الشبكة العامة لقبائل الحويطات - المنبر الاعلامي و المرجع الرسمي المعتمد

الشبكة العامة لقبائل الحويطات - المنبر الاعلامي و المرجع الرسمي المعتمد (https://www.alhowaitat.net/index.php)
-   منتدى قصص و أفعال الطيبين (https://www.alhowaitat.net/forumdisplay.php?f=88)
-   -   لورنس لغز الجزيرة العربية (https://www.alhowaitat.net/showthread.php?t=2421)

خالد الحويطي 18-02-07 01:23 AM

[align=center]لفصل العشرون

محاولة اعتزال

استطاع لورانس في الثامن والعش رين من شهر كانون الثاني سنة ١٩١٨ ، أي قبل أسبوعين من الموعد المحدد
عند اللنبي لقطع مواصلات الأتراك إلى البحر الميت بهجوم مباغت، أن يقطع الطريق على العدو، رغم أنه شن
ذلك الهجوم برفقة سبعين خيالا وسار ليلا عن طريق الكرك، البلدة التي كان الأتراك يستخدمونها لطح ن
الحبوب التي يجمعونها من الحقول الخصبة المحيطة بها.
وكانت قد بلغته بعض معلومات ومفادها أن قافلة من المراكب التركية المقلة للمواد الغذائية تنوي مغادرة
المنطقة في غد إلى منطقة أريحا، تحت حراسة قارب مسلح.
وقبل أن تنبلج أولى تباشير الفجر، كان العرب قد زحفوا إلى شاطئ البحر، ونزلوا في المياه، قبل أن يتمكن
الملاحون الأتراك من تمالك روعهم . ولما أخذوا على حين غرة، لم يبد الأتراك مقاومة تذكر، وما هي إ ّ لا
دقائق قليلة حتى كانت العملية كلها قد انتهيت . يومذاك أحرق لورانس مخازن المؤن بعد أن استولى جماعته
على محتوياتها، كما جروا المراكب إلى البحر وأغرقوها . ولم يتكبد العرب أية خسائر، بينما أسروا ستين
تركيًا، وعادوا إلى أماكنهم في الطفيلة يهنئ بعضهم بعضًا على ما أحرزوه من نصر سهل، ولعلهم في تلك
الغارة قد حققوا أول انتصار بحري بواسطة المشاة!.
ونفذ لورانس أول مهمتين من المهم ات الثلاث التي اتفق مع اللنبي على تنفيذها، وبقيت المهمة الثالثة، وهي
الاتصال بالقوات البريطانية عند نهر الأردن، إلى الشمال من البحر الميت، في شهر آذار.
ولكن ما أن أهل شهر شباط، حتى بدا أن إمكانيات تحقيق هذه المهمة قد تعذرت، لأن الطقس كان يسوء
باستمرار، وأ صبح السير بما معه من جمال، وسط الثلوج، وعبر جبال مؤاب التي تقع بين الطفيلة والشمال،
١١١١١١
ضربًا من الجنون . فاذا لم تهلك الجمال من التعب، عرضتهم كهدف سهل لبضعة جنود من الأتراك وهم يرتقون
تلك الجبال الشاهقة المغطاة بالثلوج.
وفي الوقت ذاته، كان البقاء في الطفيلة لا يستحق المغامرة، فالمغريات للبقاء لم تكن تعادل أخطار المجازفة،
وكان البرد في ذلك المكان الذي يرتفع خمسة آلاف قدم عن سطح البحر قارصًا، وكان الوقود نادرًا، وظروف
المعيشة قاسية.
هذا زيادة إلى ان نقود زيد كانت قد نفذت، لأنه وزع معظم الذهب الذي كان مقررًا صرف ه على تنظيم
المسيرة إلى نهر الأردن، على الأعراب مكافأة لما بذلوه في معركة الطفيلة . وانتهزها لورانس فرصة ليهرب
من هذه الأحوال القاسية فاحتج بأنه سيعود ليحضر المزيد من المؤن.
وكان الوقت أوائل شهر شباط، وثمة عاصفة تهب بعنف عندما تحرك إلى الجنوب . وكانت الرحلة صعبة
والجمال وراكبوها غير معتادين على السفر في مثل هذا الطقس، غير أن لورانس كعادته اندفع على جملة
ومعه رجال حرسه بأقصى سرعتهم حتى لم يعد للحيوانات المسكينة من طاقة على المشي بله الجري.
وبعد ظهر اليوم الثاني، وصلوا "قذرين ومنهكين يرتجفون بردًا وكأنهم هررة". وفي "الغويرة " كانت قيادة
وحدة السيارات البريطانية المصفحة، ومقر ضابط الاتصال بالأمير فيصل.
ووجد لورانس هناك "دوناي" و"جويس" يعتريهما الوجوم، فقد حاول فيصل قبل أسبوعين أن يحتل "المدورة "
بقوة مختلطة من رجال القبائل وأربع فرق من الجنود العرب النظاميين المزودين بمدافع "بيزاني " الفرنسية،
ولكنه مني بهزيمة منكرة.
فقد حدث، كما هي عادة رجال القبائل، أنهم تخلوا عن القتال عندما فشل أول هجوم شنوه لزحزحة الأتراك
عن مراكزهم، كما حدث أن نقل "بيزاني" مدافعه فاقترب بها أكثر مما يجب، ولم يستطع إ ّ لا أن يتركها إثر
الانسحاب.
وقل استقبل لورانس هذه الأنباء بشىء من التفلسف قائلا إلى الهزيمة من شأنها أن تعلم فيصل في المستقبل أن
يتبع نصائحه.
ثم أن لورانس عقد مؤتمرًا قصيرًا مع فيصل، عاد بعده إلى الطفيلة وفي جعبته ما يعادل ثلاثين ألف جنيه
ذهبًا. ولم تكن العودة بأفضل من مقدمه ، بل لعلها كانت أسوأ، لأنه كان عليهم أن يتحملوا وطأة الرياح الثلجية
والمطر الغزير المصحوب بالبرد من الحجم الكبير.
التي كانت كلها مجتمعة تكاد تقضي عليه وعلى رفيقيه من قبيلة عتيبة وهم يصعدون في الطرقات الوعرة
الممتدة إلى الجنوب من البحر الميت . وقد مروا في ن قطة ما فوق "أبي لسان" بجماعة من رجال مولود يعيشون
في جحور حفروها في الصخور، وراحوا يراقبون تحركات الأتراك على خط سكة حديد الحجاز، وكانوا لا
يملكون وقودًا إ ّ لا بعض الحطب المبتل، ويرتجفون في ملابسهم الخاكية الصيفية، بعد أن فقدوا أكثر من نصف
قواتهم من جراء البرد والإجهاد.
ورغم ذلك ظلوا يراقبون الأتراك وتحركاتهم التي كثيرًا ما كانت تصبح على مرمى بنادقهم.
١١١١٢٢
وقد سر لورانس كثيرًا من شجاعتهم، حتى لقد قال : "إننا مدينون كثيرًا لهم، ومدينون أكثر إلى مولود الذي
يرجع إليه الفصل في تثبيت رجاله في مراكزهم، لما عرف عنه من أخلاق عربية ووطنية .." لقد كانت له
شخصية قوية، مكنته من السيطرة على رجاله، كما كان قوي البنية حتى لقد استطاع أن يمضي ثلاثة فصول
شتاء بالقرب من معان، مع رجاله الذين يبلغ عددهم خمسمائة محارب، كل واحد منهم على استعداد لافتدائه".
وقرر لورانس ألا يكون أقل جلدً ا من مولود، فدفع جمله المثقل بأحماله وتحمل تجمد أطرافه وسار عبر
الجبال.
وحدث ذات مرة أنه كاد يغرق في جدول نصف متجمد، ثم وقع جمله في ممر مغطى بالثلوج، ولم ينهض من
سقطته تلك إ ّ لا بعد كثير من التهديد والوعيد، وأخيرًا اقتنع الحيوان المسكين بأن من الخير له أن ي واصل رحلته
إلى الطفيلة، حيّث سلم ما يحمله من كنوز إلى زيد، وسط كثير من تهليل رجال الأمير الذين أمضوا عدة أسابيع
دون رواتب ودون وسائل راحة.
وبعد أن طلب إلى الأمير، إثر دفع رواتب الجنود، أن يحتفظ بما تبقى معه من ذهب لينفق في العمليات
القادمة، ألقى لورانس بجسده المنهك طلبًا للراحة.
وما إن بلغ الأرض حتى سمع صوتًا يقول له بالانكليزية : "هل لك أن تأخذ بطانيتي؟ إنك تبدو على وشك
التجمد". وكان المتحدث هو الملازم "كير كبرايد" من ضباط سلاح الهندسة الملكي، وقد أصبح ذات يوم
سفيرًا لبريطانيًا لدى الأردن وكان قد أُرس ل من قبل القيادة العامة لدراسة إمكانات إنشاء طريق من بئر السبع
عبر الممرات الجبلية المؤدية إلى الطفيلة، وهو مشروع اقتنع بأنه غير عملي.
وكان "كير كبرايد " شابًا في العشرين من عمره، يتقن التحدث باللغة العربية، كما يتقن أعمال النسف . ولما كان
شابًا ومتحمسًا فق د رأى لورانس أنه سيقدم له المساعدة اللازمة، فقال له : "إنني سأطلب نقلك إلى قواتي ".
وتصافح الرجلان، وبدءا صداقة جديدة استمرت حتى دخول دمشق، وأنقذت حياة لورانس في أكثر من مناسبة.
وفي اليوم التالي، توجه لورانس مع "كير كبرايد" وأفراد حرسه لاستكشاف الطريق إلى ن هر الأردن . كان
الثلج قد بدأ يذوب، وبات من الممكن أن يحفظ موعده مع اللنبي، في شهر آذار، أو قبل أسبوعين من الموعد.
وقد أثبتت عمليات الاستكشاف أن كل شئ على ما يرام . لذا كتب لورانس يقول: "كانت كل خطوة من طريقنا
سهلة وتقودنا إلى حيّث تنضم إلى القوات البريطانية ". وهكذا عاد إلى زيد بروح مرتفعة، لكنه ما إن شرح
خطته في الزحف حتى قاطعه الأمير قائلا: "إن الرحلة تحتاج إلى كميات كثيرة من الأموال"!
وأجابه لورانس بقوله : "كلا… ليس ضروريًا على الإطلاق، إن الأموال لمتوفرة ستغطي نفقات الرحلة، بل
وتزيد على متطلباتها"!
وانزوى زيد في مقعده الكبير، بينما بدأت الوساوس تنتاب لورانس، أو سأله كم تبقى لديه من الذهب الذي
أحضره من "الغويرة"… فتطلع زيد إلى الأرض بخجل وقال: "لم يبق منه شئ… لقد أنفقته على التعويض مجددًا
على شيخ الطفيلة والقرويين ورجال القبائل ". واعترض لورانس : "ولكنك تعر ف بأن العادة أن تدفع رواتب
أفراد القبائل عندما يقومون بعمل ما، وليس أثناء استراحتهم في فصل الشتاء".
فقال زيد: "ورغم ذلك… لقد دفعت لهم أجورهم".
١١١١٣٣
كانت هذه الأقوال آخر دليل على أن العرب لن يتصلوا بقوات اللنبي في شهر آذار، لأن من المستحيل القيام
بالزحف دون ما ل. وكذلك كان من الصعب الطلب إلى القيادة العامة أن تتحمل ما هو فوق طاقتها من جراء
إسراف زيد . وبينما كان لورانس يفكر في هذه المعضلة، دون أن يجد لها حلا، وصل "جويس" على غير انتظار
من "الغويرة" وعرض أن يعود إلى فيصل ويسأله المساعدة.
غير أن زيدًا لم يكن متحمسً ا للفكرة، كما أن لورانس كان قد صمم على العودة إلى القيادة ليسألها قرضًا
جديدًا.
وإنه لمن الصعب على المرء أن يقول كم كان هذا التراجع صعبً ا! وليس من شك في أن لورانس كان قد
ضاق ذرعًا بتصرفات زيد الذي كان ضعيفًا وعنيدًا، وأبدى حماقة منذ اللحظة الأولى التي سلم فيها قيادة حملة
البحر الميت.
والواقع أن لورانس كان قد سئم تولي القيادة، حتى لقد أخبر اللنبي في مقر قيادته في بئر السبع بأنه لم يعد
راغبًا في إعطاء أية أوامر، وأنه يريد منصبًا يستطيع عن طريقه أن يتلقى أمرًا، لا أن يصدر أمرًا.
غير أن الذي خفف عن لورانس ما يشعر به من ضيق، كان ما سمعه من أخبار في القيادة العامة، فقد علم
بأن اللنبي احتل أريحا، وأخذ يعد العدة للهجوم النهائي على سوريا . وكان الجنرال جان سمطس … قد جاء
مندوبًا عن وزارة الحربية البريطانية في لندن، لبحث على ضرورة إخراج تركيا من حومة الحرب بأقرب وقت
ممكن، وذلك من أجل تحرير ما أمكن من القوات البريطانية للاشتراك في الجبهة الغربية، في فرنسا
والفلاندرز.
وقد أبلغ اللنبي مرؤوسه لورانس، بأنه ما زال يتطلع إلى مساعدة أصدقائه العرب في هذا الهجوم الأخير على
دمشق، وأن هذا الظرف ليس بالظرف المناسب لإضعاف معنويات ا لجيش العربي، وذلك عن طريق سحب الثقة
في مقدرته وقيادته.
كان ذلك، على ما يبدو، كافيًا بالنسبة إلى لورانس، وبعد أن قدم شروحه واعتذاراته، قدم مضحيًا بنفسه،
وأصبح بمستطاعه أن يعود الآن لحث فيصل على أن الضربة النهائية يمكن أن تقوم بها القوات العربية، ويجب
على ه ذه القوات أن تصل إلى دمشق قبل أية قوات أخرى . وفي الرابع عشر من شهر آذار سنة ١٩١٨ عاد
لورانس إلى العقبة
[/align]

