المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مدينة ينبع


النجم طليان المرادي
14-07-09, 01:20 PM
لعل الكثيرين يذكرون تلك الطرفة التي سجلها علامة الجزيرة حمد الجاسر في كتابه (بلاد ينبع) حين كان يشرح لطلابه بمدينة ينبع ـ قبل نصف قرن ـ موقع جبل رضوى قائلا ، نقلا عن أحد كتب الجغرافيا التاريخية : (رضوى جبل قريب من المدينة، سهل ترقاه الإبل) فأجابه الطلاب فورا (لا يا أستاذ! هاهو جبل رضوى امامك - وكانت النافذة مفتوحة - وليس قريبا من المدينة، ولا تستطيع الإبل أن ترقاه)
بين تلك الحادثة التي وقعت لعلامة الجزيرة قبل أكثر من خمسين عاما ، واليوم شهدت مدينة ينبع تحولات بنيوية جعلت من تعدد المسمى فيها دليلا على خصائص مختلفة لكل مدينة من حيث التنوع مع بقاء نسيج الوحدة الذي يناظر الاسم الأول المشترك بين المدن الثلاث : (ينبع النخل) (ينبع البحر) (ينبع الصناعية) .
وطوال هذه العقود كانت خطى النمو تتسارع بأسلوب يستجيب إلى حيثيات وخصائص كل مدينة من المدن الثلاث وينحو إلى التماهي مع اسمها بصورة جعلت من دلالة الاسم على المسمى حالة عيانية شاخصة ؛ فهي تتفق في أسماءها وتكاد تفترق في مسمياتها ضمن نسيج الوحدة والتعدد الذي واكب التنمية في جميع مدن المملكة .

ينبع النخل

هكذا كانت مدينة ينبع النخل تستريح من عناء التاريخ (بوصفه أحداثا جارية) بعد أن طبع عليها شواهده الأثرية والتراثية والزراعية والسكانية ، فهي التي يستوي فيها التاريخ شاهدا على الكثير من زخمها وعراقتها بالأحداث والطبيعة .
كانت بدايات ينبع النخل حين أقطعها النبي صلى الله عليه وسلم لـ(كشد الجهني) ـ كما يروي حمد الجاسر في كتابه المذكور ـ ثم اشتراها الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه من (كشد) وأنشأ فيها عيونا جارية ، وأسكن فيها من ذريته حتى أصبحت في عهد حفيده عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي حاضرة مزدهرة سكانيا بما فيها من الزروع والعيون والنخيل . ومكانا يأتيه الناس للعلم ، حيث يورد (حمد الجاسر) في كتابه قائلا : (وكان واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد - شيخا المعتزلة - يأتيان إلى عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبى طالب في بلدته «سويقة» يتلقيان عنه العلم) وهذا دليل على ازدهارها المعرفي ؛ فواصل بن عطاء هو مؤسس أكبر فرقة عقلانية في التاريخ الإسلامي (المعتزلة) .
كانت ينبع النخل تزدهر بذرية الإمام علي وأولاده ، ومن جاورهم من قبائل جهينة التي استوطنت ينبع في الأزمنة القديمة ـ ولا تزال ـ وكان فيها من صحابة رسول الله الصحابي الجليل (حرملة المدلجي) . ولقد ظلت تلك العيون والخيوف هي السبب الأعظم في ازدهارها وما اتصل بذلك من زراعة النخيل وورود بعض معالمها الطبيعية كجبل رضوى في الشعر الجاهلي وفي أشعار بعض شعراء عهد بني أمية مثل الشاعر كثير عزة وغيره . لكن زحف الصحراء المديد وتزاحم المد السكاني أشاخ عيون ينبع ، وأنضب ماءها أو كاد في السنين الأخيرة ، فنزح عنها الكثير من أبنائها واستجابوا لخطط الهجر وتوطين البادية التي تسارعت في عهد المغفور له جلالة الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود . فكانت مدينة ينبع البحر تستفيق على عهد جديد ، مع تأسيس الميناء ، وحركة التجارة التي كانت تمر بها من الداخل والخارج بطرق الحجاز المتصلة بمصر والشام .

