عاشق الادب
02-02-12, 01:05 PM
مصطفى لطفي المنفلوطي
قيل عنه أنه أبلغ كاتب في العصر الحديث من حيث رشاقة العبارة ورقة التعبير
وتصوير الحوادث تصويراً حقيقياً..
وهو صاحب القلم البديع الجذاب المتفوق في جميع الأغراض والمقاصد
حتى سمي بحق " أمير البيان " ..
لأسلوبه تأثير خاص على نفوس القارئين كأنه يكتب بكل لسان ..
ويترجم عن كل قلب ..
/
مولده ونشأته
هو مصطفى لطفي المنفلوطي المولود في بلدة منفلوط المصرية في السنة
1877م . كان والده قاضياً شرعياً لبلدته ونقيباً لاشرافها وزعيماً لأسرته
حفظ القرآن منذ حداثة سنه والتحق بالأزهر الشريف حيث أمضى عشر سنوات تلقى خلالها عن مشايخه ثقافه علمية واسعة , وبفضل حبه للأدب والأدباء
انصرف الى تحصيل ما أتيح له منه .. فلم يترك ساعة يخلو فيها بنفسه إلا أنصرف
الى القراءة فاستطاع أن ينمي ذوقه الأدبي وأن يجمع ثثقافة أتاحت له الشهرة
التي بلغها في مجال الأدب .
في السنة 1907م , ذهب المنفلوطي يكتب أسبوعياً لجريدة المؤيد رسائله
الأدبية التي وفرت له شهرة أدبية واسعة بفضل أسلوبها وبلاغة إنشائها .
صفاته وأخلاقه
عن أخلاق المنفلوطي يقول الأديب الناقد حسن الزيات
في كتابه تاريخ الأدب العربي : " إنه كان مؤتلف الخلق .. متلائم الذوق
متناسق الفكر متسق الأسلوب .. منسجم الزي وكان صحيح الفهم في بطء
سليم الفكر في جهد دقيق الحسن في سكون ..هيوب اللسان في تحفظ
وهو الى ذلك رقيق القلب عّف الضمير سليم الصدر صحيح العقيدة
موزع الفضل والعقل والهوى بين أسرته ووطنيته وانسانيته .
سياسته
قال عنه محمد عبدالفتاح في كتابه أشهر مشاهير أدباء الشرق :
وطنّيٌ يتهالك وجداً على حب وطنه ويذري الدمع حزناً عليه وعلى ما حل به
من صنعة الحال وفقدان الأستقلال .
ليس له حزب خاص ينتمي اليه ولا جريدة خاصة يتعصب لها
وليس بينه وبين جريدة من الجرائد علاقة خاصة حتى الجرائد التي كان يكتب
فيها رسائله فلم يكن بينه وبينها أكثر مما يكون بين أي كاتب يكتب رسائله
له مطلق الحرية في أي صحيفة يتوسل بانتشلرها الى نشر آرائه وأفكاره
فان لاقاها في شيء من مبادئها ومذاهبها لاقاها مصادفة واتفاقاً
وإن فارقها في ذلك فارقها طوعاً واختياراً .
مؤلفاته :
للمنفلوطي الكتب التالية:
1- النظرات (وهذا الكتاب رائع جداً أنصح بقرائته)
2- في سبيل التاج
3- تحت ظلال الزيزفون (ماجدولين)
4- الفضيلة ( بول وفرجيني )
5- الشاعر ( سبرانودي برجراك )
6- العبرات
7- أشعار ومنظومات رومانسية كتبها في بداية نشأته الأدبية
8- مختارات المنفلوطي .. وهي مختارات شعرية ونثرية انتقاها المنفلوطي من أدب الأدباء العرب في مختلف العصور .
مكانته الأدبية:
لاقت روايات المنفلوطي وكتبه الأدبية شهرة واسعة في جميع الأقطار العربية فطبعت مرات متعددة وتهافت الناس من كل الأعمار والأجناس على قراءتها .. لكن صاحبها لم يسلم من النقد ومن ألسنة النقاد وأقلامهم
إذ انقسم الناس حوله بين مؤيد ومعارض وهذا شأن جميع الكبار في ميادين
الأدب والفن والسياسة وغيرها .
أما الأديب اللبناني عمر فاخوري فكان أشد الناس قسوة على المنفلوطي فقد
قال : إن مذهبه الأدبي غامض وآراءه في صنعة الأدب مبهمة .
الى جانب هذا النقد الجارح اتفق مؤيدوه على ان انشاءه فريد في اسلوبه
وأن ما كتبه كان له الأثر الكبير في تهذيب الناشئة أخلاقاً ولغة وسلوكاً
فالدكتور طه حسين يقول إنه كان يترقب اليوم الذي تنشر فيه مقالات المنفلوطي الأسبوعية في جريدة المؤيد ليحجز لنفسه نسخته منها وكان يقبل
على قراءتها بكل شغف .
وقد قال عنه العقاد إنه أول من أدخل المعنى والقصد في الإنشاء العربي .
ولقد أجمع الذين عرفوا المنفلوطي وعاشروه على أنه متحل بجميع الصفات التي كان يتكلم عنها كثيراً في رسائله وأن أدبه النفسي وكرم أخلاقه وسعة صدره وجود يده وأنفته وعزة نفسه وترفعه عن الدنايا وعطفه على المنكوبين والمساكين
ورقة طبعه ودقة ملاحظاته ولطف حديثه إنما هي بعينه كتبه ورسائله
لا تزيد ولا تنقص شيئاً .
وفاتـه :
لم يعمر المنفلوطي طويلاً .. فقد وافته المنية يوم الخميس 10 ذي الحجة
سنة 1342 هـ يوم جرت فيه محاولة اغتيال الزعيم سعد زغلول حيث نجا من تلك المحاولة لكنه جرح جرحاً بليغاً فانشغل الناس بتلك الحادثة
ولم يلتفتوا كثيراً الى مأتم المنفلوطي كما ينبغي .
وحين أبلغ سعد زغلول بوفاة الأديب الكبير حزن عليه أعمق الحزن
وذرف عليه الدموع السخية
أما أحمد شوقي وحافظ ابراهيم فقد رثياه في مأتم مهيب أقيم له في وقت لاحق
ولحق بهما كثير من شعراء الأقطار العربية في العراق والشام ولبنان
فرثوه بأعذب الأشعار وأرق الكلمات
من أجمل ماكتبه المنفلوطي
أنا لا ألوم على الركاكة والتفاهة الأغبياء الذين أظلمت أذهانهم فأظلمت أقلامهم، وظلمة القلم أثر من آثار ظلمة العقل؛ ولا الجاهلين الذين لم يدرسوا قوانين اللغة، ولم يمارسوا أدبها ولم يتشبعوا بروح منظومها ومنثورها، ولا العاجزين الذين غلبتهم إحدى اللغات الأعجمية على أمرهم فأصبحوا اذا ترجموا ترجموا ترجمة حرفية ليس فيها مميز واحد من مميزات العربية، ولا خاصة من خواصها؛ وإذا كتبوا كتبوا بأسلوب عربي الحروف، أعجمي كل شيء بعد ذلك، فهؤلاء جميعاً لا حول لنا فيهم ولا حيلة؛ لأنهم لا يستطيعون أن يكونوا غير ذلك؛ إنما ألوم المتأدبين القادرين الذين عرفوا اللغة،
واطلعوا على أدبها،و فهموا سر فصاحتها ، وأنقم منهم عدولهم عن المحجة في البيان إلى الجمجمة والغمغمة فيه؛ وأنعي عليهم نقص القادرين على التمام.
