانت
تتضمن ستة وخمسين ميتًا، ومائتين يحتضرون، وسبعمائة من الجرحى أو المرضى، ذهب لينال شيئًا من
الراحة.
ولكنه لم يسترح قبل أن استدعاه الجنرال "شوفيل" وطلب إليه أن يسجل شكوى من أن قسمًا من قواته العربية
ترفض تأدية التحية لضباطه!.
وكانت الأحوال في المستشفى في اليوم التالي لا تقارن بأحوالي اليوم السابق كما شاهدها لورانس، فقد ظل
"كيرك برايد " ساهرًا مع الأطباء حتى أتموا تنظيف المكان وعينوا ممرضين من الأتراك الأسرى ليرعوا شؤون
المرضى.
ومع ذلك، كان هنالك الشيء الكثير الذي ينبغي عمله . وبينما كان لورانس يقوم بجولة تفتيشية، تقدم منه
ضابط من سلاح الصحة برتبة "ميجور" وسأله عما إذا كان هو المسؤول.
وقد أجابه لورانس قائلا: "انني المسؤول، إلى حد ما!".
فانفجر الضابط قائ ً لا: "يا للفضيحة والخزي والقذارة… يجب أن تقتل".
وكان لورانس قد بلغ حدًا من الصبر لم يعد لديه بعده ما يستطيع الصبر عليه، وثارت ثائرته لهذه الإهانة
المفاجئة، ولكنه كظم غيظه، ولم يقم بأية محاولة ليشرح للضابط كيف كانت الأحوال في اليوم السابق، وبد ً لا من
ذلك انفجر في قهقهة عالية.
وقال الميجور : "يا لك من قاتل دموي ". ورفع يده وصفع لورانس على وجهه، ثم مضى وهو يدمدم بكلام عن
الشرقيين الذين هم أدنى مرتبة من الحيوانات، بينما وقف لورانس للحظة في حالة من الذهول، دون أن يشعر
بغضب من ذلك الذي صفعه، وإن كان قد شعر بخجل من نفسه وعدم نقاء روحه.
ولكن تلك الصفعة قد أعادت لورانس إلى وعيه، وأشعرته بما يعانيه هو من إجهاد، وكان يعلم في تلك اللحظة
بانه لن يستطيع المضي قدمًا أكثر مما مضى، وأنه لا يستطيع أن يستعمل عقله أو جسمه، أكثر مما استعملهما.
ولما غادر المستشفى لمح سيارة اللنبي الرولز رويس خارج الف ندق الرئيسي في المدينة. فأسرع تجاهه ودخل
الفندق. وبعد بضع دقائق كان يقدّم تقريره النهائي إلى القائد العام . وقد استمع اللنبي باهتمام، وأيد بكلمات قليلة
كل التعيينات التي أجراها لورانس والأوامر التي أصدرها، ووضع المسؤولية في يد فيصل وحكومته وقوات
الحلفاء.
١١٣٣٧٧
ثم طلب لورانس تسريحه، ولكن اللنبي رفض في بادئ الأمر توقيع المرسوم على اعتبار أن خدماته الآن
مطلوبة أكثر من أي وقت مضى في شبه الجزيرة العربية، ولكن هذا لم يجده نفعًا.
فقد كان يعلم أن لورانس قد صمّم وانتهى الأمر، فما الذي حصل لتحقيق هذا التغيير؟ ولماذا اصبح النصر
الذي عمل له لورانس طويلا شيئًا محزنًا بالنسبة له، ولم يعد يريد أن يعيشه؟ ان اللنبي، على الأغلب لم يستطع
أن يفهم السبب، ولكنه كان يحترم ويحب مرؤوسه إلى درجة كبيرة تمنعه من إرغامه على البقاء خلافًا لرغبته.
وهكذا غادر لورانس مسرح انتصاره بشكل مفاجئ دو ن أن يقدم إ ّ لا القليل من التفسير لنفسه عن السبب الذي
حدا به إلى دخول هذه المغامرة منذ البداية . وكان في بعض اللحظات التي كان يهاجمه فيها حتى اقسى منتقديه،
لا يحركه شيء غير الخجل من كل ما قد فعل، والخجل من وجوده، ومن جميع الأصدقاء الذين وثقوا به
واقترف بحقهم ما اقترف.
ولما وجد نفسه محصورًا في سجن من تبكيت ضميره، لم يجد ما يستطيع أن يفكر فيه سوى الهرب

خالد الحويطي
18-02-07, 01:29 AM
الفصل السابع والعشرون

خروج وعودة

لم يتفق اثنان من مؤرخي لورانس، على ما يبدو، على الأسباب التي تكمن وراء ميله إلى الهرب من ميدان
النصر. ويقول "دافيد غارنيت " إنه قد ترك لأنه شعر ان الجولة الثانية في دراما خيانة الانكليز للعرب ستجري
على مائدة المؤتمر، وأنه لذلك سيفيد العرب اكثر إذا أسرع بالذهاب إلى لندن مما لو بقي في دمشق لجني ثمار
انتصاره.
أما "لويل توماس " فيرجع سبب سفره إلى إجهاد جسمي وعقلي، ويؤيده في ذلك الدكت ور "ارنست التونيان" وهو
طبيب بريطاني وشاعر أرمني الأصل، وأحد أصدقاء لورانس المقربين.
ويقول "ليدل هارت " إن لورانس قد أخبره بأن "كل شيء قد انتهى فأي سبب أفضل للعودة؟ ". أما الشرح الذي
أورده لورانس نفسه فقد قال فيه إنه أصبح خائفًا جدًا من رغبته في السلطة والمركز، فآثر الهرب.
ومن الجائز أن يكونوا جميعًا مصيبين في تقديراتهم، نظرًا لعدم وجود تناقضات حقيقية بينها، فقد كان تعبًا
وهذا أمر مؤكد، والتعب سبب وجيه، والهرب من مطامحه الخاصة تفسير آخر مقبول، وكانت التقارير التي
كتبت عنه في الأشهر الأخيرة لحملة الصحراء تفي د بأنه أصبح رجلا رأى انعكاس نفسه على مرآة تحليله
لشخصه، فافزعه ما رأى.
وفي الوقت ذاته فإن نداءاته المتواصلة للدعوة للقضية العربية واستقلال العرب، عقب وصوله إلى لندن
وخلال انعقاد مؤتمر الصلح، تظهر أنه ما زال راغبًا في أن يبقى، كما كان ، في خدمة أصدقائه الع رب، ولكن
خارج شبه الجزيرة العربية.
وكذلك فإن "مهمة لورانس قد انتهيت" في الشرق الأوسط. وقد كشفت السير "رونالد ستورز " في "شرقياته "
النقاب عن أنه في حوالي نهاية التحالف العسكري، كانت علاقة لورانس بالأمير فيصل، علاقة مرة، وأن الأمير
١١٣٣٨٨
فيصل فيما بعد، قد تحدث بله جة تنم عن عدم الشكر عن حليفه في وقت ما، وقد أضاف "ستورز" قائلا : "الأمر
الذي قد استنكره أكثر لو انني تصورت مطلقًا ان الملوك يمكن أن يكونوا مثل صانعيهم".
ومن هنا يمكن القول بأن هناك قليلا من الشك، بان الأمير فيصل لما وصل إلى دمشق قد أوضح للورانس بأن
مهمته ف ي شبه الجزيرة العربية قد انتهيت . فقد جلس الملك على عرشه، أما صانع الملك فقد أصبح بالإمكان
صرفه الآن، بل يجب صرفه، إذا ما أراد فيصل أن ينفي الشكوك التي كانت تسود مكة، والقائلة بأنه كان متأثرًا
أكثر من اللازم بهذا الكافر البريطاني.
ورقي لورانس إلى رتبة كولو نيل وعاد إلى لندن، وذهب إلى وزارة الحرب، قبل أيام قليلة من عقد الهدنة
العامة في تشرين الثاني سنة ١٩١٨ وإعلان هزيمة المانيا نهائيًا وهزيمة شركائها كذلك.
وما إن وصل حتى باشر العمل لمصلحة استقلال العرب . وعندما استدعي للمثول أمام اللجنة الشرقية في
الوزارة الب ريطانية، قدم مذكرة مكتوبة بأبلغ عبارة، تذكر أصل وأهداف ثورة العرب، واقترح وضع خطة
لترتيبات ما بعد الحرب بالنسبة لشبه الجزيرة العربية.
فالحجاز يجب أن تنال استقلا ً لا كام ً لا، أما بلاد الرافدين فيجب أن توضع تحت الانتداب البريطاني، ويجب
وفق اقتراحه هذا، اعطاء فيصل سوريا باكملها باستثناء شريط ساحلي يتضمن بيروت التي يبج منحها إلى
فرنسا.
وبالنسبة إلى وعد بلفور الصادر في سنة ١٩١٧ ، والذي يدعو إلى إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، فقد
أكد بأن العرب جميعًا متفقون على أنهم يفضلون ان تكون تحت إشراف بريطانيا، وألا ينشأ فيها وطن لليهود.
وكانت هذه الآراء غير مفهومة ولا بشكل من الأشكال في اوساط الدوائر البريطانية الرسمية في ذلك الوقت
لسبب واحد اوضحه "جين بيرود فيلارز " في كتابه "ت. ل. لورانس" عندما قال: "كان عدم الميل إلى الفرنسيين
منتشرًا ببريطانيا في اعقاب الحرب العالمية الأولى.
وبعد اربع سنوات من الحرب " وذبح قسم كبير من قوات الجيش البريطاني، وبعد أن اصبح الشعب على أهبة
الاعتقاد بأن "ما قاساه البريطانيون قد فرض عليهم لمصلحة الفرنسيين".
وثمة سبب آخر هو أن بريطانيا كانت حريصة كل الحرص على عدم تلبية مطامع فرنسا في الشرق الأو سط .
وصحيح أن بريطانيا قد أرغمت بدافع عن ملابسات الحرب وارضاء حلفائهم الفرنسيين على إعطاء تعهدات
معينة، تمكن فرنسا من أن تركز نفسها في المشرق بعد أن تربح الحرب، ولكن … إذا أمكن شراء فرنسا بالثمن
الذي اقترحه لورانس، فإن ذلك سيترك بريطانيا هي المسيطرة، بينما ت نفذ في الوقت ذاته وعلى الأقل، تعهداتها
للشريف حسين.
ولكن، لم تكد هذه الحالة من القناعة تستقر في اوساط "الوايت هول" حتى بدأت أول بوادر الاضطرابات من
دمشق. فقد أقدم العرب، خلافًا لنصيحة لورانس على احتلال بيروت، المركز الرئيسي للكاثوليكية والثقافة
الفرنسية ف ي الشرق، بدلا من تركها للحلفاء ليحرروها، بوصفها منطقة من المناطق التي حفظت لفرنسا،
بموجب اتفاقية "سايكس بيكو ". ولكن بوصول "جورج بيكو" أحد أقارب واضع الاتفاقية، ليعمل مندوبًا ساميًا
لسوريا، سّلمت المنطقة إلى الفرنسيين بأمر من القائد العام البريطاني.
١١٣٣٩٩
غير أن السلطات الفرنسية لم تكن لترضى بمثل هذه السهولة، فبعد أن ارغمت العرب على إخلاء بيروت،
ارادت أن تحصل على المزيد.
وقد أبلغت ذلك بشكل لا لبس فيه إلى فيصل، وقد الح بعض اتباع الامير عليه بأن يقاوم، ولو استدعى الأمر
بقوة السلاح، أية طلبات أخرى بقبول سيطرة فرنسا وسحب قواته من سوريا.
ولما لم يستطع أن يقرر بنفسه ماذا ينبغي عليه أن يفعل، ونظرًا لأنه لم يكن متأكدًا من القدر الذي يستطيع فيه
الاعتماد على الدعم البريطاني في نزاع مكشوف مع فرنسا، فقد أرسل فيصل كتابًا إلى لورانس، الذي حصل
بالفور على دعوة له من الحكومة البريطانية للمجىء إلى لندن لدراسة الوضع.
وفي اليوم السادس والعشرين من شهر تشرين الثاني، هبط الأمير من المدمرة البريطانية "غلوسستر " في
مرسيليا، وكان يرافقه نوري السعدي. وكان لورانس هناك ليقابله وهو يرتدي ثيابه العربية.
وفي الوقت ذاته كانت خطوط اللاسلكي الف رنسية منهمكة بين باريس وجدة والقاهرة ودمشق، وقدم احتجاج
رسمي للشريف حسين جاء فيه أن الحكومة الفرنسية لم تبلغ كما ينبغي بمهمة فيصل، وهو خطأ كبير ما دام
الأمير لم يتلق أوامر من والده، وهو على كل حال ذاهب إلى لندن وليس إلى باريس، ثم استدعي عاثر الحظ
"بريموند" من إحدى القيادات في الجبهة الغربية، وطلب إليه أن يسافر حا ً لا لمقابلة فيصل، لكي يعرض عليه
ضيافة فرنسا.
أما بالنسبة إلى لورانس فقد كانت الأوامر المعطاة إلى "بريموند" تقضي بأن يحييه إذا ما جاء مرتديًا زيه
العسكري برتبة كولونيل وألا "يقبله إذا كان يرتدي الثياب العربية!".
وقد أطاع الرجل أوامر حكومته وتعليماتها المشددة، لأنه لما رأى لورانس يدخل ملتفًا بعباءته البيضاء المذهبة
إلى جانب فيصل، لم يسعه إ ّ لا أن يعرب للأمير عن رأي حكومته . ولشد ما كانت دهشته عندما طلب فيصل إلى
لورانس أن يعود إلى لندن، بينما تابع جولته هو في فرنسا برفقة "بريموند" تلك الجولة التي انتهت به إلى باريس
حيّث استقبله الرئيس "بونيكار" استقبالا رسميًا، وحيث أقيمت حفلة عشاء على شرفه في وزارة الخارجية . وبعد
أسبوعين من وصوله إلى فرنسا سافر إلى مدينة "بولون" ليجد لورانس مرة أخرى في استقباله على سلم الباخرة
التي كان من المقرر أن تنقله إلى انكلترا.
وقد نبع ذلك جولة في انكلترا برفقة لورانس الذي كان ما يزال مخلصًا للأمير، ثم زيارات رسمية وحفلات
استقبال بحضور الملك جورج الخامس، كان فيها لورانس يرتدي أيضًا الملابس العربية.
الأمر الذي أثار حفيظة المسؤولي ن. وأخيرًا سلسلة من الاجتماعات في وزارة الخارجية لدراسة مطالبه في
سوريا، وللتحضير من أجل مؤتمر الصلح الذي كان على وشك أن يفتتح في باريس.
ويبدو إخلاص لورانس لفيصل في هذه الفترة بعد كل ما لقيه من إهانات أمرًا غريبًا، وقد يتساءل المرء لماذا
كان عليه أن يهتم بهذا الأمير؟ ولماذا واصل مساعيه من أجل تدعيم فيصل بعد أن أصبح من الواضح أن قضية
الهاشميين قد مزقتها أحقاد مؤسفة ومؤامرات خسيسة، ولم يعد بمقدورها أن تحقق لهم الاستقلال؟ ولنعترف بأن
الحكومة البريطانية كانت تحب خطته لا يجاد تسوية عربية، ولكن … مع كل يوم يمر، كان الفرنسيون يزدادون
١١٤٤٠٠
إصرارًا على الاستيلاء على سوريا، وكانت وجهة النظر الفرنسية تطالب بدفع تعويضات وجوائز لما قاسته في
الشرق وللخسائر التي تكبدتها فرنسا في الجبهة الغربية.
وكان من المستحيل تقريبًا، أن يقبل البريطانيون، نظرًا لضعف العرب وتفرقهم، خطة لورانس ، ومنع فرنسا
من الحصول على أكثر من بيروت وشريط من الشاطئ.
فما الذي دفع لورانس إذن بمثل هذه الحماسة؟ لا شك في أن الدافع هو حبه لسورية البلد الأول الذي أحبه بين
جميع البلدان العربية، والتي كان يسميها "حديقة الأشجار الفاتنة"، والمكان الذي تعرف فيه أول ما تعر ف على
جمال الصحراء، وغسل فيه روحه بطهارتها اللامتناهية، والمكان الذي وطد فيه دعائم صداقات مع رجال مثل
الشيخ حموده، وحيث وجد روحًا صافية لدى شباب العرب وخاصة الشاب المدعو أحمد.
لقد كانت سورية هي التي قاتل من أجلها . وكان دائمًا يدعو إلى الحرية والاستقلال لس وريا. وكانت دمشق
تراوده في الأحلام، منذ ذلك اليوم، قبل ثلاث سنوات، عندما قبل في غمرة الجو المشحون المكان الذي كان
فيصل يتخذه مقر قيادة له في "الحمراء".
وقد تدفن اطماعه الشخصية، كما أن خدماته للأمير قد لا يكافأ عليها، وأحلامه بايجاد بلاد عربية موحدة قد
تنقل إلى كابوس، فتتحول البلاد العربية إلى بلاد تحت الانتداب أو تحت الحماية أو حتى مستعمرات ومع
ذلك كان يشعر بأنه يجب أن يواصل النضال من أجل سورية وانقاذها من قبضة الفرنسيين . وقد تمكن لورانس
بفضل إحدى مصائب التاريخ، أن ينفذ فيصل، ولكنه لم يستطع ان ينقذ سورية