خالد الحويطي 18-02-07 01:23 AM

[align=center]الفصل الحادي والعشرون

تقدم وانسحاب

كانت خطة العمل الجديدة تقضي كما رسمها اللنبي بشن هجوم عبر نهر الأردن من بلدة أريحا، في
الخامس من شهر أيار، وذلك بقصد التفريق بين الجيوش التركية التي تدافع عن الخط الواقع بين يافا وشمالي
البحر الميت، واحتلال مدينة السلط وتقع على بعد عشرين ميلا إلى الغرب من عمان، وكذلك، من أجل الهجوم
الأخير، وتدمير خط السكة الحديدية جنوبي عمان . وكان دور القوات العربية في هذه الخطة احتلال بلدة معان،
ومن ثم الالتقاء بالقوات الانكليزية في نقطة تقع شمالي أريحا.
١١١١٤٤
وأختير لورانس ليحمل الأخبار السارة إلى فيصل، والتي تشمل الوعد بتسليمه مبلغ ثلاثمائة ألف جنيه ذهبًا،
ليشتري بها ما أمكنه شراؤه من تموينات محلية متوفرة، وسبعمائة جمل بالإضافة إلى الأسلحة.
وتدعم الفرح لهذا العرض الذي قدمه اللنبي، والذي في غمرته، نسيت هزيمة العرب في الطفيلة، إذ تخلى
عنها زيد للأتراك، بعد أن شنوا عليها هجومًا معاكسً ا. وقد أعرب فيصل عن مخاوفه بأن إعادة احتلالها قد
يتمخض عن تدمير سمعته.
وانتهز لورانس الفرصة ليلقي على الأ مير محاضرة قاسية حول عدم أهلية شقيقه الصغير ومسؤوليته في
تأخير التقدم. ثم عاد الاثنان دون مزيد من المهاترات للإهتمام بأعمال المستقبل.
وقد وضعوا ترتيبات احتلال معان بالاشتراك مع "جويس" وفيصل. وبموجب هذه الترتيبات كان على جعفر
ونوري السعيد أن يهاجما بمساندة الجنود العرب النظاميين، وكان على "جويس" و"دوناي" أن يقطعا خط السكة
الحديدية عند "المدورة".
ولكن قبل ذلك كان عليهما أن يمنعا تقدم الأتراك من المدينة أما لورانس فكان عليه أن يحرض قبيلة بني
صخر في منطقة عمان.
وما إن فعل حتى وردته أنباء عن احتلال السلط، وبل غته كذلك الأوامر بأن، يهاجم الأتراك المتراجعين من
الخلف.
وكانت الخطة لاحتلال معان تقضي بوضع القوات العربية على امتداد خط السكة الحديدية إلى الشمال، لقطع
الطريق أمام وصول أية إمدادات إلى المدينة بأي شكل كان، وكذلك التموينات، ومن ثم إجبار العدو على
الانسحاب إلى مكان مكشوف . غير أنه ما إن سمع مولود وضباط الجنود العرب النظاميين هذه التعليمات، حتى
عارضوها بشدة، وأصر مولود على القيام بهجوم مباشر . وقد استمر النقاش حول هذه المسألة عدة أيام، وأخيرًا
تولى فيصل أضعف جوانب المسألة وسمح لمولود بأن يختار الطريق التي يريد ها، لأن الأمر قد أصبح موضوع
كرامة بالنسبة للمحارب القديم وجماعته من الضباط.
ولقد قبل لورانس بهذا القرار على مضض رغم خلوه من الحكمة، ورغم ما أظهره فيصل من ضعف أمام
مولود، وتوجه في أول شهر نيسان إلى "عطارة" ليقيم فيها مقر قيادته . وهذه القرية تعتبر مركز قبيل ة بني
صخر، وتقع إلى الجنوب الشرقي من عمان، حيّث كان كل من مفلح وفهد ينتظرانه هناك.
وأثناء الطريق تلقى نبأ يفيد أن داود، أحد رجال حرسه، قد توفي من تأثير البرد في الأزرق، حيّث أقام مع
الشيخ علي بعد حادث درعا . وقد تأثر لورانس كثيرًا لهذه الفجيعة، ولو على الأ قل مشاركة منه لصديق داود،
وحبيبه المخلص فرّاج، الذي أصيب بضرب من الذهول أفقده القدرة على القيام بواجباته، وكانت جمة . ولم
يستطع لورانس أن ينهي هذا الوضع الشاذ إ ّ لا بعد انقضاء فترة من الوقت.
وحدثت المفاجأة بعد أسابيع قليلة، فبعد وصولهم إلى "العطارة" وردتهم أنباء تفيد أن الانكليز قد احتلوا، ليس
السلط فحسب بل وعمّان أيضًا، فأمر لورانس بتتبع فلول قوات العدو المتقهقر، ولكنه ما إن شرع بهجومه حتى
وصلته أنباء تقول بأن الأتراك قد استعادوا المدينتين، وأنهم أخذوا يطاردون قوات اللنبي عبر وادي الأردن،
وأن جمال باشا قد يعود إلى القدس خلال بضعة أيام.
١١١١٥٥
وفي الوقت ذاته، ولكي يزداد رعب القوات العربية، انتشرت شائعات عن دفع الأتراك جوائز ضخمة لكل من
يل على أولئك الذين تمكنوا من مساعدة القوات البريطانية في هجومها على السلط.
والظاهر أن لورانس لم تخفه التجربة التي مر بها في درعا لأنه قرر الذهاب بنفسه لاستقصاء الحقائق، فدخل
عمان مع فراج، وهما متنكران في زي امرأتين بدويتين . وسرعان ما اكتشف أن الأتراك يسيطرون على
المدينة. ولم يمضيا في المدينة مدة طويلة، حتى اعترضتهما جماعة من الجنود الأتراك، الذين حاولوا إقناعهما
بإمضاء الليلة مع بع ض الضباط الأتراك، حيّث ستنالان مبلغًا لا بأس به، وكان ذلك خدعة كما يبدو أو شكًا من
الجنود بالبدويين البيضاوين على الأقل.
ولم يكن هنالك أية بادرة توحي بقرب تقدم القوات البريطانية، ولا أية بوادر تشير إلى أن القوات التركية
مستعدة للتقهقر، أو أن القوات العربي ة مستعدة لتحدي انذارات الأتراك . لذلك لم يجد لورانس أمامه سوى الهرب
والانسحاب إلى مقر قيادة فيصل، حيّث ينتظر هجوم اللنبي من جديد.
وحدث أثناء عودته مع رجال حرسه، أن التقوا بدورية من الجنود الاتراك، ولقد أراد العرب ن يفتحوا النار
على الاتراك، ولكن لورانس فكر في أنه قد يكون من الأفيد لهم ألا يضيعوا ذخيرتهم على مثل هذه الجماعة
القليلة.
وفجأة، وفيما هو يشرح خطته لمح فراج يندفع إلى أمام، مخالفًا تعليمات رئيسه، وما لبث الجميع أن لحقوا به،
ولكن فراج كان يتقدمهم معرضًا نفسه هدفًا سهلا لبنادق الأتراك . وقد اخترقت الرصاصة الأولى جسده ممزقة
معدته، فانفجر منها سيل من الدماء، قبل أن يلحق به أفراد جماعته.
وفيما كان هؤلاء يفكرون فيما إذا كان من الممكن انقاذه، وكيف، بلغهم نبأ مفاده أن دورية من الجنود الاتراك
تقترب من مكانهم، وأن عدد أفراد الدورية يزيد على خمسين نفرًا، وانهم يتقدمون على امتداد خط السكة
الحديدية.
وهنا قرر لورانس في غمرة غضبه أن يفعل كل شئ إ ّ لا أن يسمح بوقوع فراج في أيدي القوات التركية،
وتحمل التعذيب الذي كان الأتراك يقومون به تجاه الأسرة من القوات العربية.
وكان من المعروف عن الاتراك أنهم يحرقون الخونة وهم أح ياء. وكان لورانس قد اتفق مع رجاله على أن
يجهز أي منهم على أي شخص يسقط جريحًا. وقد وصف لورانس آخر لحظات فراج بقوله:
"لقد ركعت إلى جانبه، حاملا مسدسي، مصوبًا إياه إلى رأسه، بحيث لا يرى ما أقصد إليه، وإن كان من
المؤكد أنه حرز قصدي، لأنه فتح عينيه ولمسني بيده المرتعشة الناحلة التي يتميز بها أهالي نجد، وانتظرت
لحظة فقال :" إن داود سيغضب منك " وعادت الابتسامة إلى ذلك الوجه المتجهم، فأجبته: سلم لي عليه . وفي
النهاية أغمض عينيه ومات.
وقد وجد لورانس في مقر قيادة فيصل بالقرب من معان أن اللنبي قد فشل بالفعل بالاحتفاظ ب مدينة السلط، وأن
العرب، كما كان يتوقع، لم يتمكنوا من احتلال معان، فقد ثبت أن مدافع نوري السعيد غير قادرة على تدمير
المدينة، كما أن مولود قد جرح، وأخذ عودة يتخاصم مع كل انسان، بما في ذلك فيصل ونوري، وكان يتهمهما
١١١١٦٦
بأنهما يصران على اتباع تكتيك حربي لا يناسب رج ال القبائل، وهو اتهام كان نوري يرد لعيه بألا فائدة من
قبيلة الحويطات.
وقد قاد نوري جماعة إلى محطة سكة الحديد في معان، ولكنه أخطر فاضطر للانسحاب عندما نفذت الذخيرة
من المدافع التي كانت تحت إمرة "بيزاني". وكان النجاح الوحيد الذي استطاعوا تحقيقه هو قطع السكة الحديدية
على أمل استحالة إصلاحها، في نقطة تبعد عشرة أميال إلى الجنوب من المدينة.
وكإجراء حسن، قام "دوناي" بغارة على "المدورة" برفقة لورانس واثنين من الضباط البريطانيين، كانا قد
وصلا حديثًا، أحدهما "هو رنبي " الخبير بالمتفجرات و"بيك" الذي قدّر له أن ينشئ فيما بعد "الجيش العربي "
الغارة ناجحة، إذ أن المحطة قد دمرت بشكل يفوق مقدرة فخري باشا على اصلاحها من جديد.
على أن كل ما حققه قطع السكة الحديدية، لا يعدو محاصرة الأتراك في مراكزهم القوية في المدينة ومعان
وعمان، دون أن يساعد فيصل على التقدم بامتداد الجناح الأ يمن للحلفاء. ومرة أخرى خشي لورانس أن فشل
الجنود العرب في تنفيذ خطة متفق عليها، سيعرضهم إلى غضب القائد العام، ومرة أخرى كذلك أسرع يقدم
اعتذاراته ويشرح أسباب ذلك التخلف إلى اللنبي.
وقد استقبلته لدى وصوله إلى القدس أنباء تفيد بأن البريطانيين قد أعادوا احتلا ل السلط، وشكرًا للمساعدة التي
قدمتها قبيلة بني صخر، وخاصة شيوخها الذين قدموا سرًا إلى أريحا ليعرضوا خدماتهم الممثلة في عشرين ألفًا
من رجال القبائل، عرضوا اشراكهم في الهجوم التالي الذي سيقوم به الانكليز.
ولم يستطع لورانس أن يصدق ما سمعه، فقد كان يسوءه أن ي حقق الانكليز دورهم، بينما يعجز العرب عن
تحقيق دورهم . وكذلك فقد كانت إعادة احتلال المدينة، بمساعدة القبيلة التي كان من المفروض أن يجندها هو
إهانة لكبريائه ومركزه.
ثم كان هنالك وجه آخر غير سار في القضية، ويتلخص في أن القاهرة قد عينت ضابطًا بريطانيًا جديدًا يدعى
"يونغ" ليعمل مساعدًا للورانس في مهمة ضابط الاتصال بقوات الشريف . وكان "يونغ " هذا مستشرقًا يجيد
التحدث بالعربية، وجنديًا مخلصًا، ولكن لورانس كرهه ولم يثق به منذ اللحظة الأولى التي وصل فيها، ظنًا منه
بأنه إنما أرسل ليبلغ القيادة عن اتصالاته وأعماله.
ولما كان لورانس يود التخلص منه بأسرع وقت ممكن فقد أرسله ليدافع عن مركز مراقبة يقع بين معان
وعمان، أي في ذات المنطقة التي كانت قبيلة بني صخر تقيم فيها، وهناك أبلغ بوصفه من ضباط قيادة اللنبي
بأن البريطانيين قد جندوا أفراد القبيلة لمساعدتهم على استرداد السلط.
وكان ذلك كثيرًا بالنسبة لاعتداد لورانس بنفسه، ويجب الاعتراف بأن الرجل قد ارتاح كثيرًا، عندما سمع بعد
ساعات قليلة بأن الهجوم قد فشل، وأن الانكليز اضطروا مرة أخرى للانسحاب، نظرًا ن افراد قبيلة بني صخر
فشلوا في المحافظة على تعهداتهم.
وانتهز لورانس الفرصة، وأو حى إلى أركان حرب اللنبي، بأنه يستحين في المستقبل استشارته قبل الإقدام على
أمر يتعلق بالعرب . وحدث انسحاب انكليزي آخر، علم البريطانيين أن "يصبرا أكثر" على مشاكل فيصل، كما
١١١١٧٧
أنه، أعطاه الفرصة لرفع اللوم عن العرب، كما اصبح بامكانهم القول بأن "عناد اللنبي قد تمخض عن إرغامنا
على البقاء محاصرين في معان".
وعلى كل، فقد كان هناك قليل من الشك في أن لورانس قد تصرف، بدافع من غضبه، تصرفًا أهوج، في
زيارته تلك لمقر القيادة العامة، إذ كان في جميع مناقشاته يتحدث بلهجة من هو أكثر معرفة من سواه.
والواقع أنه كان باستطاعته آنذاك أن يدعي بأنه يعمل منفردًا في تحقيق عملية باسلة وناجحة، ولكنه في هذه
المرة تصرف كطفل فاسد، إذ راح يبرر الفشل الذي تم على يديه، ويقلل من قيمة النجاحات التي حققها زملاؤه
البريطانيون.
أما كيف أمكن اللنبي أن يحتمل هذا التصرف الأهوج، فأمر يمكن أن يرد ولا ريب إ لى ما لدى هذا القائد العام
من صبر وتفهم للطبائع الإنسانية، فقد كان لديه ما يكفيه للتفكير بما يثقله من مشاكل، وليس من حاجة لتحمل
هذا الموقف الحرج، إذ طلبت إليه وزارة الحربية الامبراطورية أن ينتهي مع الأتراك بأسرع ما يمكن.
وفي الوقت ذاته كانت الوزارة الحربية في لندن تلح عليه بتوفير ما أمكنه من الجنود لدعم جبهة أوروبا.
ولكن الجنود الهنود الذين وعد بارسالهم إليه من جبهة العراق لم يكونوا قد وصولا، ليحلوا محل القوات
البريطانية التي كان من المقرر أن يستغنى عنها لتدعيم الجبهة الأوروبية.
ولما كان اللنبي مضطرًا للا نتظار وتأخير هجومه فقد كان كل ما بوسعه أن يفعل، هو أن يأمل في الاحتفاظ
بمراكزه، والا يقوم الأتراك بهجوم معاكس، وبقوة تفوق قوة الانكليز.
ثم جاء لورانس ليضع على رأس هذه المشاكل مشكلة أخرى تتلخص في طلبه إلى القيادة العامة القيام بغارات
جوية، على معان وعمان، وعلى خط سكة حديد الحجاز، لتكفيك تماسك الأتراك واجبارهم على الخروج إلى
ميدان المعركة بشكل مكشوف.
واستدعى اللنبي الجنرال المسؤول "سالموند" الذي كان يقود القوات الجوية، واتفق معه على القيام بتلك
الغارات. وهنا طلب لورانس أن يعطي الجمال الالفين التابعة لقوة ا لهجانة الامبراطورية، وكان قد تقرر حل
تلك الفرقة، باستثناء فصيلة واحدة تبقى تحت قيادة كولونيل المشاة "بوكستون".
واستدعى اللنبي الضابط المسؤول عن الممتلكات وسأل لورانس أمامه عن السبب الذي يريد من أجله هذه
الحيوانات.
وقد أجاب لورانس دون أن يضيع لحظة في التر دد، "لكي أضع تحت تصرفكم وفي أية لحظة الفي رجل في
درعا، بل وفي اليوم الذي تحددونه . وابتسم اللنبي وهز رأسه للضابط وقال موجهًا حديثه له : "لقد خسرت
الرهان يا سيدي".
وقد يتراءى للمرء أن لورانس، أو أي شخص في مكانه في تلك اللحظة بالذات سيكون قادرًا على اعطاء
الأمر، رغم أنه كان يحادث قائده العام، نظرًا لما كان يتمتع به من شخصية قوية.
ولكن الحقيقة هي أن اللنبي كان يثق ثقة عمياء بهذا الضابط الشاب، بل ربما كانت ثقته به تفوق ثقة لورانس
بنفسه.
١١١١٨٨
واعترافًا بحكمته في القيادة الحربية كتب الجنرال اللنبي يقول : "لقد كانت تحت إمرتي … ولكنني بعد أن
أطلعنه على خطتي العامة، اطلقت يده … وكان تعاونه يتميز بالإخلاص المطلق، حتى لم يكن لدي ما أقوله فيما
يفعله، غير الإطراء والثناء، ذلك لأن ما كان يفعله كان له أكبر الأثر في نجاح الحملة".
ولو أن الجنرال اللنبي لم يكتشف هذه الخصائص في لور انس، لكان هذا قد انتهى بعد أول فشل صادفه، وذلك
لكثرة ما كان له من أعداء في القيادة العامة وفي القاهرة، وما كان في مقدوره أن يمضي قدمًا لولا تأييد القائد
العام.
وقد أدرك لورانس إدراكًا تامًا مدى الدّين الذي يثقل كاهله بالنسبة للقائد العام.
وعلى الرغم من أ نه كان مشغولا في استلام ما يستطيع استلامه من القيادة العامة، من ذهب ومؤن، فقد أسرع
بالعودة إلى فيصل ليبلغه انباء انتصاراته، وليعلن إليه بأنه لن يكون مضطرًا في المستقبل، لتنفيذ الخطط التي
يرسمها الأمير، ما لم تحظ بموافقته
[/align]