وللمنفلوطي تذق جميل وراق للشعر .. ولعل (اللفظ والمعنى) في الثاني من نظراته تعد علامة ودليلاً على ما ذكرت ..وله قصص جميلة جداً ومبدعة .. منها : غرفة الأحزان والحجاب والصياد ويوم العيد .. وهذه القصص الأربعة جمعها شريط واحد بعنوان الصياد من اعداد وتقديم الأستاذ فوزي اليحيى وهي من سلسلة من روائع الأدباء انتاج بينات للإنتاج الإعلامي والتوزيع ..
الإنصاف
إذا كان لك صديق تحبه وتواليه، ثم هجمت منه على ما لم يحل في نظرك، ولم يتفق مع ما علمت من حاله، وما اطرد عندك من أعماله، أو كان لك عدو تذم طباعه، وتنقم منه شؤونه، ثم برقت لك من جانب أخلاقه بارقة خير فتحدثت بما قام في نفسك من مؤاخذة صديقك على الخصلة التي ذممتها وحمد عدوك على الخلة التي حمدتها، عدك الناس متلوناً أو مخادعاً أو ذا وجهين تمدح اليوم من تذم بالأمس، وتذم في ساعة من تمدح في أخرى، وقالوا : إنك تظهر ما لا تضمر، وتخفي غير الذي تبدي.
ولو أنصفوك لأعجبوا بك وبصدقك، ولأكبروا سلامة قلبك من هوى النفس وضلالها، ولسموا ما بدا لهم منك اعتدلاً لا نفاقاً، وإنصافاً لا خداعاً، لأنك لم تغل في حب صديقك غلو من يعميه الهوى عن رؤية عيوبه، ولم تتمسك من صداقته بالسبب الضعيف، فعنيت بتعهد أخلاقه، وتفقد خلاله، لإصلاح ما فسد من الأولى وأعوج من الأخرى.
إن صديقك الذي يبسم لك في حالي رضاك وغضبك، وحلمك وجهلك، وصوابك وسقطك، ليس ممن يغبط بمودته، أو يوثق بصداقته، لأنه لا يصلح أن يكون مرآتك التي تتراءى فيها فتكشف لك عن نفسك، وتصدقك عن زينك وشينك وحلوك ومرك، وهو إما جاهل متهور في ميوله وأهوائه، فلا يرى غير ما تريد أن ترى نفسه، لا ما لا يجب أن تراه؛ وإما منافق مخادع قد علم أن هواك في الصمت عن عيوبك وتجرير الذيول، فجاراك فيما تريد، ليبلغ منك ما تريد.
فها أنت ذا ترى أن الناس يعكسون القضايا، ويقلبون الحقائق، فيسمون الصادق كاذباً، والكاذب صادقاً؛ ولكن الناس لا يعلمون ...
الصدق والكذب
قال المنفلوطي :جاءني هذا الكتاب من أحد الفضلاء ...
يا صاحب النظرات :
سمعت بالصدق وما وعد الله به الصادقين من حسن المثوبة وجزيل الأجر .. وسمعت بالكذب ... وما أعد الله للكاذبين من سوء العذاب وأثيم العقاب .. وقرأت ما كتبه حكماء الأمم من عهد آدم إلى اليوم .. وإجماعهم أن الصدق فضيلة الفضائل والأصل الذي تتفرع عنه جميع الأخلاق الشريفة .. والصفات الكريمة .. وأنه ما تمسك به متمسك إلا كان النجاح في أعماله ألصق به من ظله .. وأعلق به من نفسه. سمعت هذا وقرأت ذاك فلم يبق في نفسي ريب في أن ما أنا مرزوء به في حظي من الشقاء، وعيشي من الضنك، وحياتي من الهموم والأكدار، إنما جره علي شؤم الكذب، وان ما كنت أتخيله قبل اليوم من أن هناك مواقف يكون فيها الكذب أنفع من الصدق وأسلم عاقبة، إنما هو ضرب من ضروب الوهم الباطل .. ونزعة من نزعات الشيطان، فعاهدت الله ونفسي ألا أكذب ما حييت، وأعددت لذلك القسم العظيم عدته من شجاعة نفس وقوة عزيمة بعد ما وجهت وجهي إلى الله تعالى وسألته أن يمدني يمعونته ونصره .
ها أنا ذاكر لك مواقف الصدق التي وقفتها بعد ذلك العهد، وما رأيته من آثارها ونتائجها.
الموقف الأول :
جلست في حانوتي فما وقف بي مساوم إلا صدقته القول في الثمن الذي اشتريت به السلعة والربح الذي أريده لنفسي منها والذي لا أستطيع أن أعد نفسي رابحاً إذا تجاوزت عن بعضه ... فيأبى إلا الحطيطة فآباها عليه، فينصرف عني استثقالاً للثمن واستعظاماً لقدره، وما هو إلا الربح الذي اعتدت أن آخذه في مثل تلك الصفقة، إلا أنني كنت أكذب عليه في أصل الثمن فيصغر في نظره الربح، فلما صدقته عنه أعظمه وانصرف عني إلى سواي، ولم أزل على هذه الحال حتى أظلني الليل، ولم يفتح الله على بقوت يومي، وما هي إلا أيام قلائل حتى عرفت في السوق بالطمع والمغالاة فأصبحت لا يطرق باب حانوتي طارق ...
الموقف الثاني :
جلست في مجلس يتصدره شيخ من تجار العقول الضيقة المعروفين بمشايخ الطرق ... وقد حف به جماعة من عبدته وسدنة هيكله فسمعته يشرح لهم معنى التوكل شرحاً غريباً يذهب فيه إلى أنه القعود عن العمل، وإلقاء حبل هذا الوجود على غاربه، وإعارض عن كل سعي يؤدي إلى أية غاية، ويعتمد في هذيانه هذا على آيات يؤولها كما يشاء، وأحاديث لا يستند في صحتها على مستند سوى أنه سمعها من شيخه، أو قرأها في كتابه، وأكثر ما كان يدور على لسانه حديث "لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما ترزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً" فقلت له – وقد أخذ الغيظ من نفسي مأخذه : يا شيخ : أردت أن تحتج لنفسك فاحتججت عليها، أتعمد إلى حديث يستدل به رواته على وجوب السعي والعمل فتستدل به على البطالة والكسل، ألم تر أن الله سبحانه وتعالى ما ضمن للطير الرواح بطاناً إلا بعد أن أمرها بالغدو، وهي التي ترويها القطرة، وتشبعها الحبة، فكيف لا يأمر الإنسان بالسعي، وهو من لا تفنى مطالبه، ولا تنتهي رغباته.
أيها القوم. إنكم تقولون بألسنتكم ما ليس في قلوبكم. إنكم عجزنم عن العمل، وأخلدتم إلى الكسل، وأردتم أن تقيموا لأنفسكم عذراً يدفع عنكم هاتين الوصمتين فسميتم ما أنتم فيه توكلاً، وما هو إلا العجز الفاضح، والإسفاف الدنيء.