خالد الحويطي
18-02-07, 01:30 AM
الفصل الثامن والعشرون

فوضى في المؤتمر

دخل فيصل ولورانس في مشاكل قبل أن يفتتح مؤتمر الصلح في باريس في شهر كانون الثاني سنة ١٩١٩
مع الفرنسيين ومع الشريف حسين . فقد رفض الفرنسيون في بادئ الأمر أن يقروا بأن الأمير هو ممثل لدولة لا
يعترفون هم بقيامها، وكانوا مصممين على استخدام كل وسيلة وضغط للتأكد من أنها لن تقوم لها قائمة.
وكذلك رفض الشريف حسين الذي كان يحسد ابنه، في بداية المؤتمر، الاعتراف بأنه ابنه هو الممثل للقضية
العربية، وكذلك بأنه سيد لدولة عربية، له فيها مطالب، واتهم ابنه فيصل بأنه قد اغتصب عرشها على حساب
شقيقه عبد الله.
ولم يكن غير البريطانيين يؤيدون الأمير، وقد استطاعوا في النهاية إقناع "كليمنصو " رئيس وزراء فرنسا،
الذي كان يدعى "النمر" وكذلك الشريف من سحب اعتراضاتهما.
ولم يكن فأ ً لا حسنًا للعرب، أن يجلس الأمير فيصل النحيل البنية ومعه لورانس على مائ دة المؤتمر، وعلى
المقاعد المذهبة الرائعة في صالون قصر "دي لاهورلو" في "الكوال دورسيه".
فقد جلس الأمير منتصب الظهر، وحيدًا، وسط ممثلي الدول الذين كانوا سيقررون مصير أمته ومستقبل
قضيته. ولقد اعتبره الفرنسيون معاديًا لهم، وأحس الأميركيون، ممثلين بالرئيس ويلس ون بعطف بالغ على هذا
١١٤٤١١
الممثل لشعب اضطهد طوي ً لا. وقد أخذ مؤلف النقاط الأربع عشرة، وواضع أسس مبادئ تقرير المصير فكرة
روماتيكية عن الأمير ومنجزاته.
أما الوفد البريطاني برئاسة المستر "لويد جورج" فقد وجد نفسه متأثرًا جدًا بتضارب الولاء الذي وجد
البريطانيون انفسهم محاطين به.
وكانت حيرة الحكومة البريطانية ممثلة في الفوضى المباشرة وتناقض المعاهدات والتعهدات والالتزامات التي
كانت بريطانيا وكل الممثلين في المؤتمر يواجهونها.
فهناك أو ً لا تعهدات بريطانيا للشريف حسين التي قطعتها له سنة ١٩١٥ والتي تلتزم فيها بريطانيا با لاعتراف
باستقلال العرب، إذا ثار الحسين على الأتراك. وهناك ثانيًا إتفاقية "سايكس بيكو " المعقودة سنة ١٩١٦ والتي
تقضي بإقامة دول للعرب في سوريا وبلاد الرافدين، مع منح فرنسا وبريطانيا وروسيا، مناطق نفوذ.
وقد خسرت روسيا حقها هذا فيما يتعلق بالموضوع، لأنها أع لنت ثورة في بلادها، ووقعت معاهدة صلح
منفردة مع المانيا، ولكن لم تكن هناك أية بادرة توحي بأن الفرنسيين على استعداد للتخلي عن حصتهم.
أما مطالبة فرنسا بسوريا فتستند إلى أسباب استعمارية من جهة، وأسباب خاصة بفرنسا من جهة أخرى، على
اعتبار أن الفرنسيين هم حماة الكثلكة، والذين يتبعون هذا الدين في العالم العربي.
ولم يكن بمقدور أية حكومة فرنسية أن تتخلى عن هذا الادعاء، دون أن تعرض نفسها لهزيمة سياسية منكرة .
وهناك ثالثًا وعد بلفور لسنة ١٩١٧ الذي يعد بمنح اليهود وطنًا قوميًا في فلسطين بعد الحرب.
، ورابعًا كان هنالك وعد المندوب السامي البريطاني في القاهرة الذي قطعه في شهر حزيران سنة ١٩١٨
والذي جاء فيه أن المناطق العربية التي يحررها سكانها بعمليات حربية ستمنح الاستقلال.
وهناك خامسًا البيان الانكلو فرنسي الصادر في شهر تشرين الثاني سنة ١٩١٨ بعد سقوط دمشق والذي
وعد العرب في سوريا وبلاد الرافدين "بالعطف على إقامتهم حكومات مستقلة وطنية وضمان كيانها الطبيعي
دون أي تدخل وانشاء حكومات يختارها الشعب بنفسه".
وفوق هذا كله، وهو الأهم، كانت هنالك النقاط الأربع عشرة التي وضعها الرئيس "ويلسون" والتي جاء فيها
أن أسس المستقبل في المعاهدات يجب أن تقوم على حق تقرير المصير للشعوب، وهو وعد أعطى العرب آما ً لا
كبيرة، حتى لكأنه القصد الواضح من ذلك الوعد.
ولعل سائ ً لا يقول، كيف أمكن لكل هذه الفوضى والمتناقضات أن تدخل في علاقات بريطانيا وحكومات
الحلفاء؟ وهل كان لكل واحد من اولئك الساسة وجها ن، حتى أنهم لم يهتموا إ ّ لا بما هو ملائم عند اغداقهم تلك
الوعود؟ وهل عرضوا على العرب شيئًا لكي يجروهم إلى الحرب، ثم وافقوا على نقيض ذلك الشيء مع
الفرنسيين، لكي يجعلوهم يواصلون الحرب بعد أن بدت نذر التفكك تهدد بخروج فرنسا من الحرب؟.
كلا، إن هذه الإجابات بسي طة وأجوبة سطحية، أما الحقيقة الفعلية، كما يراها الجانب البريطاني، فهي أنه كانت
هنالك ثلاث سياسات بريطانية مختلفة تنفذ في الشرق الأوسط، دون أن تجري أية محاولة لتنسق هذه السياسات،
وبدون أية معرفة حقيقية من جانب واضعي تلك السياسات بما كان يفعله غيرهم أو يعدوه به.
١١٤٤٢٢
وقد أوضح ذلك السير "رونالد ستورز" في كتابه "الشرقيات" فقد كانت وزارة الخارجية في لندن تكرس جهدها
لتسكين قابليات فرنسا على التأثر، والموافقة على مطالبها، وكان المستر آرثر بلفور وزيرًا لخارجية بريطانيا
وقتذاك، وقد خضع لضغط صهيوني شديد من قبل الدكتور حاييم وايزمان بالنسبة إلى مستقبل فلسطين.
ولذا كانت وزارة الخارجية مسؤولة عن معاهدة "سايكس بيكو " ووعد بلفور . ومن ناحية أخرى كان
المندوب السامي البريطاني في مصر يعمل بصلاحيات واسعة تتعدى صلاحيات الحكومة المستقلة، وكان
وقتئذ تواقًا لمساعدة القائد البريطاني العام على التخلص من الأتراك بأسرع ما يمكن فهو يبذل الوعود للعرب
بمنحهم الاستقلال مقابل تعاونهم مع بريطانيا لتدمير الإمبراطورية العثمانية.
ثم وفي خضم هذين الخطين المتناقضين للسياسة، كانت هنالك حكومة الهند، وهي تمثل مستعمرة بريطانية
مستقلة ذاتيًا، وكانت لها مطامعها في بلاد الرافدين، على اعتبار أنها نقطة اتصال حيوية في خطوط دفاع
الإمبراطورية الممتدة من بريطانيا، عبر جبل طارق، مالطا ومصر حتى الهند والشرق الأقصى.
كانت مطالب نيودلهي تلقى تأييدًا كبيرًا في مدينة لندن حيّث كانت نظرات الطمع متحولة إلى الموصل، ل ما
كان يتوقع أن يوجد فيها من بترول، وما ستدره من واردات ضخمة.
إلى هذا القدر كتب عن خرق بريطانيا لتعهداتها للعرب وقيل عن انسحاب لورانس بعد الحرب من ميدان
الشؤون العامة، وقد أرجع السبب في ذلك إلى ما نسب إلى بريطانيا من ازدواج في السياسة، وهذا أمر لا يمكن
استكناهه بمجرد لمحة خاطفة، لما يتضمنه من حقائق تحتاج إلى تبيان وشرح.
وتبدأ القصة في شهر نيسان سنة ١٩١٤ ، عندما زار الامير عبد الله القاهرة لإجراء محادثات مع اللورد،
"كتشنر"، المندوب السامي البريطاني في مصر آنذاك . وكانت الحكومة التركية في الآستانة قد أخذت تشك في
اسرة الشريف وكل أعمالها، وقد ازداد هذا الشك عندما علمت بزيارة الأمير، فأرسلت مبعوثًا إلى "كتشنر "
تطلب إليه عدم استقبال الأمير عبد الله.
وقد وافق المندوب السامي على الطب، ولكنه أمر "ستورز"، وكان يومئذ سكرتير المندوب السامي، بأن يقابل
عبد الله ويعرف منه ما يريد . وكان جواب عبد الله "البنادق" للدفاع ضد الأتراك، وقد أجاب "ستورز " بوضوح
بأن مثل هذا الطلب لا يمكن إجابته من قبل حكومة على علاقة ودية مع تركيا . وعلى الرغم من أن سحب
الحرب كانت تتجمع في الأفق، وعلى الرغم من أن الاضطرابات قد أخذت تذر قرناه بين شريف م كة
والأتراك، فقد كانت هنالك حالة سلام ما تزال قائمة، ولا تستطيع بريطانيا أن تزج بنفسها في الخلافات الداخلية
للامبراطورية العثمانية.
ولم يقل أي من الطرفين شيئًا أكثر من ذلك، حتى اندلعت نيران الحرب في شهر آب من السنة ذاتها، وعندئذ
بدأت حملات الدعاية الألمانية تستهدف جر تركيا والعرب إلى خوض غمار الحرب ضد بريطانيا وفرنسا.
وقد وصف الحلفاء بأنهم أعداء الإيمان، وأن الألمان هم الأوروبيون الوحيدون الذين يدافعون عن الإسلام .
ولما كان الأتراك متألمين جدًا من بريطانيا، لانها حلت محلهم في مصر، غدوا فريسة سهلة للدعاية، و خاصة
عندما أصيب الحلفاء بنكسة في أول الأمر، مما جعل الأتراك يعتقدون بامكان إحراز نصر على البريطانيين
١١٤٤٣٣
الذين كانوا يحتلون شريطًا رفيعًا من صحراء سيناء، وكذلك صلى المسلمون لقيصر ألمانيا في مساجد دمشق،
ودعوه باسم "محمد وليام" أو "الحاج غليوم".
وكان واضحًا أن الأمر غدا مسألة اسابيع قبل أن تقع تركيا بأسرها في المصيدة، وتنضم إلى ألمانيا فيما دعوه
بالجهاد أو (الحرب المقدسة) التي كانت برلين تنادي لها.
فاذا أخذنا ذلك بعين الاعتبار أن اللورد "كتشنر" قد أصبح وزير الدولة لشؤون الحرب في الوزارة البريطانية،
فقد أصدر تعل يماته إلى "ستورز" في ايلول سنة ١٩١٤ من مقره في لندن بأن يبعث برسول إلى عبد الله، ليعرف
ما إذا كان الشريف حسين سيقف مع أو ضد بريطانيا، إذا ما خدعت تركيا ووقفت في الحرب إلى جانب ألمانيا.
وقد جاء الجواب مشجعا، وهو أن حسينًا وأولاده وشعبه سيقفون إلى جانب بريط انيا، وانهم في كل الاحوال لا
يعتقدون بأن المانيا ستربح الحرب . وقد أبلغ اللورد "كيتشنر" بجواب الشريف حسين في الحادي والثلاثين من
شهر تشرين الاول، مقرونًا بشرط هو "إذا ساعد العرب بريطانيا في هذه الحرب، فعلى بريطانيا أن تضمن عدم
وقوع أي تدخل في شؤون شبه الجزيرة العربية، وأن تقدم للعرب كل مساعدة ممكنة ضد أي عدوان أجنبي".
وفي الثلاثين من تشرين الثاني سنة ١٩١٤ ، دخلت تركيا الحرب ضد الحلفاء، وبعد عشرة أيام أرسل الحسين
رسالة إلى القاهرة يجدد فيها صداقته لبريطانيا، ولكنه أضاف يقول بأنه لم يقطع علاقاته بالأتراك بعد، وإن كان
يترقب مبررًا لقطعها.
ولم يقل أي من الطرفين كلمة أخرى، حتى نيسان سنة ١٩١٥ ، عندما اعلن الحاكم العام للسودان أن بريطانيا
ستضمن عند الوصول إلى تسوية سلمية، نيل شبه الجزيرة العربية والاماكن المقدسة الإسلامية، استقلالها، في
ظل حكومة ذات سيادة.
وكان هذا الإعلان حذرًا من ناحية الإشارة، أية اشارة إلى الحدود . وبعد ثلاثة أشهر، أي في حزيران، سعى
شريف مكة لطعن حلفائه البريطانيين، فقد اقترح على السير "هنري ما كماهون " الذي خلف "كيتشنر " في
القاهرة، أن تعترف بريطانيا بحق جميع المناطق العربية في جنوب غرب آسيا بالاس تقلال، باستثناء عدن، كما
يجب عليها أن تعترف بمطالبته بالخلافة التي ستجعله "بابا" الإسلام، بالإضافة إلى انه ملك العرب.
وكان رد "ماكماهون" غامضًا قصدًا وجاء فيه أنه يرفض أن يلزم الحكومة البريطانية بتحرير مناطق، الدفاع
عنها محكم، وخاصة تلك التي في غربي سوريا ودلتا بلاد الرافدين، ورجاه أن يسمح له بالسؤال عن بقية
طلباته الأخرى التي قدمها في اقتراحه.
وبعد حوالي سنة، وفي شهر أيار سنة ١٩١٦ ، أنذر الشريف حسين بمحاباة تركيا لمحاولات الألمان الزج
بالحجاز في الحرب، ومحاولة إنشاء محطة لا سلكية في منطقة البحر الأحمر، للا تصال بالقوات الألمانية في
شرقي إفريقيا، فبعث برسالة إلى القاهرة يطلب فيها إلى "ستورز" أن يحضر على جناح السرعة إلى الحجاز
لمقابلة عبد الله.
وأضاف إلى ذلك قوله ان الحركة ستبدأ حالما يصل فيصل وكان آنذاك محتجزًا في دمشق إلى مكة .
وقد وصل "ستورز" إلى خارج الحدود الاقليمية المقابلة لمدينة جدة في الخامس من حزيران، حيّث اجتمع مع
ابن الشريف، الذي ابلغه بأن الاضطرابات قد بدأت في ذلك اليوم بالذات بهجوم شنه كل من فيصل وعلي في
١١٤٤٤٤
المدينة المنورة، وقال له إن مكة ستهاجم في اليوم التاسع من حزيران، ولم تبحث في هذا الاجتم اع، أية
مواضيع سياسية أكثر من هذين الموضوعين، ولم يتقدم عبد الله بمزيد من الطلبات، سوى طلبه النقود والسلاح.
وكان فيصل وعلي قد صدا عن المدينة، ولكن بعد محاصرة مكة بأربعة أيام، استسلمت في الثالث عشر من
حزيران، واستسلمت جدة بعدها بثلاثة أيام، وبعد ذلك، أصيبت الثورة بنكسة، نتيجة للنقص في التعاون بين
بريطانيا والشريف، لولا ذلك الاندفاع والتشجيع اللذين شرع لورانس بتقديمهما بعد أن عين نفسه مبعوثًا خاصًا
لدى فيصل.
وفي الوقت ذاته كما يخبرنا ستورز في شرقياته فان اللجنة البريطانية العليا، كانت تجهل أن مفاوضات
معاهدة "سايكس بيكو " قد تمخضت عن اتفاق على التقسيم الثلاثي للمناطق العربية في الامبراطورية
العثمانية، بين بريطانيا وفرنسا وروسيا وإعطاء كل منها منطقة نفوذ، وكانت تلك الاتفاقية قد أبقيت سرية حتى
. فضح أمرها البولشوفيك بعد ثورة سنة ١٩١٧
وفي الوقت ذاته، كانت ح كومة الهند على وفاق مع ابن سعود، زعيم المذهب الوهابي الاسلامي المتطرف،
والعدو الألد للاسرة الهاشمية، كما كانت منهمكة بوضع الخطط لاستعمار بلاد الرافدين، حالما يتم طرد الاتراك
منها.
ولو أن أيا من هاتين السياستين المتناقضتين قد ابلغتا "ما كماهون" في الوقت الذي كان فيه قادرًا وهو
الرجل الحازم لكان من الممكن أن يوضح للشريف حسين أن بريطانيا لن تدعم أيًا من مطالبه بصدد استقلال
العرب، أو لربما أصر تحت تهديده بالاستقالة على ضرورة عدم إعطاء تعهدات متناقضة أو أية التزامات
يخالف بعضها بعضًا من قبل بريطانيا لأي فريق ثالث.
ولكنه، كما حدث، بقي في الظلام بسبب الفشل في تنسق السياسة بين لندن والقاهرة ونيودلهي، وعندما
فضحت هذه التناقضات أخيرًا، أزيح من منصبه، ليتولى منصبًا يقوم عن طريقه بمزيد من تهدئة خواطر
العرب.
وليس هناك من شك في أن العرب يعتقدون، ويشاركهم الاعتق اد لورانس، بأنهم قد تعرضوا لخيانة
البريطانيين، وبدون إيضاح من لندن، التي كانت في حالة من الفوضى فيما يتعلق بسياستها إزاء الشرق الأوسط
التي كانت سائدة آنذاك.
لم يكن المندوب السامي مطلعًا على مجريات الأمور، ولم يكن بمقدوره إ ّ لا أن يقول بشىء من الغموض أي
المناطق لن تنال استقلالها، الأمر الذي ترك العرب بحق في حيرة، وفسروها على أن كلا لمناطق، وليست
مناطق معينة كلها باستثناء غربي سوريا ودلتا بلاد الرافدين ستنال استقلالها، كما وعد بذلك اللورد
"كيتسشنر" وكما جاء في بيان حاكم السودان العام.
ولما تبع ذلك بيان القاهرة الصادر في حزيران سنة ١٩١٨ ، والبيان الانكلو فرنسي، الذي صدر في تشرين
الثاني التالي، كان العرب بطبيعة الحال قد اقتنعوا بأن البريطانيين سيؤيدونهم، مهما حاول الفرنسيون فرض
حكمهم على البلاد العربية المتحررة.
١١٤٤٥٥
كان هذا هو اعتقاد فيصل بكل تأكيد عندما التأ م مؤتمر الصلح. وعند افتتاحه قدم طلبا يؤكد فيه مطالبه
باستقلال جميع البلدان العربية في آسيا : الحجاز، نجد، شرقي الأردن، فلسطين، سوريا، بلاد الرافدين، على
أساس أن هذه المناطق غير منفصلة من الناحيتين الجغرافية والقومية، ولم يثر أية عراقيل بشأن وعد بلفور، بل
أكد أن الأمر يعود إلى هجرة اليهود إلى فلسطين، وإن كان قد عارض في إقامة دولة يهودية على ذات الأرض
التي لا يمكن فصلها عن بقية العالم العربي.
وقد قال في رسالة إلى القاضي اليكس فرانكفورتر جاء فيها : "إن الغرب واليهود أولاد عم من ناحية الجنس،
وقد تعرضوا لاضطهاد م تماثل… ومن حسن الحظ أنهم قادرون على القيام بالخطوة الأولى نحو بلوغ أهدافهم
الوطنية معًا".
وكانت هذه الرسالة مبعوثة من باريس بتاريخ آذار سنة ١٩١٩ . وقد أضاف إلى ذلك قوله: "إننا نتمنى لليهود
كل ترحيب قلبي في بلدنا … إن هناك متسعًا في سوريا لنا ولهم".
وقد يش ك المرء في أن هذا الكلام، صادر عن لورانس أكثر منه عن فيصل، وكان لورانس يقدر تقديرًا كبيرًا
"حاييم وايزمان "، منذ أن التقيا في فلسطين بعد سقوط القدس، ليبحث مع الأمير المقترحات الصهيونية الخاصة
بتوطين اليهود في الديار المقدسة، وكان على الدوام يعطف على الجنس ا لسامي من اليهود والعرب، على
اعتبار انه جنس يشكل وحدة كاملة.
وفي الوقت ذاته، كان لورانس وفيصل يعتقدان آنذاك بأن مثل هذا التأييد الأجوف للصهيونية يعتبر من حسن
السياسة على أساس أن هذا التأييد سيدعم أكثر فأكثر القضية العربية بين الوفود الأميركية والبريطانية، وذلك
عن طريق إظهار أن دولة عربية مستقلة لن تتعارض مع مصالح اليهود ومطالبهم.
كما فسراها لنفسيهما من وعد بلفور . ومن سوء حظهما، وحظ التاريخ، أن إذعانهما في فلسطين، لم يكن كافيًا
لتأمين الاستقلال للعرب، لأنه فشل في الحد من مطالب فرنسا في سوريا، وما كانت الهند مصممة عليه وتأمين
مصالح الغرب البترولية في بلاد الرافدين

