المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شاعرات البادية و الحاضرة


الفارس
17-11-06, 12:31 AM
من يحاول تتبع ما ينسب للمرأة في الجزيرة العربية من مقولات سائرة أو تعبيرات شعبية أو شعر أو حكم وخاصة في فترة ما قبل انتشار التعليم يجد صعوبة في العثور على مطلوبه. وسيكتشف أنه ليس لدينا توثيق دقيق للشعر الشفهي الذي قالته النساء من بدويات وحضريات. وكل مالدينا هي روايات قليلة ينقلها الرجال عن النساء.
ولو نظرنا في سبب قلة النصوص الشفهية المجموعة عن المرأة لوجدنا أن ذلك يرجع إلى قلة العناية بالموروث الشفهي بشكل عام، وإن وجدت عناية فهي في الغالب تمثل مجهودًا فرديًا يقوم به الرجل غالبًا، ويظل ضعيفًا ومحدودًا. إضافة إلى وجود عامل يتعلق بطبيعة شعر المرأة المرتبط بظروف انفعالية معينة تجعله يقال في وقته ثم يتوقف ولا ينتشر. وهنا تبرز مشكلة عملية تتعلق بصعوبة الوصول إلى المصادر المباشرة لشعر النساء؛ لأن المرأة الشاعرة ليست حريصة على إذاعة شعرها بين الناس، بل إنها في الغالب لاتعتبر نفسها شاعرة حتى لو قالت القصائد.

جدير بالذكر الإشارة إلى أن المرأة في الجزيرة العربية في الغالب لا تقول الشعر للتكسب أو للفخر أو للمدح والتزلف كما هي الحال في شعر بعض الرجال. وهذا عامل يمكن أن ينظر إليه من جهة أنه يساعدها أن تكون صادقة في شعرها لأنه يعبر تعبيرًا دقيقًا عن حالتها النفسية والاجتماعية وعن ظروفها الثقافية المختلفة، وليس فيه ترف أو تصنّع. ولكنه من جهة أخرى ينظر إليه على أنه عامل يحدّ من انتشار شعرها وذيوعه بين الناس.

وهناك أمثلة كثيرة لشعر المرأة الذي يعبّر بشكل واقعي عن صراعها مع ظروف الحياة، ويكشف معاناتها الأسرية والعاطفية، ويوضح مواجهتها للصعاب في حياتها مع أهلها أو مع زوجها أو مع ابنائها. وهذه النصوص نجدها في الغالب على ألسنة بعض النساء اللاتي يتمثلن ذلك الشعر في ظروف ربما تكون متشابهة. ويأتي الوصول إلى هذا النوع من الشعر العاطفي -في أحيان كثيرة- عن طريق الصدفة حينما يكون الشخص بحضرة امرأة تمرّ بحالة مزاجية معينة من حزن أو فرح أو ألم فتجد نفسها تحت ضغوط نفسية تجبرها على قول أبيات قد تكون هي التي ألّفتها، وقد يكون من محفوظاتها التي نسيت مصدرها. وبسبب ضعف حدوث مثل هذه الفرص لشخص مهتم يستطيع حفظ ما يسمع؛ فإن شعر المرأة الحقيقي يظل غائبًا عن ثقافتنا وعن اهتمامنا.

جدير بالذكر أن هناك محاولات لرصد شعر المرأة؛ وهي محاولات قد تفيدنا في التعرف على ملامح ذلك الشعر، رغم ما يعتري تلك المحاولات من خلل منهجي. ومن ذلك كتاب "شاعرات من البادية" لعبدالله بن ردّاس الذي حاول فيه جمع بعض المقطوعات الشعرية والقصائد لعدد من البدويات دون أن يشير إلى مصادره ولا إلى رواته ولا إلى تاريخ الجمع ومكانه وطبيعته. وربما يعود ذلك إلى كون الجامع من الهواة الذين يعنيهم جمع المادة بأي شكل كانت دون الاهتمام بما يحيط بها من قضايا وعناصر ثقافية ذات أهمية بالغة في التعرف على المرأة وثقافتها في بلادنا. ورغم أن الجامع ذكر أن الكتاب من تأليفه إلا أنه ربما لا يقصد بالتأليف سوى الجمع بين النصوص ووضع الألفة بينها.