خالد الحويطي 18-02-07 01:24 AM

[align=center]الفصل الثاني والعشرون

نبذ فيصل

كان أحر استقبال لاقاه لورانس هو ذلك الاستقبال الذي قوبل به لدى عودته إلى معسكر فيصل الذي سر
كثيرًا عند سماعه نبأ حصوله على الألفي جمل. وقد بلغ من شدة سروره أنه عجز عن الكلام لفترة من الزمن.
ولكنه ما لبث أن قفز واقفًا وراح يقبل لورانس، ثم أخذ يصفق بيديه ف أسرع إليه خدمه، فأمرهم باستدعاء عودة
وزعل وفهد وغيرهم من الشيوخ الذين يتولون قيادة جيشه.
ولما اجتمعوا كلهم قال لهم : "إن الله قد بعث الينا بهدية من شأنها أن تحمل العرب الآن على السير قدمًا نحو
النصر، دون أن يهددهم أحد، ومن ثم فسينالون حريتهم". وشكروا لورانس بحرارة وهنأوه على نجاحه البارع.
ثم انقلب الشيوخ إلى مجادلة بعضهم بعضًا حول أفضل الطرق التي يمكنهم بها استخدام هذه القوة الإضافية
التي أرسلها إليهم الله!.
وأسرع لورانس ليبلغ "جويس" تلك الأخبار الطيبة، إذ كانت تلك اللحظة هي اللحظة الحاسمة، لأن وسائل
النصر كانت واضحة أمامه. فهو قد أصبح، وبعد طول انتظار، يملك المفاتيح التي ستفتح له بوابات دمشق.
ولقد أحس بأن الآلام التي عاناها خلال السنتين الماضيتين قد ولت، وأنها كانت تستحق أن يعاني ما عانى من
أجلها بعد أن أصبح متأكدًا من حصوله على النصر المؤزر في النهاية، فعرش سوريا أصبح جاهزًا للملك الذي
سيتربع عليه، وأصبح "صانع الملوك" مستعدًا لتقديم الملك ليستلم العرش.
ولذا فقد وقف لورانس وسط الشيوخ الذين كانوا يضحكون بسرور طاغ، مستمتعًا بما استطاع تحقيقه حتى
الآن للأمير.
وقد أصبح متأكدًا من حصوله على الجائزة القيمة ال تي سيقدمها له هذا الأمير المعطاء . ولكي يتأكد أكثر من
صدق تخميناته قال لفيصل، إن لحظة النصر ستعني لحظة تسريحه من الخدمة، الأمر الذي اعترض عليه
١١١١٩٩
فيصل، كما كان لورانس يأمل ويتوقع، وأسرع يقول : " يجب أن تبقى معنا دائمًا… وليس حتى دمشق، فقط، كما
وعدتك في أم لحج". والواقع أن لورانس كان في ذلك الوقت هو القوة الكامنة وراء عرش شبه الجزيرة العربية.
غير أن إشراقة شمس هذه اللحظة البطولية، سرعان ما اختفت، بل وبأسرع مما بزغت فيها.
وكما يكون الحلم أحيانًا زاخرًا بالآمال، فإن الأشباح السوداء سرعان ما تشوبه، حتى يصبح كابوسً ا. إذ أ،ه لم
يمض أكثر من شهر، حتى وجد لورانس أن كل شئ جاهد من أجله قد أخذ يتلاشى تدريجيًا، إذ بلغه بأنه لن
تكون هناك شبه جزيرة عربية حرة ومتحدة، لأن العرب كانوا مختلفين فيما بينهم، ولان فيصل أضعف من أن
يوحدهم أو يبعث فيهم الحياة . وكان لورانس حتى تلك اللحظة يرفض الإذعان لكل ما كان باديًا له من إشارات،
وواصل سعيه رغم علمه بأن الحلفاء يتآمرون لجعل شبه الجزيرة العربية مستعمرة لهم، اعتقادًا منه بل لعل
من الأصح القول إنه أجبر نفسه على الاعتقاد بأن العرب سيظهرون قوتهم، ويرغمون بذلك البريطانيين على
تنفيذ ما بذلوه لحسين من وعود، بعد أن يتم طرد الأتراك من بلادهم.
لقد كان يغضب … ولكنه ما كان ليعارض أو يعترض، عندما كان العرب يظهرونه بمظهر الفاشل، وعندما
يعللون عدم تحقيقهم للانتصارات بسبب نقص الرجال والأسلحة والجمال . ولكنه كان يكتشف كل أسبوع أنه مرد
عدم إقدام العرب على الحرب بحماسة، يعود إلى قلة الثقة في قلوب آل الشريف الحسين، وليس لقلة الامكانيات
الحربية.
وقد هبط الوحي على لورانس في منتصف شهر حزيران، بعد أن عاد هو وناصر وعودة من شن غارة على
خط حديد الحجاز لمنع الأتراك من إرسال أية إمدادات إلى حاميتهم المحاصرة في معان، بعد أن وردت الأنباء
تفيد بأن القوات التركية تتجمع في عمان.
وكانوا على الرغم من تعرضهم لقنابل الطائرات التركية قد تمكنوا من تحقيق مهمتهم، فنسفوا مسافة أربعة
أميال من خطة السكة الحديدية، بالإضافة إلى ثلاثة جسور وبعض بنايات المحطة في "الحسا" التي تبعد مسافة
ستين ميلا عن معان، ومحطة أخرى تقع إلى الشماء من "الحسا".
وقد شرح لورانس أمر العملية للأمير فيصل بقوله : "إن هذه العملية تعني تجميد القوات التركية في مركزها
قرب عمان مدة لا تقل عن شهر، وربما امتدت إلى ثلاثة أشهر، وخلال هذه الفترة ستصل الإبل الجديدة
وستكومن جاهزة للعمل".
وكان على اللنبي أن يؤخر هجومه حتى شهر تشرين الأول لأنه لم يكن يملك العدد الكافي من القوات، واذا ما
كان العرب على استعداد للهجوم منفردين في شهر أيلول، عندما تصل الإبل، فستكون أمامهم كل فرصة
لاحتلال دمشق وحدهم.
واقترح لورانس على فيصل أن يطلب إلى ابيه الحسين نقل وحداته النظامية لتلتحق بقوات فيصل، كي تشترك
تحت قيادة عبد الله وعلي وفيصل في هذا الهجوم العربي . ولو جاءت هذه الوحدات لرفعت عدد قوات فيصل
النظامية إلى عشرة آلاف مقاتل، وهذه يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام، القسم الأول للدفاع عن معان، والثان ي
ليقوم بالهجوم في قطاع درعا دمشق، أما الثالث فلكي يلحق بقوات اللنبي في أريحا.
١١٢٢٠٠
فالهجوم على قطاع درعا دمشق سيضطر الأتراك إلى سحب فيلق من فلسطين، وبذلك يمكن مساعدة اللنبي
لدعم هجوم العرب، كما أنه يعني أن العرب سيدخلون دمشق في ذات الوقت الذي تتقدم فيه ال قوات البريطانية،
وهكذا يكون بامكانهم الاستفادة من الدعم البريطاني، بدلا من أن يعرقل تقدمهم.
ووافق فيصل فورًا على هذه الخطة، وبعث بالرسائل الضرورية إلى والده في مكة . ثم طلب لورانس إلى
"وينغات" الذي خلف مكماهون في القاهرة، أن يضيف رسالة أخرى إلى مجموعة الرس ائل هذه، يؤكد فيها على
الشريف حسين بأن البريطانيين يؤيدون مطالب فيصل الخاصة بدعمه بالقوات النظامية، وأن الشريف حسين لن
يكون مسرورًا إذا ما رفض طلبًا يدعمه الضابط البريطاني للمدفوعات.
وقد تم له ما أراد، وإن كان لورانس يقول : ان لهجة رسالة المندوب السامي البريطاني "وينغات " كانت أشد
كثيرًا مما ينبغي. وبعدها ذهب لورانس إلى مقر القيادة العامة ليبلغ اللنبي آخر التطورات.
وابتسم القائد العام وأبلغه بأنه جاء متأخرًا، فالقوات الهندية أخذت تصل، كما أن اللنبي قرّر تقديم موعد
هجومه العام إلى أيلول، قبل وصول لورانس بثلا ثة أيام، وعلى هذا فإن الجيوش العربية لن تهاجم منفردة بل
جنبًا إلى جنب مع حلفائها البريطانيين.
وقد تقبل لورانس الأمر على علاته، وإن كان قد تألم لتأكده من أن العرب لن يتمكنوا من لعب دورهم
منفردين.
ثم نزلت الضربة الفعلية . فبعد أن حصل على تأييد اللنبي على خط ته بفعل الوحدات النظامية التابعة لقيادة
علي وعبد الله إلى قوات فيصل، ذهب إلى جدة ليقابل الشريف حسين.
ولكن الشريف لم يعر قدومه أي اهتمام، واحتج بحلول شهر رمضان ولجأ إلى مكة للتعبد، حيّث لا يجوز لغير
المسلمين أن يدخلوا تلك المدينة . وقد اتصل به لورانس هاتفيً ا من جدة ليحاول حمله على اتخاذ قرار، ولكن
الشريف رفض أن يقيد نفسه بوعدٍ ما.
والواقع أن الشريف حسين كان يحسد ابنه فيصل على ما حققه من انتصارات وراح يشك في تقربه من
البريطانيين، وعلى هذا الأساس أوضح أمرًا واحدًا، هو أنه لن يرفع إصبعًا في سبيل مساعدة فيصل عل ى
احتلال دمشق، وانه يكرس كل قواه لرفع مستوى كل من علي وعبد الله اللذين اعلن أ،هما على التوالي وريثا
عرش الحجاز وعرش سوريا . أما فيصل ومستشاره الانكليزي فقد كانا يتبعان سياسة تخالف رغباته، ولذلك فهو
لن يشارك بها.
ولكن الشريف حسين بدافع من حسده وشكه ارتكب حم اقة كبرى، إذ أنه لم يدرك أن سياسته التي يتبعها
ستلقيه في أيدي الفرنسيين الذين كانوا رغم شكه في البريطانيين شكًا عميق الجذور يعتزمون ضم سوريا وما
يمكنهم ضمه من البلاد العربية إلى منطقة نفوذهم بعد تحرير شبه الجزيرة العربية.
والواقع إن شكوك لورانس في ذلك ا ليوم القاتم الذي قضاه في جدة، كانت تعبيرًا عن شكوك الشريف حسين،
تلك الشكوك التي أحيى بها الفرنسيون بما قدموه من دسائس وأكاذيب لاقت قبولا لديه . ألم يكن "بريموند " هو
الذي حرض عبد الله على الوقوف ضد البريطانيين؟ ثم … ألم يكن غريبًا بينما كان فيصل بعيدًا أن يقوم عبد الله
١١٢٢١١
بتسميم أفكار والده عليه وعلى حلفائه البريطانيين، مستخدمًا الشائعات عن الصفقة الانكلو فرنسية حول
اقتسام شبه الجزيرة العربية، من أجل زيادة غضبه؟.
ومع ذلك، فإن ما هو أسوأ كان سيتبع كل ما حصل، إذ أن شكوك الشريف حسين في ابنه فيصل قد انقلبت
إلى اتهام مباشر بعد شهرين فقط من تلك الحادثة، بل وتعدت تلك الشكوك الأمير فيصل إلى قواته.
وحصل في أحد أيام شهر آب أن تلقى الأمير فيصل برقية من مكة فيها نبأ تعيين جعفر باشا قائدًا عامًا للجيش
العربي الشمالي، وهو لقب لا يمكن أن يحمله غير الأمير فيصل ذاته.
ولما لم يشأ جعفر أن يقحم نفسه في مثل هذه الخلافات العائلية، فقد أبرق إلى مكة عارضا استقالته، غير أن
فيصل رفض ارسال البرقية، وبعث ببرقية إلى والده يحتج فيها عليه لمحاولته انتزاع القيادة منه لمجرد حسد لا
مبرر له ولمجرد شبهات لا أساس لها تحوم ضده وضد قواده في الحملة على سوريا.
وتلقى فيصل برقية جوابية تصفه بأنه خائن وخارج على القانون، وعندها عرض فيصل استقالته فقبلها
الشريف، وعين زيدًا مكانه غير أن ابنه الأصغر رفض قبول المنصب رفضًا باتًا.
وكان من الواجب إملاء الفراغ بأسرع وقت ممكن، لأنه لم يبق على هجوم العرب سوى بضعة أسابيع، وكان
على الجنرال اللنبي أن يقرر، بل وطلب إليه أن يتدخل وقرر، ما إذا كان يجب على فيصل أن يستمر في
منصبه رغم إرادة والده، أم انه يجب أن يعلن استقلاله عن مكة.
ومضت عدة أيام حافلة بالقلق، كان كل شخص ينتظر خلالها، وقام اللنبي بضغط على الشريف حسين ليقنع ه
باعادة تعيين الأمير فيصل، غير أن خطوط اللاسلكي من المدينة المقدسة كانت تحمل رسائل تزيد من الاتهامات
الموجهة إلى فيصل . ولكن لورانس نجح في تخفيف محتوياتها قبل أن يعرضها على فيصل، وذلك في محاولة
منه لتخفيف حدّة الخلاف . وخلال ذلك حدث تمرد في صفوف القوات العر بية النظامية التي تناهت إليها شائعات
الأزمة، الأمر الذي فسر انسحاب فيصل ولو بشكل مؤقت، من ميدان توزيع الأموال . غير ان هذا التمرد امكن
السيطرة عليه بعد أن قام لورانس بتقديم الأمير لقواته وتذكيرهم بأن وجوههم ميممة شطر دمشق، وليست شطر
مكة.
وأخيرًا أقنع الشر يف حسين بسحب إرادته غير العادلة، ولكنه لم يستطع، في البرقية التي حملت نبأ عدوله عن
عزل فيصل، إ ّ لا أن يكرر اتهاماته له ولكل من يؤازره من الأشراف.
ومرة أخرى تمكن لورانس من تخفيف لهجة البرقية قبل أن يسلمها إلى فيصل الذي صرح بأن "البرقية قد
انقذت شرفه"، ثم همس في اذن لورانس قائلا: "إنني أعني شرفنا جميعًا".
وهكذا انتهى الحادث بضحكة … ولكن ما كانت تخفيه من نذير كان واضحًا، فإن وحدة شبه الجزيرة العربية
التي عمل كل من لورانس وفيصل على تحقيقها بمختلف الطرق وبمنتهى الحذر، وبكل الوسائل الدبلوماسية
الممكنة، وأعدّا لها الخطط ورسما المشاريع قد بدأت تنهار، وفي اللحظة ذاتها التي كان يترتب فيها على
جيوش الشريف أن تشن هجومها على دمشق وتحرر سوريا، حتى يكون فيصل الأولى بالعرش.
وفي تلك اللحظة بالذات كانت الحركة العربية بأسرها مهددة بخطر الانقسام بدوافع الحسد والغيرة.
١١٢٢٢٢
ولقد ع اد لورانس إلى القاهرة رج ً لا محطمًا، قد انقلبت حماسته إلى يأس، كما أن شعوره بمسؤوليته وأطماعه
الشخصية قد اضمحلت حتى غدت كنقطة في بحر
[/align]

خالد الحويطي 18-02-07 01:25 AM

[align=center]الفصل الثالث والعشرون

تحليلات شخصية

لما عاد لورانس إلى القيادة العامة، القى بنفسه في خضم العمل من أجل إعداد الترتيبات اللا زمة للحملة
الأنكلو عربية المشتركة على دمشق . وكان ذلك يتضمن إعداد خطط مخاتلة، توحي للأتراك بأن هناك
تجمعات هائلة من السيارات والخيام والطائرات، سيستخدمها اللنبي في إعادة الهجوم على السلط وعمان، في
الوقت الذي تكون فيه القوات البريطانية زاحفة باتجاه الشاطئ في حركة التفاف سريعة.
وكان على القوات العربية أن تساعد في إبقاء الأتراك يتوقعون حدوث المعركة في قطاع عمّان ووادي نهر
الأردن، مع قيام حركة تمرد في درعا "النقطة الحسّاسة بالنسبة للجيوش التركية " وهدف القوات البريطانية
الرئيسي.
ونظرًا لأن قوات فيصل لن تكون على أهبة الاستعداد حتى شهر أيلول، فقد اتفق على أن ترسل فرقة الهجانة
بقيادة الكولونيل "بوكستون" للقيام بسلسلة من الغارات على خط سكة حديد الحجاز، من "المدوّرة" حتى عمان.
وكان المأمول أن تساعد هذه العمليات في إبقاء الضغط على الأتراك، بينما تيسر للقوة العربية الضاربة أن
تتمركز في الأزرق، استعدادًا للزحف على درعا.
وبعد أن قاد لورانس رجال "بوكستون" حتى وادي "رم" لتلقينهم الطرق والعادات التي تتبعها القبائل العربية،
تلك الطرق والعادات التي ينتظر أن يلاقوها اثناء هذه الحملة، أسرع إلى مقر قيادة فيصل في سهل "الجفر" الذي
يقع إلى الشمال الشرقي من معان.
وقد وجد لورانس المكان يعج بالنشاط، ذلك النشاط الذي يسبق الزحف في العادة . وكان مقر قيادة فيصل كذلك
يتميز بالتوتر الذي نجم عن زيارة "نوري الشعلان" الذي جاء في النهاية ليعرض تأييد قبيلة "الرولا".
وأخذ لورانس بهذا الهرج وا لمرج، ولكنه لم يستطع أن يقاوم رغبته في خوض الحديث عن الحرية، ذلك
الحديث الذي كان يملأ خيام الأمير فيصل . وعلى الرغم من أن لورانس كان يعرف بأن مستقبله النهائي مرتبط
بمستقبل قضية العرب، إ ّ لا أنه كان يشعر في قرارة نفسه بأنه ينبغي عليه أن يشعر بنوع من التبكيت و تأنيب
الضمير.
حتى لقد كتب يقول : "عندما أتحدث عن الشرف، أشعر وكأنني قد فقدته قبل سنة، عندما أكدت للعرب ان
انكلترا ستحافظ على كلمتها".
ولكن لورانس بدافع من حقده، وشعوره بالخيانة للقضية التي كرّس نفسه من أجلها، وما كان ينتابه من نوازع
الشك في مقدرة العرب عل ى التغلب على دوافع خيانة قضية الحلفاء بأسرها، راح يستمع إلى تقارير فيصل
يوميًا، وكأنه يستمع إلى رواية.
١١٢٢٣٣
ولم يمض طويل حتى كان أحد الأشخاص الرئيسيين في الميدان، وإن كان دوره لا يعدو المراقبة والانتظار،
بينما يقوم الممثلون بتمثيل أدوارهم على المسرح حتى نهاية المأساة.
وفي تلك الأثناء، انصرفت شكوك لورانس التي كانت تعذب دماغه إلى جهة أخرى، فقد وصل "دوناي" يحمل
أنباء سارة عن نجاح "جويس" في احتلال "المدورة" كما يحمل إنذارًا إلى فيصل بالا يستعجل الهجوم على
دمشق، إ ّ لا عندما يتأكد من أن الانكليز قد اخترقوا خطوط الاتراك الدفاعية.
وقد أجاب فيصل مبتسمًا بأنه "سيحاول الهجوم خلال الخريف على دمشق، حتى ولو سقطت السماء على
الأرض، وحتى لو لم يكن الانكليز على استعداد لتحمل قسطهم في ذلك الهجوم، بل حتى لو اضطر إلى انقاذ
شعبه عن طريق عقد صلح مع الاتراك".
وكان لورانس يعلم منذ مدة بأن الأمير فيصل كان يكاتب جمال باشا، ولكنه اعتبر بطريقته البيزنطية أن
تبادل الرسائل بين الطرفين مجرد محاولة لتقسيم صفوف الأتراك، على اعتبار أن قسمًا من أركان حرب جمال
باشا كان يعارض في التحالف مع الألمان وهذا يمثل القسم المتعصب للإسلام ويعارض في ا تخاذ
إجراءات انتقامية ضدّ الحجاز، كيلا تمتدّ المقاومة للحكم التركي إلى أجزاء أخرى من الامبراطورية العثمانية.
وكانت الاتصالات قد بدأت بعيد فشل اللنبي في احتلال السلط، وعندما جاء شقيق عبد القادر، المدعو محمد
سعيد كمبعوث من قبل جمال باشا، ليجس نبض الأمير فيصل حول امكانية عقد مفاوضات للتسوية.
وكان جمال باشا يدرك بأن ورقته الرابحة هي اتفاقية "سايكس بيكو "، ولذلك فقد دعا بشدة إلى ضرورة
تحالف المسلمين واتحادهم معًا، حتى يتمكنوا من إبعاد الغربيين الكفرة.
ولكن فيصل اعاد ذلك الرسول ليبلغ جمال باشا بأنه مستعد لوقف القتال "إذا ما اخلى الأتراك عمان وسلموا
اقليمها لإدارة عربية".
وكاد جمال باشا أن يشنق محمد سعيد لفشله في الوصول إلى احسن من هذا الحل، ومنذ ذلك الوقت استمرت
الرسائل بين الجانبين . وعلى الرغم من انتظامها إ ّ لا أن فيصل كان لا يرد بشىء إيجابي ويكتفي بأجوبة غام ضة
على كل طلب تركي.
ولكن لورانس حذره عن حكمة، بوجود الاتفاق الانكلو فرنس، ونلطه قد اعتقد بأنه أقنعه بأن مصلحته
تقضي بألا يعقد معاهدة صلح مع الأتراك بل أن يثبت ولاءه للانكليز الذين لا يمكن أبدًا ويا للعار أن
يتنكروا للوعود التي قطعوها لوالده. والآن.
وعلى الرغم من أن هذا الاعتقاد كان يهتز بشدة لدى فيصل، والشخص الذي اختاره ليجعل منه ملكًا يهدد بعقد
صلح مع الأعداء فقد حس لورانس بأن الكابوس يقترب.
ولم يعد قادرًا على الجزم وحده بمن يثق وبمن يضع عليه اللوم لتلك الخيانة والخداع، اللذين كان
يمارسهما، واللذين أصبحا عبثًا ثقي ً لا على ضميره.
ولكي يريح دماغه، قرر لورانس أن يتوجه برفقة "جويس" وفرقة من السيارات المصفحة ليعيد استطلاع
منطقة الأزرق، حيّث كان من المقرر أن تحتشد قوات فيصل استعدادًا للهجوم النهائي.
١١٢٢٤٤
ولقد وجد لورانس في هذه الرحلة عزاء بين الجنود البس طاء لفرقة السيارات المصفحة أثر على تطوير آخر
اثنتي عشرة سنة من حياته . وكان لورانس عندما يتحدث إلى من هم في مثل رتبته أو أعلى من رتبته، يتحدث
بلهجة لا تخلو من هياج، أما عندما كان يتحدث إلى من هم دونه رتبة، فقد كان يتحدث بلطف، على الرغم من
أن أولئك الذين قابلهم اثناء الحرب لا يملكون عشر ما يملكه من معرفة وثقافة.
وذلك لأنه بين اولئك الجنود كان لا يحس بضرورة اظهار نفوذه حتى يظهر في المركز الأعلى، وحتى يتغلب
على الشعور بالنقص الذي لازمه منذ ولادته . وكان يجد بين هؤلاء الناس، سواء أكانوا عربًا أم بريطانيين
راحة ن فسية، لم يضعفها كون الرياح تجري بعكس ما كان يتمنى، والتي كانت تضاعف من شعوره بالنقص في
كونه رج ً لا كبقية الرجال.
وكان يجد في تلك الحالة النفسية مهربًا من حقيقته، ومن المسؤولية التي بات يؤمن بأنه لم يعد قادرًا على
تحملها أكثر مما تحملها.
غير أن أحدًا ما كا ن ليعر ما يعتمل في صدر لورانس من مشاعر متناقضة، فقد غدا عبء المسؤولية الملقاة
على عاتقه فجأة غير محتمل، لاسيما بعد أن أصبح حلمه الخاص الذي كان يأمل في تحقيقه يتلاشى.
وقد احتمل كل عذاب وألم جسديين، كما احتمل بالإضافة إلى ذلك كل ضروب العذاب الروحي بما يكفي ، لو
كان هذا الصبر ضروريًا، ليربح العرب قضيتهم، وها هو يحد نفسه أعجز من أن يقرر ما إذا كان سيقود بنجاح
أو يسئ قيادة العرب. فيدفعهم إلى التحالف مع الآخرين.
كان لورانس في غمرة هذه اللحظات الحرجة يكاد يصل إلى درجة الجنون، فقد دفع نفسه أكثر مما يستطيع
عقله أو جسمه أن يتحمل، وأصبحت الخاتمة الآن شيئًا لا مفر منه : نصرًا أجوف أو انسحابًا مروعًا، والسؤال
الآن هل كان بمستطاعه أن يتحمل أيًا من الاحتمالين؟
[/align]