وهنا زفر الشيخ زفرة الغيظ، ونادى في قومه : أن أخرجوا هذا الزنديق الملحد من مجلسي، فتألبوا علي تألبهم على قصاع الثريد، وأوسعني لطماً وصفعاً، ثم رموا بي خارج الباب، فما بلغت منزلي حتى هلكت أو كدت، فما مررت بعد ذلك بطائفة من العامة إلا رموني بالنظر الشزر، وعاذوا بالله من رؤيتي كما يعوذون به من الشيطان الرجيم ...
الموقف الثالث :
لا أكتمك يا سيدي .. أني كنت أبغض زوجتي بغضاً يتصدع له القلب، غير أني كنت أصانعها وأتودد إليها وأمنحها من لساني ما ليس له أثر في قلبي، مداورة لها وابقاء على ما تحت يدي من صبابة مال كانت لها، فرأيت أن ذلك أكذب الكذب وأقبحه، فآليت على نفسي ألا أسدل بعد اليوم من دونها حجاباً يحول بينها وبين سريرتي، فانقطع عن مسمعها ذلك السلسبيل العذب من كلمات الحب، فاستوحشت مني وأظلم ما بيني وبينها، فما هي إلا عشية أو ضحاها، حتى وهنت تلك العقدة وانحل ذلك الوثاق، وختمت سورة الفراق بآية الطلاق.
الموقف الرابع :
حضرت مجتمعاً يضم بين حاشيته جماعة من الفضوليين الذين تضيق بهم مذاهب القول فليجأون إلى الحديث عن الناس وتتبع عثراتهم، ويحاولون أن ينبشوا دفائن صدورهم، ويتغلغوا في أطواء سرائرهم؛ ويغالون في ذلك مغالاة الكيمائي في تحليله وتركيبه، فرأيتهم يتناولون رجلاً عظيماً من أصحاب الآراء السياسية لا أعتقد أن بين السالكين مسلكه والآخذين أخذه من أخلص لأمته إخلاصه، أو وقف الموقف المشهورة وقوفه؛ أو لاقى في ذلك السبيل من صدمات الدهر وصربات الأيام ما لاقاه، وسمعتهم يسمونه خائناً، فوالله لأن تقع السماء على الأرض أحب إلي من أن يتهم البريء أو يجازى المحسن سوءاً على إحسانه؛ سمعت ما لم أملك نفسي معه، فقلت يا قوم : أتطالعون من كتاب الحرية مائة صفحة ونيفاً ثم لا تزالون عبيد الأوهام، أسرى الخيالات، سراعاً إلى كل داع، سعاة مع كل ساع، تنظرون بغير روية، وتحكمون بغير علم، إنكم بعملكم هذا لتزهدون المحسن في إحسانه؛ وتلقون الرعب في قلب كل عامل يعمل لأجلكم؛ وتثبطون همة كل من يحدث نفسه بخدمتكم وخدمة قضيتكم، أليس مما يلقي في النفس اليأس من نجاحكم وصلاح حالكم، أن نراكم طعمة كل آكل، ولعبة كل لاعب ? ويستهويكم الكاذب بالكلمات التي تستهوي بها المرضعات أطفالهن ثم يدعوكم إلى مناوأة الصدق فتمنحون الأول ودكم وإخلاصكم ? وبالثاني بغضكم وموجدتكم ...
خاطبتهم بهذه الكلمات أريد بها خيراً لهم، فأرادوا شراً بي ! فما خلصت من بينهم إلا وأنا ألمس رأسي بيدي لأعلم أين مكانها من عنقي !
الموقف الخامس :
قابلني في الطريق شاعر يحمل في يده طوماراً كبيراً، وكنت ذاهباً إلى موعد لا بد لي من الوفاء به، فرض علي أن يسمعني قصيدة من طريف شعره، وأنا أعلم الناس بطريفه وتليده، فاستعفيته بعد أن كاشفته بعذري فأبى، فانتحيت به ناحية من الطريق فأنشأ يترنم بالقصيدة بيتاً بيتاً، وأنا أشعر كأنما يجر عني السم قطرة قطرة، حتى تمنيت أنه لو ضربني بها جملة واحدة يكون فيها انقضاء أجلي ليريحني من هذا العذاب المتقطع والتمثيل الفظيع، وكلما أتي على بيت منها أقبل علي بوجهه، وأطال النظر في وجهي وحدق في عيني، ليعلم كيف كان وقع شعره على نفسي، فإذا رأى تقطيب وجهي ظنه تقطيب الشارب لارتشاف الكأس فيستمر في شأنه حتى أنشد نحو خمسين بيتاً، ثم وقف وقال : هذا هو القسم الأول من أقسام القصيدة، فقلت : وكم عدد أقسامها يرحمك الله ? قال : عشرة ليس فيها أصغر من أولها، قلت : أتأذن لي أن أقول لك يا سيدي أن شعرك قبيح، وأقبح منه طوله، وأقبح من هذا وذاك صوتك الخشن الأجش، وأقبح الثلاثة اعتقادك أني من سخافة الرأي وفساد الذوق بحيث يعجبني مثل هذا الشعر البارد عجباً يسهل علي فوات الغرض الذي ما خرجت من منزلي إلا لأجله .. فتلقاني بضربة بجمع يده في صدري، فرفعت عصاي وضربته بها على رأسه ضربة ما أردت بها –يعلم الله- إلا أن أصيب مركز الشعر من مخه فأفسده عليه فسقط مغشياً عليه . وسقطت القصيدة من يده فأسرعت إليها ومزقتها، وأرحت نفسي منها،
وأرحت الناس من مثل مصيبتي فيها، وكان الشرطي قد وصل إلينا فاحتملنا جميعاً إلى المخفر ثم إلى السجن حبث أكتب إليك كتابي هذا ...
فيا صاحب النظرات أفتني في أمري، وأنر ظلمة نفسي، فقد أشكل علي الأمر، وأصبت أسوأ الناس بالصدق ظناً، بعد ما رأيت أني ما وقفت موقفه في حياتي إلا خمس مرات، فكانت نتيجة ذلك إفلاسي وخراب بيتي، واتهمني بالخيانة مرة والزندقة أخرى، ذلك إلى ما أقاسيه اليوم في هذا السجن من أنواع الآلام، وصنوف الأقسام ...
أيها القمر المنير
إن بيني وبينك شبهاً واتصالاً ، أنت وحيد في سمائك ،
وأنا وحيد في أرضي ..!
كلانا يقطع شوطه صامتاً هادئاً منكسراً حزيناً ..
لايلوي على أحد ، ولايلوي عليه أحد وكلانا يبرز لصاحبه
في ظلمة الليل فيسايره ويناجيه ..!.
يراني الرائي فيحسبني سعيداً لأنه يغتر بابتسامة في ثغري وطلاقة في وجهي
وولو كُشف له عن نفسي ورأى ماتنطوي عليه من الهموم
والأحزان ،
لبكى لي بكاء الحزين إثر الحزين ..!!
الشعرة البيضاء
مررت صباح اليوم أمام المرآة ، فلمحت في رأسي شعرة بيضاء , تلمع في
تلك اللمة السوداء لمعان شرارة البرق في الليلة الظلماء .