خالد الحويطي
18-02-07, 01:31 AM
الفصل التاسع والعشرون
مأساة سوريا
في السادس من شباط سنة ١٩١٩ مثل فيصل أمام لجنة العشرة ليدافع عن قضيته، وكان لورانس معه بصفة
مستشار ومترجم، وقدم الامير معظم مساهمة العرب في هزيمة الأتراك، وكان يغ الي في بعض الأحيان مغالاة
كبيرة في عدد المقاتلين العرب الذين اشتركوا في الحرب، وفي عدد الإصابات التي أصابتهم، ولكنه كان
مكشوفا في ذلك.
وعلى الرغم من أنه قد ولد ونشأ وسط مؤامرات ودسائس الشرق، إ ّ لا أنه لم يكن من المهارة والعزم بمقدار
الدبلوماسيين الغربيين ا لذين قد قرروا الإطاحة به . وبينما كان البريطانيون يؤيدونه اسميا في مطالبته بسوريا
وضرورة استقلالها، فقد كانوا يعرفون أنهم لا يستطيعون على المدى البعيد اللجوء إلى الاستيلاء على بلاد
الرافدين، ومنع الفرنسيين من أخذ سوريا.
١١٤٤٦٦
وثمة تعقيد آخر يكمن في الموضوع، وهو أنه بموجب تقسيم بلاد العرب الذي اتفق عليه في معاهدة "سايكس
بيكو " بأن آبار النفط في الموصل كانت تقع في المكان الذي أعطي للفرنسيين ليكون منطقة نفوذ لهم يديرونه
كيف شاؤوا.
وكما كان متوقعًا، فقد قام "كليمنصو" بالقاء هذه الورقة الرابحة، لتطلق يده في سوريا، وبينما كان فيصل يدافع
الدفاع الأول أمام "صانعي السلام!" كانت القوات البريطانية تخلي غربي سوريا للقوات الفرنسية، وكان أقصى
ما يمكن انقاذه من الحطام لا يعدو داخل سوريا وربما دمشق.
وقررت بريطانيا أن تتفق على هذا، عندما اقترب المؤتمر من ربيع سنة ١٩١٩ ، فراحت توقع كل ضغط
ممكن على فرنسا لكي توافق هي الأخرى، غير أن جميع تلك المحاولات ذهبت سدى، فقد كان "كليمنصو "
يعرف قوة مركزه، ولذلك أصر بعناد على تقسيم سوريا إلى منطقتين، القسم الساحلي ليصبح مستعمرة فرنسية
والقسم الداخلي محمية فرنسية.
وقد ناضل لورانس يائسًا لإحباط هذه الخطة، مستعم ً لا كل قوة يمكن أن يتصورها العقل، حتى لقد انتهز
فرصة مقابلة خاصة له مع الملك جورج الخامس، تلك المقابلة التي كان من المقرر أن يمنح فيها وسام ربطة
الساق، وحاول أن يثير العطف على قضية فيصل . ورفض لورانس قبول أية مكافأة من ملكه وسيد البلاد الذي
جعل منهم جزءًا من خيانة بلاده للعرب، وهكذا غادر القصر غاضبًا.
وعاد لورانس إلى باريس وتوجه مع فيصل لزيارة الكولونيل "هوس" يد الرئيس ويلسون اليمنى، لحثه على أن
تتدخل الحكومة الأميركية وتنشئ انتدابًا على سوريا، ولكن هذه المحاولة لم تفلح، فقد ارتدت إهانة لورا نس
للملك ارتدادًا فظيعًا عليه، مثيرة السخط أكثر مما هي مثيرة للعطف في بريطانيا.
والأدهى من ذلك أن أقصى ما يمكن للوفد الأميركي أن يلزم به نفسه هو أن يقترح إيفاد لجنة تحقيق من
الحلفاء إلى سوريا، وكان لهذا الاقتراح نظرًا لافتقاره إلى تأييد بريطانيا ومعارضة ف رنسا العنيفة له، اثره في
التأثير على جميع اللجان الأميركية، التي تقدمت بمقترحات لتوحيد سوريا وتنصيب فيصل ملكًا عليها . وكان
نصيب كل هذه المقترحات هو التجاهل.
ثم جاءت ضربة أخرى موجهة إلى لورانس ومجهوداته، فقد شبت إضطرابات في بلاد الرافدين، عندما
حاولت القبا ئل أن تقاوم الحكم البريطاني، مدفوعة من حكومة الهند . وبعد أن أخمدت هذه الاضطرابات،
اكتشفت السلطات البريطانية المحلية أن مشعلي الفتنة قد مولوا الاضطرابات بأموال منحتها بريطانيا إلى شريف
مكة، وشجعت على نطاق واسع بدعاية من دمشق حيّث كان الأمير زيد الذكي، إ ّ لا أنه ليس بالرجل الناضج،
ينوب عن فيصل، والذي وجد نفسه ليس بأصلح في السيطرة على العناصر المتطرفة في بلده، من شقيقه في
معالجة ما يسمون أنفسهم بالحلفاء في باريس.
وليس بالامكان أن يحدث كل هذا في لحظة أسوأ من تلك اللحظة بالنسبة إلى فيصل، فقد كان أولئك المتنفذون
في وزارة الخارجية البريطانية، وعلى رأسهم اللورد "كورزون" ممكن كانوا يدافعون عن المصالح البريطانية
على حساب العرب، في وضع يمكنهم من المناقشة والمجادلة والادعاء بأن الإخلاص للشريف وقضية العرب
لن يدمر التحالف الانكلو فرنسي فحسب، بل وسيمكن انتصار الوطنيين ال عرب الذين يعارضون في النفوذ
١١٤٤٧٧
الأوربي والغربي ومصالح الغرب في جميع أرجاء الجزيرة العربية، ومنذ ذلك الوقت أصبح موضوع خذلان
الأمير موضوع وقت.
وفي أيار سنة ١٩١٩ ، وقبل أن يتم تقرير أي شيء بالنسبة لمصير سوريا، عاد فيصل إلى دمشق ليقابل
بالهتافات من اشياعه والعبوس من الفرنسيين، ولم يقابل لورانس بأية هتافات عندما عاد إلى موطن طفولته في
اكسفورد. وكان والده قد توفي مؤخرًا، ووجد أن اثنين من أشقائه قد قتلا في الحرب، وكانت أمه تعد نفسها
للسفر إلى الصين مع أخيه الأصغر "بوب" في بعثة طبية.
وعلى الرغم من أن ما كتبه ونشره بر وي الشيء القليل عن حالته النفسية في ذلك الحين، إ ّ لا أنه من الواضح
من سلوكه أن فشله في باريس كان يأتي على رأس ما يعانيه من آلام نفسية، وعذاب جسماني، ومرارة
فشله في تحقيق أطماعه التي يكرس لها سني الحرب.
حتى ليمكن القول بأن ذلك الفشل قد أوصله إلى الإنهيا ر الكلي، فكان يجلس ساعات طوا ً لا دون أن يتحرك،
وفي نفس الإتجاه، وعلى وجهه تعبير العذاب لا يتغير.
وبعد فترة لم يعد بمقدوره أن يتحمل ذلك أكثر مما تحمله، فقرر أن يسافر إلى مصر ليجمع أوراقه وغير ذلك
مما تركه هناك في غمرة إسراعه بالانسحاب من دمشق.
وكانت الطائر ة التي سافر عليها نوعًا من قاذفات القنابل، ولكنها في حاجة إلى كثير من الإصلاح، ولذلك
اضطرت للهبوط هبوطًا اجباريًا في إيطاليا، وقتل في ذلك الحادث الملاحان اللذان كانا فيها.
وعلى الرغم من أن جراحه كان تشتمل على كسر في الضلع وآخر في عظم الترقوة، إ ّ لا أنه است قل طائرة
أخرى وواصل رحلته إلى القاهرة، حيّث قابله موظف بريطاني يعمل وفقًا لتعليمات وزارة الخارجية، فسأله أن
يقدم له تأكيدات بأنه لن يسافر إلى سوريا ويحدث مشاكل هناك للفرنسيين.
وكانت أخبار رحلته قد بلغت مسامع المسؤولين في الحكومة الفرنسية، الذين على ما يبد و، حملوا تهديداته
التي أطلقها في باريس على محمل الجد، بينما كان هو يمزح . وأحد هذه التهديدات قاله مباشرة إلى "كليمنصو "
والمارشال "فوش" وهو قوله إنه سيحمل السلاح ضد فرنسا، ولن يتركها تستولي على سوريا.
وبعد أسابيع قليلة عاد لورانس إلى باريس ليقوم بمحاولة أخي رة لانقاذ سوريا التي يحبها من سيطرة فرنسا .
ولكن مجهوداته باءت بالفشل مرة أخرى، فعاد إلى لندن ليدافع عن سوريا أمام "لويد جورج " والوزارة
البريطانية، ولكنه أبلغ بكل برود أن يصالح الحكومة الفرنسية، وقد عملت بريطانيا كل ما بوسعها له، وهي
ليست مستعدة لاغضاب أفضل اصدقائها في اوروبا من أجل العرش الذي يريد إيجاده.
وكانت الحكومة البريطانية توشك أن تتلقى وثيقة الانتداب على بلاد الرافدين وامتياز التنقيب عن البترول في
الموصل، وفي مقابل ذلك كان يتحتم عليها أن توافق على منح فرنسا وثيقة الانتداب على سوريا كلها.
هذا وقد ا ستثني لورانس، أو لعل الأصح أنه استبعد، عن المناقشات التي دارت مع الأمير بموجب تعليمات
رئيس وزراء بريطانيا الخاصة، ولربما كان ذلك أفضل بالنسبة له، وعلى الأقل لأنه انقذه من أن يرى إهانة
فيصل الأخيرة، ولكنه ثار وبعث برسالة إلى جريدة "التايمس" اللندنية كشف فيه ا النقاب عن جميع نقاط
المناقشات التي حاول عبثًا إقناع مؤتمر باريس بها طوال الأشهر التي انقضت على انعقاده.
١١٤٤٨٨
وخرج عن تقاليد الرجل البريطاني عندما ربط وسام "كويكس دي كوري " الفرنسي إلى طوق كلب من طراز
"هوغارث" وعرض الكلب في شوارع اكسفورد.

وتصالح فيصل م ع "كليمنصو" ثم عاد إلى دمشق بشروط جعلت منه شخصًا هو دون رئيس ولاية اقطاعية .
والحقيقة أنه ما كان ليسمح له بالعودة إلى سوريا على الإطلاق، لولا أن السلطات الفرنسية المحلية كانت
مشغولة آنذاك بقمع محاولة قامت بها بعض الوحدات التركية، ممن لم تحل بعد، لإعادة الحك م العثماني إلى
مناطق الحدود في سوريا الشمالية . وبينما كانت هذه السلطات منهمكة في تلك العمليات، اقترح المسيو "جورج
بيكو" على الحكومة، بأنه لكي تضمن أقل المشاكل مع العرب، فلا بأس من اختيار أهون الشرين والسماح
لفيصل بالعودة إلى دمشق، على أساس أنه اقدر من يستط يع كبح جماح المتطرفين، وقال: إنه كلما قلت مشاكلنا
مع العرب كلنا أسرع في قمع الاضطرابات.
وقد لعب فيصل لمدة أشهر دوره بكرامة وتحفظ، ثم وفي شهر آذار سنة ١٩٢٠ نفذ صبر العرب وفقدوا
أعصابهم، فقد كانت سوريا وبلاد الرافدين، أو العراق، كما كانت ستسمى من جديد، قد ح ررتا من الأتراك قبل
ثمانية عشر شهرًا، ومع ذلك لم تكن هنالك في الأفق أية بارقة توحي بأن العرب سينالون أي استقلال حقيقي.
وكانوا ما يزالون دون ملك في بلادهم، كما أن "محرريهم" يفرضون عليهم سلطاتهم بطريقة لا تقل عنفًا
وجرحًا للكرامة العربية عن تلك التي كانت الإ مبراطورية التركية تتبعها . ولذا فقد اجتمع مؤتمر عربي في
دمشق، وقرر العمل على تأكيد حقوق العرب، وأعلن تعيين فيصل ملكًا على سوريا وشقيقه عبد الله ملكًا على
العراق.
واحتجت فرنسا بشدة على هذا الإعلان واعتبرته تحديًا، ودعت بريطانيا لتشترك معها في إبطال الإعلان ،
وابدى "كرزون" استعداد الفوري لتأييد فرنسا، وشجبت الدولتان معًا ذلك القرار الذي اتخذه المؤتمر، وأمر
فيصل بشكل حازم، أن يحضر مؤتمر "سان ريمو" حيّث تسوى جميع هذه المشاكل من قبل فرنسا وبريطانيا.
وانعقد المؤتمر في الشهر التالي، ولم يتردد في منح فرنسا حق الان تداب على سوريا، وبريطانيا حق الانتداب
على العراق وفلسطين، وتخلت فرنسا عن مطالبتها في حقول زيت الموصل، فالحقت المنطقة بمنطقة الانتداب
البريطاني.
وهكذا انتصرت فرنسا، وأصبحت أيام فيصل معدودة، ولم يكن ينقص السلطات الفرنسية في بيروت غير
الذريعة للإطاحة به . ولم يطل الامر بالمسيو "جورج بيكو" ليجد تلك الذريعة، فقد جوبهت بريطانيا في أوائل
شهر تموز بنشوب اضطرابات جديدة بين القبائل في وادي الفرات، فكانت تلك إشارة إلى المتطرفين في سوريا.
وكانت خطوط السكة الحديدية الفرنسية، بين حلب والقوات الفرنسية المرابطة في سوريا ا لشمالية قد أصبحت
مهددة، وقد أرسل الجنرال "غورو" القائد الفرنسي العام، والقائد العالم السابق في السودان، والذي عرف بقسوته
في معالجة مثل هذه الامور، أرسل إنذارًا فظًا إلى فيصل طلب فيه ضمان حرية استعمال تلك الخطوط . ونظرًا
لما كانت فرنسا تبيته من تصميم، فقد أمر "غورو" القوات الفرنسية بالزحف على دمشق.
وقد تردد الأمير في بادئ الأمر اعتقادًا منه بأن البريطانيين، وقبل كل شيء صديقه "اللنبي "، لن يسمحوا
للفرنسيين بالتمادي في هذه المعاملة مع حلفائهم العرب. ولكن القرار لم يعد بيد "اللنبي".
١١٤٤٩٩
وكان من الضروري سؤال لندن عن التعليمات الواجب اتباعها . وفي الوقت ا لذي وصل فيه نداء فيصل إلى
القاهرة، كانت لندن في ذلك الوقت مضطربة جدًا ومهتمة بأحداث العراق، وكان الآلاف من الجنود البريطانيين
يشتركون في عمليات القمع، كما أن تكاليف تهدئة البلاد بلغت أكثر من ٣٠,٠٠٠,٠٠٠ جنيها سنويًا، ولذلك فقد
تساءلوا في "الوايت هول : كيف يمكن لبريطانيا أن تتخذ أشد إجراء لمعالجة تمرد يؤثر على مصالحها،
ومعارضة فرنسا في اتخاذ إجراءات مماثلة لتؤمن مركزها؟ وبالاضافة إلى ذلك، ألم يثبت في المرة الأخيرة،
عندما نشبت الاضطرابات في العراق بأنها قد شجعت من دمشق ومولت من مكة؟.
وابلغ "اللنبي" بألا يتدخل وأن يدع فيصل يخوض معركته وحده. وقد وقعت مهمة إبلاغ هذه الأنباء القاسية
للأمير على سئ الحظ "كيرك برايد" الذي قال بأن فيصل قد تصرف كالطفل عندما تلقى جواب بريطانيا ، ففي
غمرة تأمله من هذه الأخبار، نسي كل كبريائه له، وراح يبكي ويلعن حظه العاثر وخيانة حلفائه لقضيته.
ولما استرد وعيه، قام الأمير بمحاولة أخيرة للتفاوض مع الفرنسيين . فبعث ببرقية إلى الجنرال "غورو " طلب
إليه فيها وقف زحف القوات الفرنسية على دمشق تجنبًا لسفك الدماء، ولدراسة المطالب الفرنسية في فسحة من
الوقت.
ولكنه لم يتلق جوابًا على هذه الرسالة واستمر الزحف الفرنسي . وبعد يومين سلم تحت شروط، فقد بعث
ببرقية أخرى قال فيها إنه لن يقاتل، وانه قبل الإنذار الفرنسي بحذافيره، ولم يطلب إ ّ لا أن يتراجع الجيش
الفرنسي عن المواقع التي احتلها مؤخرً ا. غير أن الفرنسيين كانوا قد امت لأوا غيظًا، ولم يعد هناك ما يوقفهم عن
احتلال دمشق، وطرد فيصل من سوريا . ان تلغراف الاستسلام قد "ضاع " ليتيح ضياعه الفرصة للقوات
الفرنسية كي تصل إلى العاصمة السورية، وتهزم القوات الأمير التي تقدمت لمواجهتها.
ثم .. وفي السابع والعشرين من تموز تلقى الأمير رسال ة فظة، تطلب منه أن يتخلى عن مركزه، ولم يجئ
فيها أي ذكر لقبوله إنذار "غورو"، وابلغته بأن ثمة قطارًا سينقله صباح اليوم التالي إلى فلسطين.
وانتشرت أخبار قرب مغادرة فيصل للبلاد حول دمشق انتشار النار في غابة، ونجم عن ذلك اضطرابات
ومظاهرات، اخترقت شوارع دمشق، لأ ن الذي خاطر بحياته من أجل ملكه أثناء الاحتلال التركي، ثم أنقذه من
محاولة الانقلاب التي قام بها عبد القادر، لن يقبل منه أن يسلم نفسه ولا شعبه إلى أطماع استعمارية وعدو
غاصب.
وقد قام الدمشقيون بمحاولة يائسة أخيرة، فتجمعوا بأعداد كبيرة لسدّ الطريق أمام فيصل ومنعه من الخروج
من المدينة، ولكن فيص ً لا لم يكن يرغب في المقاومة فأمر قواته النظامية بقيادة نوري السعيد أن تشق له طريقًا
بالقوة خلال الجماهير التي كانت ترفع عقائرها بالاحتجاج.
وبعد أيام قليلة وصل القدس، منتصب القامة، ولكنه حزين الملامح، يرد دموعه التي كانت على وشك
الانحدار من مقلتيه، وسمح له باللجوء، تحت الحماية البريطانية.
فاذا كان ما أصاب فيصل في سوريا من إذلال يمكن اعتباره بالشئ القليل، إ ّ لا أن ما أصاب والده من سوء
حظ لم يكن يتوقعه، كان أكثر بكثير من نصيب فيصل، فقد انتخب فيصل ليكون ملكًا على العراق بعد سنة من
١١٥٥٠٠
طرده من سوريا، أما والده، فقد خلع بعد أربع سنوات وفقد عرش الحجاز ونفي، دون تعويض من أي نوع
كان.
وكان الشريف العجوز قد تكدر كثيرًا لتسليم ابنه بالشروط الفرنسية، بعد عودته إلى سوريا من مؤتمر الصلح،
كما أنه قد جرح لخيانة الحلفاء له ونكثهم وعودهم وتخلفهم عن تنفيذ تعهداتهم له.
ولذلك فقد قرر أن يقوم بمحاولة أخيرة ليؤكد استقلاله وسلطانه في العالم الاسلامي . فأعلن بأنه الخليفة و"ملك
الأراضي العربية ". ولكنه لم يرتكب أكثر من هذا الإجراء حماقة، إذ أن عدوه القديم، ابن سعود كان منذ مدة
يتطلع إلى الحجاز بنظرات طم وح معتبرًا نفسه واتباعه من الوهابيين، الحرس الوحيدين للأماكن المقدسة في
مكة والمدينة.
وهكذا فقد أعطاه إعلان حسين هذا عذرًا ليقوم بحملة عنف ودعاية، واخيرًا إعلان الحرب ضد حكم الشريف،
الذي انتهى باتحاد الحجاز ونجد في مملكة واحدة وهي المملكة العربية السعودية ، الأمر الذي خلق عداء سعوديًا
هاشميًا ما يزال قائما حتى هذا اليوم.
وفي شهر تموز سنة ١٩٢١ ، وأثناء انعقاد مؤتمر القاهرة، أرسل لورانس إلى جدة ليحاول إقناع الشريف
بالاعتدال في مطالبه والتوقف عن تحريض جيرانه، وخول صلاحياته التفاوض لعقد معاهدة لوضع الحجاز
تحت الحماية البريطانية، إذا ما استطاع الشريف أن يتبنى سياسة المصالحة.
غير أن الشريف لم يكن من السهولة بحيث يشترى بأي عرض بريطاني، وبعد سلسلة من الاجتماعات
العاصفة، توقفت المفاوضات، وتوجه الشريف إلى مكة حيّث حجز نفسه هناك، تاركًا لورانس ولا سبيل أمامه
غير العودة إلى القاهرة.
وارتكب الشريف خطأ آخر عندما أمر ابنه عبد الله بقيادة حملة من أربعة آلاف رجل، يتوجه بها إلى نجد
ليؤكد نفوذ خليفة مكة الجديد . وسرعان ما اشتبكت قوات عبد الله مع الوهابيين، فأبيد معظمها في مذبحة بشعة،
ونجا عبد الله نفسه من الموت أو الأسر بأعجوبة.
لقد كان الشريف طموحًا أكثر مما يجب، كما أن ابن سعود كان مصممًا على إ ّ لا يقف حتى يطهر الحجاز من
الهاشميين، وكل الذين اساؤوا إلى سمعة شبه الجزيرة العربية بتحالفهم مع "الكفرة".
وفي سنة ١٩٢٤ خلع حسين وحمل إلى قبرص، تاركًا ابنه سئ الحظ عليًا ليدافع عن جد ة، آخر معقل حصين
في وجه الوهابيين المنتصرين. وعلى الرغم من أن بريطانيا كانت ممولة سخية للشريف.
فقد رفضت أن تشترك في النزاع مع ابن سعود . ولذلك فإنه ما إن انتهت الذخيرة حتى انتهت الحرب، وسلمت
جدة وهرب علي إلى العراق، حيّث قدم له شقيقه فيصل بيتًا يعيش فيه طوال حياته في المنفى.
ولقد جر الشريف العجوز المصاعب على نفسه، وهناك قلائل بكوا على هزيمته النهائية، فقد سمح لشكوكه
الخاصة، أو لشكوك اولئك الذين يحيطون به، بأن تسيطر على أعماله، تلك الأعمال التي كثيرًا ما كانت خاطئة.
لقد رفض أن يساعد ابنه عندما كان يحمل عبء الثورة العربية على كتفيه الضعيفتين، بل لقد تآمر ضد
فيصل، وحرض جنوده على التمرد في أحرج اللحظات، وكذلك فقد نسف نفوذه في مؤتمر الصلح.
١١٥٥١١
وأخيرًا، قام عندما كان فيصل يحاول أن يعيش على السراب والنتائج غير المؤكدة لمجهوداته الخاصة في
باريس، قام بالتخلي عنه وأعلن استقلاله، بوصفه الخليفة، وملك شبه الجزيرة العربية، الأمر الذي أثار ضده
زعيمًا آخر من زعماء شبه الجزيرة العربية، بينما كان ابنه الذي يأمل في مساعدته يجلس على عرش مملكة
أخرى.
وثمة عمل آخر قام به الشريف حسين يبعث على الدهشة، إذ أنه بعد وصوله إلى قبرص منح من قبل
الحكومة البريطانية وسام الصليب الكبير لنوط ربط الساق، وهو نفس الوسام الذي رفضه لورانس من مليكه
احتجاجًا على خيانة بريطانيا لتعهداتها للشريف.
والغريب أن الشريف قبل الوسام من يد "رونالد ستورز " الذي كان يشغل عندئذ منصب حاكم جزيرة قبرص،
والذي كان خادمًا للورانس طوال الثورة العربية، والمحرض الرئيسي لبريطانيا على التخلي عن تعهداتها
بالنسبة للحركة العربية