ومن خارج الكتاب يمكن ضرب أمثلة توضح قيمة المعلومات المفقودة عند جمع النصوص الشفهية؛ ففي قصيدة تنسب لامرأة من قبيلة شمّر، يرد فيها قولها: "جيزة الشيّاب مارِيدهء (ها)". ورغم أن كلمة "جيزة" -من جواز- هي قلب لكلمة "زواج" ذات تداول محدود إلا أن المشكلة الحقيقية تبرز في كلمة "ماريده". فمن المعلوم أن استخدام الفعل "أريد" ليس شائعًا في قاموس هذه القبيلة التي تقطن حائل؛ لأن البدائل الأخرى مثل "أبي"، و"أبغى" هي التي ترد على اللسان مباشرة، وبخاصة من امرأة يظهر أنها غير متعلمة وليست بحاجة للفيهقة اللغوية على كل حال. ولو أن جامع هذا النص دوّن مصدره وعرّف بخصائص المصدر، لربما اكتشفنا أن القائلة هي من القبائل الشمالية التي في أطراف العراق والأردن حيث يسود استخدام هذه المفردة. وإذا كانت قد هاجرت من بيئتها وعمرها في مرحلة مابعد الاكتساب اللغوي الفطري؛ فهذا يعني أنه "أعيد تثقيفها" على لهجة أخرى بما تتضمنه تلك اللهجة من قيم تخص القبيلة التي هي فيها حينما قالت تلك الكلمة. وقد يساعدنا ذلك على تفسير تصورها للزواج من "شايب" إذا كان هذا الأمر موضع اهتمامنا.

وتتضح مشكلة عدم التعرف على الراوي حينما ترد كلمة في بيت من الشعر وهي ليست قافية؛ وإنما لها بدائل أخرى لا تخل بالوزن، كفتح الهمزة في الضمير "أنت" في لهجة لاتفتحها مثلا؛ أو كقول أحد الشعراء القدماء مخاطبًا صديقه أن يعطي زوجته نعاله لكي تتوقى بهن عند المشي؛ ويُروى هذا الجزء من بيته في بعض كتب الشعر الشعبي على هذا النحو: "ذِبّ النعال لداعج العين ياحسين". وصحة البيت هي "طشّ النعول". ولكن يبدو أن معرفة الراوي بلهجة صاحب القصيدة ليست قويّة، وحينما تذكّرها وضع الكلمات من قاموسه الخاص؛ فاختار كلمة "ذب" لتعني ارم، مع أن هذه الكلمة غير مستخدمة في قاموس صاحب القصيدة، ووضع كلمة "نعال" مكان "نعول" ربما لعدم تخيله صحّة هذه الكلمة استنادًا إلى لهجته الخاصة.

ومن هنا فإن شرح الكلمات الغريبة لا يكفي وحده لتعريفنا على النص الشفهي؛ بل إن هناك حاجة لمعرفة ما يحيط بالنص نفسه من عناصر متعددة تحيط بظروف رواية النص. ومنها جنس الراوي وسماته الشخصية التي تتصل بعمره وبطبقته الاجتماعية ووضعه الأسري وظروفه الاقتصادية ومستوى تدينه وثقافته؛ وطريقة أداء النص ومايصاحب ذلك من تلعثم أو تردد أو تكرار أو مقاطعة. ومن تلك العناصر كذلك المحيط الذي قيل فيه النص سواء أكان مكانيًا أم زمانيًا أم نفسيًا.

وتبرز أهمية تلك العناصر لمن يريد دراسة ثقافة المجتمع من خلال النصوص الشفهية والتعرف على تصورات الناس للكون ورؤيتهم للحياة. وتعد النصوص الشفهية التي قالتها المرأة من أهم المواد التي يمكن وصفها بأنها مواد "نقيّة" جديرة بالثقة (Authentic) في الدلالة على الثقافة.


بقلم / ناصر الحجيلان

ريتاج
17-11-06, 01:01 AM
رائع اخي الفارس ونقل موفق
لك تحياتي

الفارس
18-11-06, 03:37 AM
شكرا اخت يتاج

حزين من الفراق
20-11-06, 06:36 PM
رراااااائع أيها الفارس


دام إبداعك . . .

الفارس
08-02-07, 11:59 PM
شكرا لمروركم اخواني