رأيت الشعرة البيضاء في مفرقي فأرتعت لمرآها كأنما خيّل إلي أنها سيف
جرده القضاء على رأسي ، أو علم أبيض يحمله رسول جاء من عالم الغيب ي
ينذرني باقتراب الأجل ، أو ياس قاتل عرض دون الأمل ، أو جذوة نار علقت
بأهداب حياتي علوقها بالحطب الجزل ، ولا بد لها مهما ترفقت في مشيتها
واتأدت في مسيرها من أن تبلغ مداها ، أو خيط من خيوط الكفن الذي تنسجه
يد الدهر وتعده لباسا لجثتي عندما تجردها من لباسها يد الغاسل .
أيتها الشعرة البيضاء ! ما رأيت بياضا أشبه بالسواد من بياضك ، ولا نورا
أقرب إلى الظلمة من نورك ، لقد أبغضت من أجلك كل بياض حتى بياض
القمر ، وكل نور حتى نور البصر ، وأحببت فيك كل سواد حتى سواد الغربان
وكل ظلام حتى ظلام الوجدان .
أيتها الشعرة البيضاء ! ليت شعري ! من أي نافذة خلصت إلى رأسي ؟ وفي
أي مسلك من مسالك الدهر مشيت إلى فوْدي ؟
كيف طاب لك المقام في هذه الأرض الموحشة التي لا تجدين فيها أنيسا
يسامرك ، ولا جليسا يساهرك ، وكيف لم يرع قلبك لمنظر هذا الليل الفاحم
ولم يعش بصرك في هذا الظلام القاتم .
أيتها الشعرة البيضاء ! لقد عييت بأمرك ، وبعلت بحملك ، وأصبحت لا أعرف
وجه الحيلة في البعد عنك ، والفرار من وجهك , لا ينفعني معك أن أنزعك
من مكانك ، لأنك لا تلبثين أن تعودي ( كما قال الشاعر المبدع البارع . أ
أسبوع وتعود لك دغري ) ولا ينقذني منك أن أخضبك بالسواد ، لأنك لا
تلبثين أن تنصلي ولأني لا أحب أن أجمع على نفسي مصيبتين : مصيبة
الشيب والكذب .
أيتها الشعرة البيضاء ! يخيل إلي وأنا أنظر إليك أنك من ذات الحيلة والدهاء
والكيد والخبث وأنك تهمسين في آذان أخواتك السود اللواتي بجانبك تحاولين
إغراءهن بالتشبه بك ، والتردي بردائك ، وكأني بك ... وقد أشعلت في هذه
البيئة الهادئة المطمئنة حربا شعواء ، وفتنة عمياء ، يختلط فيها الرّامح
بالنابل والدّارع بالحاسر ، ويهلك فيها القاعد والقائم والمظلوم والظالم .
وهذا أتفق مع التعليق الجميل للمشرف العام أبو ياسر .
إن كان هذا مصيرك فسيكون شأنك شأن ذلك السائح الأبيض ، الذي ينزل بأمة
الزنج مستكشفا ، فيصبح مستعمرا ، ويدخل أرضها سلما ويفارقها حربا ،
فأسأل الله لرأسي العافية منك ، ولأمة الزنج السلامة من صاحبك ، فكلاهما
مشؤوم الطلعة في مقامه وارتحاله ، وكوكب النحس في وقوفه وتسياره .
أيتها الشعرة البيضاء ! ما أنت وما شأنك ؟ وما وفودك إلي ؟ وما مكانك مني
؟ وما مقامك عندي ؟ إن كنت ضيفا ، فإين استئذان الضيف وتلطفه ، وتجمله
وتودده ، وإن كنت نذيرا ، فأنا أعلم من الموت وشأنه ما لا أحتاج معه إلى
نذير ، فلم يبق إلا أن تكوني أوقح الخلائق وجها ، وأصلبها خدا ، وأنك قد
نزلت من السماجة والفضول منزلة لا أرى لك فيها شبيها إلا تلك الحية التي
تلج كل جحر من أجحار الهوام والحشرات تعده جحرها ، وتحسبه بيتها .
أيبلغ بك الشأن وأنت التي يضربون الأمثال بدقتها وخفائها ، ويبعثون
الملاقط والمقاريض وراءها ، فلا يكادون يعرفون السبيل إلى مدارجها
ومكانها لأن تملئي من الرعب قلبا لا يروعه السيف المجرد ، ولا السهم
المسدد ؟
أيتها الشعرة البيضاء ! هل لك أن تتجاوزي عما أسأت به إليك في إطالة
عتبك ، واستثقال ظلك ؟ فلقد رجعت إلى نفسي فعلمت أنك أكرم الخلائق عندي
وأعظمها شأنا في عيني .
هنيئا لك رأسي مصيفا ومرتعا ، وهنيئا لك فوْدي مرادا ومسرحا ، فأنت
رسول الموت الذي لا زلت أطلبه منذ عرفته فلا أجد له سبيلا ، ولا أعرف له
رسولا .
ما الذي يحمله لك في صدره من الحقد والموجدة رجل لم ينعم بشبابه ، ف
فيحزن على ذهابه ، ولم يذق حلاوة الحياة ، فيجزع لمرارة الممات ، ولم
يستنشق نسمات السعادة غصنا رطبا ، فيأسى عليها عودا يابسا .
ما الذي ينقمه من شؤونك رجل يعلم أنك من وحي الأمل الذي يبشره بقرب
النجاة من حياة ليس فيها السعادة والهناءة .. إلا لحظات قليلة يكدرها ما
يحيط بها من الهموم والأحزان .. كما تكدر أنفاس الحزن الحارة صفحة
المرآة .
أليس كل ما أعده عليك من الذنوب أنك طليعة الموت ، والموت هو الذي
يخلصني من منظر هذا العالم المملوء بالشرور والآثام ، الحافل بالآلآم
والأسقام الذي لا أغمض عيني فيه إلا لأفتحها على صديق يغدر بصديقه ،
وأخ يخون أخاه ، وعشير يحدد أنيابه لمضغ عشيره ، وغني يضن على
الفقير بفتات مائدته ، وفقير يقترح على الدهر حتى بلغة الموت فلا يظفر
بأمنيته ، وملك لا يفرق بين رعيته وماشيته ، ومملوك لا يميز بين ملك الملك
وربوبيته ، وقلوب تضطرم حقدا على غير طائل ، ونفوس تتفانى قتلا على
لون حائل ، وظل زائل ، وغرض باطل ، وعقول تتهالك وجدا على نار
تحرقها وأنياب تمزقها ، وعيون حائرة في رؤوس طائرة ، تنظر ولا ترى
شيئا مما حولها ، وتلمع ولا تكاد تبصر ما أمامها ، إن كان هذا هو ظاهر
ذنبك عندي فاستكثري من ذنوبك ، فإني لك من الغافرين .
أيتها الشعرة البيضاء ! مرحبا بك اليوم ، ومرحبا بأخواتك غدا .. ومرحبا
بهذا القضاء المختبئ وراءك أو الكامن في أطوائك ، ومرحبا بتلك الغرفة
التي أخلو فيها بربي ، وآنس بنفسي ، من حيث لا أسمع حتى دوي المدافع ،
ولا ارى حتى غبار الوقائع.