خالد الحويطي
18-02-07, 01:33 AM
الفصل الثلاثون

عودة إلى النور

بعد أن تداعت كل أحلام لورانس، وأحس بالتنكر لكل ما حارب من أجله، من الجائز أن يكون الشيء الذي
يريده أكثر من أي شيء آخر، هو أن يعود للاختفاء عن الناس ونسيان الماضي.
وصحيح أنه كان يستمتع بنظرات الحسد والإعجاب، التي كانت تلاحقه وهو يرافق فيص ً لا إلى مؤتمر باريس
وأثناء تجواله اليومي معه، وكان يرتدي ملابس بيضاء مذهبة كتلك التي يلبسها امراء مكة، إ ّ لا أنه كان يفعل
ذلك خصيصًا ل يلفت انظار الحاسدين والمعجبين بين الجموع، كما أنه كان يسر عندما يعرف بأنهم يتحدثون عنه
على اعتبار أنه "الملك غير المتوج" لشبه الجزيرة العربية.
غير أن استمتاعه ذاك لم يكن كله بدافع من زهوه، ولطالما كان يسخر من اولئك المعجبين به، ويصفهم بأنهم
مجانين أو مخدوعون بمظهره السحري.
وكذلك فإنه عندما كان يسخط على أولئك الذين ينظرون إليه بعين الحسد، كان لا يستطيع إ ّ لا أن يحتقر نفسه .
ولكنه كان يرد نظراتهم بمثلها لينتزع منهم كلمات الاطراء والثناء.
وأما مهمته في شبه الجزيرة العربية فقد انتهت إلى فشل وخيانة وكارثة، ومهم ا كان "الرجل، الذي يعترف
بأنه يتمتع، فأن "المظهر العبقري" الذي كان يظهر به لم يكن ليساوي شيئًا لبلاده، ولا له شخصيًا.
يومذاك بدأ يكتب مذكراته الخاصة عن الثورة العربية والدور الذي لعبه بها . وقد نشرت المسودة الأولى من
كتابه "أعمدة الحكمة السبعة " أثناء الجو المحموم الذي كان يسود مؤتمر الصلح، وكان يأمل عند عودته إلى لندن
في نهاية سنة ١٩١٩ أن يتمكن من الحصول على قليل من الهدوء والسلام لينهي هذا العمل الكبير.
ولكن الأمور لم تجل على هذا المنوال، وكان السبب في ذلك صحفيًا اميركيًا يدعى "لويل توماس "، أو الرجل
الذي قدر أن يكون الشخص الذي يريد أن يجعل من لورانس اسطورة في كل البلاد الناطقة باللغة الانكليزية.
١١٥٥٢٢
فقد أرسل "توماس" من أميركا في سنة ١٩١٧ ، كمراسل حربي، من قبل جماعة من مؤيدي الحلفاء، ممن
يرغبون في الحصول على مادة دعائية دسمة لنشرها في الصحافة الاميركية، بقصد تش جيع أميركا على دخول
الحرب ضد الألمان.
ولما وصل إلى فرنسا لم يجد أي شيء سوى بحور من الطين ومناظر المذابح، وهذه لا تكفي للمهمة التي
أوفد من أجلها.
وقد نصحه بعضهم بأن يجرب الشرق الأوسط، حيّث سيكون من الممكن مع قيام الثورة العربية وبلوغ حملة
"اللنبي" القمة، أن يجد ميادين أكثر لنجاح مهمته.
ووصل "توماس" إلى فلسطين، وعلى الأثر قدم إلى لورانس بوساطة "رونالد ستورز" ثم حاكم القدس . وكان
هذا ما يريده بالضبط، وهل أفضل من أن يقابل بط ً لا بريطانيًا خياليًا يعمل في الصحراء!.
وقد ترك "توماس" خيالاته تجري بسرعة متأثرًا من بضع مقابلات مع لورانس وزيارة إلى العقبة لرؤية
معسكر فيصل . وكان لورانس يعجب من المهمة التي يقوم بها "توماس" ويعجب بصورته وهو يرتدي الملابس
العربية. ولذلك راح يملأ أذنيه المتشوقتين بتفاصيل براقة عن دوره في الثورة وعن اخلاق وطبائع العرب.
وقبل "توماس" كل ذلك، وبعد زيارة قصيرة إلى البتراء، عاد إلى الولايات المتحدة ليكتب مقالاته، ثم …
وعندما انتهت الحرب، قرر أن يجمع كل ما كتبه، وأن ينظم سلسلة من المحاضرات في نيويورك، وغيرها من
بلدان الولايات المتحدة.
وكانت تلك المحاضرات مصورة، يعرض خلالها صورًا في الفانوس السح ري وافلام سينمائية وكانت بعنوان
"مع اللنبي في فلسطين ولورانس في شبه الجزيرة العربية".
وبطبيعة الحال برز لورانس كبطل صليبي ذي أخلاق رفيعة وشجاع وشريف.
ومنذ أول محاضرة القاها "توماس" في ماديسون سكوير غاردن لاقى نجاحًا كبيرًا، وبدأ اسم لورانس
يلمع على صفحات الجرائد الأميركية.
وكان ذلك العصر عصرًا لا يحب المزاح، كما أن أهله كانوا يفضلون في أبطالهم الاستقامة ولمعان الاسم،
دون أن يكون معقدين أو يناقض الواحد منهم نفسه.
وقد حضر إحدى محاضراته الأولى رئيس فرقة موسيقية بريطاني يدعى "بيرسي بورتون " فاستغرب أن
يعرف الجمهور الأميركي عن بطل بريطاني، ما لم تغن له اناشيد المدح في بلده بالذات.
فعرض على "توماس" أن يعرض أعماله في لندن، بحيث تعرف بريطانيا أيضًا عظمة واحد من ابنائها . وقد
أجاب "توماس" مازحًا بأنه على استعداد للشخوص إلى لندن، إذا ضمن "بورتون " له تخصيص دار ا لاوبرا
الملكية مكانًا لمحاضراته، واذا جعل ملك انكلترا يحضر تلك المحاضرات . وبعد شهر أبرق "بورتون" من لندن
يقول، بأن الطلبين قد أجيبا واتخذت الترتيبات بشأنهما.
وأخذ توماس يعرض صوره بالفانوس السحري من شهر أيلول سنة ١٩١٩ حتى بداية سنة ١٩٢٠ ، في اوبرا
"كوفينت غاردن" وقاعة "البرت" أمام نظارة بلغ عددهم أكثر من مليون، بينهم وزراء، وجنرالات، واميرالات،
وسفراء، وزعماء ورؤساء المجتمع في بريطانيا.
١١٥٥٣٣
وطلب منه الملك جورج عرضًا خاصً ا. ومن لندن سافر "توماس" إلى الكومنولث البريطاني، حيّث تابع
محاضراته المذهلة، واستمرت جولته أربعة أعوام . أما بالنسبة إلى لورانس فقد أنقلب بين ليلة وضحاها إلى
شخص ينشد وده، على اعتبار أنه بطل وأسطورة، أسطورة خلقها ذلك الرجل الذي اعترف فيما بعد من تلقاء
نفسه، بأنه كان في كثير من الحالات مخدوعًا بالبطل الذي صنعه.
وقد أثار هذا الثناء المفاجئ شعورً ا مختلطًا عند لورانس، ولم يستطع أن يقاوم الاغراء الذي كان يتملكه
للذهاب بنفسه ورؤية الدعاية التي تجري له، فتوجه وجلس في ظلال القاعة، بينما كان "لويل توماس " يقدم
محاضرته المصورة.
وقد ذكر "توماس" أن لورانس قد قام بخمس أو ست زيارات من هذا القبيل، ومع ذلك فإن لورانس بعد أن
حضر المحاضرة الأولى كتب إلى الصحفي الأميركي يقول : "لقد حضرت عرضك ليله أمس، إنني أشكر الله ن
النور قد انطفأ".
وبد أيام قليلة، أخبرنا "توماس" بأن لورانس قد توجه لمقابلته، ورجاه بأن يعود إلى أميركا وأن يتوقف عن
إطلاع الجمهور على ما فعله في البلا د العربية، وقال إنه أصبح عرضة للملاحقة من قبل الصحف والناشرين
وجامعي التواقيع، ومن قبل سيدات يبغين الزواج منه، واللواتي كن، كما قال، "أشد هو ً لا عليه من جيش تركي
باكمله".
وعلى كل فإن لورانس قد أبدى عدم ارتياح لأن يصبح، كنتيجة لمحاضرات "توماس" أكثر الناس في بريطانيا
عرضة للمصورين والرسامين في ذلك العصر . وعلى العكس من ذلك، فإنه قلما زار الأروقة التي كانت
تعرض صورة فيها، وقلما أحب الوقوف أمام الرسامين، ولكنه وجد متعة فائقة في الملاحظة الفجائية التي اولوه
إياها أناس مشهورون مثل اللورد "كورزون" فانتهزوا كل فرصة لتشجيع الادباء من امثال "جورج برنارد شو "
و"أي. م. فورستر" و"توماس هاردي " و"إدوارد غارنيت " وكذلك مشاهير الفنانين من أمثال "أوغسطس جون "
و"اريك كنيتغون" على الكتابة عنه أو رسم الصور له.
لقد كان لورانس محبًا للشهرة، ولكنه ك ان لسبب ما يخشاها، وكما قال "لويل توماس " بعد وفاة لورانس
مستشهدًا بمثل تركي يقول : "إنه يملك عبقرية تؤهله للعودة إلى النور ". ولقد ذاعت شهرة لورانس، وأعماله
البطولية، في مختلف انحاء العالم، وأصبحت له سمعة يحسد عليها، حتى أصبح يقارن بكل من الاسكندر
ونابليون، وقال كثيرون إنه وحده هو الذي قضى على الامبراطورية العثمانية.
وأخيرًا، فإن هناك شيئًا واحدًا مؤكدًا، وهو أن تحوله إلى أسطورة قد أرضى شخصيته أو ذاتيته، ولكنه لم يعد
إليه احترامه لنفسه، وكذلك فقد أرضى زهوه وكبرياءه، ولكنه تركه أكثر يأسًا وحاجة إلى نسيان تلك الأشباح
التي كانت تلاحقه من صحراء شبه الجزيرة العربية.
__________________

خالد الحويطي
18-02-07, 01:34 AM
الفصل الحادي و الثلاثون

كفارة في شبه الجزيرة العربية

تدهورت الأمور في صيف سنة ١٩٢٠ من سئ إلى أسوأ بالنسبة للعرب، وخاصة بالنسبة لفيصل، ولما بدأ
لورانس في تأليف كتابه، رد كل شئ، مصحوبًا بنقد شديد، ومرارة بالغة إلى الفرنسيين، وأولئك البريطانيين
الذين كانوا يتولون السلطة، واتهمهم بخيانة اصدقائه العرب.
وكان لورانس خلال الاشهر القليلة الماضية يعيش في أوكسفورد، حيّث قدم له أحد أصدقاء الدراسة مكانًا
هادئًا يأوي إليه ويبتعد عن إزعاج الصحافة، وحيث يخلو إلى ذكرياته . ولكن عندما ذهب فيصل إلى المنفى،
خرج لورانس من المكان الذي كان يختبئ فيه، مستخدمًا مركزه الجديد إلى اقصى حدود الاستخدام.
وراح يقرع أبواب كبار المسؤولين في "الوايت هول" ابتداء من "لويد جورج" فناز ً لا. وقد قوبلت كل محاولاته
تقريبًا بالتجاهل التام، غير أن هناك استثناء واحدًا يجب أن نحسب له حسابً ا، ممث ً لا في شخص "وينستون
تشرشل" الذي كان على وشك أن يصبح وزيرًا للمستعمرات، وكان قد قابل لورانس في باريس فآمن به.
وفهم "تشرشل" أكثر من أي عضو في الوزارة البريطانية الأسباب التي تكمن وراء التوتر البالغ الذي كان
يسود يومئذ منطقة الشرق الأوسط . فقد كان "المكتب العربي " في القاهرة يبذر الثورة والقومية العربية ضد
الأتراك والبريطانيين فأخذ يحص ثمار ما بذر في العراق.
ولم تكن بريطانيا تتوقع من العرب ان يختاروا بين نوع من الحكم الأجنبي ونوع آخر . وأن يقبلوا بكل هدوء
الاستسلام لبريطانيا (أو لفرنسا ) بد ً لا من الأتراك، وخاصة بعد أن اضطرمت نيران الحماسة في صدورهم إثر
الدعوة التي انتشرت آنذاك (بلاد العرب للعرب ). لقد كان كل شيء يخالف هذا الواقع، كما أظهر التاريخ خلال
النضال المتواصل للمسلمين ضد الأوروبيين الغزاة.
وفي الوقت ذاته، ومن أجل تهدئة الضغط الصهيوني، وعدت بريطانيا اليهود بمنحهم وطنًا قوميًا في فلسطين،
وعلى الرغم من أن "تشرشل" نفسه كان يعطف على الصهيونية، إ ّ لا أنه فهم أنه في سبيل تحقيق هذه السياسة
دون التعرض للقتال مع العرب، يقتضي اتباع سياسة دقيقة حذرة.
وكان "كورزون" الذي كانت إدارته آنذاك جزءًا من وزارة الهند التي كانت مسؤولة عن كل هذه المشاكل،
ليس بالرجل الكفء، لحل مثل هذه المشكلة.
وبوصفه استعماريًا من المدرسة القديمة، فقد نظر إلى القومية العربية بذات النظرة التي تميزت بها السياسة
الفرنسية: "أعطهم إنشًا وسيأخذون ميلا "، ولقد كان مثل هذا الرأي في العراق يكلف دافع ا لضرائب البريطاني
سنويًا، ثلاثة اضعاف ما كان يدفعه في سبيل تدمير الامبراطورية العثمانية، واذا لم ينقلب الأمر، فانه ضمين
بخلق كراهية للبريطانيين قد لا يمكنه إزالة أثرها.
وقد أقنع "تشرشل" لويد جورج بتعيينه وزيرًا للمستعمرات، وذلك في سبيل نقل المسؤولية بالنسب ة للشرق
الأوسط إلى إدارة جديدة في وزارة المستعمرات يكون فيها موظفون خبراء مثل "كلايتون " و"يونغ "
و"مينرتزهاغن" مساعد اللنبي السابق في فلسطين.
١١٥٥٥٥
وكذلك فإنه أقنع لورانس بأنه يوجه طاقاته واحتجاجاته إلى طرق إيجابية، عن طريق الحاقه بالوزارة بمنصب
مستشار لشؤون فلسطين.
وقد رفض لورانس في بداية الامر هذا المنصب، إ ّ لا إذا أكد له بأن تعهدات بريطانيا للعرب ستنفذ، وبعد
مساومات، سمحت له بصلاحيات واسعة في منصبه، قبل الوظيفة.
هذا ويعتقد "ج. ب. فيلارز" بأن وصول فيصل إلى لندن في نهاية سنة ١٩٢٠ ربما كان له اثره في إسراع
لورانس باتخاذ قراره، لأنه كان يشعر بالنسبة لفيصل بتبكيت الضمير.
وكانت أولى إجراءات "تشرشل" الدعوة إلى مؤتمر في القاهرة يعقد في آذار سنة ١٩٢١ ، وقد حضر هذا
المؤتمر حاكم العراق الجديد السير "بيرسي كوكس" و"كلايتون" و"كورنواليس" (وهو عضو سابق في المكتب
العربي، أصبح فيما بعد سفيرًا لبريطانيا في بغداد) و"يونغ" واللورد "ترنشارد"، مؤسس سلاح الجو الملكي،
و"غرترودبيل" المستشرقة المشهورة" و"جعفر باشا" رئيس أركان حرب فيصل السابق، و"لورانس".
وكان الهدف الرئيسي للمؤتمر هو البحث في أنجح السبل لإقرار السلام في العراق . وكان لابد من منح الحاكم
في بغداد بعض إجراءات الحكم الذاتي، وفي الوقت ذاته خلق محطة في سلسلة الدفاع الأمبراطورية، والمحافظة
على الإشراف على تلك المناطق التي تأخذ بريطانيا منها ما تحتاجه من بترول.
وكانت هناك مشكلة "شرق الأردن" التي يجب أن تبحث بعناية، وشرق الأردن هي المنطقة الصحراوية التي
تقع إلى الشرق من فلسطين، والتي كانت مسرحًا للثوار العرب.
هذا وقد أضيفت ترتيبات أخرى بالنسبة لجارات فلسطين الأكثر أهمية، والتي تدخل في نطاق النفوذ
البريطاني.
وقد وصلت أنباء في شهر كانون الثاني سنة ١٩٢١ إلى الادارة البريطانية في فلسطين تفيد بأن الأمير عبد الله
قد استقال من منصبه كوزير لخارجية والده في الحجاز، وترأس قوة من ألفي محارب، واتجه بهم إلى دمشق
لطرد الفرنسيين والاستيلاء على سوريا وجعلها مملكة خاصة له.
ولكي يصل إلى هدفه كان عليه أن يمر بشرقي الأردن . واسرع "كيركبرايد" الذي كان يحكم تلك المنطقة
يطلب التعليمات من رؤسائه في القدس، وسأل عما إذا كان عليه أن يقاوم تقدم قوات الأمير، واذا كان الجواب
نعم، فليكن معلومًا بأن لديه قوة لا تعدو خمسين شرطيًا، واذا كان الجواب لا، فهل يرحب بالأمير في المنطقة
الخاضعة للنفوذ البريطاني؟.
وكان جواب القدس غير مشجع، إذ جاء فيه أن الأمير على ما يبدو، لن يقوم بمثل هذه المحاولة لغزو سوريا.
ولما كانت قوات الأمير في معان، أي على مسيرة يوم واحد من عمان، فقد قرر "كيركبرايد" أن ينفذ القانون
بنفسه، وأن يمنح عبد الله معاملة دبلوماسية . وخرج لملاقات الأمير، و لما التقيا، رحب به باسم الإدارة
البريطانية.
وسر عبد الله من هذا اللقاء ولم يستغربه، ودعا إلى وقف الزحف على سوريا . ولما انعقد مؤتمر القاهرة،
أعلن نفسه أميرًا على شرقي الأردن، وكان من أسهل الأمور بالنسبة إلى "تشرشل" ومستشاريه، أن يقبل بحقيقة
١١٥٥٦٦
الأمر الواقع هذ ه، ولكنهم وضعوا شرطين اثنين فقط، الأول يقضي بأن يعترف الأمير بالانتداب البريطاني على
جميع فلسطين غربي الأردن، والثاني، هو أن يتخلى عن اطماعه ونياته في غزو سوريا.
وقبل عبد الله الشرطين دون تردد، وهكذا سويت مشكلة شرقي الأردن بسهولة، وكانت أول منحة تعطى
للعرب.
أما بالنسبة للعراق، فقد حبذ المؤتمر إقامة مملكة دستورية فيها وعلى عرشها الأمير فيصل بعد تنصيبه ملكًا،
وكان فيصل آنذاك في لندن، وبعد ليلة من النقاش الحاد في منزل اللورد "وينترتون" اقتنع فيصل بضرورة قبول
العرش، واشترط الانكليز لذلك إجراء استفتاء، وقد حمل لورانس الامير على قبول هذا الشرط.
وفي شهر حزيران وصل فيصل إلى العراق، بعد أن حصل على أغلبية ساحقة من أصوات السكان الذين
اختاروه ملكًا، وأصبح السير "بيرسي كوكس " بناء على رغبته وامتثا ً لا لقرارات مؤتمر القاهرة، مستشارًا بد ً لا
من حاكم عام، مهمته أن يمهد الطريق لفيصل وييسر له نقل السلطات من البريطانيين إلى العرب.
وغادر الجيش البريطاني العراق، وظلت وحدة من سلاح الجو الملكي ترابط في وادي الفرات كدليل على
وجود بريطانيا في العراق، وهو إجراء لم يعترض عليه إ ّ لا إثر ثورة سنة ١٩٥٨ وعلى أساس وضع القاعدة
هناك.
ويعود ا لفضل في تسوية مشكلة العراق وتعويض فيصل على ما لحقه به من إهانة في سوريا إلى المجهود
المشترك الذي قام به كل من تشرشل ولورانس، وكان ذلك على أي حال تحقيقًا للهدف الذي يسعيان إليه، وهو
إيجاد عرش لفيصل.
وعلى كل، فقد صور الحل تصويرًا دقيقًا للجهود التي كانا يسع يان لتنفيذها، وتتلخص في الحصول على عرش
لفيصل والسيطرة على القوات العربية، ووضع جيش يتضمن قوات من سلاح الجو.
وكانت كل الدلائل تشير إلى أن فيصل يحيط مصالح بريطانيا، وينصب نفسه حارسًا لها.
وعلى الرغم من أن الأمور كانت تجري على هذا المنوال، وتكلف الكثير من ك برياء بريطانيا، يجب ألا
نستغرب كثيرًا أن نعرف مما كتبه لورانس نفسه، أنه يعتبر مقررات مؤتمر القاهرة بصدد العراق وشرقي
الأردن كتنكر قام من بريطانيا لوعودها للعرب.
وكان الطلب قد قدم في معروض مؤرخ في الثامن عشر من شهر تشرين الثاني سنة ١٩٢٢ لمختصر كتاب
"أعمدة الحكمة السبعة " الصادر عن أكسفورد، من وضع "إدورد غارنيت" ولكن هذا المختصر لم ينشر أبدً ا.
وفيما يلي ما قاله لورانس نفسه عن هذا الموضوع:
"اتخذ الكتاب لنفسه تاريخًا سنة ١٩١٩ ، أي عندما كانت العناصر القوية في الحكومة البريطانية تسعى لتجنب
التزاماتها وتعهداتها ز من الحرب للعرب، ولكن ذلك العهد انتهى في آذار سنة ١٩٢١ عندما تولى المستر
"وينستون تشرشل " مسؤولية الإشراف على منطقة الشرق الأوسط، فقد راح يعمل بشرف من أجل تنفيذ الوعود
التي قطعناها، سواء أكانت وعودًا كتابية أم شفهية . ولقد أتم جميع تعهدات ما كماهون "التي كانت تدعى
بالمعاهدة التي وضعها شخص لم يرها".
١١٥٥٧٧
تلك المعاهدة الخاصة بفلسطين وشرقي الأردن وشبه الجزيرة العربية . أما بالنسبة لبلاد الرافدين فقد ذهب إلى
أبعد من نصوص تلك المعاهدة. معطيًا العرب القسم الأكبر ومحتفظا لنا البريطانيين بالقسم الأصغر، بل واقل
مما قدر السيد " هنري ما كماهون" نفسه.
أما شؤون فرنسا في سوريا فلم يكن قادرًا على التدخل فيها، الامر الذي جعل شريف مكة يشتكي من ان
التسوية التي تمت لا تتفق واتفاقية بريطانيا وفرنسا سنة ١٩١٦ ، أو ، بالنسبة لوعدنا لهم"
وقد عمل لورانس تأكيدًا آخر مماث ً لا في أواخر مسود ات كتابه "أعمدة الحكمة السبعة" وإن كان قد إدعى هناك
بأن بريطانيا قد خرجت من المعركة نظيفة اليدين. وكذلك أبلغ لورانس كاتب تاريخ حياته "روبرت غريغز".
… "بأن اتفاقية القاهرة يجب ان ينظر إليها نظرة تفوق نظرتنا للحرب التي خضناها".
ومن المستحيل القول إلى أي مد ى تنعكس هذه التأكيدات التي تمخضت عن نتائج باهرة لأعماله في مؤتمر
القاهرة، أو مدى ما يمكن أن تعطيه من عذر للتهرب من المسؤوليات الأخرى في شبه الجزيرة العربية.
ويعتقد "ليدل هارت " بأن لورانس يؤمن بأن مهمته قد انتهت وتعهداته قد نفذت، غير ان في هذا القول شيئًا
قلي ً لا مما يمكن الأخذ به.
وهناك سبب واحد لهذا الرأي هو أن التسوية رغم انها قد عوضت على فيصل عن خسارته في سوريا، إ ّ لا
أنها حتى تلك المرحلة لم تفعل شيئًا، ولم يكن بمقدورها ان تفعل شيئًا للتعويض عن سوريا في خسارتها لفيصل.
والواقع ان تفاؤل لورانس بأن تشرشل و سياسته المتحررة بالنسبة للعراق ستنعكس في المستقبل على بقية
المناطق العربية قد ثبت مع الايام انه في غير محله. إذ أن سورية لم تنل استقلالها إ ّ لا بعد خمس وعشرين سنة.
واذا ما اخذنا بعين الاعتبار ما ابداه لورانس من احتجاجات في لندن وباريس ودمشق، نستطيع أن نعرف بأن
سوريا كانت بالنسبة له اهم من بقية البلدان العربية مجتمعة.
ولو أن فع ً لا شعر بالامتنان لنتائج مؤتمر القاهرة فلماذا لم ينقع بقبول منصب كبير الممثلين البريطانيين في
.؟ شرق الأردن، ذلك المنصب الذي عينه فيه تشرشل صيف سنة ١٩٢١
وصحيح أنه لم يكن على وفاق مع عبد الله، وربما كان يشعر بميل أقل للتدخل في منع اعوانه من اثارة
الاضطرابات في جبل الدروز في سوريا !… وفي المناوشات المتكررة بين القوات الفرنسية والقوات العربية
التابعة لعبد الله، والتي كانت تحصل عندما تسلم منصبه. كان شعوره وهذا لا شك فيه مع العرب.
غير أنه يستفاد من مذكرات تشرشل نفسه ان لورانس قد استعمل قوة خارقة مع اعدائه القدماء فسرح عددًا
من الضباط، واستخدم القوة، وأخيرًا استطاع ان يستعيد الهدوء التام . (وهناك كثير من الكتاب الفرنسيين يدعون
بأن لورانس قد خلق لفرنسا مشاكل في سوريا أكثر من المشاكل التي ح اول منعها في ذلك الوقت، غير ان
قراءة التاريخ توضح للجميع بأنه كانت هنالك مشاكل كافية تحتدم في سورية كنتيجة لمعالجة فرنسا لقضايا
العرب دون ان تطلب النصح من الخارج).
ومع ذلك فقد شعر لورانس بأنه لا يستطيع البقاء في شبه الجزيرة العربية مدة أطول . وبعد شهرين، أ ي بعد
أن أتم سنة من الخدمة مع تشرشل في وزارة المستعمرات، طلب أن يسرح . وقد حاول تشرشل، كما حاول
اللنبي في دمشق ان يضغط عليه ليبقى، وتمكن من اقناع لورانس بالبقاء في الخدمة خمسة أشهر أخرى … غير
١١٥٥٨٨
أنه في شهر تموز تلقى برقية مفادها ان مستشاره الشاب لا يستطيع البقا ء في منصبه أكثر مما بقي. وقد علق
تشرشل على رفقته القصيرة مع لورانس بقوله "انه حيوان رائع، ولكنه لا يستطيع العيش في الاسر".
وعلق في مناسبة أخرى بقوله "الغريب أنه كان قادرًا على دفن شخصيته من أجل تحقيق إرادته ودفع ما لديه
من معلومات إلى الجمهور البسيط ". ورغم ذلك فان لورانس قد التحق بسلاح الجو الملكي بعد ذلك بأقل من
شهرين كطيار من الدرجة الثانية ! وتطوع مختارًا معرضًا نفسه للاسر ومغيّرًا اسمه المشهور، ودافنًا شخصيته
في أحط مهاوي الجيش البريطاني