ينبع البحر

وإذا كانت مدينة (ينبع النخل) قد غفت على تاريخ لم يبق منه إلا سعف النخيل ؛ والخيوف الخاوية ، فإن ينبع البحر استيقظت بجوار البحر الذي ارتبطت به وارتبط باسمها ، في سماتها العمرانية والبشرية ونشاطها وتاريخها وفنها
كان البحر ، باستمرار ، يعيد تعريف المدينة بنفسها ابتداء من أسلوب العمارة التراثية لطبيعة مدن البحر الأحمر حيث الرواشين والخشب المعشق الذي يقاوم الرطوبة ويكشف على هامش تلك المقاومة عن جماليات هندسية تتعلق بطبيعة الطقس الساحلي ، وأحوال الرطوبة .
وفيما كانت الصحراء ترفد بقبائل جهينة ومايليها إلى (ينبع النخل) لتستقر على سمات بدوية واحدة ؛ كان البحر يجلب لـ(ينبع البحر) على مدى التاريخ ، أفواجا من العابرين إلى حج البيت الحرام عبر طرق الحجاز البحرية والبرية المتصلة بمصر و الشام ، لا سيما وأن طرق القوافل البرية والبحرية خصوصا قافلة (المحمل المصري) الشهيرة في التاريخ كانت تمر من هناك
كل ذلك جعل المدينة تنتخب أهلها من تلك القوافل ؛ من الذين طاب لهم العيش فيها ، وجعلوها وطنا . وعبر هجرات توطنت وأصبحت ينبع البحر تتفاعل بمزاج مفتوح نشأ من تعدد سكانها واختلاف أصولهم ، وكان هذا المزاج المفتوح سببا لحنين اتصل بديارهم البعيدة ، وسجل في حياة المدينة تعبيرات فنية ارتبطت بمواويل البحر التي أبدعت غنائيات جميلة مترعة بالشجن ، وهو ماعرف شعبيا ـ بعد ذلك بسنوات طويلة ـ بـ(الطرب الينبعاوي) كنمط يطابق بين الرقص والغناء ويعد فنا حجازيا بامتياز . غير أن الحنين الذي نشأ في ينبع من التوطن فيها ، كان أيضا رصيدا منعكسا عليها فهذه المدينة من سماتها الخاصة أن تأسر ساكنها ـ مواطنا أو مقيما ـ ولعل في قصة الشاعر (محمد حسن القفطي) الذي عاش بينبع البحر قبل أكثر من مائة سنة مهاجرا إليها من مدينة (قفط) بصعيد مصر ؛ ما يكشف طرفا من ذلك الحنين . لقد كان هذا الشاعر يجازف بحبه لينبع لدرجة تفضيله لمياه (بئر العصيلي) بمدينة ينبع حتى على مياه النهر الخالد (النيل) ! ومن ذلك قوله في قصيدة يعبر فيها عن حبه لينبع ـ وكان غادرها مكرها لوفاة أبيه ـ ثم هاجه الشوق إليها في شعر عبر عن طرافة وحياة ربما كشفت عن ذلك المزاج المنفتح لعيش المدينة في ذلك الزمن حين قال:

أمن تـذكر أكــل الحـوت بالــرطـب * أعرضــــت عن لــذة العناب والعــنــب
ما النيل عندي سوى نيل الترشف من * ماء " العصيلي " إذا ما صُبّ في القرب

فهو يحن إلى أكلة (الحوت بالرطب) تلك الأكلة التي استمزجها أهل ينبع في ذلك الزمان كرمز ربما دل على المزاوجة بين ثمار المدينتين (ينبع النخل) و(ينبع البحر) فالشاعر نجده يمازح أحد أصدقاءه ويذكر هذه الأكلة مرة أخرى في شعره حين يقول معاتبا صديقه :