قيل عنه أنه أبلغ كاتب في العصر الحديث من حيث رشاقة العبارة ورقة التعبير
وتصوير الحوادث تصويراً حقيقياً..
وهو صاحب القلم البديع الجذاب المتفوق في جميع الأغراض والمقاصد
حتى سمي بحق " أمير البيان " ..
لأسلوبه تأثير خاص على نفوس القارئين كأنه يكتب بكل لسان ..
ويترجم عن كل قلب ..
/
مولده ونشأته
هو مصطفى لطفي المنفلوطي المولود في بلدة منفلوط المصرية في السنة
1877م . كان والده قاضياً شرعياً لبلدته ونقيباً لاشرافها وزعيماً لأسرته
حفظ القرآن منذ حداثة سنه والتحق بالأزهر الشريف حيث أمضى عشر سنوات تلقى خلالها عن مشايخه ثقافه علمية واسعة , وبفضل حبه للأدب والأدباء
انصرف الى تحصيل ما أتيح له منه .. فلم يترك ساعة يخلو فيها بنفسه إلا أنصرف
الى القراءة فاستطاع أن ينمي ذوقه الأدبي وأن يجمع ثثقافة أتاحت له الشهرة
التي بلغها في مجال الأدب .
في السنة 1907م , ذهب المنفلوطي يكتب أسبوعياً لجريدة المؤيد رسائله
الأدبية التي وفرت له شهرة أدبية واسعة بفضل أسلوبها وبلاغة إنشائها .
صفاته وأخلاقه
عن أخلاق المنفلوطي يقول الأديب الناقد حسن الزيات
في كتابه تاريخ الأدب العربي : " إنه كان مؤتلف الخلق .. متلائم الذوق
متناسق الفكر متسق الأسلوب .. منسجم الزي وكان صحيح الفهم في بطء
سليم الفكر في جهد دقيق الحسن في سكون ..هيوب اللسان في تحفظ
وهو الى ذلك رقيق القلب عّف الضمير سليم الصدر صحيح العقيدة
موزع الفضل والعقل والهوى بين أسرته ووطنيته وانسانيته .
سياسته
قال عنه محمد عبدالفتاح في كتابه أشهر مشاهير أدباء الشرق :
وطنّيٌ يتهالك وجداً على حب وطنه ويذري الدمع حزناً عليه وعلى ما حل به
من صنعة الحال وفقدان الأستقلال .
ليس له حزب خاص ينتمي اليه ولا جريدة خاصة يتعصب لها
وليس بينه وبين جريدة من الجرائد علاقة خاصة حتى الجرائد التي كان يكتب
فيها رسائله فلم يكن بينه وبينها أكثر مما يكون بين أي كاتب يكتب رسائله
له مطلق الحرية في أي صحيفة يتوسل بانتشلرها الى نشر آرائه وأفكاره
فان لاقاها في شيء من مبادئها ومذاهبها لاقاها مصادفة واتفاقاً
وإن فارقها في ذلك فارقها طوعاً واختياراً .
مؤلفاته :
للمنفلوطي الكتب التالية:
1- النظرات (وهذا الكتاب رائع جداً أنصح بقرائته)
2- في سبيل التاج
3- تحت ظلال الزيزفون (ماجدولين)
4- الفضيلة ( بول وفرجيني )
5- الشاعر ( سبرانودي برجراك )
6- العبرات
7- أشعار ومنظومات رومانسية كتبها في بداية نشأته الأدبية
8- مختارات المنفلوطي .. وهي مختارات شعرية ونثرية انتقاها المنفلوطي من أدب الأدباء العرب في مختلف العصور .
مكانته الأدبية:
لاقت روايات المنفلوطي وكتبه الأدبية شهرة واسعة في جميع الأقطار العربية فطبعت مرات متعددة وتهافت الناس من كل الأعمار والأجناس على قراءتها .. لكن صاحبها لم يسلم من النقد ومن ألسنة النقاد وأقلامهم
إذ انقسم الناس حوله بين مؤيد ومعارض وهذا شأن جميع الكبار في ميادين
الأدب والفن والسياسة وغيرها .
أما الأديب اللبناني عمر فاخوري فكان أشد الناس قسوة على المنفلوطي فقد
قال : إن مذهبه الأدبي غامض وآراءه في صنعة الأدب مبهمة .
الى جانب هذا النقد الجارح اتفق مؤيدوه على ان انشاءه فريد في اسلوبه
وأن ما كتبه كان له الأثر الكبير في تهذيب الناشئة أخلاقاً ولغة وسلوكاً
فالدكتور طه حسين يقول إنه كان يترقب اليوم الذي تنشر فيه مقالات المنفلوطي الأسبوعية في جريدة المؤيد ليحجز لنفسه نسخته منها وكان يقبل
على قراءتها بكل شغف .
وقد قال عنه العقاد إنه أول من أدخل المعنى والقصد في الإنشاء العربي .
ولقد أجمع الذين عرفوا المنفلوطي وعاشروه على أنه متحل بجميع الصفات التي كان يتكلم عنها كثيراً في رسائله وأن أدبه النفسي وكرم أخلاقه وسعة صدره وجود يده وأنفته وعزة نفسه وترفعه عن الدنايا وعطفه على المنكوبين والمساكين
ورقة طبعه ودقة ملاحظاته ولطف حديثه إنما هي بعينه كتبه ورسائله
لا تزيد ولا تنقص شيئاً .
وفاتـه :
لم يعمر المنفلوطي طويلاً .. فقد وافته المنية يوم الخميس 10 ذي الحجة
سنة 1342 هـ يوم جرت فيه محاولة اغتيال الزعيم سعد زغلول حيث نجا من تلك المحاولة لكنه جرح جرحاً بليغاً فانشغل الناس بتلك الحادثة
ولم يلتفتوا كثيراً الى مأتم المنفلوطي كما ينبغي .
وحين أبلغ سعد زغلول بوفاة الأديب الكبير حزن عليه أعمق الحزن
وذرف عليه الدموع السخية
أما أحمد شوقي وحافظ ابراهيم فقد رثياه في مأتم مهيب أقيم له في وقت لاحق
ولحق بهما كثير من شعراء الأقطار العربية في العراق والشام ولبنان
فرثوه بأعذب الأشعار وأرق الكلمات
من أجمل ماكتبه المنفلوطي
أنا لا ألوم على الركاكة والتفاهة الأغبياء الذين أظلمت أذهانهم فأظلمت أقلامهم، وظلمة القلم أثر من آثار ظلمة العقل؛ ولا الجاهلين الذين لم يدرسوا قوانين اللغة، ولم يمارسوا أدبها ولم يتشبعوا بروح منظومها ومنثورها، ولا العاجزين الذين غلبتهم إحدى اللغات الأعجمية على أمرهم فأصبحوا اذا ترجموا ترجموا ترجمة حرفية ليس فيها مميز واحد من مميزات العربية، ولا خاصة من خواصها؛ وإذا كتبوا كتبوا بأسلوب عربي الحروف، أعجمي كل شيء بعد ذلك، فهؤلاء جميعاً لا حول لنا فيهم ولا حيلة؛ لأنهم لا يستطيعون أن يكونوا غير ذلك؛ إنما ألوم المتأدبين القادرين الذين عرفوا اللغة،
واطلعوا على أدبها،و فهموا سر فصاحتها ، وأنقم منهم عدولهم عن المحجة في البيان إلى الجمجمة والغمغمة فيه؛ وأنعي عليهم نقص القادرين على التمام.