خالد الحويطي
18-02-07, 01:35 AM
الفصل الثاني والثلاثون

اعمدة الحكمة السبعة

يمكن اعتبار قصة لوران س الكلاسيكية "أعمدة الحكمة السبعة" كتابًا قائمًا في حد ذاته، فقد بدأ كتابته أثناء
مؤتمر الصلح في باريس، وذلك في أوائل سنة ١٩١٩ . وقد انتهى من كتابته في تشرين الثاني من العام ذاته،
ولكنه أضاع أربعة أخماس المسودات اثناء تغييره القطار في محطة "ريدينغ" وهو في طريقه إلى منزله من
لندن إلى أوكسفورد.
ولكن لورانس لم يتأثر بهذه الكارثة، بل عمد إلى كتابة مذكراته من جديد فجس نفسه في غرفة في بيت أحد
أصدقائه في شارع "بوسطن" بمدينة "وستمنستر" وبنشاط يفوق نشاط البشر استطاع ان يفرغ من كتابة المسودة
. في نهاية سنة ١٩٢٠
وقد أخذ منه هذا العمل مجهودًا جبارًا، إذ كرس نفسه لعمله ليل نهار وفي إحدى المناسبات انقطع لعمله
مدة ثمان واربعين ساعة متواصلة يعيش احلامه أثناء الحرب من جديد، والكوابيس التي مرت في حياته وهو
في الصحراء، وأقدامه بنفسه على تدمير شخصيته، ومساوماته بين اسياده الا نكليز واصدقائه العرب. واثناء ذلك
الوقت كان يعيش على مخزونه من اعصابه القوية لا يكاد يأكل شيئًا، ولا يكاد يرى أحدًا.
وفي الوقت الذي فرغ فيه من عمله كان في منتهى الاعياء.
ويقول "ليدل هارت" من خلال مطالعاته الشخصية للورانس، أنه "كان من الافضل بالنسبة للوران س تأليف
كتابه أعمدة الحكمة السبعة أكثر مما احرزه من نجاحات اثناء الحرب، تلك النجاحات التي كادت أن توصله إلى
القمة".
وفيما يتعلق بنشر الكتاب، كتب إلى ادوار غارنت من قاعدة سلاح الجو الملكي في "أو كسبريدج" يقول.. "لقد
قررت بالأمس أثناء حضوري قداسًا في الكنيس ة إ ّ لا أنشر شيئًا، ولكنني اليوم أشعر بميل إلى النشر، فهل أنا
مختل الشعور أو مجرد أحمق؟".
ولعل تردده في نشر كتابه لا يعود فقط إلى خوفه من ألا يلاقي الكتاب تحبيذا، أو يصادف نقدًا شديدًا أو
يراجع مراجعة قاسية، بل يمكن رد تردده في نشر كتابه إلى شيء شخصي جدً ا… كتلك الفصول التي يبحث
فيها عن نفسه.
١١٥٥٩٩
فقد اكتشف ان الحقيقة هي "انه لا يحب ذاته التي يراها ويسمعها ". لقد كان الأمر مختلفًا تمامًا بين أن يكتب
لبضعة أشخاص كل ما فعله أو شاهده أو شعره اثناء حرب الصحراء، وبالدقة التي يتمكن بها من تذكر الاحداث
كما جرت تمامًا، وبين أن ينشر ذلك للعالم، ويقف أمام البشرية عاريًا محدقًا في كل من حوله.
ولما طلب إلى لورانس أن يعيد تنقيح الكتاب، بحيث يحذف منه تلك الفصول التي يتحدث فيها عن شخصه،
ادى بأنه لا يملك الوقت الكافي من جهة، ولا يحب أن ينشر شيئًا ناقصًا من جهة أخرى، وخاصة عن الت جارب
التي مر بها.
والظاهر أن لورانس قد اقتنع وقبل أن ينشر كتابه، وتوصل إلى اتفاقية مع "جوناثان كاب " على ان ينشر
مختصرًا كان قد أعده له ، " أدوار غارنت" ولكن الاتفاقية وصلته في بداية سنة ١٩٢٣ أو حوالي ذلك التاريخ،
عندما اكتشفت الصحف أن الكولونيل "جون هام روز" من سلاح الجو الملكي، ليس إ ّ لا الكولونيل "ت. أي.
لورانس" الذي أدت ثوريته إلى طرده من الخدمة.
ولما كتب إلى "برنارد شو " بعد ذلك بوقت قصير قال لورانس "إنه عندما اطلقت علي الرصاصة الأولى من
"الديلي اكسبرس "، القيت (أو بالأحرى) رفضت اتمام توقيع الاتفاقية التي اعدها "كاب" من أجل نشر الملخص ".
وقال لورانس في مذكراته إن "كاب" قد احتدم غيظًا. ومضى لورانس يقول:
"بعد مرور لحظة شعرت بالأسف لأنني الغيت الاتفاقية، وأخذت أفكر في نشر الكتاب، ليس بشكل مختصر،
بل القصة كاملة، وعلى هذا الاساس كتبت إلى "كاب" أسأله عن إمكانية ضمانه لألفين من النسخ في اشتراكات
خاصة… "وقد دهش "كاب" للوهلة الأولى… ولكنه لم يلبث أن نهض للمهمة… فكتب اتفاقية جميلة … وارسلها
إلي لأوقعها.
وفي ذلك اليوم بالذات تلقيت أمر صرفي من خدمة سلاح الجو الملكي، ولذلك، فقد الغيت الاتفاقية أيضًا".
ويبدو ان بذور ا لمدح التي بذرها "شو" كان لها بعض التأثير في إقناع لورانس بأنه قد أنجز كتابًا رائعً ا. وفي
شهر حزيران سنة ١٩٢٣ كتب إلى صديقه القديم "هو غرث " … يقول "عندما التحقت بسلاح الجو الملكي كنت
أعتقد بأن كتابي عن الثورة العربية ردئ للغاية".
ولكن "شو" استطاع منذ ذلك ا لوقت ان يغير رأيه تدريجًا حتى أقنعه بأنه كتاب ممتاز. ثم هنالك مطمح كان
يعتمل في صدر لورانس بشكل دائم عبر عنه بقوله : وكان يردد هذا القول "إن همي أن أؤلف كتابًا ممتازً ا".
ولكنه في بعض الاحيان كان يأخذ وجهة النظر المخالفة، فقد كتب إلى "ادوار غارنت" واصفًا كتابه "بأنه مهزلة
لا تستحق أن تقرأ، فاذا ما أردت ان ترى بعينيك كيف تشوه الافكار الجميلة والمادة الرائعة فارجع إلى أية
صفحة من صفحات الكتاب.
انني لا أعتقد بأن هنالك أي ناشر في "فليت ستريت" يرضى حتى بأن يحرق الكتاب، فكيف بحق السماء تعتقد
بأني قد جئت بعمل ممتاز؟".
وعلى الرغم من هذا التردد الواضح في موقف لورانس الخاص بنشر كتابه أو عدم نشره إ ّ لا اننا لا نعلم
وليس من الواضح لماذا لجأ لورانس في النهاية إلى نشر كتابه فقد قيل بأنه أقدم على ذلك عندما طلبت
١١٦٦٠٠
"كرترود بل " ان تستعير نسخة من نمسخ اوكسفورد، ورفض طلبها لأن جميع النسخ كانت قد اعيرت، فقررت
الحصول على نسخة أخرى مطبوعة من بعض اصدقائها.
والذي يبدو اقرب إلى الواقع إلى لورانس كان محيرًا بين رغبته في ان يرى نفسه كمؤلف، وخوفه من النقد
الذي قد يمزق مجهوده بددً ا. ومهما كان السبب فانه لورانس قرر اتخاذ حل وسط وهو ان ين شر مائة نسخة على
ان تباع الواحدة منها بمبلغ ثلاثين جنيهًا، ولكن الناشر طلب منه ان يضمن الكتاب أرقى أنواع الفنون المصورة
لأحسن الرسامين بما فيهم "اغسطس جون" و"اريك كننغتون".
وكان لورانس قد طلب منهما ان يرسما له صورًا مختلفة، وكذلك صورًا لفيصل واللنبي واكثر من عشر
شخصيات من البريطانيين والعرب الذين لهم علاقة بالثورة العربية.
ومرة أخرى عاد لورانس إلى العمل لينقح ويعيد كتابة مؤلفه حاذفًا منه بعض الاشارات المعينة إلى كبار
الضباط البريطانيين .
الذين: ابلغ كننغتون مازحًا "بأنهم سيقيمون عليه ما لا يقل عن سبع وعشرين قضية قذف وشتم
فيما لو نشر كل ما يعرفه عن اعمالهم.
وكذلك فان بعض الفصول المعينة التي ظهرت في طبعة اكسفورد قد اعاد كتابتها أو اهملها كليًا بحيث
اختصر النص الكامل إلى حوالي خمسة عشر في المائة.
ولكن لورانس طوال حياته لم يقتنع أبدًا بقراره إ ّ لا ينشر النص الكامل لكتاب اعمدة الحكمة السبعة، وترك
الأمر لشقيقه الاصغر "ارنولد لورانس " بوصفه وريثًا له في الميدان الادبي . وقد اصدر مؤلفه الممتاز وعرضه
. للجمهور بعد وفاة لورانس، وكان ذلك في سنة ١٩٣٥
وقد استغرق العمل في تنقيح الكتاب حتى سنة ١٩٢٥ ، وفي السنة ال تي تلت كانت نسخ المشتركين في كتاب
اعمدة الحكمة السبعة قد ظهرت في الاسواق، وكان نجاحها يفوق الاحلام "أو مخاوف مؤلفه".
فقد كان الطلب عليه كبيرًا، ولكن ما كان موجودًا منه كان قلي ً لا. حتى لقد بيعت النسخة الواحدة الاصلية بمبلغ
ثلاثين جنيهًا.
والذي اشتراها اعا د بيعها مقابل خمسة أو ستة آلاف جنيه، وكان الناس ينشرون في أعمدة الاعلانات في
الصحف يعرضون مبلغ خمسة جنيهات في الاسبوع مقابل استعارة نسخة من الكتاب.
ولكن ايًا من هذه الارباح لم تدخل جيب المؤلف أو جيب الناشر "جوناثان كاب" وبالعكس فقد اثبتت الارقام ان
الكتاب، رغم الاقبال الشديد على شرائه قد خسر خسارة فادحة.
وقد حاول "جوناثان" من اجل التعويض عن هذه الخسارة، اقناع لورانس بأن ينشر نسخة ملخصة على ان
تسمى "ثورة في الصحراء" شريطة ان يحذف كل الاشياء الشخصية والتحاليل النفسية.
وقد اشترط لورانس شرطًا واحدًا هو ألا ي نشر الكتاب إ ّ لا بعد مغادرته البلاد ووافق "كاب". وفي شهر كانون
الثاني سنة ١٩٢٦ غادر لورانس البلاد ليلتحق بقاعدة لسلاح الجو الملكي في الهند، وبعد اسابيع قليلة من ذلك
كان كتاب "ثورة في الصحراء" قد وصل إلى باعة الكتب.
١١٦٦١١
وكان نجاح الكتاب نجاحًا فوريًا وغطت أرباح ه لا مجرد الخسارة التي نجمت عن كتاب أعمدة الحكمة السبعة
فحسب، بل وتركت ربحًا صافيًا مقداره خمسة عشر الف جنيه.
ولما كان لورانس صورة طبق الاصل عن الرجل الذي لم يفهم ولم يهتم بالمال، فقد اقدم على سحب الكتاب
من التوزيع ورفض ان يستفيد من أفضل كتاب كتب بدماء ال بريطانيين والعرب، وزاد على ذلك فخصص
حصته من الارباح لصالح المشاريع الخيرية.
إن هذه القصة حول إصدار ومولد كتاب اعمدة الحكمة السبعة لتدل على طبيعة لورانس، تلك الطبيعة التي
تدل عليها كل اعماله.
واذا ما شئنا ان نتبسط في الموضوع فإننا نقول إن جميع تناقضاته الشخصية وكل آماله ومحاوفه وتصميمه
وارادته وشذوذه العقلي كل ذلك قد اجتمع ليكون شخصيته غير العادية، فقد كانت هنالك اولا للثورة العارمة
الناجمة عن تأليف الكتاب بغض النظر عما سيكلفه من مجهود عقلي وجسماني … وبالاضافة إلى ذلك كانت
هنالك رغبة الموزعين في الحصول على مطبوعة من الدرجة الأولى، واشترطوا لذلك شروطًا من حيّث
التأليف والصور، ثم، وبعد ان انتهى العمل في الكتاب جاء الخوف القاتل من تقديم انتاجه للجمهور، على الرغم
من ان النقاد ذوي الخبرة مثل "برنارد شو " و"غارنت" قد اكدوا له أن كتابه سيلاقي نجاحًا باهرً ا. واخيرًا وعندما
تحقق النجاح جاءت الخسارة من جراء نشره.