خالد الحويطي 18-02-07 01:26 AM

[align=center]الفصل الرابع والعشرون

قطع شرايين العدو

حدث تجمع كبير للعرب، قبل أسبوع من بدء هجوم اللنبي، وذلك في الأزرق استعدا دًا لشن آخر هجمات
الربيع. فقد كان هنالك فيصل ومعه جنوده الخمسمائة تحت قيادة نوري السعيد، بالإضافة إلى رجال مدفعية
"بيزاني" أو "بيساني" وفرقة من الهجانة المصرية بقيادة "بيك".
وقد انضم إليها عودة ونوري الشعلان والشريف ناصر وفهد وغضوب وطلال ومحمد الفيلان، وع دد من
الشيوخ الآخرين مع بضعة آلاف من رجال القبائل الذين يؤيدون هؤلاء الشيوخ من الحويطات والرولا والزبن
والسيراحين.
وكذلك عد من الدروز الذين قدموا من تلال سوريا ومدن الشمال . وكان لورانس قد وصل بسيارة مصفحة
برفقة "جويس" و"يونغ" واثنين من الضباط الشباب هما "سترلنغ" و"ينترتون" وفرقة من السائقين البريطانيين يقدّر
عددها بأربعين سائقًا، وعدد من حملة البنادق السريعة الطلقات.
١١٢٢٥٥
وكذلك وصلت طائرتان من العقبة بقيادة الضابطين "مورني" وجونور" اللذين كانا قد كوفئا مؤخرًا لبسالتهما
في الغارات التي شنوها على القوات التركية وخطوطها الدفاعية.
وكانت خطة تطويق درعا تتضمن القيام بثلاث غارات على خطوط السكة الحديدية التي تقود إلى خارج
البلدة، بحيث تبقى الخطوط معطلة لمدة لا تقل عن أسبوع، حتى لا يقوم الأتراك بأية تجمعات أو يهبوا من
الأردن وسوريا لنجدة قواتهم في جبهة فلسطين، عندما يبدأ الحلفاء هجومهم.
ونظرًا لأن ما كان لدى الحلفاء من طائرات لم يكن كافيًا للقيام بغارة مباشرة على درعا وتدمير محطتها، فقد
تقرر البدء بنسف خطة السكة الحديدية إلى الجنوب، لقطع دعم عمان (وكان بركستون وفرقته من الهجانة قد
أمر بالقيام بهذه المهمة، غير أنه لم يس تطع تنفيذها لوجود قوة تركية تفوق القوة التي كانت معه ) ثم يتجهون
شمالا لنسف خط سكة حديد دمشق، ثم ينسفون أخيرًا خط السكة الحديدية لفلسطين.
وواضح أن المخاطرة بهذه العمليات من الأمور التي يصعب تصورها، فقد كان كل شئ يعتمد على نجاح
هجوم اللنبي، وهذا الهجوم يعتم د بدوره على القدر الذي يمكن فيه إيهام الاتراك بأن الهجوم الرئيسي موجه إلى
درعا.
فاذا فشلت القوات العربية في خداع الأتراك، أو إذا فشل اللنبي في التغلغل غربًا، فان ذلك يعني أن جيش
فيصل سيقع بكامله، كما يقع الفأر في المصيدة . وكان هذا الجيش يعمل ضمن عدة مئات من الأميال، داخل
الخطوط التركية، والطريق الوحيدة له للتراجع مهددة بالحامية التركية التي كانت ما تزال موجودة في معان
وعمان.
ونظرًا لتفوق قوات الأعداء في كل من عمان ومعان ودرعا، فقد كان ما ينبغي على العدو عمله هو أن يتعلم
في حالة فشل الخطة أن يهجم من الشمال والجنوب ومن ثم يقطع قوات فيصل قطعًا صغيرة.
ولم يكن أحد ليعرف مدى خطر هذه المغامرة، التي كان من المقرر أن تقوم بها القوات العربية، أكثر من
لورانس الذي كان سيرافق تلك القوات . غير أن حالته النفسية لدى وصوله إلى الأزرق، كانت لا تقل حماسا،
حتى ليمكن القول بأنه كان غير مبال بالأخطار التي كانت تهدّده.
وخلافًا للبهجة التي كان يشعر بها اثناء الزحف على "الوجه" والهجوم الصعب على العقبة، فقد كان الآن
عاجزًا عن الشعور بأي حماس لذلك الجو الذي كان يخيم على معسكر فيصل.
وقد كتب يقول :"لقد كان كل واحد مبتهجًا وبصحة جيدة ما عداي… فقد كنت متعبًا لدرجة الموت من هؤلاء
العرب، الذين كنت اشعر نحوهم بالشفقة … إنهم يدركون عدم ثقتنا في مقدرة معداتهم الحربية، أو حتى مقدرتهم
على القيام بخير أو شر".
وأحس لورانس بشىء من الراحة، فعاد وترك اتخاذ القرار لزميله "جويس" وكان "بيك" قد أوفد ليقوم بعمليات
النسف مع فرقة الهجانة التي يقودها، والتي درب أفرادها على فنون العمار من أجل هذا الغرض.
ولكن…. بينما كان لورانس يستعد للسفر في اليوم التالي مع قوات الطليعة إلى قاعدة "أم طايع " التي تبعد
مسافة أميال قليلة إلى الجنوب من درعا، جاءته رسالة مفا دها أن فرقة الهجانة التي أوكلت إليها مهمة نسف
١١٢٢٦٦
الخط الحديدي، قد اعترضتها جماعة من القبائل الموالية للأتراك، بالقرب من النقطة التي كان مقررًا أن يجري
النسف فيها لقطع السكة الحديدية المؤدية إلى عمان.
وجمع لورانس، الرجل المتعب، قواته، وأسرع برفقة "جويس" و"ينترتون" واثنين من الضباط، في سيارتين
مصفحتين، ليقوم بالمهمة بنفسه.
وقد اندفعت هذه القوّة على صغرها، فنسفت المركز التركي ودمرته ولم ينجح من جنوده غير خمسة، أخذتهم
أسرى، كما دمرت جسرًا يبلغ طوله ثمانين قدمًا لقطع اتصال درعا بالجنوب.
وأثناء عودة هذه القوة من غارتها هذه، كادت تقع في أسر دورية تركية، ولكن المصفحتين راحتا تطلقان
المدافع، حتى كادت الذخيرة أن تنفذ، قبل أن يتمكن أفراد القوة من الهرب، تاركين العدو في حالة ذهول لا
توصف.
وقد حدث شئ ما، أثر على لورانس، فغيره من ذلك الشخص اللامبالي الذي كان في الأزرق، إ لى رجل
مجنون، انهمك خلال الأسبوعين التاليين في القتال كرجل أصيب بكرب شديد دفعه إلى ما يشبه الهذيان.
ولكنه عندما عاد والتحق بالقوة الرئيسية التي كانت بقيادة نوري السعيد شمالي درعا، كانت في عينيه نظرة
غريبة تنطوي على مزيج من الكره والقسوة على تلك الروح التي كان يتحلى بها والتي كانت تحمله على
المحافظة على الحياة ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
لقد أحاله اليأس إلى رجل غضوب، ثم أصبح فاتكًا لا يتورع عن تشجيع البدو على عدم الاكتفاء بالثارات،
حتى ليمكن القول بأن تهوره والأعمال التي قام بها خلال اليومين أو الأيام الثلاثة التي تلت، إن دلت على شئ
فإنما تدل على عزمه على الانتحار، إذ أنه لم يسبق له أبدًا عرض نفسه لرصاص العدو، أو قام بأعمال جنونية،
كما فعل في تذلك الأثناء.
وقد قام خلال الزحف حول الجانب الشرق من درعا، بمجهود لا يكاد يذكر لإخفاء نفسه أو تحركاته، فكان
يتقدم على مرأى من سكان البلدة التي كان يعلم بأنها محصنة بثلاثة آلاف جندي، بينها فرق ألمانية ونمساوية،
وكان من الممكن في أية لحظة أن تشاهد قواته القليلة العدد، والتي لا تزيد على بضع مئات، منق بل دوريات
العدو الجوية، وكانت كثيرة النشاط.
وبالتالي كان من الممكن أن تباد قوته عن بكرة أبيها نظرًا لتفوق العدو في العدد والعدّة.
ولكن العدو ظلّ وراء أبوابه بعد أن خدع بشائعات كاذبة مفادها بأنه سيحاصر بقوة من العرب المزودين
بأسلحة كاملة، يبلغ عدد افرادها ثمانية عشر ألف مقاتل . وكانت النقطة التي اختار لورانس أن ينسف فيها جسر
السكة الحديدية بين درعا ودمشق، قريبة جدًا من المدينة، ولا تبعد عنها غير ستة أميال.
ولقد حالفه الحظ مرة أخرى، إذ أن الأتراك ما كانوا ليفكروا في أن ثمة من يجرؤ على مهاجمتهم من هذه
النقطة القريبة إلى درعا، ولذلك فإنهم لم يدعموا مراكز حراستهم . وقد تمكن العرب، بمساعدة قذائف "بيزاني "
من مهاجمة المركز الذي يتولى حراسة الجسر واجهزوا على كل من كانوا فيه.
١١٢٢٧٧
ثم قام الأتراك بهجوم عارم قبل أن تم عملية النسف، مستخدمين أعدادًا كبيرة من الجنود، واسقطوا إحدى
الطائرتين اللتين كانتا قد استدعيتا من العقبة، بعد محاولة بطولية قام به ا قائدها "جونور " لتحطيم تجمعات
الأعداء.
وتشاء الصدف أن يقوم لورانس وحده بانهاء المهمة . فبعد أن وضع قوة صغيرة من حملة البنادق السريعة
الطلقات، لحماية تراجعه، ولاشتغال أية دورية تركية قد تجيئ لإصلاح الجسر تقدم لانجاز المهمة التي كانت
تقضي بعزل درعا، وذلك عن طريق تدمير خط حيفا والوسائل المؤدية التي تسلكها التعزيرات التركية من
الجيشين السابع والثامن التي كان من المفروض أن تقف في وجه هجوم اللنبي . وكان ذلك في اليوم السابع عشر
من أيلول، أي قبل يومين فقط على موعد هجوم الحلفاء النهائي.
في تلك الأثناء كان العدو ق د أخذ علمًا بالأحداث، ولكنه ظل، كما كان اللنبي ولورانس يتوقعان، مخدوعًا في
أن كل هذه العمليات إنما تهدف إلى القيام بهجوم عام على درعا، ولذلك فقد كان "ليمان فوق ساندرز " الجنرال
الألماني الذي أرسل لدعم القوات التركية في دفاعها عن فلسطين، مخدوعًا بشكل كلي بما كان لورانس يقوم به
من هجمات مفتعلة، على خط السكة الحديدية.
فشغل بذلك عن التجمعات البريطانية الهائلة التي كانت تحتشد في وادي الأردن، وهكذا بعث بتعزيزات فورية
إلى قطاع درعا.
وما ان وصلت هذه التعزيزات إلى وجهتها، حتى نصب لها لورانس المصيدة التي كان من المف روض أن تبقي
تلك القوات محاصرة في درعا . ومن أجل اتمام هذا العمل، اختار هدفين، الاول محطة "المزيريب " والثاني
جسر اليرموك، الذي كان قد نجا من التدمير في شهر تشرين الثاني الماضي.
وتوجه لورانس، برفقة رجال حرسه وعدد من رجال القبائل، وفصيلة من قوات نوري السعيد ا لنظامية، وعدد
من رجال مدفعية "بيزاني" الذين كانوا قد تعلموا بسرعة ان يصبحوا خبراء في المدافع المضادة للطائرات، بعد
أن وقعت عليهم كثير من غارات الأتراك توجه إلى محطة "المزيريب". وتمكن من احتلالها بعد قصف قليل
بالمدفعية، أدى إلى مقتل معظم المدافعين عن تلك المح ّ طة.
وترك رجال القبائل يستولون على الغنائم وتوجه نحو الجسر، وكان في هذه المرة يأمل أن يحقق أمله عن
طريق الرشوة، فقد كان الضابط المسؤول عن حراسة الجسر أرمنيًا، وعلى استعداد تام لعمل كل شيء ضد
الأتراك الذين يكرههم.
ولكن الخطة لم تنفذ بشكل صحيح عندما اع تقل ذلك الضابط بتهمة الخيانة، فتحتم على لورانس أن يتوجه نحو
هدف آخر، وهو جسر عال فوق نهر اليرموك:
كان الأتراك هناك بأعداد كبيرة، وعلى الرغم من نجاح مدافع "بيزاني" في تدمير تحصيناتهم، إ ّ لا أنهم لجأوا
إلى صف من الخنادق على امتداد خط السكة الحديدية . ومن هناك واصلوا صب وابل من النيران على
المغيرين، الأمر الذي جعل فرقة لورانس للتدمير تخشى نقل المتفجرات تحت هذا الوابل من النيران، إذ أن
رصاصة واحدة لو أصابت "الحلنجيات" لكانت كافية لتمزيقهم إربًا.
١١٢٢٨٨
ولكن رجال حرسه كانوا أجرأ من اولئك، وتمكن بمساعدتهم من أن يضع الأل غام تحت قوائم الجسر. ولما كان
هذا الجسر، هو الذي شاء القدر أن يكون التاسع والسبعين في سلسلة الجسور التي هدمها لورانس، فكان
وهذا هو الأهم له مركز ستراتيجي، وكان عليه أن يعيش مقابلة في "ام طايع" حتى يصل اللنبي وينقذه . وقد
أكمل المهمة.
وعندها دوى الانفجا ر. وكانت الألغام تحتوي على ثمانمائة رطل من "الحلنجيات " وبعد أن انقشع الغبار
والدخان، لم يكن هنالك أي شيء قد تبقى غير مجموعة من الحجارة والحديد المكسرة.
وهكذا أنهى لورانس المهمة الموكولة إليه قبل أربع وعشرين ساعة من بدء هجوم اللنبي، وبذلك أصبحت
درعا معزولة من الشمال والجنوب والغرب، ولم تعد هناك أية إمكانية لتحرك الأتراك من وإلى فلسطين بطريق
السكة الحديدية، وبات على الجيوش التركية أن تصمد بحزم وإلا أبيدت، إذ لم يعد أمامها أي خط للتراجع ولا
أي أمل في الحصول على تعزيزات بسرعة.
والواقع أن مهمة لورانس قد نفذت، وكانت التعليمات المعطاة إليه، تقضي بأن ينتظر حدوث مزيد من
التطورات، ولكنه بدافع من نوبة الطيش التي كانت تستولي عليه في تلك الأثناء، لم يستطع أن يلبث شرقي
درعا، منتظرًا وصول القوات البريطانية.
وقد كتب يقول : " بعد أسبوعين أو ثلاثة، يجب أن أصر على إعفائي من مهام عملي … لقد انهارت أعصابي،
وسأكون محظوظًا لو أن انهيارها لم يكتشف بسرعة ". وقرر العودة للالتحاق بقوات فيصل في الأزرق، فقد كان
في تلك الأثناء يعلم علم اليقين، بأنه ينبغي عليه أن يطلب اعفاءه من مهامه بعد اسبوعين أو ثلاثة، ولكن … ليس
قبل أن يرى فيصل في دمشق. وبعدئذ يعتزل مهامه في حملة شبه الجزيرة العربية
[/align]