لقد أنساك أكل الحوت ودي * وأكل التمر علمك التجافي

بيد أن ينبع البحر كانت تسجل تاريخها الحديث نسبيا في بعض المحطات التاريخية الشهيرة ، منها اللقاء الشهير لجلالة المغفور له الملك الموحد عبد العزيز آل سعود بالملك المصري فاروق في منطقة الشرم على ساحل مدينة ينبع ، وهو لقاء شهير كان سببا في تخليد ذلك الفرن الذي ما يزال شاهدا عليه ، فقد كان ذلك الفرن عبارة عن مخبز قديم صغير الحجم مبني من الحجر والطين ؛ أًعد لاجتماع الملك عبد العزيز مع الملك فاروق مصر حاكم مصر عام 1364هـ، حيث كان يصنع فيه الخبز وبعض الحلوي لتقديمة أثناء الحفل ـ الذي تم ترميمه من قبل بلدية محافظة ينبع مؤخرا كأثر من آثار ينبع البحرـ
وبعد إنشاء ميناء ينبع التجاري ، ارتبطت به حياة حضرية مستقرة تسارعت وتيرتها باطراد إلى أن وصلت المدينة لمراحل متقدمة في العمران والخدمات والسياحة فبقرب الكورنيش الذي يمتد على 12 كليومترا ويتصل (بالشرم) وهو حوض كبير للسباحة الآمنة في (العيقة) ، هناك المنتزهات الشهيرة كـ(الحكير هابي لاند) و(دولفين بيتش) ومنتجعات أراك وغيرها من المنتزهات السياحية . وارتبط الكثير من نشاطاتها السياحية بحركة داخلية كبيرة في المواسم والفصول والعطلات . ومن خلال رصد بيانات (مركز المعلومات السياحي) بينبع يتضح الكثير من آثار هذه النقلة الكبيرة التي وصلت إليها مدينة ينبع البحر .
ذلك أن مدينة (ينبع البحر) كانت باستمرار صلة الوصل الحقيقية بين المدينتين الأخريين (ينبع الصناعة ، وينبع النخل) فهي جسدت تفاعلا في نسيج واحد ، سمح لها بأن تكون حاضنة سياحية للكثيرين من أبناء الوطن ومن الزوار.
كما أن القرب الجغرافي لينبع البحر (360ك شمال مدينة جدة ـ 200 غرب المدينة المنورة) سمح لكل من المدينيتن بفضاء قريب مجاور لهما كمتنفس سياحي يحتضن الهاربين من زحام جدة ، والباحثين عن أنفاس البحر من أهل المدينة المنورة لا سيما بعد الحراك الكبير في التنقل المتبادل بين سكان المدن الثلاث سواء عبر التنقلات الإدارية في القطاع العام والقطاع الخاص ، أو عبر ترحال بعض أهل ينبع إلى جدة والمدينة ضمن الهجرات الحديثة من المدن الصغيرة إلى المدن الكبيرة خصوصا مع الطفرة البترولية واتساع حركة التعليم والتنقل الإداري بين المدن الثلاث (جدة ـ المدينة ـ ينبع) وهي المدن التي تعد ـ بالإضافة إلى مكة ـ حواضر الحجاز التاريخية منذ الأزمنة القديمة .