ان لكل كتاب انتقاداته، ولكل مؤلف عثراته، ولكن ما الذي يمكننا ان نقوله اكثر مما قلناه عن كتاب اعمدة
الحكمة السبعة.
وقد قال "ج. ب . فيلارز" عنه بأنه "كتاب كان وسيبقى قمة للكتب والادب الكلاسيكي".
وبالاضافة إلى ذلك، كما اوضح "فيلارز"، فإن لورانس في كتابته لمذكراته قد خلق نوعًا جديدًا من الكتاب،
واثبت انه يجاري "مالرو" و"كريسلر" و"بول سارتر".
ان القراء في يومنا هذا قد اعتادوا قراءة كتب تحتوي على أخبار العنف والفظائع والخيانة وكل ما يتعلق
بالحرب.
ولكن لو رانس عندما كتب أعمدة الحكمة السبعة كان يعرف بأنه يشق طريقًا جديدً ا. وكان غير مقتنع بضرورة
رفع الستار ولو جزئيًا عن ابطاله الحقيقيين، أو أن يعرضهم إلى أنظار الناس.
فقد ازاح ذلك جانبًا واكتفى بأن يكشف شخصيته وحده، والحقيقة الناصعة عن حملة الصحراء كما رآها
وعاشها، ولم يوفر نفسه ولا من كان معه اثناء الحملة من النقد عندما سرد الحقائق كما هي.
وطبيعي ان الاشخاص الذين حطوا من قدره، مثل "رتشارد الدنغتون" قد وجدوا في وسط التناقضات الواردة
في النص والخلاصة التي توصل إليها لورانس شخصيًا دلي ً لا على ان القصة بأكملها ليست إ ّ لا مجرد كذب.
والواقع ان لورانس يجب ان يتحمل قسطًا من اللوم لهذا السبب، ذلك لانه كان يبدو من كتابه قد وضع عدة
متناقضات وتأكيدات فيما يتعلق بمحتويات الكتاب. ففي المقدمة الأولى التي كتبها لمذكراته كشف النقاب عن
ذلك في كتاب آخر نشره شقيقه "ارنولد" تحت رعاية الجمعية الشرقية حيّث قال: "يبدو لي من ناحية تاريخية أنه
من الضروري ان اقدم القصة بشكل ربما لم يكن بمقدور من كان في جيش فيصل أن يدون ملاحظاته ويكتبها
١١٦٦٢٢
في الوقت الذي جرت فيه الاحداث بدقة مثلي … إن كل الذي كنا نأمله قد جربناه"، ولكنه قد انتهى بملاحظة
متناقضة حيّث قال : "لقد بدأت كتابة مذكراتي لأكشف القناع عن حقيقة القصص والاشياء، ولأقنع العرب القلائل
الذين يعرفون مثلما اعرف.
وفي هذا الكتاب أيضًا عنيت للمرة الأخيرة ان أسجل حكمي الخاص على ما يجب أن يقال ". وقال مرة أخرى
إلى الكولونيل "مينيرتز هاغن " وهو ضابط س ابق من ضباط الجنرال اللنبي. "إن كتابه قد بني على الأكاذيب "،
ولكن نظرًا لأنه أصبح بط ً لا اسطوريًا فقد كان من الضروري أن يعيش هذه الاسطورة.
وعلى الرغم من كل ذلك فان أية رواية من هذه الروايات لا ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالثورة العربية . فقد تقبل كل
من اللنبي، وك لايتون، وستورز، ونيوكامب، وجويس، وادوناي، كتابه دون ان يعترضوا عليه، وهذا مما يعطي
الكتاب ثقة لا يستطيع رجل مثل "الدينغتون" ان ينال منها بشكل من الإشكال.
وليس هنالك من شك في أن لورانس قد أهمل ذكر حقائق معينة واشياء حصلت، ولكنها لم تكن متفقة مع
الخلاصة الت ي استنتجها . وهنالك سبب واحد لذلك، فقد اختصر الحديث عن البريطانيين، واختصره أكثر عن
الفرنسيين وعن دور كل منهم في كسب الحرب ضد تركيا وفي نجاح الثورة العربية.
وكنتيجة لتحامله على الفرنسيين، فإن القارئ غير الفطن انما يترك ليحمل انطباعًا بأن العرب قد تلقوا
مساعدات قليلة من الحلفاء إذا ما استثنينا كمية من الذهب وبعض الاسلحة التي قدمت لهم بناء على طلب من
لورانس.
وكذلك فإن فشله في تحليل الالتزامات البريطانية السياسية والوعود إلى الشريف حسين أوحى بأن الشيء
الكثير قد عرض، ولكن الشيء الكثير قد انكر! وأن القضية بالنسبة للعرب كانت على هذا النحو.
ومن الانصاف القول بأن الضرورة كانت تحتم على لورانس ان يذكر تلك الحقائق حتى ولو كان غير مدرك
عند كتابته لهذا الكتاب، بأنه كان مقدرًا له أن يصبح كتابًا كلاسيكيًا.
غير أن لورانس كان يكتب بشكل موضوعي عن الثورة العربية وعن "أنا في تلك الثورة ". وليس بشكل
إيجابي عن حملة الشرق الاوسط ككل. لقد كان يحفظ سج ً لا للاحداث ولكنه كان أيضًا يدافع عن قضية.
ولعل ملاحظته إلى "مينرتز هاغن" كان المقصود بها ان يعرب عن الثورة العميقة التي كانت تحتدم في نفسه
على نعته بالباطل.
بينما كان كل ما شعر به أ ثناء حملة الصحراء شعورًا مزيفًا. ولعل هذا التفسير أقرب إلى الصحة من القول
بأنه قد ملأ كتابه بالاكاذيب والقصص الخيالية عن بطولاته . أما بالنسبة للمتناقضات التي وردت في خلاصته،
فهي أبعد من أن تظهر لورانس بمظهر الكاذب، ولعلها أقرب إلى اظهاره بمظهر الشخص الذي ي عبر عن
الحقيقة كما هي.
ولقد كان في الواقع مصممًا على ان يسرد افكاره وملاحظاته تمامًا كما حدثت في حينها مع غض النظر عن
المدى الذي تتغير به في فصول قليلة لاحقة.
وانه لمن الافضل أن يسجل المرء الحقيقة كما رآها في سنوات الحرب من ان يحذف أو يعدل من تلك الحقيقة
حتى تصبح مناسبة مع مرور الوقت.
١١٦٦٣٣
وفض ً لا عن ذلك فان لورانس نفسه كان مجموعة من المتناقضات، كما أن حياته كانت تتسم بهذا الطابع، فلماذا
يقال إذن بأنه كاذب؟… وان مذكراته قد كشفت عن طبيعة نفسه!.
كما قال "ج. ب. فيلارز".
إن كتاب لورانس قد اظهره بأنه كان حريصًا ع لى الدفاع عن قضيته . وعلى أن يظهر الحقائق مهما دقت في
ذلك التاريخ الواسع الذي قدر له ان يساهم بكتابه . وصحيح أن قارئ كتاب "أعمدة الحكمة السبعة " سيجد مادة
تختلف في طرازها عن الريبورتاجات العادية أو الرسائل العادية عن الحرب، فهو في بعض الاماكن يأتي على
صور رائ عة حتى ليبدو بأنها قد صنعت بيد مثال ماهر، وبعد جمل قليلة نجده قد شوه تلك الصور الرائعة بما
كان يحشده من سخرية.
وكذلك فان هناك صفحات من كتابه لا يمكن ان توصف من حيّث البساطة في اللغة، والتفهم التام، والأسى
العميق التي تظهره لانسان يصور مشاعره في ظروف مؤلمة للغاية، ولكن الحقيقة هي ان لورانس كان بامكانه
وقد فعل ان يكتب عن ذكرياته في الحرب بهذا الاسلوب، غير ان ذلك لا يعني أن لورانس كان يملك
الشجاعة والتفهم لينظر بعمق إلى قلوب زملائه في الحرب، وان يكتب كل شيء رآه.
وفي معرض كتابته المسودة الثانية اعترف لورا نس بقوله "لقد عملت نحاتًا مرة واحدة في حياتي، وذلك
لأعرب عن ذاتي بشكل خيالي". ومما لا شك فيه انه كان يعني بذلك كتابة "أعمدة الحكمة السبعة".
وكما كتب "ونستون تشرشل " في تعليقه الخاص على هذا الكتاب الكلاسيكي باللغة الانكليزية. "ليس هنالك في
هذا الكتاب من أثر بالغ… كل ما فيه مبالغ فيه، وشخصي، وقد كتب في ظروف لا يستطيع الإنسان كما يبدو
أن يعيشها. ولكن لورانس كان على كل حال رجلا

خالد الحويطي
18-02-07, 01:36 AM
الفصل الثالث والثلاثون

تجريد من الرتب العسكرية

قبل انخراطه في سلاح الجو الملكي، اتخذ لورانس اسمًا مزورًا له "جون هرم روس" وعلى الرغم من أن
تغيير الاسم هذا لم يؤثر قانونيًا كما أثر انتحاله لاسم شو فيما بعد، إ ّ لا أنه قد ساعده في تأدية غرضين
مزدوجين: الاول .. احداث انقطاع تام عن ماضيه بوصفه الكولونيل لورانس، والثاني إحلاله في مرتبة من
الخمول كانت ضرورية له في وظيفته التي كما اثبتت الاحداث فيما بعد لا تقبل فكرة انضمام رجل
اسطوري إلى صفوفها.
وبالاضافة إلى رغبته في نسيان الحرب، فإن مؤتمر القاهرة كان في رأي لورانس الخاتمة لأعماله في منطقة
الشرق الاوسط.
فقد تم تعيين فيصل في العراق، وعبد الله في شرق الاردن . وعلى الرغم من أن اصدقاء عبد الله قد فشلوا في
مشاركة لورانس رأيه في مقررات مؤتمر القاهرة وانتقدوه انتقادًا جارحًا، ووصفوا تلك المقررات بأنها نسف
لحريات العرب، على الرغم من ذلك فقد كان لورانس غير مستعد للبقاء والمجادلة معهم.
١١٦٦٤٤
ثم إن الواقع كان يشير إلى أنه ليس ثمة شيء يستطيع أن يفعله ب النسبة إلى سورية، حيّث كان الفرنسيون
يتمركزون هناك، وليس في نيتهم أن يتركوها نتيجة للهيجان أو السخط اللذين كانا يسودان عمان.
أما بالنسبة للشريف حسين فقد كان يحث الخطى نحو نهايته المحتومة، ولم يكن هنالك من أحد يستطيع ان
يوقفه. ولما عرف لورانس الدرس المرير الذي يقول بأن الملوك الذين يصنعون ملوكًا يزاحون من
الطريق حالما تنتهي مهمتهم، لما عرف لورانس ذلك، أدرك أنه ليس أمامه أي شيء يفعله في البلاد العربية،
وقد عرض عليه تشرشل منصب حاكم، ولكنه رفض.
ولسنا ندري أكان شعوره بأن العرب يجب ان يمضوا قدمًا في تعلم كي ف يحكمون انفسهم بأنفسهم، لسنا ندري
أكان ذلك الشعور خيرًا أم شرًا، فقد كان عقله المضطرب يضج بأفكار ابسط، ومشغول بمهمة أكثر بناءً.
ولقد أدى به الاجهاد الفكري في الاشهر الستة الماضية إلى حافة الانهيار العصبي حتى انه لم يستطع أن
يسترد قدرته على التفكير إ ّ لا بعد أن قطع كليًا جميع علاقاته بالماضي.
وكان كثيرًا ما يتكلم عن امكانيات التوظف في إحدى الدوائر، بل لقد درس الموضوع مع "ليوبولد إمري "
صديق تشرشل وأحد أعضاء مجلس العموم من حزب المحافظين، وسأله عما إذا كان من الممكن أن يعين في
وظيفة حارس شواطئ أو "حارس منارة".
وكان في الوقت ذاته يناقش موضوع سلامة عقله بالنسبة لاصدقائه، فقد كتب على سبيل المثال إلى "ليونل
كورتس" يقول: "انني أفكر أحيانًا كم أنا مجنون، وما إذا كان مستشفى المجانين سيكون لي المقر المثالي
(والرحيم بي )". كما أن أجاب ضابط التجنيد عندما سأله عن السبب ا لذي يحدوه لأن يلتحق بسلاح الجو الملكي
بقوله: "أعتقد بأنني سأصاب بانهيار عصبي عقلي".
وقال بعض المراقبين بأن السبب الرئيسي لالتحاقه بسلاح الجو الملكي هو الحصول على السمعة السيئة، وأنه
بانتحاله اسمًا مزورًا واحاطة نفسه بهالة من الغموض يستطيع أن يلفت إليه انت باه الصحف أكثر مما يستطيع لو
استمر في العيش باسمه الحقيقي أو بقبوله منصبًا رفيعًا وراء البحار خدمة لبلاده.
غير أن هذه النظرية لا تبدو معقولة، فهو لم يخفي شخصيته عن جميع اصدقائه، فقد كان "شو" و"غارنت" بين
الذين يعرفون السر، السر الذي كان غامضًا بالنسبة للع الم الخارجي، وهنالك قليل من الشك في ان لورانس قد
حزن حزنًا شديدًا عندما استدعاه أحد الضباط في قاعدة "أوكسبريدج" وطرده من سلاح الجو الملكي، عندما
نشرت الصحف، القصة كاملة تحت عناوين بارزة.
هذا وقد أعطى لورانس نفسه ثلاثة أسباب لانخراطه في سلاح الجو الملكي، ا لاول الأمان، والثاني الهرب من
المسؤولية، والثالث اذلال النفس . وقد كتب إلى صديقه القديم "هو غرت" جوابًا عن سؤاله عن سبب التحاقه
بسلاح الجو الملكي فقال : "ان الامان كان رائدي بالدرجة الأولى، ففي التحاقي بهذا السلاح ضمانة سبع سنوات،
إذ لم يعد لدي العقل الذي يس تطيع ان يفكر، لا بد أن تدرك أنني قد انتهيت من قصة لورانس الاستطرادية،
وانني لم أعد أحب ما كانت تصفه الشائعات في من كان يسمى لورانس…
ثم ان الحياة السياسية تتغير وتتغير كثيرً ا. وقد قال إلى "ليونل كورتس"… "أنت تعرف بأنني قد التحقت بسلاح
الجو الملكي لا جعل من نفسي انسانًا عاط ً لا عن العمل".
١١٦٦٥٥
وقد أجاب أولئك الذين حدثوه امثال "يانغ" عشية التحاقه بسلاح الجو الملكي عن ضرورة مطالبته بالتعويض
فقال: "انه لا يفكر كثيرًا في أن يصبح من الضباط أو حتى الجنود التابعين لسلاح الجو الملكي".
ولم يكن هنالك من شيء يستطيع ان يقنع ه بأن يصبح مجرد متعهد لتوريد المؤن ممتث ً لا لأوامر السلاح الجوي
السخيفة.
وكان عليه ان يختار بين اثنتين، القمة حيّث يستطيع أن يثبت ان الاوامر الحمقى لا تجدى فتي ً لا، أو الحضيض
حيّث يفرض عليه الطاعة وأن يغمض عينيه عن حماقات رؤسائه . ونظرًا لأنه قد تحمل الكثير من المسؤوليات
"ورفض السلطة" فقد آثر الحضيض.
وفي الثلاثين من شهر آب سنة ١٩٢٢ ، دخل (جون هوم روس) مكتب التجنيد لسلاح الجو الملكي في شارع
(هنريتا) بلندن بعد أن أمضى مدة ساعتين يقطع الشارع جيئة وذهابًا قبل ان يستقر على رأي، ويرتجف كورقة
في مهب الريح خشية من الاستقبال الذي ينتظره وراء الأبواب.
حيّث يجتمع عدد من الشباب كلهم يريدون خدمة انكلترا عن طريق سلاح الجو . ولم يمض طويل وقت حتى
تأكدت مخاوفه، إذ أن أوراق الهوية التي قدمها إلى الضابط المسؤول كانت مزورة، وتشير إلى ان صاحبها لا
بد وان يكون من اصحاب السوابق، وق د ازداد هذا الشك بعد ان ذهب إلى الفحص الطبي، فقد كان ظهره يحمل
علامات جراح عميقة، وقد حاول ان يخدع الطبيب بالقول بأنه قد جرح نفسه بسلك شائك.
ولكن ذلك لم يعد عليه بفائدة من أي نوع كان، فقد أبلغ بأنه غير مرغوب فيه . ولكن بعد أن حصل على
التدخل الشخصي من مارشا ل الجو "لورد ترتشراد " وافقت وزارة الطيران على ادخال لورانس كضابط تحت
اسم روس، ومن ثم شق طريقه إلى التدريب في قاعدة "أوكسبريدج".
ولقد كان عقد خدمته عقدًا غير عادي، فقد أبلغه "ترتشارد" بأن هذا العقد يمكن ان يلغى بعد شهر من إبلاغ أي
من الطرفين رغبته في إنهائ ه. وعلى الرغم من ان اللورد "ترتشارد" قد أخذ بأقوال لورانس التي جاء فيها "إن
غزو الفضاء يبدو لي هو المهمة الرئيسية لعصرنا الحاضر "، إ ّ لا أنه اقتنع بصعوبة تامة بأن يصبح طرفًا في
هذا المشروع غير العادي، فقد كان يخشى من أنه إذا ما اكتشفت حقيقة هوية لورانس فسيكو ن ذلك وبا ً لا عليه
أمام رؤسائه، وأمرًا مشينًا بالنسبة لمركزه.
ولقد كانت تجارب لورانس الأولى في "أوكسبريدج" خلافًا لما كان يأمل، إذ أنه خلال الحرب قد وجد زمالة
مع الجنود العاديين كانت اسهل بكثير من أي شيء عرفه بالنسبة لمن هم في رتبته أو أعلى منه رتبة.
وكان يأمل ان يكتشف هذه الزمالة في سلاح الجو الملكي، ولكنه بدلا من ذلك وجد نفسه كسمكة في حوض لا
ماء فيه، ومحاطًا بفريق من الجنود الذين يتميزون بالوقاحة، والذين كانت لغتهم وعاداتهم من الامور التي لم
يستطع أن يفهمها ولا ان يستسيغها.
وكذلك فقد راح يتلقى الأوامر م ن صف الضباط الذين كانت طريقتهم في حفظ النظام تعكس ما كانوا يعانونه
من نقص… كانوا يشعرون بأن أي شخص آخر هو أقل منهم مرتبة، وخصوصًا المتطوعين الجدد.
١١٦٦٦٦
ولذلك فان الأمر بالنسبة إلى لورانس كان ما يمكن أن يبدو لرجل مثقف يسعى إلى السلام وينشد الراحة بعيدًا
عن العا لم المضطرب الخارجي بما يحويه من ضجيج وقلة أدب، وخاصة ما يراه في غرفة النوم الذي كان
بمثابة كابوس ثقيل.
وبعد شهرين من مكوثه في قاعدة "أوكسبريديج". أرسل لورانس إلى قاعدة سلاح الجو الملكي في "فارنبوغ "
وهي مركز للتدريب على الطيران والتصوير . وعلى الرغم من أنه لم يسمح له بالطيران، إ ّ لا أنه وجد هناك
عم ً لا ملائمًا. فراح يشغل نفسه بدراسة محركات الطائرات أو بمختبرات التصوير.
ولكنه ما إن بدأ يجد نفسه الجديدة ويفقد ظل "لورانس اللغز" حتى افتضح أمره للصحف. ففي السابع والعشرين
من شهر كانون الثاني سنة ١٩٢٢ كانت الصفحات الاولى والوسطى من جريدة الديلي اكسبرس تعلن للعالم أن
الرجل الشهير والاسطوري الكولونيل لورانس هو الآن في سلك سلاح الجو الملكي مجندًا تحت اسم "روس".
وعلى الفور اصبح معسكر فارنبورغ محاطًا بالكثير من المخبرين الصحفيين والمصورين الذين راحوا
يطلبون مقابلة لورانس والتقاط الصور له.
وقد اعتبرت قيادة سلاح الطيران الملكي ان الاستجابة لطلباتهم غير ممكنة أبدً ا. وبعد شهر طرد من الخدمة
وفقًا للاتفاقية التي وضعها "ترنشارد".
وقد ازعج لورانس أصدقاءه الذين يحتلون المراكز السامية، وترنشارد بصورة خاصة من أجل مساعدته
لإعادة تعيينه في سلاح الجو الملكي.
على الرغم من ان سجل خدمته كان خاليًا من العلامات السوداء فانه بتصرفه الاحمق عن طريق تغيير اسمه
لم يستطع ان يقنع رؤساءه في "اوكسبريدج" بقبوله في سلاح الجو الملكي.
وكان أخر شيء يمكن ان يلجأ إليه اللورد ترنشارد هو ان يعيد النظر في الطلب الذي قدمه لورانس إذا ما
حصل على شهادة حسن سلوك بعد خدمة فترة من الزمن في الجيش وإلا فإنه يستطع ان يحصل على تعويض
من سلاح الجو الملكي في الحال.
وركب لورانس رأسه ورفض التعويض، وفي أوائل شهر اذار سنة ١٩٢٣ التحق بسلاح الدبابات بعد ان غير
اسمه للمرة الثانية إلى "ت. إي. شو".
وقد ارسل إلى معسكر للتدريب على الدبابات في "بونينغتون" التي تقع في "دورست".
وبعد أن أكمل تدريبه انتدب ليعمل امينًا للمخازن، حيّث كانت مهمته تنحصر في رسم العلامات واصلاح
ملابس الجيش.
ولقد كان للهدوء النسبي الذي يسود جو مهمته هذه الا ثر الأكبر في إتاحة الفرصة له ليكرس نفسه للكتابة .
وفي هذا المكان بالذات انهى تنقيح نسخة اكسفورد من كتاب "اعمدة الحكمة السبعة". وكذلك قام، من أجل
الحصول على مزيد من المال، بترجمة قصتين من الفرنسية إلى الانكليزية لحساب "جوناثان كاب"
واستطاع لورانس أيضًا في ه ذا المكان أن يرضي نزعة أخرى من نزعاته، ألا وهي السرعة، إذ تمكن عن
طريق الاتصال الشخصي بالمستر "جورج بروغ" صانع الدراجة المعروف باسمه من الحصول على دراجة
بسعر مخفض وأقساط سنوية.
١١٦٦٧٧
ومنذ ذلك الوقت فصاعدًا اصبحت دراجات "بروغ" هي الوسيلة الوحيدة لتنقلاته على الأ رض، واستبعد التنقل
بالسيارات على اعتبار ان هذا التنقل "سئ لا يليق بالبشر إ ّ لا في الطقس الممطر".
وعندما كان يزور بعض اصدقائه القدامى مثل برنارد شو وكانغتون وتوماس هاردي . كان يقطع مسافة
تتراوح بين اربعمائة وخمسمائة ميل في الاسبوع على الدراجة بسرعة تتراوح بي ن ٨٠ و ١٠٠ ميل في الساعة
مهما كانت الوجهة التي يسير إليها.
وخلافًا لذلك فقد وجد إلى جانب معسكر بونينغتون البيت الوحيد الذي امتلكه في حياته، وهو عبارة عن كوخ
متداع يسمى "كلاودز هيل"، وقد أعاد بناءه واثثه بسرير وثلاثة كراس ومائة كتاب وحاك ليرضي ميله إلى
الموسيقى.
وقد أصبح هذا الكوخ موضع اهتمامه الرئيسي خارج ميدان عمله، ولقد كان يصف كل تغيير يحدثه في الكوخ
بكل رسالة من الرسائل التي يبعث بها إلى أمه . ومنذ ذلك التاريخ فصاعدًا اصبح الكوخ مقر رئاسته الدائم،
والمكان الذي يدعو إليه اصدقاءه للترفيه، وكان ذلك الترفيه بالنسبة إليه ثقافيًا أكثر منه مضيعة للوقت.
وبالنظر لحساسيته في الشم، وخاصة رائحة الاكل كان دائمًا يأكل من القدر مباشرة، ويقدم الطعام بهذا الشكل
لضيوفه، وذلك توفيرًا لغسل الاطباق. وكان الشاي هو الشاي الوحيد الذي يسمح بتقديمه.
وتقول المسن "اريك كننغتون " ان طريقته في غسل الاقداح بعد شرب الشاي غريبة الشكل، فقد كان يلجًا إلى
وضع الاقداح في ممر الحديقة ثم يسكب ماءً مغليًا على الدرج بحيث يسيل من قدح إلى آخر.
وبعد خدمته في سلاح الدبابات ابلغ لورانس اللورد "ترنشارد" أنه حسب رأيه فقد نفذ شرطه الخاص بإعادته
إلى سلا ح الجو الملكي . وعلى الرغم من الهدوء النسبي والحياة الهانئة التي كان يعيشها في "بونينغتون " إ ّ لا أنه
لم يكن سعيدًا.
وكان على الدوام يفكر بالعودة للخدمة في السلاح الذي اختاره . وقد وجد صعوبة فائقة في ان يبقى بين رجال
يصغرونه، كثيرًا، ولكنهم أقوى منه جسميً ا. وكانت التمرينات الرياضية جزءًا من التدريبات اليومية، ولذلك فقد
كان يخشى دائمًا أن يقصر من مجاراة زملائه.
والحقيقة ان "ترنشارد" قد وقف ضد عودة لورانس إلى سلاح الجو الملكي حتى بعد سنة قضاها في الجيش،
ففي شهر أيار سنة ١٩٢٥ ، أوضح له بجلاء في جواب ارسله إليه ر دًا على طلب تقدم به بأن طلبه مرفوض
جملة وتفصي ً لا.
وكانت آمال لورانس قد قويت في السابق عندما تقدم بطلبه إلى وزير العمل لشؤون الطيران اللورد
"طومسون" بأنه يرغب في كتابة تاريخ لسلاح الجو الملكي، فوافق.
غير أن لورانس اشترط ان يعاد إلى ذلك السلاح، إذا ما اراد لهذا العمل ان يتم، ولكن اللورد "طومسون "
رفض هذا الشرط ومن ثم سحب لورانس اقتراحه.
وعندئذ جرّب لورانس وسيلة أخرى، فقد كان مجتمعًا في المدة الأخيرة ب "جون بوشان" المؤلف المشهور
والقصصي المعروف، والذي أصبح فيما بعد اللورد "تويدز موير"، والحاكم العام لكندا.
١١٦٦٨٨
وكان "بوشان" على صداقة وطيدة مع "ستانلي بالدوين" الذي كان قد أعيد انتخابه رئيسًا للوزراء بعد هزيمة
حكومة حزب العمال في انتخابات سنة ١٩٢٤ ، وكذلك كان صديقًا للمستر "غارنت".
وقد كتب لورانس إلى "بوشان" يطلب منه أن يتوسط له. وفي نفس الوقت كتب إلى "غارنت " قائ ً لا: "لست
ادري ما قيمة حياتي على الارض، ولذلك قررت أن أنهي هذه الحياة، ولكن على طريقتي الساخرة المعتادة …
انني عازم على انهاء الكتاب واعادة طبعه وتصفية حساباتي مع "كاب" قبل ان … أرسل اليك مذكراتي عن
حياتي في سلاح الجو الملكي".
وقد أفلح هذا التهديد البسيط با لانتحار، فأسرع غارنت وكتب إلى "بوشان" و"شو" اللذين طلبا إلى "بولدوين " ان
يتدخل لدى سلطات سلاح الجو الملكي، ولو لمجرد تفادي فضيحة محلية.
وعمل بولدوين بسرعة، وخلال اسبوع كان "ترنشارد" يستدعي لورانس ليبلغه بأنه يستطيع الآن ان يعود إلى
سلاح الجو الملكي . وفي السادس عشر من تموز سنة ١٩٢٥ . وافق ترنشارد رسميًا على نقل الجندي "ت. إي.
شو" إلى سلاح الجو الملكي