خالد الحويطي 18-02-07 01:27 AM

[align=center]الفصل الخامس والعشرون

مذبحة… وانتقام

كانت الانباء التي استقبلت لورانس لدى عودته إلى "ام طايع" قط جعلته يؤمن بأنه لن يحتاج إلى الانتظار أكثر
مما انتظر، حتى تنتهي أعماله . فقد جاءت إحدى الطائرات من فلسطين تحمل رسالة من القائد العام يقول فيها :
إن القوات البريطانية وقوات الحلفاء قد تمكنت خلال اليومين الأولين على هجومها أن تحطم وتمزق الجيشين
السابع والثامن للعدو، كما استولت من مدينتي نابلس وحيفا، وأن العدو يتقهقر شمالا في فوضى تامة . وكان
ناصر وطلال موجودين ليسمعا هذه الأنباء السارة.
ولما كانا قد حصلا على وعد شفهي من القبائل، فقد طالبا بزحف عربي فوري على دمشق، غير أن لورانس
الذي تحمل الكثير من شظايا قنابل الأتراك اثناء محاولتيه الأخيرتين لنسف السكة الحديدية، شعر بأن الجيش
العربي يجب أن يكون لديه دعم جوي أكثر، إذا ما أراد العرب الزحف على دمشق، رغم سلاح الجو التركي.
فأسرع يستقل الطائرة إلى مقر قيادة اللنبي، حيّث وجد القائد العام غير مكترث إ ّ لا بأنباء نجاح حملته … فقد
أصبحت فلسطين تحت سيطرته، وعليه الآن أن ينتقل للمهمة التالية التي كان يراها حقيقة مقرّرة.
١١٢٢٩٩
وكانت الم همة التالية كما أخبر لورانس بها القائد العام تقضي بتوجيه ثلاث ضربات، واحدة إلى عمان،
بوساطة فرقة الجنرال "شايتور" النيوزيلندية، وأخرى إلى درعا بوساطة الفرقة الهندية بقيادة الجنرال "بارو "
وثالثة إلى دمشق بوساطة الفرقة الاسترالية بقيادة الجنرال "شوفيل".
وكانت الأوامر التي أعطيت إلى لورانس تقضي بأن يساعد هذه الهجمات الثلاث، شريطة "إ ّ لا أنفذ تهديدي
الوقح باحتلال دمشق، حتى نكون جميعًا معً ا". وقد أتاحت هذه الأوامر الفرصة أمام لورانس فطلب دعمًا جويًا،
ووصف بالتفصيل ما لقيه هو وفرقة التدمير، عندما هاجموا درعا.
وكان لورانس ورجاله يعيشون في قاعدتهم في "ام طايع" بحالة هي أشبه ما تكون بعش للدبابير. فقد كانت تلك
القاعدة محاطة بمطارات الأتراك، والقوات الموجودة فيها معرضة لينكشف أمرها لدى أدنى تحرك من قبل
طيارات المراقبة، ومهاجمتها بالقنابل ورصاص البنادق السريعة الطلقات.
وكانت قوات لورانس قد حاولت تدمير المطارات والطيارات، ولكنها لم تنجح، فاذا كان عليها أن تساهم في
دعم قوات الحلفاء لدى قيامها بهجماتها الثلاث والتحرك باتجاه دمشق، فان التغطية الجوية إذ ذاك تغدو أمرًا لا
مفرّ منه.
وقد استمع اللنبي إلى هذا الوصف ومعه قائدا سلاحه الجوي، "سالموند" و"بورتون"، اللذان ما إن فرغ لورانس
من طلبه حتى وعدا بتقديم مقاتلتين من طراز بريستول، وطائرة نقل تستعمل كقاذفة للقنابل وكورشة لإصلاح
المقاتلتين فيما إذا أصيبت أي منهما بعطب . وقد تبدو اليوم هذه المساعدة قليلة، ولكنها كانت كافية في ذلك
الوقت لإرضاء لورانس الذي عاد إلى "أم طايع" راضيًا بما كان يعتبره معاملة كريمة من قبل رؤسائه
البريطانيين الذين لم يطلبوا منه غير أن ينتظر دخول الحلفاء إلى دمشق.
ولم يمزق هجوم اللنبي الجيشين التركيين في فلسطين فحسب، بل وأرغم جيش جمال باشا الذي كان يعرف
بالجيش الرابع، على الانسحاب من شريد في الأردن . وكانت الأوامر المعطاة إلى لورانس تقضي بأن يواصل
ضغطه على تلك القوات المتقهقرة حتى تتمكن القوات النيوزيلندية من طردها خارج عمان ثم الإجهاز عليها
اثناء تراجعها نحو درعا ودمشق، ولكن بعد نسف مسافة كبيرة أخرى من خط سكة الحديد عمان درعا، حتى
يقطع الأمل من إمكان التراجع شما ً لا بوساطة السكة الحديدية.
وقد قام لورانس بإلهاء الأعداء بالقبائل البدوية، بينما اسرع هو بنفسه إلى درعا، ليواصل الضغط على
الأتراك، ومنعهم من تحقيق أية إعادة تنظيم لصفوفهم لتصبح مؤخرة للجيش.
وقد قام بالاشتراك مع عودة ونوري الشعلان وظلال وناصر ونوري السعيد، وقوة ازداد عددها بانضمام
المزيد من رجال قبيلة "الرولا" حتى أصبح أربعة آلاف، بالتوجه إلى مكان الأسبوع الماضي.
فاتجه اولا إلى الشمال، ثم، وبعد أن نسف عدة أماكن من خط سكة حديد دمشق، إلى غرب درعا . وقد قام
عودة وطلال ونوري الشعلان اثناء الطريق، بقيادة فرق عسكرية كانت مهمتها اختبار قوة الحاميات التركية
الباقية بين د رعا ودمشق، وعاد كل منهم ليعلن وقوع مئات من الأسرى الأتراك الذين تركوا دون اسلحة.
وكذلك القت الطائرات منشورات تقول إن القوات الهندية بقيادة ا لجنرال "بارو" والقوات الأسترالية بقيادة
الجنرال "شوفيل" تقود أمامها آلافًا من الأسرى الأتراك.
١١٣٣٠٠
ثم وردت رسالة إلى طلال تفيد بأن الألمان في درعا يضرمون النار في طياراتهم ومخازنهم، استعدادًا لإخلاء
المكان، وقد شوهدت أعمدة الدخان الأسود ترتفع بشكل لا يدع مجا ً لا للشك في طبيعة ما يقدم عليه الألمان.
ولكن طلا ً لا لم يكن ليفكر في درعا في تلك اللحظة، فقد قدر بأن الأتراك المتقهقرين أمام الهنود، كما أفادت
التقارير، لابد وأن يمروا بقرية طفس " التي هي قريته الخاصة. وكانت التقارير تفيد بأن عدد الأعداء يزيد على
الألفين ولذلك فقد خشي على سلامة أهله وذويه.
ولذلك وافق لورانس على طلبه بأن تقوم القوة العربية وباقصى سرعة ممكنة لقطع الطريق على الأتراك
المتقهقرين، قبل أن يصلوا إلى "طفس" وأسرهم. ولما وصلوا إلى منتصف الطريق بلغهم أنهم قد تأخروا، فقد
ابلغتهم جماعة من الأعراب قابلتهم بأن القوات التركية دخلت بالفعل "طفس".
وكان العرب يقودون أمامهم جماعة من الأسرة الأتراك في اسوأ حال، ظهورهم العارية زرقاء اللون من
الضربات والسياط التي تلقوها من آسريهم، ولكن نظرًا لأن لورانس والآخرين كانوا يعلمون بأن اسراهم هم من
قوات البوليس في درعا، تلك القوات التي ذاقوا على أيدي أفرادها أشد العذاب، لم يشعر أحد بأية شفقة تجاههم،
بل لقد شجع لورانس العرب على التنكيل بهم.
وربما كان لدى لورانس نوع من الشعور كما كان لدى طلال أوحى إليه بما سيجده في "طفس " بعد أن
دخلتها القوات التركية . فمن المؤكد أن الشعور ا لذي ساورهم وهم يسيرون باتجاه القرية لا يمكن أن يكون هناك
شعور افظع منه، فقد قام الأتراك بارتكاب أفظع أنواع الجرائم، في اهل تلك القرية.
وقد وصف لورانس الحادث بقوله : "كانت القرية عندما دخلناها ما تزال تلفها سحب من الدخان، ورأينا كت ً لا
رمادية، بدت وكأنها اخت فت بين الحشائش عن أعين القوات التركية. ولما تفحصنا تلك الكتل، وجدناها بشرًا
محترقًا ميتًا، وكان من بينها طفل صغير قتل بوحشية . كان هذا الطفل في الثالثة أو الرابعة من عمره، تجمد
الدم على كتفه بعد أن نزف من جرح كبير، ربما كان طعنة حربة.
وقد جاءت هذه الطعنة ف ي المكان الذي يتصل فيه العنق بالجسم… ومررنا بأجسام أخرى لرجال ونساء …
وخارج القرية توجد أكواخ طينية واطئة، لعلها زرائب للغنم، ووجدنا في أحدها شيئًا ابيض وأحمر، فاقتربت
فوجدته جسد امرأة نزعت ثيابها، وطعنت بحربة في المكان الحساس من جسمها، وكان المسكينة حاملا، وحولها
ترقد أخريات، ربما كان عشرين، وجميعهن قتلن بوحشية لا مثيل لها… "
لكن كل هذا الوصف معظمه مبالغة قصد منه استثارة العرب.
ورأى طلال بعض أهله قتلى، واطلق صرخة كحيوان جريح، والقى بكوفيته على وجهه وتلثم، وأعد بندقيته
وانطلق وراء الأتراك المتقهقرين، الذين كانت صفوفهم ما تزال ترى من القرية، بعد أن غادروها.
ولقد دهش الأتراك لرؤيتهم هذا الشخص الفرد يطاردهم على حصانه . ولما وصل طلال على بعد ياردات
قليلة من العدو المذهول، وكان ما يزال يركض بحصانه بجنون، وقف على سرجه وصاح صيحة الحرب التي
اعتادها "طلال… طلال… " وفي اللحظة الثانية اطلق الأتراك النار من بنادق ومدافع سريعة الطلقات، وسقط
المحارب القديم ميتًا عند أقدامهم، وقد تمزق جسده برصاصهم.
١١٣٣١١
وقد شاهد عودة ولورانس الحادث من أوله، ولما انتهى قال زعيم الحويطات "فليرحمه الله … إننا سنأخذ
بثأره!". وعاد لورانس إلى رجاله، وكان كل تردد لديه في ارتكاب القتل الجماعي قد تبخر، ولم يعد يفكر في
تلك اللحظة إ ّ لا بالثأر.
وقال لرجاله : "إن احسنكم هو الذي يحضر لي أكبر عدد من الأتراك " ثم… مضى مع قواته للعمل، وأمرهم ألا
يأخذوا أي اسير.
ولما لحقوا بالقوات التركية المتقهقرة، انقضوا عليها، وكما قال لورانس: "في جنون، مبعثه الرعب الذي
شاهدناه في طفس… ورحنا نقتل ومن نستطيع، بل ونسحق رؤوس الموتى بحوافر الخيل.
وكأن وفاتهم ورؤيتنا لدمهم المسفوك سيخفف من حزننا ". ولم يبق من القوات التركية غير فرقة واحدة مؤلفة
من مائتي شخص، أسرتهم جماعة من العرب، ل م تسمع أوامر قائدها. وكان لورانس ينوي الإبقاء على هؤلاء
الأسرى ، عندما شاهد على مقربة منه رجلا ملقى على الأرض، قد غرزت الحراب في ساقيه وكتفيه.
ولكنه كان لم يفارق الحياة بعد، وكان له من القوة ما استطاع بها أن يقول إن هؤلاء الأسرى هم الذين فعلوا
به ما فعلوا.
وعلى الأثر أصدر لورانس اوامره الوحشية باطلاق النار عليهم وهم اسرى عزل من السلاح . فهل كان ذلك
بايحاء سابق من اللنبي!
وما إن غابت شمس ذلك اليوم حتى كانت تلك المعركة اليائسة قد انتهت بمقتل عدد لا بأس به من الجنود
الاتراك الذين دخلوا "طفس" وبأوامر من لوران س عالم الآثار الرقيق الذي يكره احتراف الجندية. والذي هاجم
قبل أشهر قليلة أحد الضباط البريطانيين هجومًا مريرًا لأنه أوقع عشرين قتي ً لا في احتلال بلدة "وجه "… هكذا
كان ثقل الكابوس الذي كان يرزح تحته . وقد قال له فراج : "إن الله سيعفو عنك" والواقع أنه لو كان بمقد وره أن
يرى روحه في أواخر أيام حرب الصحراء، وما يعتمل فيها من حب لسفك الدماء، ذلك الحب الذي أحاط عقله
وغير اخلاقه، لو كان قادرًا على ذلك فلابد وان يكون من اكثر مخلوقات الله تعذيبًا.
وهكذا صار لورانس "بطل الامبراطورية" سفاكًا وقاتلا ونذلا فيما بعد
[/align]

خالد الحويطي 18-02-07 01:28 AM

[align=center]الفصل السادس والعشرون

"دمشق"