وللمنفلوطي تذق جميل وراق للشعر .. ولعل (اللفظ والمعنى) في الثاني من نظراته تعد علامة ودليلاً على ما ذكرت ..وله قصص جميلة جداً ومبدعة .. منها : غرفة الأحزان والحجاب والصياد ويوم العيد .. وهذه القصص الأربعة جمعها شريط واحد بعنوان الصياد من اعداد وتقديم الأستاذ فوزي اليحيى وهي من سلسلة من روائع الأدباء انتاج بينات للإنتاج الإعلامي والتوزيع ..
الإنصاف
إذا كان لك صديق تحبه وتواليه، ثم هجمت منه على ما لم يحل في نظرك، ولم يتفق مع ما علمت من حاله، وما اطرد عندك من أعماله، أو كان لك عدو تذم طباعه، وتنقم منه شؤونه، ثم برقت لك من جانب أخلاقه بارقة خير فتحدثت بما قام في نفسك من مؤاخذة صديقك على الخصلة التي ذممتها وحمد عدوك على الخلة التي حمدتها، عدك الناس متلوناً أو مخادعاً أو ذا وجهين تمدح اليوم من تذم بالأمس، وتذم في ساعة من تمدح في أخرى، وقالوا : إنك تظهر ما لا تضمر، وتخفي غير الذي تبدي.
ولو أنصفوك لأعجبوا بك وبصدقك، ولأكبروا سلامة قلبك من هوى النفس وضلالها، ولسموا ما بدا لهم منك اعتدلاً لا نفاقاً، وإنصافاً لا خداعاً، لأنك لم تغل في حب صديقك غلو من يعميه الهوى عن رؤية عيوبه، ولم تتمسك من صداقته بالسبب الضعيف، فعنيت بتعهد أخلاقه، وتفقد خلاله، لإصلاح ما فسد من الأولى وأعوج من الأخرى.
إن صديقك الذي يبسم لك في حالي رضاك وغضبك، وحلمك وجهلك، وصوابك وسقطك، ليس ممن يغبط بمودته، أو يوثق بصداقته، لأنه لا يصلح أن يكون مرآتك التي تتراءى فيها فتكشف لك عن نفسك، وتصدقك عن زينك وشينك وحلوك ومرك، وهو إما جاهل متهور في ميوله وأهوائه، فلا يرى غير ما تريد أن ترى نفسه، لا ما لا يجب أن تراه؛ وإما منافق مخادع قد علم أن هواك في الصمت عن عيوبك وتجرير الذيول، فجاراك فيما تريد، ليبلغ منك ما تريد.
فها أنت ذا ترى أن الناس يعكسون القضايا، ويقلبون الحقائق، فيسمون الصادق كاذباً، والكاذب صادقاً؛ ولكن الناس لا يعلمون ...
الصدق والكذب
قال المنفلوطي :جاءني هذا الكتاب من أحد الفضلاء ...
يا صاحب النظرات :
سمعت بالصدق وما وعد الله به الصادقين من حسن المثوبة وجزيل الأجر .. وسمعت بالكذب ... وما أعد الله للكاذبين من سوء العذاب وأثيم العقاب .. وقرأت ما كتبه حكماء الأمم من عهد آدم إلى اليوم .. وإجماعهم أن الصدق فضيلة الفضائل والأصل الذي تتفرع عنه جميع الأخلاق الشريفة .. والصفات الكريمة .. وأنه ما تمسك به متمسك إلا كان النجاح في أعماله ألصق به من ظله .. وأعلق به من نفسه. سمعت هذا وقرأت ذاك فلم يبق في نفسي ريب في أن ما أنا مرزوء به في حظي من الشقاء، وعيشي من الضنك، وحياتي من الهموم والأكدار، إنما جره علي شؤم الكذب، وان ما كنت أتخيله قبل اليوم من أن هناك مواقف يكون فيها الكذب أنفع من الصدق وأسلم عاقبة، إنما هو ضرب من ضروب الوهم الباطل .. ونزعة من نزعات الشيطان، فعاهدت الله ونفسي ألا أكذب ما حييت، وأعددت لذلك القسم العظيم عدته من شجاعة نفس وقوة عزيمة بعد ما وجهت وجهي إلى الله تعالى وسألته أن يمدني يمعونته ونصره .
ها أنا ذاكر لك مواقف الصدق التي وقفتها بعد ذلك العهد، وما رأيته من آثارها ونتائجها.
الموقف الأول :
جلست في حانوتي فما وقف بي مساوم إلا صدقته القول في الثمن الذي اشتريت به السلعة والربح الذي أريده لنفسي منها والذي لا أستطيع أن أعد نفسي رابحاً إذا تجاوزت عن بعضه ... فيأبى إلا الحطيطة فآباها عليه، فينصرف عني استثقالاً للثمن واستعظاماً لقدره، وما هو إلا الربح الذي اعتدت أن آخذه في مثل تلك الصفقة، إلا أنني كنت أكذب عليه في أصل الثمن فيصغر في نظره الربح، فلما صدقته عنه أعظمه وانصرف عني إلى سواي، ولم أزل على هذه الحال حتى أظلني الليل، ولم يفتح الله على بقوت يومي، وما هي إلا أيام قلائل حتى عرفت في السوق بالطمع والمغالاة فأصبحت لا يطرق باب حانوتي طارق ...
الموقف الثاني :
جلست في مجلس يتصدره شيخ من تجار العقول الضيقة المعروفين بمشايخ الطرق ... وقد حف به جماعة من عبدته وسدنة هيكله فسمعته يشرح لهم معنى التوكل شرحاً غريباً يذهب فيه إلى أنه القعود عن العمل، وإلقاء حبل هذا الوجود على غاربه، وإعارض عن كل سعي يؤدي إلى أية غاية، ويعتمد في هذيانه هذا على آيات يؤولها كما يشاء، وأحاديث لا يستند في صحتها على مستند سوى أنه سمعها من شيخه، أو قرأها في كتابه، وأكثر ما كان يدور على لسانه حديث "لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما ترزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً" فقلت له – وقد أخذ الغيظ من نفسي مأخذه : يا شيخ : أردت أن تحتج لنفسك فاحتججت عليها، أتعمد إلى حديث يستدل به رواته على وجوب السعي والعمل فتستدل به على البطالة والكسل، ألم تر أن الله سبحانه وتعالى ما ضمن للطير الرواح بطاناً إلا بعد أن أمرها بالغدو، وهي التي ترويها القطرة، وتشبعها الحبة، فكيف لا يأمر الإنسان بالسعي، وهو من لا تفنى مطالبه، ولا تنتهي رغباته.
أيها القوم. إنكم تقولون بألسنتكم ما ليس في قلوبكم. إنكم عجزنم عن العمل، وأخلدتم إلى الكسل، وأردتم أن تقيموا لأنفسكم عذراً يدفع عنكم هاتين الوصمتين فسميتم ما أنتم فيه توكلاً، وما هو إلا العجز الفاضح، والإسفاف الدنيء.