خالد الحويطي
18-02-07, 01:36 AM
الفصل الرابع والثلاثون

نهاية لورانس

بعد ثمانية عشر شهرًا في كلية "كارنويل" للضباط، حيّث عمل كمساعد طيّار، وفي أثناء فراغه كتب ملخص
. كتابه "ثورة في الصحراء" وبعدئذ نقل لورانس إلى الهند، وذلك في شهر كانون الاول سنة ١٩٢٦
وبناء على طلبه، ولم يكن غير سعيد في "كارنويل" بل على العكس، فان رسائله كانت تتحدث بأنه وجد وطنًا
جديدًا إثر عودته إلى سلاح الجو الملكي، ولكنه لم يشأ ان يكون موجودًا عند صدور كتابه "ثورة في الصحر اء"
كي يتجنب المزيد من الدعاية بالنسبة لهذا الموضوع.
ومهما يكن من أمر فإن المشاكل قد لاحقته في الهند، إذ ان المسؤولين الهنود كانوا ينظرون بنوع من عدم
الرضى لوجود رجل بينهم يعرفون بأنه قد فعل الشيء الكثير من أجل تحطيم الامبراطورية العثمانية، وبالتالي
تدمير مصالحهم في بلاد الرافدين، أثناء وبعد الحرب.
وعلى هذا الاساس فقد أمر لورانس بأن يلازم الثكنات خلال اقامته في كراتشي، وهي القاعدة الاولى التي
عمل فيها، وذلك لتجنيبه مصاعب لا ضرورة لها.
وبعد اكثر من شهر من إقامة إجبارية في كراتشي دون ان تكون له أية سلوى غي ر إنهاء "مخترعاته "، طلب
أن يعين في وظيفة خارج البلاد . وكان صديقه القديم منذ أيام الحرب العالمية مارشال الجو "سالموند " عندئذ،
مسؤو ً لا عن سلاح الجو الملكي في الهند، وقد احب ان يسدي خدمة إلى لورانس، فوافق على نقله إلى قاعدة
لسلاح الجو الملكي تدعى "ميرانشاه" على الحدود الشمالية الغربية، وكانت هذه القاعدة تضم فرقة من الجنود
مؤلفة من ستة وعشرين جنديًا وخمسة ضباط وبضع مئات من الهنود، وهي مبنية من الطوب والتراب ومسيجة
بالأسلاك الشائكة، وتقع عند سفح تلة صخورها زرقاء اللون، واطرافها حادة كاسنان المدى . وكانت هذه القاع دة
كذلك تبعد مسافة عشرة أميال عن الحدود الافغانية.
١١٦٦٩٩
أما بالنسبة للطقس فيها فقد كان جافًا وصحيًا على عكس كراتشي، غير ان هذا النقل أثبت فيما بعد أنه النهاية
بالنسبة إلى لورانس، إذ لم يمض عليه أكثر من شهر هناك، وعلى الرغم من الاحتياطات الشديدة، حتى غدا
وجوده في تلك البقعة المتنازع عليها من الممتلكات البريطانية معروفًا بالنسبة للصحف الأميركية التي كانت
تبحث منذ مدة عن قصة مثيرة حول عودته السريعة إلى الشرق.
وقد بدأت الصحف السوفييتية في حملة اتهامات تقول بأن لورانس يتجسس على افغانستان، وان الوزير
البريطاني في "كابول" طلب إرجاعه إلى انكلترا وكانت العلاقات بين الحكومة الهندية وأفغانستان آنذاك في
اقصى درجات الحساسية، واستمرار وجود لورانس على الحدود الافغانية قد يجر إلى وقوع حوادث مؤسفة.
وعاد في أوائل سنة ١٩٢٩ ليواجه واب ً لا من التعليقات والاتهامات في بريطانيا. ومن سوء حظه أنه قبل أن
يسحب من قاعدة "ميرانشاه" وقعت ثورة في افغانستان، وتمخضت عن خلع الملك، وقد اصبح الساسة العماليون
كما أصبحت الصحف اليسارية في بريطانيا على اقتناع تام بأن لورانس الذي طالما كانوا يشكون في أنه أخذ
افراد مكتب الاستخبارات، ولكنه متنكر تحت رداء جندي طيار هو الذي نظم الثورة في افغانستان بتحريض
من الحكومة الهندية.
وقد قدمت أسئلة في البرلمان حول هذا الموضوع، وفي أثناء مظاهرة قام بها جماعة من الشيوعيين في
"تاورهيل" أحرق المتظاهرون دمية تمثل لورانس.
وقد قرر لورانس إثر عودته أن يضع حدًا للدعاية ال فارغة التي تثار حوله، وتوجه رأسًا إلى مجلس العوم
حيّث قابل الزعيمين المعروفين المستر "جيمس ماكستون" والمستر "ارنست تورتل " وكلاهما من الاعضاء
المستقلين في حزب العمال.
ونجح في إقناعهما بأنه لم يكن يتجسس لحساب أية حكومة وانه لا علاقة له إطلاقًا بالثورة الأفغ انية، وانتهى
الحادث عند هذا الحد.
وبعد ذلك وجد لورانس قبلته في سلاح الجو الملكي حيّث جدد اتفاقية الخدمة لخمس سنوات أخرى تبدأ من
سنة ١٩٣٠ . ونظرًا لأن "ترنشارد" كان متضايقًا جدًا من وجوده، فقد اقترح إعطاءه وظيفة في أبعد مكان عن
لندن.
واقترح لذلك سكوتلندا، غير ان لورانس قدر بأن سكوتلندا مكان بارد ورطب، فاعترض على الاقتراح، ولم
يكن له من محيص إ ّ لا أن يقبل الاقتراح التالي وهو نقله إلى "كات ووتر" في "بليموث ساوند" التي سميت فيما
بعد "مونت باتن".
وهناك اتخذ له صديقين جديدين : الاول الضابط المسؤول عنه قائد الجن اح "سيدني سميث" الذي كان ذكاؤه
وإنسانيته سببين جعلا منه "اللنبي صغيرً ا" بالنسبة إلى لورانس، أما الثاني فقد كانت الليدي آستور عضو مجلس
البرلمان عن "بليموث"، والتي كان بيتها يوفر لها صحبة الكثير من الشخصيات المرموقة من مختلف البلدان،
حيّث كانوا يتبادلون الأح اديث حول السياسة والفنون، الأمر الذي زوده بدوافع مثيرة كلما احتاج إلى مثل هذه
الدوافع.
١١٧٧٠٠
وكان يغيظ الليدي "آستور" دون شفقة أو رحمة عندما يعلق بقوله : "إن "كات ووتر" لا بد وان تكون قد سميت
بعد ولادتها ". وخلال هذه الفترة قسم لورانس وقته إلى قسمين الاول للمساعد ة في تنظيم سباق "شنايدر تروفي "
للطائرات البحرية، وتطوير الزوارق البخارية من أجل استعماله في حوادث الانقاذ.
أما الثاني فقد بدأ بشكل عفوي إذ كان في أحد الايام يمر في بليموث ساوند في لنش تابع لسلاح الجو الملكي
عندما تحطمت إحدى الطائرات التابعة لقاعدته وسقطت في البحر، فاسرع لورانس للإنقاذ، ولكنه فشل في أن
يصل إلى مكان الحادث في الوقت المناسب، لكي يبقى الطائرة عائمة أو ينقذ ملاحيها المحاصرين داخلها.
ولقد كان لهذه التجربة تأثير كبير على نفسه استمر طوي ً لا، فصمم على ان يخترع قاربًا يكون من السرعة
بحيث يمكن استعما له يف حوادث الانقاذ في المستقبل عندما تنحطم طائرات أخرى، على أن يكون مجهزًا
باختراع يمنع الطائرة من الغرق لفترة تسمح لملاحيها بالنجاة.
وكان فن الانقاذ البحري عندئذ فنًا مجهو ً لا، ولكن بمساعدة وتشجيع "سيدني سميث " كرس لورانس نفسه
لتصميم وتجربة القوارب البخار ية لهذا الغرض، وبعد مفاوضات كثيرة من وزارة الطيران استطاعت فكرة
لورانس ان تنجح.
ومنذ ذلك الوقت وحتى نهاية خدمته في سلاح الجو الملكي سنة ١٩٣٥ ، كرس معظم وقته لتجربة وتصميم
وصناعة هذه القوارب السريعة، ولعل من الانصاف القول بأن الكثيرين من الطيارين مدينون بحي اتهم لما قام به
لورانس في هذا الميدان.
وفي صيف سنة ١٩٢٩ عادت حكومة العمال مرة أخرى إلى الحكم في بريطانيا، وأصبح اللورد "طومسون "
مرة أخرى وزير الدولة لشؤون الطيران.
ولما كان مغتاظًا لرفض لورانس كتابة تاريخ سلاح الجو الملكي دون شروط، وانه لم يخف سرًا بالنس بة
للحقيقة، وهي أنه يتحين الفرص لطرد الطيار "شو" وإبعاده عن سلاح الجو الملكي.
وقد حانت المناسبة عندما كان الجنرال "بالبو" مارشال الجو الايطالي ضيف شرف في أحد سباقات سلاح الجو
الملكي، وشوهد وهو يتحدث إلى لورانس، رافعًا الكلفة على اعتبار أنه صديق قديم.
وبعد ذلك شوهد آخرون من الشخصيات السياسية المشهورة من حزب المحافظين يتحدثون مع لورانس.
وبناء على أمر من "طومسون" أبلغ لورانس إنذارًا بصرفه من الخدمة، ولما توسط له بعض اصدقائه من
البارزين، استدعي لمقابلة "ترنشارد" الذي قال له إنه يستطيع ان يبقى في سلاح الجو الملكي إذا ما تصرف في
المستقبل كأي طيار عادي يخضع للواجبات الروتينية ومتخليًا عن اتصالاته مع الشخصيات المشهورة من حزب
المعارضة مثل تشرشل واللورد "بركينهيد" و"اوستن تشمبرلين" والليدي "آستور".
ولما كان لورانس يدرك أن هذه القيود لا يمكن إ ّ لا أن تكون قيودًا مؤق تة، فقد وافق على هذا الشرط، وكرس
كل أوقات فراغه لترجمة "الأودية ل هوميروس".
التي كان أحد الناشرين الأميركيين مستر "بروس روجرز" قد طلب إليه ان يترجمها، وفي الوقت الذي أنهى
فيه الترجمة وذلك حوالي نهاة سنة ١٩٣٠ ، كانت القيود التي فرضت عليه قد زالت، وأصبح بامكانه أن يعاود
اتصالاته من جديد.
١١٧٧١١
وقبل سنة من نهاية عقد خدمته سنة ١٩٣٥ بدأ لورانس يقلق على مستقبله. وفي هذا الوقت رأى عددًا كبيرًا
من أصدقائه من ايام "كارشمش" مثل الدكتور "ارنست التونيان" وفي رأي الدكتور "التونيان" أن لورانس كان في
ذلك الوقت "يعالج من انهيا ر عصبي وضعف في قواه العقلية"، الأمر الذي حدا به إلى اخفاء نفسه عن الناس في
سلاح الجو.
غير ان رسائله إلى أمه كانت تتحدث بحماسة عن نشاطه في الحياة . وقد قال في إحدى رسائله إن حياته
النشطة قد انتهت منذ أن ترك سلاح الجو الملكي " انني صغير لكي أسعد بألا أفعل أي شيء وكبير حتى أبدأ
بداية جديدة".
وكتب إلى أحد أصدقائه يقول "إنني سأشعر ككلب ضائع حالما أغادر سلاح الجو الملكي … إن الاثر الغريب
للحياة بين الملابس والعمل والزملاء والاتصال المباشر بالناس لا مثيل له في حياتي اجما ً لا انني اشعر شعورًا
عميقًا بأن حياتي من حيّث الشعور الفعلي قد انتهيت الآن."
وفي شهر آذار سنة ١٩٣٥ ودع لورانس سلاح الجو الملكي ولجأ إلى كوخه في "كلاودز هيل ". غير أن
الصحافة كانت بانتظاره هناك، فاضطر إلى سجن نفسه داخل الكوخ عدة أيام، ليهرب من اسئلة الصحافيين.
غير ان هؤلاء كانوا من التصميم على درجة ك بيرة، فراحوا يلقون الحجارة على سطح الكوخ وعلى نوافذه
لإجباره على الخروج اليهم، والإجابة على اسئلتهم والامتثال لآلات تصويرهم.
وبعد ان يئسوا انصرفوا . وتفرغ لورانس إلى ما اسماه ب "الحياة الفارغة في هذه الجنة الأرضية". وقد كتب
إلى الليدي "آستور" يقول: "في مث ل هذا الجو لن أقبل بأية وظيفة على الاطلاق، هنالك شيء ما قد تلف في ،
واعتقد بأن هذا الشيء هو ارادتي".
ومع ذلك تلقى بعد خمسة أيام، أي في الثالث عشر من أيار رسالة من احد اصدقائه يدعى "هنري وليامسون "
وكان هذا الشخص يعتقد بأن انكلترا يجب ان تسعى إلى التفاهم مع المانيا.
وقد جاء في رسالته قوله "انك انت الوحيد الذي يستطيع ان يتفاوض مع هتلر، انني اريد أن احدثك في هذا
الموضوع فورً ا. وقد ركب لورانس دراجته النارية، وتوجه إلى مكتب البريد حيّث أبرق إلى وليامسون يقول :
"موعدنا مساء الخميس عند العشاء في كوخي الذي يبعد مي ً لا واحدًا إلى الشمال مع معسكر بوفينغتون".
واثناء عودته إلى كلاودز هيل حاول ان يتجنب صبيين كانا يمتطيان دراجتين فانقلبت دراجته عن الطريق،
وبعد هذا الحادث لم يعد لورانس إلى وعيه.
وبعد ستة أيام توفي . وقد دفن في مقبرة "موريتون" التي تبعد بضعة أميال عن كوخه. وقد حضر عدد من
اصدقائه بينهم تشرشل، وستورز، ونيوكامب وكانيتغون، وقد جاؤوا ليروا هذا البطل الانكليزي الكبير في
الأرض التي أحبها كثيرًا، واعترافًا بخدماته التي اداها لبريطانيا ومساهمته في التاريخ البريطاني وضع تمثال
نصفي له في كاتدرائية القديس بول في لندن إل ى جانب تماثيل مماثلة لشهيرين من الرجال مثل نلسون
وكونستابل، وهم ابطال في ميادين الحرب والفن ويمثلون عظمة بريطانيا من الناحيتين العسكرية والفنية، الأمر
الذي كان مجسمًا في "ت. إي. لورانس