أصبحت جذور الجيوش التركية ميتة، وفي فجر اليوم التالي على مذبحة "طفس" دخل لورانس درعا، ليجد
الشريف ناصر قد اتخذ له مقرًا في دار البلدية بعد أن تقهقر الأعداء . وكان ناصر قد قام بمذبحة فظيعة في
القوات التركية والألمانية لدى انسحابها من درعا، فقتل ثلثي الفرق الثماني التي حاولت مغادرة المدينة في
السابع والعشرين من شهر أيلول، قبل أن تصل دمشق.
وبينما كان لورانس يدرب الشريف ناصر على واجباته الجديدة، بوصفه السيد الجديد لمدينة درعا، وردت
رسالة تقول بأن قوات الجنرال "بارو" تقترب من المدينة، فأسرع لورانس ليقابل الجنرال.
١١٣٣٢٢
وقد نجا من الموت بأعجوبة، عندما اطلق فريق من القناصة الاستراليين النار عليه، بعد أن أساؤوا معرفة
شخصيته وافراد الجماعة التي كانت ترافقه للترحيب بالجنرال ، وظنتهم عصابة من القتلة . وقد استقبل الجنرال
"بارول" لورانس بتجهم، واستنادً ا إلى ما رواه شاهد عيان، فإن لورانس قد استقبل الجنرال استقباله لطالب
مدرسة، وبترفع كبير، مع إشارة إلى تعاونه مع الجنرال اللنبي.
ولما كان الجنرال "بارول" ضابطًا محترفًا صارمًا، فقد استنكر هذه المعاملة من قبل ضابط برتبة "ميجور" يقل
عنه رتبة كما يقل عمرًا.
وعندما ركبا معًا في طريقهما إلى درعا، أوضح الجنرال "بارو" أن قواته هي التي ستسيطر على المدينة
وأعمالها الإدارية، وبدا مندهشًا، عندما أخذ يشرح مختلف الأمور التي يجب العناية بها كالصحة وحفظ النظام،
لما قال لورانس إن كل شيء قد يتم تنظيمه.
وعندها انتقل "بارو" إلى المرحلة التالية … الدخول إلى دمشق، وأوضح بأنه سيغادر المدينة غدًا ليلتحق
بالجنرال "شوفيل" والقوات الأسترالية، كي يدخلا المدينة معًا، وعرض بكبرياء على لورانس أن يرافقه مع قواته
العربية على أن تشكل هذه القوات جناحه الأيمن، ولكن لورانس كان يملك أفكارًا أخر ى، وإحدى هذه الأفكار أن
يتنقل فيصل من الأزرق إلى درعا، استعدادًا للزحف النهائي لقوات الحلفاء.
وقد تقدم كل من عودة وافراد قبيلته ونوري الشعلان وقبيلة الرولا والشريف ناصر لتعقب آخر فلول قوات
الجيش التركي الرابع، وهي عبارة عن فرقة مؤلفة من الفي جندي مهلهلي ا لثياب، يحاولون عبثًا تجنب هجمات
العرب أو صدها بعدد قليل من المدافع الجبلية استطاعوا إنقاذها من المركز الذي أخلوه.
وعلى الرغم من أن الأتراك المنهزمين كانوا في مركز يستطيعون منه بشق النفس إنزال أية خسارة بأي أحد،
إ ّ لا أن رجال القبائل لم يستطيعوا مقاومة رغبت هم في الاستيلاء على الغنائم. فشددوا هجومهم، حتى أصبحت
القوات التركية الألفين بين قتيل أو أسير، واستولت القوات العربية على كل ما كان مع الأتراك.
ثم أخذ الاستعداد للمعركة النهائية يقترب، فتوجه لورانس إلى "الكسوه" وهي قرية تبعد بضعة أميال إلى
الجنوب من دمشق، كان الجنرال "شوفيل" وقواته الاسترالية ينتظرون فيها وصول الجنرال "بارو " وقواته
الهندية.
ولا شك في أن عشية النصر، بالنسبة لرجل عمل وحلم طوال سنتين من أجل ان يدخل دمشق مع الملك الذي
اختاره دخول الفاتحين لا شك في أن عشية كهذه لا بد وان تكون مثيرة لدرجة مميتة.
ولكن الحقيقة كانت عكس ذلك، فبد ً لا من أن يفخر وينفعل، أحس بالخذلان والخجل، واذ كان يسير في
المعسكر، دون أن تلتفت إليه القوات البريطانية والاسترالية، وقد أحس فجأة وبكثير من الألم بالوحدة القاتلة التي
يعيش بها وبتفاهة مركزة، إذ كانت تلك القوات تعتبره ضابطًا من العرب.
في تلك الليلة بالذات، ليلة الثلاثين من أيلول سنة ١٩١٨ ، انسحبت آخر القوات التركية والألمانية من دمشق،
وما إن ابتعدت مؤخرتها عن سراي المدينة، حتى رفعت الراية العربية، رفعها أعضاء لجنة فيصل في دمشق.
وكان ناصر ونوري الشعلان تواقين للزحف على المدينة في المساء ذاته. غير أن لورانس ثناهما عن ذلك.
١١٣٣٣٣
وكان لورانس ما يزال يملك قوة الإقناع التي يجب أن تتوفر في القائد، وهكذا اقنعهما بأنه من الخير لهما أن
يدخل الشيوخ المدينة مع فيصل ومعه هو "بهدوء فجر اليوم التالي". فقد بقي أمامه يوم واحد قبل أن يتحرك
الاستراليون، وكان عليه أن يفعل الشيء الكثير في ذلك اليوم.
ولما ت حركت القوات مع أول إشراقة الفجر، يقودها ناصر، تكريمًا له للمعارك الخمسين التي خاضها ضد
الأعداء، وصل فارس من جهة المدينة، وعلم أنه أرسل من قبل شكري الأيوبي، قائد لجنة المقاومة في دمشق،
وكان فيصل ق د اتصل به في الليلة الماضية. وبعد أن أدى الفارس التحية لفيصل ولورانس وهو يكاد يطير
فرحا، سلمهما كمية من العنب الأصفر قائ ً لا: "أخبار طيبة، إن دمشق تحييكما".
ثم، عندما اقتربوا من مداخل المدينة، وجدوا استقبا ً لا غريبا في انتظارهم، فقد تجمع الناس لتحيتهم، ولكن هم
كانوا صامتين من تأثير فرحتهم، بتحررهم، فاختنقت أصواتهم في حناجرهم.
وقد كتب لورانس يصف هذا الاستقبال فقال : "كانت الطريق غاصة بالناس الذين اصطفوا على جانبي
الطريق، أو تجمعوا في النوافذ أو على الشرفات واسطحة المنازل . كان كثيرون منهم يبكون، وقليلون يرددون
هتافات خافتة، وهتف بعضهم باسمائنا، ولكنهم في الغالب كانوا ينظرون، ولا يملون النظر والفرحة تلمع في
اعينهم".
ولكن بعد أن دخلوا دمشق، انقلب هذا الفرح الصامت إلى فرح صاحب، عندما اندفعت جموع غفيرة لتحية
القادمين، وراح أفرادها يصيحون بأعلى أصواتهم "فيصل لوران س ناصر " بينما راح آخرون يرقصون
ويهزجون، ويقتربون من السيارة التي كانت تقل ملكهم ومحررهم إلى العاصمة.
ودوت الصيحات والهتافات في الشوارع والميادين، حتى لقد بدت دمشق وكأنها تمر بعاصفة . وقد نسي
لورانس للحظة من الزمن مخاوفه من المستقبل، عندما رأى هذه الهتافا ت المدوية، وقدر بأنها لابد وأن تكون
كافية لتقف وراء فيصل وتدعم عرشه وتجعله سيدًا على سوريًا.
غير أن الحلم كان قصير العمر، فقد كان ناصر ونوري الشعلان قد وصلا إلى قاعة المدينة وجلسا على مقاعد
المجلس، وتمكن لورانس أخيرًا من أن يشق طريقه وسط جموع أهالي دمشق، الذين كانوا يحيطون بكرسي
الحكومة، ولشد ما كان استغراب لورانس عندما رأى أن الأمير عبد القادر يجلس إلى جانب ناصر ونوري،
ومعه شقيقه محمد سعيد، الأداة التي استعملها جمال باشا لإغواء فيصل.
وقبل أن يتمكن لورانس من ان يتمالك نفسه، تقدّم محمد سعيد منه وقال له إنه وشقيقه وشكري قد ش ّ كلوا
حكومة تحرير، واعلنوا أن الشريف حسين الموجود في مكة هو "ملك العرب".
ولما أخذوا لورانس بهذا البلاغ التفت إلى شكري راجيًا الحصول منه على نفس أو تكذيب، ولكن الرجل لم
يكن بقادر إ ّ لا على أن يؤيد ذلك، قائلا أن الجزائريين ومعظمهم من المت طرفين بالنسبة للدين، قد سيطروا
على لجنته بالقوة.
وقال إنه ليس راضيا عما تم على ايديهم لأنه رأى بنفسه كيف وقفوا مع الأتراك، حتى ولى الأتراك الأدبار،
ولكن ماذا يستطيع أن يفعل؟ إنه لم يكن من القوة بحيث يستطيع مقاومتهم.
١١٣٣٤٤
ولم يشعر لورانس بأية مرارة نحو شكري، ل تسليمه للجزائريين ، فقد ظل يعمل أثناء الاحتلال التركي، رغم
كل ما قاساه على يدي جمال باشا، وها هو الآن يصل إلى نهاية عمره.
ولكن الضرورة تقضي بأن يفضح أحد ما خيانته، فالتفت لورانس إلى ناصر ليتولى زمام المبادرة . وفي تلك
اللحظة سمع في الغرفة زئير مألوف لصوت م عروف، وصمت العرب الذين كانوا في الغرفة الداخلية . ثم
تكشف الأمر ليتضح أن صاحب الزئير هو عودة وانه يضرب أحد مشايخ الدروز، إذ أهانه فغلى الدم في
عروقه، حتى كاد يفقده صوابه . وبعد أن أبعد الرجلان عن بعضهما، وأخرج المضروب من قاعة المدينة، راح
لورانس يبحث عن ناصر.
لكنه كان قد اختفى مع الجزائريين، تاركًا لورانس وحده وسط خليط عجيب من العرب والدروز والبدو
ورجال القبائل وأهالي دمشق والفلاحين، وكانوا منتشين بالنصر المفاجئ الذي حقق لهم، ويصيحون باسماء
زعمائهم وابطالهم، ويتعارك بعضهم مع بعض بقبضات الأيدي . إن صيحة خطر تن بعث الآن من هؤلاء
الحمقى، وثمة عرش يتهدده غاصبون.
وراح لورانس يعمل بمرارة من أجل إنقاذ دمشق لصالح فيصل، فبعث يستدعي عبد القادر وشقيقه، ولكنهما
رفضا في بادئ الأمر الامتثال لدعوته، ثم أذعنا فيما بعد، ليجدا نفسيهما مطوقين بفرقة من قوات نوري السعيد،
وفرقة أخرى من قواته النظامية، وفرقة ثالثة من قوات نوري الشعلان.
وأبلغهما لورانس أنه بوصفه يعمل نيابة عن الأمير فيصل، فقد أمر بالغاء حكومة عبد القادر، على أن يعين
بد ً لا عنها شكري الأيوبي بمنصب نائب حاكم ونوري السعيد بمنصب حاكم عسكري.
وقد تحدى محمد سعيد على الفور ه ذا القرار، ووصف لورانس بأنه كافر بريطاني، ودعا ناصر ليؤكد
سلطانه. ولكن الشريف لم يكن باستطاعته إ ّ لا أن يجلس بخزي، وهو يرى نفسه يجرد من أصدقائه . وهنا حاول
عبد القادر القيام بهجوم مباشر، فاستل خنجره وهو يقسم الأيمان المغلظة على قتل الانكليزي الذي بدد خططه،
ولكن عودة انقض عليه كالصقر ومنعه من ذلك.
ثم ان لورانس والآخرين انهمكوا في معالجة المشاكل العملية التي من شأنها أن تعيد للبلد حكومته ونظامه،
وكان من الضروري إنشاء قوة بوليس، كما ألفت فرقة مطافئ، وراحوا يعملون من أجل إعادة التيار الكهربائي،
واتخذوا الاجراءات الصحّية، ونظفت الشوارع من القاذورات وشظايا سيارات الأتراك وغير ذلك من الانقاض
التي تخلفها الحرب . وكان من الضروري إحضار المؤن والمساعدات لسكان نصف جياع منذ أيام، وكذلك كان
عليهم أن ينظفوا المستشفيات ويحضروا الأدوية ليستطيعوا التغلب على انتشار مرضي التيفوس والديزنطاريا.
وكذلك الحال بالنسبة للمواصلات والسكك الحديدية والمواصلات اللاسلكية كل ذلك كان بحاجة إلى
إصلاح. وقد عملوا طيلة الليل كالمجانين، يحدوهم تصميم على أن يظهروا لقوات الحلفاء متى وصلت في اليوم
التالي ماذا يستطيعون عمله من أجل أن يحكموا أنفسهم، وأ ن يخلقوا النظام وسط الدمار، لكن المنجزات لم تكن
بالنسبة إلى لورانس سوى واجهة البناء، أما واقع الأمر فقد كان ما رآه في قاعة المدينة والمنازعات التي قسمت
عائلة الشريف.
١١٣٣٥٥
وأخيرًا عندما أغمض عينيه ليأخذ قسطًا بسيطًا من الراحة سمع المؤذن يدعو الناس للصلاة . وبعد أن انتهى
الأذان، ولبى أهل دمشق النداء للصلاة وشكر الله على تحريرهم، أحس لورانس مرة أخرى بوحدته، وطيشه في
كل ما قام به، إذ أنه كما كتب يقول: "كم كانت الأحداث يومذاك مؤسفة والنتائج لا معنى لها".
وبعد ساعة استيقظ لورانس ليبلغ أن عبد القادر قد أعلن الثورة، فق د دعا رجاله إلى اجتماع كما دعا الدروز
أيضًا الذين كانوا قد أعلنوا سخطهم والذين راحوا ضحية سهلة لدعايات الجزائريين القائلة بأن فيصل واتباعه
ليسوا سوى أذناب للكفرة الانكليز، ويجب إزالتهم إذا ما أريد للدين الاسلامي أن يصان من الفساد.
وأسرع لورانس ونوري السعي د يتخذان الترتيبات اللازمة لمواجهة هذا التمرّد . فأمر نوري فريقًا من حملة
المدافع السريعة الطلقات بالمرابطة في نقطة استراتيجية، بينما توجه لورانس برفقة كيرك برايد فقط يخطبان في
الناس ويشرحان لهم إخلاص فيصل ابن الملك حسين لقضية العرب.
وكانت مهمة شاقة تعرض خ لالها للموت أكثر من مرة، على أيدي الدروز المتطرفين في وطنيتهم، الذين
اشعلتهم دعاية عبد القادر بنار الحقد والكراهية، فكانوا يهاجمونه محاولين قتله، ولكن "كيرك برايد" كان يستعمل
مسدسه في صدهم.
وكان الجنرال "شوفيل" وقواته الاسترالية قد وصلوا في الوقت الذي اند لعت فيه نار الثورة فعرض بأن تساهم
قواتهم في إخمادها، غير ان لورانس رفض العرض … ربما لأنه كان يرى في الأمر ما لا يستحق الاهتمام،
وربما بدافع العرض… ربما لأنه كان يرى في الأمر ما لا يستحق الاهتمام، وربما بدافع من كبريائه.
وبعد ساعات قليلة على فتح نيران المدا فع السريعة الطلقات على المتمردين، هرب عبد القادر، تاركا شقيقه
ليقع أسيرًا في أيدي القوات العربية.
هذا وقد بلغ لورانس في تلك اللحظة أقصى حدود الإعياء، فهو لم ينم غير ثلاث ساعات منذ أن غادر درعا
قبل أربعة أيام . وكان عليه أن يحمل عبء تركيز عرش فيصل وحكومته، وان يكشف مؤامرات المتربصين،
كما يعيد الحكم المدني إلى بلد تركه محتلوه السابقون في حالة من الفوضى لا مثيل لها.
والأصعب من ذلك كله أن يحاول جعل مواطنين ثوارًا حفظة على القانون، مواطنين امضوا سنين من حياتهم،
والسنتين الأخيرتين بصورة خاصة في تحدي السلطة وخرق القوانين، على اعتبار أن هذين العملين من أعمالهم
الوطنية.
وهكذا فقد كانت مهمة لورانس تفوق احتمال شخص واحد، ناهيك عن شخص مجهد جسميًا يكاد يصاب
بانهيار الاعصاب.
ومع ذلك، فقد كان هنالك خطر آخر يجب تفاديه . ففي العشاء الذي أقيم في اليوم الثاني لدخولهم دمشق، طل ب
أحد الأطباء الاستراليين إلى لورانس أن ينظف أحد مستشفيات الأتراك مع القاذورات التي تراكمت فيه، حتى
لقد هجره أطباؤه وممرضوه، ولم يكن هذا الطبيب مغاليا في وصفه، عندما شاهد لورانس بنفسه ما يحتويه من
قاذورات، وقد كتب لورانس يقول في وصف ذلك المستشفى:
"اوساخ ت جعل السليم مريضًا، ولما فتحت عيني، رأيت منظرًا مفزعًا، كان بلاط المستشفى مغطى بجثث القتلى
الذين رصوا الواحد إلى جانب الآخر، بعضهم في بزاتهم العسكرية الكاملة، وبعضهم في ملابسهم الداخلية
١١٣٣٦٦
وبعضهم عارون تمامً ا… وكان القليل من هؤلاء جنودًا قتلوا حديثًا، والباقون قد قتلوا منذ أمد طويل، وكانت
الوان بعض الذين قتلوا حديثًا صفراء وزرقاء وسوداء . وبعضهم قد انفتحت بطونهم وتدفقت منها سوائل نتنة لا
يمكن لمخلوق أن يشمها".
ومضى لورانس و "كيرك برايد " يبحثان عن المساعدة، بعد أن رفض الاستراليون تقديم أية مساعدة، غير أن
بعض الأط باء الأتراك الذين وقعوا في الأسر، وبمساعدة فريق باسل للحفر من الأسرى الأتراك، جندوا للعمل
ودفن الموتى وتنظيف العنابر التي كانت، لدهشة لورانس، ما تزال تضم عددًا من الأتراك الجرحى الذين كانوا
من أن يأتوا بحركة غير التلويح بأيديهم طلبًا للرحمة.
وقد أشرف "كير كبرايد " على دفن الموتى، أما لورانس فإنه بعد أن تلقى قائمة الإصابات من الأطباء، وكانت
تتضمن ستة وخمسين ميتًا، ومائتين يحتضرون، وسبعمائة من الجرحى أو المرضى، ذهب لينال شيئًا من
الراحة.
ولكنه لم يسترح قبل أن استدعاه الجنرال "شوفيل" وطلب إليه أن يسجل شكوى من أن قسمًا من قواته العربية
ترفض تأدية التحية لضباطه!.
وكانت الأحوال في المستشفى في اليوم التالي لا تقارن بأحوالي اليوم السابق كما شاهدها لورانس، فقد ظل
"كيرك برايد " ساهرًا مع الأطباء حتى أتموا تنظيف المكان وعينوا ممرضين من الأتراك الأسرى ليرعوا شؤون
المرضى.
ومع ذلك، كان هنالك الشيء الكثير الذي ينبغي عمله . وبينما كان لورانس يقوم بجولة تفتيشية، تقدم منه
ضابط من سلاح الصحة برتبة "ميجور" وسأله عما إذا كان هو المسؤول.
وقد أجابه لورانس قائلا: "انني المسؤول، إلى حد ما!".
فانفجر الضابط قائ ً لا: "يا للفضيحة والخزي والقذارة… يجب أن تقتل".
وكان لورانس قد بلغ حدًا من الصبر لم يعد لديه بعده ما يستطيع الصبر عليه، وثارت ثائرته لهذه الإهانة
المفاجئة، ولكنه كظم غيظه، ولم يقم بأية محاولة ليشرح للضابط كيف كانت الأحوال في اليوم السابق، وبد ً لا من
ذلك انفجر في قهقهة عالية.
وقال الميجور : "يا لك من قاتل دموي ". ورفع يده وصفع لورانس على وجهه، ثم مضى وهو يدمدم بكلام عن
الشرقيين الذين هم أدنى مرتبة من الحيوانات، بينما وقف لورانس للحظة في حالة من الذهول، دون أن يشعر
بغضب من ذلك الذي صفعه، وإن كان قد شعر بخجل من نفسه وعدم نقاء روحه.
ولكن تلك الصفعة قد أعادت لورانس إلى وعيه، وأشعرته بما يعانيه هو من إجهاد، وكان يعلم في تلك اللحظة
بانه لن يستطيع المضي قدمًا أكثر مما مضى، وأنه لا يستطيع أن يستعمل عقله أو جسمه، أكثر مما استعملهما.
ولما غادر المستشفى لمح سيارة اللنبي الرولز رويس خارج الف ندق الرئيسي في المدينة. فأسرع تجاهه ودخل
الفندق. وبعد بضع دقائق كان يقدّم تقريره النهائي إلى القائد العام . وقد استمع اللنبي باهتمام، وأيد بكلمات قليلة
كل التعيينات التي أجراها لورانس والأوامر التي أصدرها، ووضع المسؤولية في يد فيصل وحكومته وقوات
الحلفاء.
١١٣٣٧٧
ثم طلب لورانس تسريحه، ولكن اللنبي رفض في بادئ الأمر توقيع المرسوم على اعتبار أن خدماته الآن
مطلوبة أكثر من أي وقت مضى في شبه الجزيرة العربية، ولكن هذا لم يجده نفعًا.
فقد كان يعلم أن لورانس قد صمّم وانتهى الأمر، فما الذي حصل لتحقيق هذا التغيير؟ ولماذا اصبح النصر
الذي عمل له لورانس طويلا شيئًا محزنًا بالنسبة له، ولم يعد يريد أن يعيشه؟ ان اللنبي، على الأغلب لم يستطع
أن يفهم السبب، ولكنه كان يحترم ويحب مرؤوسه إلى درجة كبيرة تمنعه من إرغامه على البقاء خلافًا لرغبته.
وهكذا غادر لورانس مسرح انتصاره بشكل مفاجئ دو ن أن يقدم إ ّ لا القليل من التفسير لنفسه عن السبب الذي
حدا به إلى دخول هذه المغامرة منذ البداية . وكان في بعض اللحظات التي كان يهاجمه فيها حتى اقسى منتقديه،
لا يحركه شيء غير الخجل من كل ما قد فعل، والخجل من وجوده، ومن جميع الأصدقاء الذين وثقوا به
واقترف بحقهم ما اقترف.
ولما وجد نفسه محصورًا في سجن من تبكيت ضميره، لم يجد ما يستطيع أن يفكر فيه سوى الهرب
[/align]