ينبع الصناعية

ولعل الوجه الأكثر حداثة بين مدن ينبع الثلاث هو مدينة (ينبع الصناعية) وسنجد أيضا أن لهذه المدينة نصيب من اسمها ، فهي أصلا نشأت على هامش الصناعات الضخمة لتصدير البترول والبتروكيماويات ، والشركات العملاقة كشركات (أرامكو) (سابك) ؛ تلك الصناعات التي اتسعت غربا للبحث عن رئة جديدة لضخ وتصدير البترول عبر البحر الأحمر كمنفذ مواز للخليج .
وهكذا لم تنشأ مدينة ينبع الصناعية عفوا ـ كبقية المدينتين ـ بل كان للتنظيم والتخطيط المتصل بالصناعة نصيب كبير في ظهورها كمدينة حديثة .
فميناء الملك فهد في مدينة ينبع الصناعية بالإضافة إلى كونه رديفا استراتيجيا لموانئ البترول السعودي في الخليج ؛ هو أيضا أكبر ميناء لتصدير البترول على ساحل البحر الأحمر ، وتعتبر ينبع الصناعية آخر محطة لخطوط أنابيب البترول والغاز .
وكانت النشأة النوعية للمدينة انعكاسا لسكانها والعاملين بها ؛ فحداثة المدينة وتنظيمها وتخطيطها ، كل ذلك هيأ لطبقة معينة من السكان .
فسكان المدينة الصناعية هم من النخب المتعلمة والحديثة ، وأكثرهم من التكنوقراط الأمر الذي سمح بتجانس الحياة بين السكان وتوحد رؤيتهم الاجتماعية لجهة تطوير المدينة ضمن الخطط الحديثة وما يتبع ذلك من تنظيم وخدمات ، ورفاهية ومؤسسات متطورة .بيد أن هذه الوحدة (التكنوقراطية) للسكان ـ إذا جازت التسمية ـ كانت أيضا انعكاسا للتنوع الذي وسم أولئك السكان ، أي في كونهم من جميع مناطق المملكة ومدنها وأقاليمها .
ولهذا تجسدت في تلك المدينة وحدات سكنية متكاملة ، ومتماثلة مع بعض الاختلافات الناشئة من طريقة التصميم ـ بحسب الدرجات الوظيفية ـ ففضلا عن مرافق الحياة السكنية الرئيسية كالمدارس والكليات والمستشفيات ومؤسسات الدولة ، المزودة بكافة التجهيزات والخدمات الحديثة ؛ كانت هذه المدينة الصناعية توازي منشآتها ومصانعها من حيث البناء المعد مسبقا بكل تصاميمه ؛ حيث تنتشر فيها الحدائق العامة والملاعب ومراكز الترفيه الاجتماعي وأحواض السباحة التي أقامتها الهيئة الملكية . بالإضافة إلى مراكز تنمية المهارات والتثقيف والألعاب كالمكتبات والمتحف وقاعات المؤتمرات للمناسبات الاجتماعية والصالات والمعارض .
ومن أهم الهيئات التي تمثل العنوان الصناعي لمدينة ينبع الصناعية : الهيئة الملكية للجبيل وينبع فهي الإطار الناظم للمشروعات الصناعية والشركات الكبرى .
ولقد قامت الهيئة بمشاريع ترفيهية ورياضية كبرى أصبحت من معالم مدينة ينبع الصناعية مثل : مركز الغوص وهو من أهم وأقدم المعالم الترفيهية والرياضية الذي تم تأسيسه في العام 1401 وتطور فيما بعد . وهناك مرسى سباق القوارب البحرية الذي ينظم باستمرار مناسبات للسباق ، بالإضافة إلى شاطئ الشعب المرجانية وهو شاطئ طبيعي جميل مرتبط بمركز الغوص .
ولعل من أبرز الملامح السياحية الجديدة في مدينة ينبع البحر : حديقة سابك التي تم افتتاحها مؤخرا على يد رئيس الهيئة الملكية للجبيل وينبع، رئيس مجلس إدارة "سابك" الأمير سعود بن عبد الله بن ثنيان ، وقد تكفلت شركة سابك بإنشائها وتقديمها هدية لأبناء ينبع وزوارها. وتبلغ مساحتها الإجمالية 60 ألف متر مربع من المناطق الخضراء والأماكن المخصصة للعائلات والأطفال. بكلفة بلغت 5 ملايين ريال.
هكذا انتظمت المدن الثلاث مصائر مختلفة في البناء والعمران ارتبط فيها الاسم بالمسمى على نحو مثير .
وماتزال مدن ينبع الثلاث مدنا واعدة بالنماء والتطوير والتحديث ، وقابلة للكثير من خطط النهضة العمرانية ، والمنشآت والصناعات والأسواق البكر .
ولعل من أهم الملامح الاستراتيجية التي تعد بها هذه المدينة قابليتها لتأسيس خطط إسكانية ومشاريع ينتج عنها تواصل أفقي يكون جسرا للمسافات الخالية بين المدن الثلاث ـ وهي مساحات قابلة للسكن ضمن أي خطة إسكانية ـ بحيث تصبح المدن الثلاث مدينة واحدة متصلة الأطراف ، وزاخرة بالوحدة والتنوع حيث يتجاور التاريخ القديم والتاريخ الحديث مع المستقبل في مكان واحد هو مدينة ينبع .

النجم طليان المرادي
14-07-09, 01:21 PM
اتمنى من الاعضاء ان يقوموا بتحميل الصور عن مدينة ينبع حيث انني لم استطع تحميل الصور لكي يكتمل رونق الموضوع ويصبح مكتملا باذن الله