خالد الحويطي
18-02-07, 01:37 AM
الفصل الخامس والثلاثون

الدافع

ما الذي كان يكمن في أعماق لغز لورانس ؟ وكيف يمكننا ان نفسر الاعمال وردود الفعل لهذا المخلوق الغريب
الذي حوى من المتناقضات والعقد النفسية ما يكفي ألف رجل؟.
كثير من الكتاب قد حاولوا ان يعطوا الجواب على هذين السؤالين، ولكن أيا منهم لم يوفق . وكأي شخص آخر
لديه الرغبة، في أن يضع استنتاجاته عن هذه ا لشخصية الغريبة فقد حاولت الاتصال بأصدقائه وأقربائه الذين ما
يزالون في قيد الحياة.
ومرة أخرى لم اجد تفسيرًا حقيقيًا للسبب الذي دفعه ليعمل كل ما فعل . وقد يستطيع المرء ان يجد هنا أو هناك
شيئًا من الاثر، ولكنه سرعان ما يكتشف أنه لا يؤدي إلى نتيجة، أو أن العقد ة الرئيسية للقسم التالي من التفسير
ضائعة وعندها يتوقف الاثر.
ويرجع قسم من السبب في هذا إلى أن لورانس كان طوال حياته ملتزمًا خطة تجعله لا يعطي الجواب الواحد
إلى أكثر من شخص واحد، وقد انبثقت هذه التفسيرات المتناقضة بعد وفاته من وثائقه الشخصية، ومن شهادات
أصدقائه.
وكذلك كان هنالك غموض عندما يريد المرء ان يحلل شخصيته، وخاصة في نقطتين تتعلقان بحياته، وهما
اولا: ما الذي جعله يغادر دمشق؟.
ثانيًا ما الذي دفعه إلى الانزواء في سلاح الطيران الملكي؟ . وانه لمن السخف القول بأن هذين السؤالين
متصلان، إذ أن بينهما فارقًا كبيرًا.
فالاول هو في الغالب قضية سياسية ذات حقائق معينة، وقاسية ذات شروط خاصة، والثاني ينبع من مشكلة
أكبر بكثير من التفاعلات الشهوانية والعقلية والروحية التي تحتدم في جسم رجل معذب ولما ووجه الكتاب
بهذه المشكلة المعقدة، والتي لا حل لها أحبوا ان يعطوه ا تفسيرًا بسيطًا "سياسيًا" فقالوا إن لورانس كان يتألم
لخيانة بريطانيا للعرب، وذلك هو السبب ليس لمغادرته دمشق فحسب، بل ولتصميمه على ان يذيب شخصيته
عن طريق التحاقه بسلاح الجو الملكي، وهذا امر ليس بالصحيح. كما تثبته التحريات عن الحقائق.
ومن المؤكد ان سبب نقم ته العارمة هو شعوره بالفشل في دمشق، الأمر الذي حداه لأن يدير ظهره للانتصار
الذي عمل عم ً لا طوي ً لا في سبيل تحقيقه.
فقد كان مستاء مما حصل من غدر بريطانيا، ومستاء كذلك من النزاعات والحسد والتآمر بين اصدقائه،
ومستاء من خيانة الحلفاء، وكذلك كان مستاء من محاولات فيصل الحط من قدره وعدم شكرانه لجميله، مستاءً
إلى درجة بلغت به حافة الانهيار العقلي التام.
وكانت الحرب العربية التي خاضها لورانس قد بدأت كوسيلة للهرب من الجو الخانق الذي كان يسود غرفة
الخرائط في القيادة العامة.
١١٧٧٣٣
ثم وبعد أن أكتشف فيصل اصبح اشتراكه في الحرب العربية حلمًا يغذيه الشعور بأنه يؤدي رسالة هدفها
مساعدة العرب على تحرير البلاد العربية، وهو أمر يتضمن الكثير من الاطماح، ويبشر بشهرة كبيرة وفوائد
عظمى، حتى لقد رأى لورانس نفسه رج ً لا "يصنع ملكًا" وبمثابة اليد اليمنى لفيصل في سورية الحرة.
ثم حدثت نكسة وهي ا كتشافه خطط بريطانيا وفرنسا فيما يتعلق باقتسام البلدان العربية فيما بينهم، خلافًا
لوعودهم بمنح البلدان العربية استقلالها غير ان التوفيق ما لبث أن تتابع سريعًا، فحصل تقدم في الحجاز
واحتلت العقبة، وأصبح لورانس بعد هذه النجاحات رج ً لا اسطوريًا بين القبائل العرب ية التي كانت صيحات
فرحها من القوة على جانب كبيرة، بحق تغطي على همسات الخيانة التي كانت تتردد في أذنيه . وكان يعتقد بأن
العرب سينتزعون حريتهم من جميع أولئك الذين يتحدونهم، وعليهم أن يحققوا ذلك في دمشق.
وفي يوم من الايام تحول الحلم إلى كابوس، وادرك لورانس بأ ن الوحدة بين القبائل العربية التي عمل لها
فيصل كثيرًا ليست إ ّ لا ستارًا تختفي وراءه مطامع الشرف لتدس السموم وتنشر المؤامرات الرامية للقضاء عليه
شخصيًا، ولذلك كان الرحيل أمله الوحيد على اعتبار أن العرب سيكونون قادرين على الدفاع عن الحرية التي
هم في سبيل الحصول عليها من الاتراك.
ولما كان لورانس يعرف كيف أن الحلفاء يعتزمون تقسيم العالم العربي فيما بينهم، بعد هزيمة تركيا، ولما كان
يعلم بأن النصر لا يمكن أن يكون بالنسبة إليه إ ّ لا عارًا… فقد قرر ان يغادر دمشق دون ان يتأخر دقيقة واحدة.
ولكنه اضطر إلى الرجوع إلى م يدان السياسة العربية وسياسة الحلفاء، أولا بوساطة فيصل، وثانيًا بوساطة
تشرشل، وعلى الرغم من أن عودته هذه كانت أقسى بكثير من فشله في مؤتمر الصلح، كما عرفنا ذلك من
مذكرات لورانس نفسه فيما بعد حيّث قال : "إن جميع الاخطاء التي وجهت للعرب في مؤتمر القاهرة سنة
١٩٢١ قد اصلحت، وبذلك خرجت بريطانيا نظيفة اليد من الشؤون العربية".
وعلى الرغم من ذلك فاننا نراه بعد سنة من الزمن يعترف في مذكراته بأن بريطانيا قد خادعت في تنفيذ
وعودها للعرب، وبذلك وجهت إليه إهانة بالغة فانزوى هربًا من الفضائح في سلاح الجو الملكي تحت اسم
مستعار. وعلى هذا الاساس لا يجوز القول بأن السبب في دخوله الجندية كان نفس السبب الذي عجل في
مغادرته لدمشق.
فما هو إذن الجواب على السؤال الثاني؟ ما هي القوة القاهرة التي دفعته للهرب مرة ثانية؟ أهي الدعاية التي
تلت محاضرات "لويل توماس"؟ هذا احتمال صعب، إذ أن الحيرة التي كلفته إياها هذه الشهرة المفاجئة كانت
سطحية على نطاق واسع، وكان لورانس ضحية لما هو أكثر من الحيرة.
فهل كان السبب هو الجنون؟ . ومرة ثانية يكون الجواب نفيًا، فقد تحدث لورانس كثيرًا عن العقلانية أثناء
انخراطه في سلاح الجو الملكي، وقد قيل أيضًا الاشقاء الخمسة قد أقسموا على إ ّ لا يتزوجوا مطلقًا بسبب الخوف
من وجود جنون وراثي في اسرتهم.
ولكن… حتى ولو كان هذا التفسير معقو ً لا يظل هناك سؤال هو، ما الذي جعله يجن، ودفعه إلى هذا المستوى
المخيف من تحقير الذات؟
١١٧٧٤٤
ولقد حاول أكثر من كاتب ان يفسر هذا اللغز بأن لورانس كان ضحية شذوذ جنسي، ولكن أيًا من هؤلاء
الكتاب لم يقدم الدليل على صحة ذلك، والواقع أن كل من عرفه معرفة جيدة قد أكد دون تردد بأن لورانس لم
يكن مريضًا جنسيًا، ومن هؤلاء "روبرت غريفز" و"الدكتور التونيان" و"كير كبرايد" والكولونيل "جويس" والمسز
"كينيتغتون" و "ديفيد غارنت " و"باسيل ليدل هارت " والمرحوم الكولونيل "نيوكامب" وقد اجمعوا على نفي هذه
الشائعة.
وفض ً لا عن ذلك، وربما كان هذا من أقوى الادلة، فإنه خلال انخراطه في سلك سلاح الجو الملكي والجندية لم
يكن هنالك أي دليل على انحرافه الجنسي، مع أنه قد أمضى في سلاح الجو الملكي وسلاح الدبابات مدة تزيد
على اثنتي عشرة سنة بين ذكور فقط . وقد أعلن "دايفيد غارنت" بصراحة أنه قد رأى مرة رسالة موجهة من
لورانس إلى أحد المنحرفين جنسيًا، وقد جاء فيها أنه لا مانع من ممارسة العمل الجنسي، وإن كان يعتبر ذلك
العمل منافيًا لطبيعة البشر.
والواقع أنه استنادًا إلى أفضل الروايات المتوفرة، فإننا نستطيع القول بأن الصدمة التي نجمت عن إبلاغه
حقيقة مولده، كانت كافية لأن تصيبه بانهيار عصبي، إذ أنها تجلب له ولأشقائه العار، لكونهم أبناء زنى . فمن
الطبيعي والحالة هذه أن يزهد لورانس في أي نوع من أنواع الجنس.
وهذا الدليل يكشف النقاب عن حقيقة القصة التي تقول بأن لورانس كان على علاقة غرام مع مومس يهودية
تدعى "سارة أرونسون"، كانت تعمل في قلم الاستخبارات البريطانية وراء خطوط الأتراك، زمن الثورة العربية.
وقد قيل إن لورانس نسي حبه هذا، وهو في "درعا" وختم بذلك مأساته. واستنتج بعضهم من القصيدة التي
جعل لها لورانس عنوانًا رمزيا على أنها موجهة إلى "ساره أرونسون". غير أن هذا التقدير الخيالي لا يستند إلى
حقيقة.
فبالاضافة إلى القسم الذي أداه بالابتعاد عن الزواج، دلت التحقيقات الرسمية على أن لورانس و "سارة " لم
يلتقيا، بل لم يكن من الممكن أن يلتقيا، لأن "سارة" كانت في فلسطين، بينما كان لورانس في مصر والحجاز
وشرقي الأردن على التتابع، وقد توفيت "سارة" في أحد السجون التركية في شهر آذار سنة ١٩١٧ ، أي قبل
ثمانية أشهر من أسر لورانس وتعذيبه في درعا.
ولم يقل لورانس أبدًا من هي (الرمز)، ولعل الأصح أن نقول بأنه أعطى عدة تفسيرات متناقضة عنها إلى
أشخاص مختلفين.
فقال لبعضهم إن هذا الرمز يعود لشخص عزيز عليه قد توفي، وقال الآخرون بأن أحد الحرفين يشير إلى
أسم، بينما يشير الحرف الثاني إلى مكان.
كما أخبر "روبرت غريفز " إن (الرزم) يشير إلى الشيخ أحمد، الشاب العربي الذي تعرف عليه في سورية من
قبل الحرب.
ولكي يزيد الامر تعقيدًا فقد أدعى بأن العلاقة بينه وبين الشيخ أحمد لم تكن وثيقة، فكيف إذن ينظم بمدحه
قصيدة؟ ولكن الحقيقة كما تبدو هي أن (الرمز) لم يكن اسمًا لعلم أو لمكان، بل لشخص خيالي، يمثل كل ما
أحس به لورانس وعاش فيه من عدل وجمال في البلاد العربية، وما كان يكنه لاهلها من محبة . وهناك شيء
١١٧٧٥٥
واحد على الأقل يمكننا أن نعتبره مؤكدًا، ألا وهو أن هذا اللغز لا يعطينا أي تفسير، ولا يلقي أي ضوء على
اللغز الأكبر في حياة لورانس.
ونحن نعتقد جازمين بأن مفت اح هذا اللغز يمكن أن يوجد في أشياء ثلاثة مجتمعة هي : تلذذه بالألم، وخوفه من
المسؤولية، وإصابته بانهيار عقلي . ومما لا شك فيه أن لورانس كان مريضًا جسميًا وعقليًا، ونستطيع أن نجد
الدليل الكافي على ذلك في كتاباته الشخصية، ومذكراته، وأعماله التي قام بها أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى.
ولنأخذ على سبيل المثال جملة وردت في كتابه "أعمدة الحكمة السبعة" إذ قال "لقد عذبت نفسي برضائي،
ووجدت في هذا التعذيب راحة تقل عن الاثم الذي ارتكبه ". وكتب في تعليق آخر عن تجاربه في البلاد العربية
يقول: "إن العذاب كان بالنسبة لي راحة، وقد احتملته عن طيبة خاطر".
وقد أكد لفيف من أصدقائه أن لورانس كان يميل كثيرًا إلى "حب الألم" حتى لقد ذهب بعضهم إلى أبعد من
ذلك واكد بان هذا "الحب" كان في دمه.
وقد قال "كيركبرايد" ذات مرة : "إن لورانس يحب أن يلقي بنفسه في العمل دون رحمة، والواقع أنني لا أشك
في أنه يجد لذة في التألم".
ويشارك "دايفيد غارنت " رأي "كيركبرايد" هذا. ومن المؤكد أنه قلما يوجد إنسان يلقي بنفسه في المصاعب
مختارًا. ويعرضها للألم طواعية، مثل لورانس الذي ما كان ليقدم على ذلك لو لم يكن مصابًا بمرض التلذذ
بالألم.
واكتشاف هذه الحقيقة، ح قيقة كونه مريضًا بحب الألم يكفي أي شخص آخر، غير لورانس، لينهار روحيً ا.
ولكننا يجب أن نذكر أن لورانس منذ علم بقصة ولادته غير الشرعية، لم يعش حياة عادية على الإطلاق،
وتجنب النساء، هربًا من العار الذي لحق به وبعائلته.
غير أن هناك سببًا للاعتقاد بأن لورانس كا ن في اوائل حملة الصحراء يعتقد بأنه "مسيح" جديد، أرسل لينقذ
العالم من الاضطهاد والعذاب، فقد كان دائم القلق حول موضوع واحد هو : لماذا أنا هنا؟ ومن أرسلني؟… لقد
أرسل نفسه بنفسه، ولكن هذا ليس بالجواب الكافي.
والحقيقة هي أن لورانس كان يحب دائمًا أن يقارن نفسه ب السيد المسيح، فقد كانت هناك علامة استفهام حول
مولده، وكان يشن حربًا من أجل قضية كبرى، مستخدمًا التبشير أكثر مما كان يستخدم القوة.
ثم إنه كان يعيش في الصحراء، وقد وعد بمملكة، وكان يلقى الاحترام والتقديس في كل مكان يذهب إليه
بوصفه منقذًا ارسلته السماء . ولقد قام بما يشبه المعجزات أثناء احتلال العقبة، وأثناء الزحف على سيناء، وأثناء
تصفيته للخلافات القبلية بين العرب.
وعندما أضطر إلى تجريد سيفه، كما حدث في "أبي لسان" كان يشعر بعد ذلك بالشفقة على العدو الذي قتله.
ومن المؤكد أن هذه الاستنتاجات لا ترقى إلى درجة ا لتأكيد، ولا إلى درجة قراءة ما بين السطور، في
مذاكراته الخاصة . غير أن هناك تأكيدًا غريبًا لهذه النظرية يمكن أن نجده في جواب بعث به لورانس إلى
"كننغتون" حول أحد الرسوم التي نشرت في المطبعة الخاصة لكتابه "أعمدة الحكمة السبعة" وكان هذا الرسم
بعنوان "ستراتا" ويمثل لورانس كإله يطل من فوق السحب على الأرض المضطربة التي تمثل الثورة العربية.
١١٧٧٦٦
والواقع أن لورانس قد استغرب كثيرًا عندما عرض عليه "كننغتون" هذا الرسم، وراح يؤكد بأنه لا يستطيع أن
يصدق بأن هناك انسانًا ما يمكن أن يشتمل على كل هذه الخصائص التي تظهرها هذه الصورة عن نفسه.
وهنالك حقيقة معروفة أخرى، هي أنه بعد ان ترك الحرب في الصحراء عمد إلى تعذيب نفسه، وكان تفسيره
لذلك هو اعتقاده بأنه سيدعى في يوم من الايام ليلاقي عذابًا أليمًا، وانه لذلك يمرن نفسه على التعذيب كي يغدو
قادرًا على احتمال الألم مهما كان شديدًا.
وكان عندما دخل درعا في تشرين الثاني سنة ١٩١٧ يعاين هذا الشعور بالذات، وعندما بدأ الاتراك يضربونه
احس بأن رسالته قد أُتمت وان عليه أن يتحمل التعذيب كما تحمله السيد المسيح.
ثم جاءت اليقظة المفاجئة التي وصفها في كتابه بقوله : " انها حرارة تبعث السرور بالنفس، ومن الارجح
القول بان الشعور الجنسي قد فقد مني ". ولقد كان يعرف بأنه ليس نبيًا ولا إبنًا لله بل مجرد رجل يتلذذ بالعذاب،
وان هذه اللذة تفوق في قوتها الراحة النفسية وهذا يفضح نفسه بنفسه ويثير السخرية عند حاسديه.
هذا وقد شطبت هذه المتناقضات فيما يتعلق بحبه للأ لم من طبعة المشتركين، حيّث تكلم في تلك الطبعة عن
فقدانه "لحصن كرامته " في درعا، ومنذ ذلك الوقت أصبح رج ً لا متقلبًا، قاسيًا شديدًا في احكامه على نفسه وعلى
الآخرين، مهم ً لا في أعماله . وكما كشف النقاب في التحليل الذي كتبه بنفسه عن شخصه أثناء وجوده في
الصحراء وفي مذكراته، نجد أنه قد هرب فجأة من النزاع الروحي بعد أن أحس بأن الشعور الذي كان يحدوه
للقيام بمهمته قد فقد، وان الرياح جرت بما لا تشتهي السفن.
وكان حتى ذلك الوقت يستعمل قواه الخارقة في القيادة، حتى أنه بنفسه في خضم العالم العربي بشكل يفوق
احتمال البشر، فكره نفسه للخيانة التي عرف أنها قد حصلت، ومع ذلك ظل يجاهد في سبيل كسب قضيته ورفع
روحه المعنوية.
ثم جاء اليوم الذي اكتشف فيه ان هذا الطموح ليس إ ّ لا مجرد خيال وان حلمه في السلطة قد انتهى، وهدفه
النبيل قد تحول إلى هدف ليس وراءه سوى القتل . وأثناء ما كان يعيش في كابوس دموي جاءته لطمة على
وجهه انهت ذلك الكابوس … ولما صفا عقله من حب سفك الدماء أدرك بأنه قد انتهى، وأنه يعيش على ما تبقى
من عقله وجسده، ولم يعد يستطيع أن يفكر إ ّ لا في الهرب من المسؤوليات، والتهرب من الزعامة التي كان يحتل
مركزها.
وكما كتب الدكتور "التونيان" واصفًا اجتماعه مرة أخرى مع لورانس بعد الحرب إذ قال : "لقد وجدت رج ً لا …
أصيب في بصيرته ولا يهتم بمنجزاته الماضية وانما في احتمالات غير جائزة إ ّ لا إذا ارادها هو ان تجوز".
ولقد أصبحت مشكلة لورانس أكثر تعقيدًا، لأنه لم يكن قادرًا البتة على التحدث عنها لأي كا ن، ولو أنه عاش
حتى هذا اليوم وهذا العصر لتحتم عليه أن يكون بحاجة إلى علاج عقلي.
ولكن ما دام مثل هذا العلاج لم يكن متوفرًا يف عهده ذاك فقد لجأ إلى معالجة نفسه بنفسه، وذلك عن طريق
انخراطه في سلك سلاح الجو الملكي حيّث كان يأمل أن يستعيد كرامته وراحته النفسية التي فقد الكثير منها في
الصحراء.
وكان يأمل كذلك في أن يجد هناك آمالا جديدة، وينسى الكابوس الذي عاشه في سني مسؤولياته.
١١٧٧٧٧
غير أن هذه الحياة في الجندية، وعلى الأقل في البداية، كانت محزنة، فبدلا من الجنود البسطاء الذين عرفهم
في الحرب، وجد نفسه بين رجال لم يستطع أن يفهمهم، وضباط لم يقدر أن يحترمهم.
ومع ذلك لم يكن بمستطاعه ان يتراجع لأنه أقسم على أن ينسى تاريخه في البلاد العربية . وحتى عندما أُلقي
به إلى الخارج كان يعرف بأن عليه أن يعود إلى سلاح الجو الملكي مرة أخرى ليجد فيه العلاج.
وكانت مسألة الشرف بالنسبة إل يه ذات أهمية كبرى . وفضلا عن ذلك فإن حبه للتألم كان يبعث في نفسه
سرورًا من جراء المعاملة القاسية التي كان يلقاها . فما الذي يستطيع المرء إذن أن يستنتجه من نهاية هذه
القصة؟.. هل كان علاجًا ناجعًا أم أنه ترك سلاح الجو الملكي وهو ما يزال رجلا مهيض الجناح؟ … أما القول
بأنه قد شفي تمامًا بما فيه الكفاية ليتمكن من استعادة الحياة من جديد وممارسة مسؤولياته فأمر مشكوك فيه
كثيرًا.
فقد أراد أن يعرف الجميع بأنه سيعود، ولكنه مخاوفه من مغادرة "الدير" ومواجهة العالم واعتقاده بأن حياته قد
انتهت فعلا، لهي أسباب لا تؤهل رجلا لتحمل المسؤوليات أو شطر من المسؤوليات في شؤون دولة.
(انتهت)
__________________

بــعــيــد الــهــقــاوي
28-03-07, 09:21 AM
يعطيك العافيه أخوي خالد على المجهود اللي بذلته


مشكور كل الشكر

خالد الحويطي
29-03-07, 01:38 AM
اخي الكريم بــعــيــد الــهــقــاوي

جزيل الشكر والتقدير
على مرورك الطيب

تحياتي لك

ريتاج
09-06-07, 08:57 AM
رائع ما طرحته أخي خالد

أستمتعت كثيرا بقرأه جزء منه

وسأعود لأستكمله

لك تحياتي

ريتاج

خالد الحويطي
11-06-07, 07:30 PM
رائع ما طرحته أخي خالد

أستمتعت كثيرا بقرأه جزء منه

وسأعود لأستكمله



اختي ريتاج

يسعدني ان حاز الموضوع على اعجابك

تحياتي وتقديري لك

أبوعواد
10-08-07, 02:38 PM
مشكور أخوي على جهودك

لكن

لاتعطوا لورنس أكبر من حجمه(مع أني لم أقرأ الموضوع)

فهو لم يكن سوى جاسوس للانجليز

ودوره مع الشيخ عوده أبوتايه وربعه لم يتعدى دور خبير متفجرات

تحياتي

أبوعواد
11-08-07, 01:23 PM
يا أخي لورانس مجد نفسه وأعطاها أكثر مماتستحق

فهو لم يكن سوى خبير متفجرات وكان يسير في آخر الجيش

فكيف تقولون أنه كان يقود العرب !!!!!!!!!!!!!!!!!

أبوعواد
12-08-07, 11:49 PM
عفوا أخوي خالد

هذه ليست وجهة نظر شخصية ،، بل هذا هو الواقع وكما هو معروف ليس لدينا فقط