خالد الحويطي 18-02-07 01:29 AM

[align=center]الفصل السابع والعشرون

خروج وعودة

لم يتفق اثنان من مؤرخي لورانس، على ما يبدو، على الأسباب التي تكمن وراء ميله إلى الهرب من ميدان
النصر. ويقول "دافيد غارنيت " إنه قد ترك لأنه شعر ان الجولة الثانية في دراما خيانة الانكليز للعرب ستجري
على مائدة المؤتمر، وأنه لذلك سيفيد العرب اكثر إذا أسرع بالذهاب إلى لندن مما لو بقي في دمشق لجني ثمار
انتصاره.
أما "لويل توماس " فيرجع سبب سفره إلى إجهاد جسمي وعقلي، ويؤيده في ذلك الدكت ور "ارنست التونيان" وهو
طبيب بريطاني وشاعر أرمني الأصل، وأحد أصدقاء لورانس المقربين.
ويقول "ليدل هارت " إن لورانس قد أخبره بأن "كل شيء قد انتهى فأي سبب أفضل للعودة؟ ". أما الشرح الذي
أورده لورانس نفسه فقد قال فيه إنه أصبح خائفًا جدًا من رغبته في السلطة والمركز، فآثر الهرب.
ومن الجائز أن يكونوا جميعًا مصيبين في تقديراتهم، نظرًا لعدم وجود تناقضات حقيقية بينها، فقد كان تعبًا
وهذا أمر مؤكد، والتعب سبب وجيه، والهرب من مطامحه الخاصة تفسير آخر مقبول، وكانت التقارير التي
كتبت عنه في الأشهر الأخيرة لحملة الصحراء تفي د بأنه أصبح رجلا رأى انعكاس نفسه على مرآة تحليله
لشخصه، فافزعه ما رأى.
وفي الوقت ذاته فإن نداءاته المتواصلة للدعوة للقضية العربية واستقلال العرب، عقب وصوله إلى لندن
وخلال انعقاد مؤتمر الصلح، تظهر أنه ما زال راغبًا في أن يبقى، كما كان ، في خدمة أصدقائه الع رب، ولكن
خارج شبه الجزيرة العربية.
وكذلك فإن "مهمة لورانس قد انتهيت" في الشرق الأوسط. وقد كشفت السير "رونالد ستورز " في "شرقياته "
النقاب عن أنه في حوالي نهاية التحالف العسكري، كانت علاقة لورانس بالأمير فيصل، علاقة مرة، وأن الأمير
١١٣٣٨٨
فيصل فيما بعد، قد تحدث بله جة تنم عن عدم الشكر عن حليفه في وقت ما، وقد أضاف "ستورز" قائلا : "الأمر
الذي قد استنكره أكثر لو انني تصورت مطلقًا ان الملوك يمكن أن يكونوا مثل صانعيهم".
ومن هنا يمكن القول بأن هناك قليلا من الشك، بان الأمير فيصل لما وصل إلى دمشق قد أوضح للورانس بأن
مهمته ف ي شبه الجزيرة العربية قد انتهيت . فقد جلس الملك على عرشه، أما صانع الملك فقد أصبح بالإمكان
صرفه الآن، بل يجب صرفه، إذا ما أراد فيصل أن ينفي الشكوك التي كانت تسود مكة، والقائلة بأنه كان متأثرًا
أكثر من اللازم بهذا الكافر البريطاني.
ورقي لورانس إلى رتبة كولو نيل وعاد إلى لندن، وذهب إلى وزارة الحرب، قبل أيام قليلة من عقد الهدنة
العامة في تشرين الثاني سنة ١٩١٨ وإعلان هزيمة المانيا نهائيًا وهزيمة شركائها كذلك.
وما إن وصل حتى باشر العمل لمصلحة استقلال العرب . وعندما استدعي للمثول أمام اللجنة الشرقية في
الوزارة الب ريطانية، قدم مذكرة مكتوبة بأبلغ عبارة، تذكر أصل وأهداف ثورة العرب، واقترح وضع خطة
لترتيبات ما بعد الحرب بالنسبة لشبه الجزيرة العربية.
فالحجاز يجب أن تنال استقلا ً لا كام ً لا، أما بلاد الرافدين فيجب أن توضع تحت الانتداب البريطاني، ويجب
وفق اقتراحه هذا، اعطاء فيصل سوريا باكملها باستثناء شريط ساحلي يتضمن بيروت التي يبج منحها إلى
فرنسا.
وبالنسبة إلى وعد بلفور الصادر في سنة ١٩١٧ ، والذي يدعو إلى إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، فقد
أكد بأن العرب جميعًا متفقون على أنهم يفضلون ان تكون تحت إشراف بريطانيا، وألا ينشأ فيها وطن لليهود.
وكانت هذه الآراء غير مفهومة ولا بشكل من الأشكال في اوساط الدوائر البريطانية الرسمية في ذلك الوقت
لسبب واحد اوضحه "جين بيرود فيلارز " في كتابه "ت. ل. لورانس" عندما قال: "كان عدم الميل إلى الفرنسيين
منتشرًا ببريطانيا في اعقاب الحرب العالمية الأولى.
وبعد اربع سنوات من الحرب " وذبح قسم كبير من قوات الجيش البريطاني، وبعد أن اصبح الشعب على أهبة
الاعتقاد بأن "ما قاساه البريطانيون قد فرض عليهم لمصلحة الفرنسيين".
وثمة سبب آخر هو أن بريطانيا كانت حريصة كل الحرص على عدم تلبية مطامع فرنسا في الشرق الأو سط .
وصحيح أن بريطانيا قد أرغمت بدافع عن ملابسات الحرب وارضاء حلفائهم الفرنسيين على إعطاء تعهدات
معينة، تمكن فرنسا من أن تركز نفسها في المشرق بعد أن تربح الحرب، ولكن … إذا أمكن شراء فرنسا بالثمن
الذي اقترحه لورانس، فإن ذلك سيترك بريطانيا هي المسيطرة، بينما ت نفذ في الوقت ذاته وعلى الأقل، تعهداتها
للشريف حسين.
ولكن، لم تكد هذه الحالة من القناعة تستقر في اوساط "الوايت هول" حتى بدأت أول بوادر الاضطرابات من
دمشق. فقد أقدم العرب، خلافًا لنصيحة لورانس على احتلال بيروت، المركز الرئيسي للكاثوليكية والثقافة
الفرنسية ف ي الشرق، بدلا من تركها للحلفاء ليحرروها، بوصفها منطقة من المناطق التي حفظت لفرنسا،
بموجب اتفاقية "سايكس بيكو ". ولكن بوصول "جورج بيكو" أحد أقارب واضع الاتفاقية، ليعمل مندوبًا ساميًا
لسوريا، سّلمت المنطقة إلى الفرنسيين بأمر من القائد العام البريطاني.
١١٣٣٩٩
غير أن السلطات الفرنسية لم تكن لترضى بمثل هذه السهولة، فبعد أن ارغمت العرب على إخلاء بيروت،
ارادت أن تحصل على المزيد.
وقد أبلغت ذلك بشكل لا لبس فيه إلى فيصل، وقد الح بعض اتباع الامير عليه بأن يقاوم، ولو استدعى الأمر
بقوة السلاح، أية طلبات أخرى بقبول سيطرة فرنسا وسحب قواته من سوريا.
ولما لم يستطع أن يقرر بنفسه ماذا ينبغي عليه أن يفعل، ونظرًا لأنه لم يكن متأكدًا من القدر الذي يستطيع فيه
الاعتماد على الدعم البريطاني في نزاع مكشوف مع فرنسا، فقد أرسل فيصل كتابًا إلى لورانس، الذي حصل
بالفور على دعوة له من الحكومة البريطانية للمجىء إلى لندن لدراسة الوضع.
وفي اليوم السادس والعشرين من شهر تشرين الثاني، هبط الأمير من المدمرة البريطانية "غلوسستر " في
مرسيليا، وكان يرافقه نوري السعدي. وكان لورانس هناك ليقابله وهو يرتدي ثيابه العربية.
وفي الوقت ذاته كانت خطوط اللاسلكي الف رنسية منهمكة بين باريس وجدة والقاهرة ودمشق، وقدم احتجاج
رسمي للشريف حسين جاء فيه أن الحكومة الفرنسية لم تبلغ كما ينبغي بمهمة فيصل، وهو خطأ كبير ما دام
الأمير لم يتلق أوامر من والده، وهو على كل حال ذاهب إلى لندن وليس إلى باريس، ثم استدعي عاثر الحظ
"بريموند" من إحدى القيادات في الجبهة الغربية، وطلب إليه أن يسافر حا ً لا لمقابلة فيصل، لكي يعرض عليه
ضيافة فرنسا.
أما بالنسبة إلى لورانس فقد كانت الأوامر المعطاة إلى "بريموند" تقضي بأن يحييه إذا ما جاء مرتديًا زيه
العسكري برتبة كولونيل وألا "يقبله إذا كان يرتدي الثياب العربية!".
وقد أطاع الرجل أوامر حكومته وتعليماتها المشددة، لأنه لما رأى لورانس يدخل ملتفًا بعباءته البيضاء المذهبة
إلى جانب فيصل، لم يسعه إ ّ لا أن يعرب للأمير عن رأي حكومته . ولشد ما كانت دهشته عندما طلب فيصل إلى
لورانس أن يعود إلى لندن، بينما تابع جولته هو في فرنسا برفقة "بريموند" تلك الجولة التي انتهت به إلى باريس
حيّث استقبله الرئيس "بونيكار" استقبالا رسميًا، وحيث أقيمت حفلة عشاء على شرفه في وزارة الخارجية . وبعد
أسبوعين من وصوله إلى فرنسا سافر إلى مدينة "بولون" ليجد لورانس مرة أخرى في استقباله على سلم الباخرة
التي كان من المقرر أن تنقله إلى انكلترا.
وقد نبع ذلك جولة في انكلترا برفقة لورانس الذي كان ما يزال مخلصًا للأمير، ثم زيارات رسمية وحفلات
استقبال بحضور الملك جورج الخامس، كان فيها لورانس يرتدي أيضًا الملابس العربية.
الأمر الذي أثار حفيظة المسؤولي ن. وأخيرًا سلسلة من الاجتماعات في وزارة الخارجية لدراسة مطالبه في
سوريا، وللتحضير من أجل مؤتمر الصلح الذي كان على وشك أن يفتتح في باريس.
ويبدو إخلاص لورانس لفيصل في هذه الفترة بعد كل ما لقيه من إهانات أمرًا غريبًا، وقد يتساءل المرء لماذا
كان عليه أن يهتم بهذا الأمير؟ ولماذا واصل مساعيه من أجل تدعيم فيصل بعد أن أصبح من الواضح أن قضية
الهاشميين قد مزقتها أحقاد مؤسفة ومؤامرات خسيسة، ولم يعد بمقدورها أن تحقق لهم الاستقلال؟ ولنعترف بأن
الحكومة البريطانية كانت تحب خطته لا يجاد تسوية عربية، ولكن … مع كل يوم يمر، كان الفرنسيون يزدادون
١١٤٤٠٠
إصرارًا على الاستيلاء على سوريا، وكانت وجهة النظر الفرنسية تطالب بدفع تعويضات وجوائز لما قاسته في
الشرق وللخسائر التي تكبدتها فرنسا في الجبهة الغربية.
وكان من المستحيل تقريبًا، أن يقبل البريطانيون، نظرًا لضعف العرب وتفرقهم، خطة لورانس ، ومنع فرنسا
من الحصول على أكثر من بيروت وشريط من الشاطئ.
فما الذي دفع لورانس إذن بمثل هذه الحماسة؟ لا شك في أن الدافع هو حبه لسورية البلد الأول الذي أحبه بين
جميع البلدان العربية، والتي كان يسميها "حديقة الأشجار الفاتنة"، والمكان الذي تعرف فيه أول ما تعر ف على
جمال الصحراء، وغسل فيه روحه بطهارتها اللامتناهية، والمكان الذي وطد فيه دعائم صداقات مع رجال مثل
الشيخ حموده، وحيث وجد روحًا صافية لدى شباب العرب وخاصة الشاب المدعو أحمد.
لقد كانت سورية هي التي قاتل من أجلها . وكان دائمًا يدعو إلى الحرية والاستقلال لس وريا. وكانت دمشق
تراوده في الأحلام، منذ ذلك اليوم، قبل ثلاث سنوات، عندما قبل في غمرة الجو المشحون المكان الذي كان
فيصل يتخذه مقر قيادة له في "الحمراء".
وقد تدفن اطماعه الشخصية، كما أن خدماته للأمير قد لا يكافأ عليها، وأحلامه بايجاد بلاد عربية موحدة قد
تنقل إلى كابوس، فتتحول البلاد العربية إلى بلاد تحت الانتداب أو تحت الحماية أو حتى مستعمرات ومع
ذلك كان يشعر بأنه يجب أن يواصل النضال من أجل سورية وانقاذها من قبضة الفرنسيين . وقد تمكن لورانس
بفضل إحدى مصائب التاريخ، أن ينفذ فيصل، ولكنه لم يستطع ان ينقذ سورية
[/align]