وهنا زفر الشيخ زفرة الغيظ، ونادى في قومه : أن أخرجوا هذا الزنديق الملحد من مجلسي، فتألبوا علي تألبهم على قصاع الثريد، وأوسعني لطماً وصفعاً، ثم رموا بي خارج الباب، فما بلغت منزلي حتى هلكت أو كدت، فما مررت بعد ذلك بطائفة من العامة إلا رموني بالنظر الشزر، وعاذوا بالله من رؤيتي كما يعوذون به من الشيطان الرجيم ...
الموقف الثالث :
لا أكتمك يا سيدي .. أني كنت أبغض زوجتي بغضاً يتصدع له القلب، غير أني كنت أصانعها وأتودد إليها وأمنحها من لساني ما ليس له أثر في قلبي، مداورة لها وابقاء على ما تحت يدي من صبابة مال كانت لها، فرأيت أن ذلك أكذب الكذب وأقبحه، فآليت على نفسي ألا أسدل بعد اليوم من دونها حجاباً يحول بينها وبين سريرتي، فانقطع عن مسمعها ذلك السلسبيل العذب من كلمات الحب، فاستوحشت مني وأظلم ما بيني وبينها، فما هي إلا عشية أو ضحاها، حتى وهنت تلك العقدة وانحل ذلك الوثاق، وختمت سورة الفراق بآية الطلاق.
الموقف الرابع :
حضرت مجتمعاً يضم بين حاشيته جماعة من الفضوليين الذين تضيق بهم مذاهب القول فليجأون إلى الحديث عن الناس وتتبع عثراتهم، ويحاولون أن ينبشوا دفائن صدورهم، ويتغلغوا في أطواء سرائرهم؛ ويغالون في ذلك مغالاة الكيمائي في تحليله وتركيبه، فرأيتهم يتناولون رجلاً عظيماً من أصحاب الآراء السياسية لا أعتقد أن بين السالكين مسلكه والآخذين أخذه من أخلص لأمته إخلاصه، أو وقف الموقف المشهورة وقوفه؛ أو لاقى في ذلك السبيل من صدمات الدهر وصربات الأيام ما لاقاه، وسمعتهم يسمونه خائناً، فوالله لأن تقع السماء على الأرض أحب إلي من أن يتهم البريء أو يجازى المحسن سوءاً على إحسانه؛ سمعت ما لم أملك نفسي معه، فقلت يا قوم : أتطالعون من كتاب الحرية مائة صفحة ونيفاً ثم لا تزالون عبيد الأوهام، أسرى الخيالات، سراعاً إلى كل داع، سعاة مع كل ساع، تنظرون بغير روية، وتحكمون بغير علم، إنكم بعملكم هذا لتزهدون المحسن في إحسانه؛ وتلقون الرعب في قلب كل عامل يعمل لأجلكم؛ وتثبطون همة كل من يحدث نفسه بخدمتكم وخدمة قضيتكم، أليس مما يلقي في النفس اليأس من نجاحكم وصلاح حالكم، أن نراكم طعمة كل آكل، ولعبة كل لاعب ? ويستهويكم الكاذب بالكلمات التي تستهوي بها المرضعات أطفالهن ثم يدعوكم إلى مناوأة الصدق فتمنحون الأول ودكم وإخلاصكم ? وبالثاني بغضكم وموجدتكم ...
خاطبتهم بهذه الكلمات أريد بها خيراً لهم، فأرادوا شراً بي ! فما خلصت من بينهم إلا وأنا ألمس رأسي بيدي لأعلم أين مكانها من عنقي !
الموقف الخامس :
قابلني في الطريق شاعر يحمل في يده طوماراً كبيراً، وكنت ذاهباً إلى موعد لا بد لي من الوفاء به، فرض علي أن يسمعني قصيدة من طريف شعره، وأنا أعلم الناس بطريفه وتليده، فاستعفيته بعد أن كاشفته بعذري فأبى، فانتحيت به ناحية من الطريق فأنشأ يترنم بالقصيدة بيتاً بيتاً، وأنا أشعر كأنما يجر عني السم قطرة قطرة، حتى تمنيت أنه لو ضربني بها جملة واحدة يكون فيها انقضاء أجلي ليريحني من هذا العذاب المتقطع والتمثيل الفظيع، وكلما أتي على بيت منها أقبل علي بوجهه، وأطال النظر في وجهي وحدق في عيني، ليعلم كيف كان وقع شعره على نفسي، فإذا رأى تقطيب وجهي ظنه تقطيب الشارب لارتشاف الكأس فيستمر في شأنه حتى أنشد نحو خمسين بيتاً، ثم وقف وقال : هذا هو القسم الأول من أقسام القصيدة، فقلت : وكم عدد أقسامها يرحمك الله ? قال : عشرة ليس فيها أصغر من أولها، قلت : أتأذن لي أن أقول لك يا سيدي أن شعرك قبيح، وأقبح منه طوله، وأقبح من هذا وذاك صوتك الخشن الأجش، وأقبح الثلاثة اعتقادك أني من سخافة الرأي وفساد الذوق بحيث يعجبني مثل هذا الشعر البارد عجباً يسهل علي فوات الغرض الذي ما خرجت من منزلي إلا لأجله .. فتلقاني بضربة بجمع يده في صدري، فرفعت عصاي وضربته بها على رأسه ضربة ما أردت بها –يعلم الله- إلا أن أصيب مركز الشعر من مخه فأفسده عليه فسقط مغشياً عليه . وسقطت القصيدة من يده فأسرعت إليها ومزقتها، وأرحت نفسي منها،
وأرحت الناس من مثل مصيبتي فيها، وكان الشرطي قد وصل إلينا فاحتملنا جميعاً إلى المخفر ثم إلى السجن حبث أكتب إليك كتابي هذا ...
فيا صاحب النظرات أفتني في أمري، وأنر ظلمة نفسي، فقد أشكل علي الأمر، وأصبت أسوأ الناس بالصدق ظناً، بعد ما رأيت أني ما وقفت موقفه في حياتي إلا خمس مرات، فكانت نتيجة ذلك إفلاسي وخراب بيتي، واتهمني بالخيانة مرة والزندقة أخرى، ذلك إلى ما أقاسيه اليوم في هذا السجن من أنواع الآلام، وصنوف الأقسام ...
أيها القمر المنير
إن بيني وبينك شبهاً واتصالاً ، أنت وحيد في سمائك ،
وأنا وحيد في أرضي ..!
كلانا يقطع شوطه صامتاً هادئاً منكسراً حزيناً ..
لايلوي على أحد ، ولايلوي عليه أحد وكلانا يبرز لصاحبه
في ظلمة الليل فيسايره ويناجيه ..!.
يراني الرائي فيحسبني سعيداً لأنه يغتر بابتسامة في ثغري وطلاقة في وجهي
وولو كُشف له عن نفسي ورأى ماتنطوي عليه من الهموم
والأحزان ،
لبكى لي بكاء الحزين إثر الحزين ..!!
الشعرة البيضاء
مررت صباح اليوم أمام المرآة ، فلمحت في رأسي شعرة بيضاء , تلمع في
تلك اللمة السوداء لمعان شرارة البرق في الليلة الظلماء .
رأيت الشعرة البيضاء في مفرقي فأرتعت لمرآها كأنما خيّل إلي أنها سيف
جرده القضاء على رأسي ، أو علم أبيض يحمله رسول جاء من عالم الغيب ي
ينذرني باقتراب الأجل ، أو ياس قاتل عرض دون الأمل ، أو جذوة نار علقت
بأهداب حياتي علوقها بالحطب الجزل ، ولا بد لها مهما ترفقت في مشيتها
واتأدت في مسيرها من أن تبلغ مداها ، أو خيط من خيوط الكفن الذي تنسجه
يد الدهر وتعده لباسا لجثتي عندما تجردها من لباسها يد الغاسل .
أيتها الشعرة البيضاء ! ما رأيت بياضا أشبه بالسواد من بياضك ، ولا نورا
أقرب إلى الظلمة من نورك ، لقد أبغضت من أجلك كل بياض حتى بياض
القمر ، وكل نور حتى نور البصر ، وأحببت فيك كل سواد حتى سواد الغربان
وكل ظلام حتى ظلام الوجدان .
أيتها الشعرة البيضاء ! ليت شعري ! من أي نافذة خلصت إلى رأسي ؟ وفي
أي مسلك من مسالك الدهر مشيت إلى فوْدي ؟
كيف طاب لك المقام في هذه الأرض الموحشة التي لا تجدين فيها أنيسا
يسامرك ، ولا جليسا يساهرك ، وكيف لم يرع قلبك لمنظر هذا الليل الفاحم
ولم يعش بصرك في هذا الظلام القاتم .
أيتها الشعرة البيضاء ! لقد عييت بأمرك ، وبعلت بحملك ، وأصبحت لا أعرف
وجه الحيلة في البعد عنك ، والفرار من وجهك , لا ينفعني معك أن أنزعك
من مكانك ، لأنك لا تلبثين أن تعودي ( كما قال الشاعر المبدع البارع . أ
أسبوع وتعود لك دغري ) ولا ينقذني منك أن أخضبك بالسواد ، لأنك لا
تلبثين أن تنصلي ولأني لا أحب أن أجمع على نفسي مصيبتين : مصيبة
الشيب والكذب .
أيتها الشعرة البيضاء ! يخيل إلي وأنا أنظر إليك أنك من ذات الحيلة والدهاء
والكيد والخبث وأنك تهمسين في آذان أخواتك السود اللواتي بجانبك تحاولين
إغراءهن بالتشبه بك ، والتردي بردائك ، وكأني بك ... وقد أشعلت في هذه
البيئة الهادئة المطمئنة حربا شعواء ، وفتنة عمياء ، يختلط فيها الرّامح
بالنابل والدّارع بالحاسر ، ويهلك فيها القاعد والقائم والمظلوم والظالم .
وهذا أتفق مع التعليق الجميل للمشرف العام أبو ياسر .
إن كان هذا مصيرك فسيكون شأنك شأن ذلك السائح الأبيض ، الذي ينزل بأمة
الزنج مستكشفا ، فيصبح مستعمرا ، ويدخل أرضها سلما ويفارقها حربا ،
فأسأل الله لرأسي العافية منك ، ولأمة الزنج السلامة من صاحبك ، فكلاهما
مشؤوم الطلعة في مقامه وارتحاله ، وكوكب النحس في وقوفه وتسياره .
أيتها الشعرة البيضاء ! ما أنت وما شأنك ؟ وما وفودك إلي ؟ وما مكانك مني
؟ وما مقامك عندي ؟ إن كنت ضيفا ، فإين استئذان الضيف وتلطفه ، وتجمله
وتودده ، وإن كنت نذيرا ، فأنا أعلم من الموت وشأنه ما لا أحتاج معه إلى
نذير ، فلم يبق إلا أن تكوني أوقح الخلائق وجها ، وأصلبها خدا ، وأنك قد
نزلت من السماجة والفضول منزلة لا أرى لك فيها شبيها إلا تلك الحية التي
تلج كل جحر من أجحار الهوام والحشرات تعده جحرها ، وتحسبه بيتها .
أيبلغ بك الشأن وأنت التي يضربون الأمثال بدقتها وخفائها ، ويبعثون
الملاقط والمقاريض وراءها ، فلا يكادون يعرفون السبيل إلى مدارجها
ومكانها لأن تملئي من الرعب قلبا لا يروعه السيف المجرد ، ولا السهم
المسدد ؟
أيتها الشعرة البيضاء ! هل لك أن تتجاوزي عما أسأت به إليك في إطالة
عتبك ، واستثقال ظلك ؟ فلقد رجعت إلى نفسي فعلمت أنك أكرم الخلائق عندي
وأعظمها شأنا في عيني .
هنيئا لك رأسي مصيفا ومرتعا ، وهنيئا لك فوْدي مرادا ومسرحا ، فأنت
رسول الموت الذي لا زلت أطلبه منذ عرفته فلا أجد له سبيلا ، ولا أعرف له
رسولا .
ما الذي يحمله لك في صدره من الحقد والموجدة رجل لم ينعم بشبابه ، ف
فيحزن على ذهابه ، ولم يذق حلاوة الحياة ، فيجزع لمرارة الممات ، ولم
يستنشق نسمات السعادة غصنا رطبا ، فيأسى عليها عودا يابسا .
ما الذي ينقمه من شؤونك رجل يعلم أنك من وحي الأمل الذي يبشره بقرب
النجاة من حياة ليس فيها السعادة والهناءة .. إلا لحظات قليلة يكدرها ما
يحيط بها من الهموم والأحزان .. كما تكدر أنفاس الحزن الحارة صفحة
المرآة .
أليس كل ما أعده عليك من الذنوب أنك طليعة الموت ، والموت هو الذي
يخلصني من منظر هذا العالم المملوء بالشرور والآثام ، الحافل بالآلآم
والأسقام الذي لا أغمض عيني فيه إلا لأفتحها على صديق يغدر بصديقه ،
وأخ يخون أخاه ، وعشير يحدد أنيابه لمضغ عشيره ، وغني يضن على
الفقير بفتات مائدته ، وفقير يقترح على الدهر حتى بلغة الموت فلا يظفر
بأمنيته ، وملك لا يفرق بين رعيته وماشيته ، ومملوك لا يميز بين ملك الملك
وربوبيته ، وقلوب تضطرم حقدا على غير طائل ، ونفوس تتفانى قتلا على
لون حائل ، وظل زائل ، وغرض باطل ، وعقول تتهالك وجدا على نار
تحرقها وأنياب تمزقها ، وعيون حائرة في رؤوس طائرة ، تنظر ولا ترى
شيئا مما حولها ، وتلمع ولا تكاد تبصر ما أمامها ، إن كان هذا هو ظاهر
ذنبك عندي فاستكثري من ذنوبك ، فإني لك من الغافرين .
أيتها الشعرة البيضاء ! مرحبا بك اليوم ، ومرحبا بأخواتك غدا .. ومرحبا
بهذا القضاء المختبئ وراءك أو الكامن في أطوائك ، ومرحبا بتلك الغرفة
التي أخلو فيها بربي ، وآنس بنفسي ، من حيث لا أسمع حتى دوي المدافع ،
ولا ارى حتى غبار الوقائع.