خالد الحويطي 18-02-07 01:30 AM

[align=center]الفصل الثامن والعشرون

فوضى في المؤتمر

دخل فيصل ولورانس في مشاكل قبل أن يفتتح مؤتمر الصلح في باريس في شهر كانون الثاني سنة ١٩١٩
مع الفرنسيين ومع الشريف حسين . فقد رفض الفرنسيون في بادئ الأمر أن يقروا بأن الأمير هو ممثل لدولة لا
يعترفون هم بقيامها، وكانوا مصممين على استخدام كل وسيلة وضغط للتأكد من أنها لن تقوم لها قائمة.
وكذلك رفض الشريف حسين الذي كان يحسد ابنه، في بداية المؤتمر، الاعتراف بأنه ابنه هو الممثل للقضية
العربية، وكذلك بأنه سيد لدولة عربية، له فيها مطالب، واتهم ابنه فيصل بأنه قد اغتصب عرشها على حساب
شقيقه عبد الله.
ولم يكن غير البريطانيين يؤيدون الأمير، وقد استطاعوا في النهاية إقناع "كليمنصو " رئيس وزراء فرنسا،
الذي كان يدعى "النمر" وكذلك الشريف من سحب اعتراضاتهما.
ولم يكن فأ ً لا حسنًا للعرب، أن يجلس الأمير فيصل النحيل البنية ومعه لورانس على مائ دة المؤتمر، وعلى
المقاعد المذهبة الرائعة في صالون قصر "دي لاهورلو" في "الكوال دورسيه".
فقد جلس الأمير منتصب الظهر، وحيدًا، وسط ممثلي الدول الذين كانوا سيقررون مصير أمته ومستقبل
قضيته. ولقد اعتبره الفرنسيون معاديًا لهم، وأحس الأميركيون، ممثلين بالرئيس ويلس ون بعطف بالغ على هذا
١١٤٤١١
الممثل لشعب اضطهد طوي ً لا. وقد أخذ مؤلف النقاط الأربع عشرة، وواضع أسس مبادئ تقرير المصير فكرة
روماتيكية عن الأمير ومنجزاته.
أما الوفد البريطاني برئاسة المستر "لويد جورج" فقد وجد نفسه متأثرًا جدًا بتضارب الولاء الذي وجد
البريطانيون انفسهم محاطين به.
وكانت حيرة الحكومة البريطانية ممثلة في الفوضى المباشرة وتناقض المعاهدات والتعهدات والالتزامات التي
كانت بريطانيا وكل الممثلين في المؤتمر يواجهونها.
فهناك أو ً لا تعهدات بريطانيا للشريف حسين التي قطعتها له سنة ١٩١٥ والتي تلتزم فيها بريطانيا با لاعتراف
باستقلال العرب، إذا ثار الحسين على الأتراك. وهناك ثانيًا إتفاقية "سايكس بيكو " المعقودة سنة ١٩١٦ والتي
تقضي بإقامة دول للعرب في سوريا وبلاد الرافدين، مع منح فرنسا وبريطانيا وروسيا، مناطق نفوذ.
وقد خسرت روسيا حقها هذا فيما يتعلق بالموضوع، لأنها أع لنت ثورة في بلادها، ووقعت معاهدة صلح
منفردة مع المانيا، ولكن لم تكن هناك أية بادرة توحي بأن الفرنسيين على استعداد للتخلي عن حصتهم.
أما مطالبة فرنسا بسوريا فتستند إلى أسباب استعمارية من جهة، وأسباب خاصة بفرنسا من جهة أخرى، على
اعتبار أن الفرنسيين هم حماة الكثلكة، والذين يتبعون هذا الدين في العالم العربي.
ولم يكن بمقدور أية حكومة فرنسية أن تتخلى عن هذا الادعاء، دون أن تعرض نفسها لهزيمة سياسية منكرة .
وهناك ثالثًا وعد بلفور لسنة ١٩١٧ الذي يعد بمنح اليهود وطنًا قوميًا في فلسطين بعد الحرب.
، ورابعًا كان هنالك وعد المندوب السامي البريطاني في القاهرة الذي قطعه في شهر حزيران سنة ١٩١٨
والذي جاء فيه أن المناطق العربية التي يحررها سكانها بعمليات حربية ستمنح الاستقلال.
وهناك خامسًا البيان الانكلو فرنسي الصادر في شهر تشرين الثاني سنة ١٩١٨ بعد سقوط دمشق والذي
وعد العرب في سوريا وبلاد الرافدين "بالعطف على إقامتهم حكومات مستقلة وطنية وضمان كيانها الطبيعي
دون أي تدخل وانشاء حكومات يختارها الشعب بنفسه".
وفوق هذا كله، وهو الأهم، كانت هنالك النقاط الأربع عشرة التي وضعها الرئيس "ويلسون" والتي جاء فيها
أن أسس المستقبل في المعاهدات يجب أن تقوم على حق تقرير المصير للشعوب، وهو وعد أعطى العرب آما ً لا
كبيرة، حتى لكأنه القصد الواضح من ذلك الوعد.
ولعل سائ ً لا يقول، كيف أمكن لكل هذه الفوضى والمتناقضات أن تدخل في علاقات بريطانيا وحكومات
الحلفاء؟ وهل كان لكل واحد من اولئك الساسة وجها ن، حتى أنهم لم يهتموا إ ّ لا بما هو ملائم عند اغداقهم تلك
الوعود؟ وهل عرضوا على العرب شيئًا لكي يجروهم إلى الحرب، ثم وافقوا على نقيض ذلك الشيء مع
الفرنسيين، لكي يجعلوهم يواصلون الحرب بعد أن بدت نذر التفكك تهدد بخروج فرنسا من الحرب؟.
كلا، إن هذه الإجابات بسي طة وأجوبة سطحية، أما الحقيقة الفعلية، كما يراها الجانب البريطاني، فهي أنه كانت
هنالك ثلاث سياسات بريطانية مختلفة تنفذ في الشرق الأوسط، دون أن تجري أية محاولة لتنسق هذه السياسات،
وبدون أية معرفة حقيقية من جانب واضعي تلك السياسات بما كان يفعله غيرهم أو يعدوه به.
١١٤٤٢٢
وقد أوضح ذلك السير "رونالد ستورز" في كتابه "الشرقيات" فقد كانت وزارة الخارجية في لندن تكرس جهدها
لتسكين قابليات فرنسا على التأثر، والموافقة على مطالبها، وكان المستر آرثر بلفور وزيرًا لخارجية بريطانيا
وقتذاك، وقد خضع لضغط صهيوني شديد من قبل الدكتور حاييم وايزمان بالنسبة إلى مستقبل فلسطين.
ولذا كانت وزارة الخارجية مسؤولة عن معاهدة "سايكس بيكو " ووعد بلفور . ومن ناحية أخرى كان
المندوب السامي البريطاني في مصر يعمل بصلاحيات واسعة تتعدى صلاحيات الحكومة المستقلة، وكان
وقتئذ تواقًا لمساعدة القائد البريطاني العام على التخلص من الأتراك بأسرع ما يمكن فهو يبذل الوعود للعرب
بمنحهم الاستقلال مقابل تعاونهم مع بريطانيا لتدمير الإمبراطورية العثمانية.
ثم وفي خضم هذين الخطين المتناقضين للسياسة، كانت هنالك حكومة الهند، وهي تمثل مستعمرة بريطانية
مستقلة ذاتيًا، وكانت لها مطامعها في بلاد الرافدين، على اعتبار أنها نقطة اتصال حيوية في خطوط دفاع
الإمبراطورية الممتدة من بريطانيا، عبر جبل طارق، مالطا ومصر حتى الهند والشرق الأقصى.
كانت مطالب نيودلهي تلقى تأييدًا كبيرًا في مدينة لندن حيّث كانت نظرات الطمع متحولة إلى الموصل، ل ما
كان يتوقع أن يوجد فيها من بترول، وما ستدره من واردات ضخمة.
إلى هذا القدر كتب عن خرق بريطانيا لتعهداتها للعرب وقيل عن انسحاب لورانس بعد الحرب من ميدان
الشؤون العامة، وقد أرجع السبب في ذلك إلى ما نسب إلى بريطانيا من ازدواج في السياسة، وهذا أمر لا يمكن
استكناهه بمجرد لمحة خاطفة، لما يتضمنه من حقائق تحتاج إلى تبيان وشرح.
وتبدأ القصة في شهر نيسان سنة ١٩١٤ ، عندما زار الامير عبد الله القاهرة لإجراء محادثات مع اللورد،
"كتشنر"، المندوب السامي البريطاني في مصر آنذاك . وكانت الحكومة التركية في الآستانة قد أخذت تشك في
اسرة الشريف وكل أعمالها، وقد ازداد هذا الشك عندما علمت بزيارة الأمير، فأرسلت مبعوثًا إلى "كتشنر "
تطلب إليه عدم استقبال الأمير عبد الله.
وقد وافق المندوب السامي على الطب، ولكنه أمر "ستورز"، وكان يومئذ سكرتير المندوب السامي، بأن يقابل
عبد الله ويعرف منه ما يريد . وكان جواب عبد الله "البنادق" للدفاع ضد الأتراك، وقد أجاب "ستورز " بوضوح
بأن مثل هذا الطلب لا يمكن إجابته من قبل حكومة على علاقة ودية مع تركيا . وعلى الرغم من أن سحب
الحرب كانت تتجمع في الأفق، وعلى الرغم من أن الاضطرابات قد أخذت تذر قرناه بين شريف م كة
والأتراك، فقد كانت هنالك حالة سلام ما تزال قائمة، ولا تستطيع بريطانيا أن تزج بنفسها في الخلافات الداخلية
للامبراطورية العثمانية.
ولم يقل أي من الطرفين شيئًا أكثر من ذلك، حتى اندلعت نيران الحرب في شهر آب من السنة ذاتها، وعندئذ
بدأت حملات الدعاية الألمانية تستهدف جر تركيا والعرب إلى خوض غمار الحرب ضد بريطانيا وفرنسا.
وقد وصف الحلفاء بأنهم أعداء الإيمان، وأن الألمان هم الأوروبيون الوحيدون الذين يدافعون عن الإسلام .
ولما كان الأتراك متألمين جدًا من بريطانيا، لانها حلت محلهم في مصر، غدوا فريسة سهلة للدعاية، و خاصة
عندما أصيب الحلفاء بنكسة في أول الأمر، مما جعل الأتراك يعتقدون بامكان إحراز نصر على البريطانيين
١١٤٤٣٣
الذين كانوا يحتلون شريطًا رفيعًا من صحراء سيناء، وكذلك صلى المسلمون لقيصر ألمانيا في مساجد دمشق،
ودعوه باسم "محمد وليام" أو "الحاج غليوم".
وكان واضحًا أن الأمر غدا مسألة اسابيع قبل أن تقع تركيا بأسرها في المصيدة، وتنضم إلى ألمانيا فيما دعوه
بالجهاد أو (الحرب المقدسة) التي كانت برلين تنادي لها.
فاذا أخذنا ذلك بعين الاعتبار أن اللورد "كتشنر" قد أصبح وزير الدولة لشؤون الحرب في الوزارة البريطانية،
فقد أصدر تعل يماته إلى "ستورز" في ايلول سنة ١٩١٤ من مقره في لندن بأن يبعث برسول إلى عبد الله، ليعرف
ما إذا كان الشريف حسين سيقف مع أو ضد بريطانيا، إذا ما خدعت تركيا ووقفت في الحرب إلى جانب ألمانيا.
وقد جاء الجواب مشجعا، وهو أن حسينًا وأولاده وشعبه سيقفون إلى جانب بريط انيا، وانهم في كل الاحوال لا
يعتقدون بأن المانيا ستربح الحرب . وقد أبلغ اللورد "كيتشنر" بجواب الشريف حسين في الحادي والثلاثين من
شهر تشرين الاول، مقرونًا بشرط هو "إذا ساعد العرب بريطانيا في هذه الحرب، فعلى بريطانيا أن تضمن عدم
وقوع أي تدخل في شؤون شبه الجزيرة العربية، وأن تقدم للعرب كل مساعدة ممكنة ضد أي عدوان أجنبي".
وفي الثلاثين من تشرين الثاني سنة ١٩١٤ ، دخلت تركيا الحرب ضد الحلفاء، وبعد عشرة أيام أرسل الحسين
رسالة إلى القاهرة يجدد فيها صداقته لبريطانيا، ولكنه أضاف يقول بأنه لم يقطع علاقاته بالأتراك بعد، وإن كان
يترقب مبررًا لقطعها.
ولم يقل أي من الطرفين كلمة أخرى، حتى نيسان سنة ١٩١٥ ، عندما اعلن الحاكم العام للسودان أن بريطانيا
ستضمن عند الوصول إلى تسوية سلمية، نيل شبه الجزيرة العربية والاماكن المقدسة الإسلامية، استقلالها، في
ظل حكومة ذات سيادة.
وكان هذا الإعلان حذرًا من ناحية الإشارة، أية اشارة إلى الحدود . وبعد ثلاثة أشهر، أي في حزيران، سعى
شريف مكة لطعن حلفائه البريطانيين، فقد اقترح على السير "هنري ما كماهون " الذي خلف "كيتشنر " في
القاهرة، أن تعترف بريطانيا بحق جميع المناطق العربية في جنوب غرب آسيا بالاس تقلال، باستثناء عدن، كما
يجب عليها أن تعترف بمطالبته بالخلافة التي ستجعله "بابا" الإسلام، بالإضافة إلى انه ملك العرب.
وكان رد "ماكماهون" غامضًا قصدًا وجاء فيه أنه يرفض أن يلزم الحكومة البريطانية بتحرير مناطق، الدفاع
عنها محكم، وخاصة تلك التي في غربي سوريا ودلتا بلاد الرافدين، ورجاه أن يسمح له بالسؤال عن بقية
طلباته الأخرى التي قدمها في اقتراحه.
وبعد حوالي سنة، وفي شهر أيار سنة ١٩١٦ ، أنذر الشريف حسين بمحاباة تركيا لمحاولات الألمان الزج
بالحجاز في الحرب، ومحاولة إنشاء محطة لا سلكية في منطقة البحر الأحمر، للا تصال بالقوات الألمانية في
شرقي إفريقيا، فبعث برسالة إلى القاهرة يطلب فيها إلى "ستورز" أن يحضر على جناح السرعة إلى الحجاز
لمقابلة عبد الله.
وأضاف إلى ذلك قوله ان الحركة ستبدأ حالما يصل فيصل وكان آنذاك محتجزًا في دمشق إلى مكة .
وقد وصل "ستورز" إلى خارج الحدود الاقليمية المقابلة لمدينة جدة في الخامس من حزيران، حيّث اجتمع مع
ابن الشريف، الذي ابلغه بأن الاضطرابات قد بدأت في ذلك اليوم بالذات بهجوم شنه كل من فيصل وعلي في
١١٤٤٤٤
المدينة المنورة، وقال له إن مكة ستهاجم في اليوم التاسع من حزيران، ولم تبحث في هذا الاجتم اع، أية
مواضيع سياسية أكثر من هذين الموضوعين، ولم يتقدم عبد الله بمزيد من الطلبات، سوى طلبه النقود والسلاح.
وكان فيصل وعلي قد صدا عن المدينة، ولكن بعد محاصرة مكة بأربعة أيام، استسلمت في الثالث عشر من
حزيران، واستسلمت جدة بعدها بثلاثة أيام، وبعد ذلك، أصيبت الثورة بنكسة، نتيجة للنقص في التعاون بين
بريطانيا والشريف، لولا ذلك الاندفاع والتشجيع اللذين شرع لورانس بتقديمهما بعد أن عين نفسه مبعوثًا خاصًا
لدى فيصل.
وفي الوقت ذاته كما يخبرنا ستورز في شرقياته فان اللجنة البريطانية العليا، كانت تجهل أن مفاوضات
معاهدة "سايكس بيكو " قد تمخضت عن اتفاق على التقسيم الثلاثي للمناطق العربية في الامبراطورية
العثمانية، بين بريطانيا وفرنسا وروسيا وإعطاء كل منها منطقة نفوذ، وكانت تلك الاتفاقية قد أبقيت سرية حتى
. فضح أمرها البولشوفيك بعد ثورة سنة ١٩١٧
وفي الوقت ذاته، كانت ح كومة الهند على وفاق مع ابن سعود، زعيم المذهب الوهابي الاسلامي المتطرف،
والعدو الألد للاسرة الهاشمية، كما كانت منهمكة بوضع الخطط لاستعمار بلاد الرافدين، حالما يتم طرد الاتراك
منها.
ولو أن أيا من هاتين السياستين المتناقضتين قد ابلغتا "ما كماهون" في الوقت الذي كان فيه قادرًا وهو
الرجل الحازم لكان من الممكن أن يوضح للشريف حسين أن بريطانيا لن تدعم أيًا من مطالبه بصدد استقلال
العرب، أو لربما أصر تحت تهديده بالاستقالة على ضرورة عدم إعطاء تعهدات متناقضة أو أية التزامات
يخالف بعضها بعضًا من قبل بريطانيا لأي فريق ثالث.
ولكنه، كما حدث، بقي في الظلام بسبب الفشل في تنسق السياسة بين لندن والقاهرة ونيودلهي، وعندما
فضحت هذه التناقضات أخيرًا، أزيح من منصبه، ليتولى منصبًا يقوم عن طريقه بمزيد من تهدئة خواطر
العرب.
وليس هناك من شك في أن العرب يعتقدون، ويشاركهم الاعتق اد لورانس، بأنهم قد تعرضوا لخيانة
البريطانيين، وبدون إيضاح من لندن، التي كانت في حالة من الفوضى فيما يتعلق بسياستها إزاء الشرق الأوسط
التي كانت سائدة آنذاك.
لم يكن المندوب السامي مطلعًا على مجريات الأمور، ولم يكن بمقدوره إ ّ لا أن يقول بشىء من الغموض أي
المناطق لن تنال استقلالها، الأمر الذي ترك العرب بحق في حيرة، وفسروها على أن كلا لمناطق، وليست
مناطق معينة كلها باستثناء غربي سوريا ودلتا بلاد الرافدين ستنال استقلالها، كما وعد بذلك اللورد
"كيتسشنر" وكما جاء في بيان حاكم السودان العام.
ولما تبع ذلك بيان القاهرة الصادر في حزيران سنة ١٩١٨ ، والبيان الانكلو فرنسي، الذي صدر في تشرين
الثاني التالي، كان العرب بطبيعة الحال قد اقتنعوا بأن البريطانيين سيؤيدونهم، مهما حاول الفرنسيون فرض
حكمهم على البلاد العربية المتحررة.
١١٤٤٥٥
كان هذا هو اعتقاد فيصل بكل تأكيد عندما التأ م مؤتمر الصلح. وعند افتتاحه قدم طلبا يؤكد فيه مطالبه
باستقلال جميع البلدان العربية في آسيا : الحجاز، نجد، شرقي الأردن، فلسطين، سوريا، بلاد الرافدين، على
أساس أن هذه المناطق غير منفصلة من الناحيتين الجغرافية والقومية، ولم يثر أية عراقيل بشأن وعد بلفور، بل
أكد أن الأمر يعود إلى هجرة اليهود إلى فلسطين، وإن كان قد عارض في إقامة دولة يهودية على ذات الأرض
التي لا يمكن فصلها عن بقية العالم العربي.
وقد قال في رسالة إلى القاضي اليكس فرانكفورتر جاء فيها : "إن الغرب واليهود أولاد عم من ناحية الجنس،
وقد تعرضوا لاضطهاد م تماثل… ومن حسن الحظ أنهم قادرون على القيام بالخطوة الأولى نحو بلوغ أهدافهم
الوطنية معًا".
وكانت هذه الرسالة مبعوثة من باريس بتاريخ آذار سنة ١٩١٩ . وقد أضاف إلى ذلك قوله: "إننا نتمنى لليهود
كل ترحيب قلبي في بلدنا … إن هناك متسعًا في سوريا لنا ولهم".
وقد يش ك المرء في أن هذا الكلام، صادر عن لورانس أكثر منه عن فيصل، وكان لورانس يقدر تقديرًا كبيرًا
"حاييم وايزمان "، منذ أن التقيا في فلسطين بعد سقوط القدس، ليبحث مع الأمير المقترحات الصهيونية الخاصة
بتوطين اليهود في الديار المقدسة، وكان على الدوام يعطف على الجنس ا لسامي من اليهود والعرب، على
اعتبار انه جنس يشكل وحدة كاملة.
وفي الوقت ذاته، كان لورانس وفيصل يعتقدان آنذاك بأن مثل هذا التأييد الأجوف للصهيونية يعتبر من حسن
السياسة على أساس أن هذا التأييد سيدعم أكثر فأكثر القضية العربية بين الوفود الأميركية والبريطانية، وذلك
عن طريق إظهار أن دولة عربية مستقلة لن تتعارض مع مصالح اليهود ومطالبهم.
كما فسراها لنفسيهما من وعد بلفور . ومن سوء حظهما، وحظ التاريخ، أن إذعانهما في فلسطين، لم يكن كافيًا
لتأمين الاستقلال للعرب، لأنه فشل في الحد من مطالب فرنسا في سوريا، وما كانت الهند مصممة عليه وتأمين
مصالح الغرب البترولية في بلاد الرافدين
[/align]

خالد الحويطي 18-02-07 01:31 AM

[align=center]الفصل التاسع والعشرون
مأساة سوريا
في السادس من شباط سنة ١٩١٩ مثل فيصل أمام لجنة العشرة ليدافع عن قضيته، وكان لورانس معه بصفة
مستشار ومترجم، وقدم الامير معظم مساهمة العرب في هزيمة الأتراك، وكان يغ الي في بعض الأحيان مغالاة
كبيرة في عدد المقاتلين العرب الذين اشتركوا في الحرب، وفي عدد الإصابات التي أصابتهم، ولكنه كان
مكشوفا في ذلك.
وعلى الرغم من أنه قد ولد ونشأ وسط مؤامرات ودسائس الشرق، إ ّ لا أنه لم يكن من المهارة والعزم بمقدار
الدبلوماسيين الغربيين ا لذين قد قرروا الإطاحة به . وبينما كان البريطانيون يؤيدونه اسميا في مطالبته بسوريا
وضرورة استقلالها، فقد كانوا يعرفون أنهم لا يستطيعون على المدى البعيد اللجوء إلى الاستيلاء على بلاد
الرافدين، ومنع الفرنسيين من أخذ سوريا.
١١٤٤٦٦
وثمة تعقيد آخر يكمن في الموضوع، وهو أنه بموجب تقسيم بلاد العرب الذي اتفق عليه في معاهدة "سايكس
بيكو " بأن آبار النفط في الموصل كانت تقع في المكان الذي أعطي للفرنسيين ليكون منطقة نفوذ لهم يديرونه
كيف شاؤوا.
وكما كان متوقعًا، فقد قام "كليمنصو" بالقاء هذه الورقة الرابحة، لتطلق يده في سوريا، وبينما كان فيصل يدافع
الدفاع الأول أمام "صانعي السلام!" كانت القوات البريطانية تخلي غربي سوريا للقوات الفرنسية، وكان أقصى
ما يمكن انقاذه من الحطام لا يعدو داخل سوريا وربما دمشق.
وقررت بريطانيا أن تتفق على هذا، عندما اقترب المؤتمر من ربيع سنة ١٩١٩ ، فراحت توقع كل ضغط
ممكن على فرنسا لكي توافق هي الأخرى، غير أن جميع تلك المحاولات ذهبت سدى، فقد كان "كليمنصو "
يعرف قوة مركزه، ولذلك أصر بعناد على تقسيم سوريا إلى منطقتين، القسم الساحلي ليصبح مستعمرة فرنسية
والقسم الداخلي محمية فرنسية.
وقد ناضل لورانس يائسًا لإحباط هذه الخطة، مستعم ً لا كل قوة يمكن أن يتصورها العقل، حتى لقد انتهز
فرصة مقابلة خاصة له مع الملك جورج الخامس، تلك المقابلة التي كان من المقرر أن يمنح فيها وسام ربطة
الساق، وحاول أن يثير العطف على قضية فيصل . ورفض لورانس قبول أية مكافأة من ملكه وسيد البلاد الذي
جعل منهم جزءًا من خيانة بلاده للعرب، وهكذا غادر القصر غاضبًا.
وعاد لورانس إلى باريس وتوجه مع فيصل لزيارة الكولونيل "هوس" يد الرئيس ويلسون اليمنى، لحثه على أن
تتدخل الحكومة الأميركية وتنشئ انتدابًا على سوريا، ولكن هذه المحاولة لم تفلح، فقد ارتدت إهانة لورا نس
للملك ارتدادًا فظيعًا عليه، مثيرة السخط أكثر مما هي مثيرة للعطف في بريطانيا.
والأدهى من ذلك أن أقصى ما يمكن للوفد الأميركي أن يلزم به نفسه هو أن يقترح إيفاد لجنة تحقيق من
الحلفاء إلى سوريا، وكان لهذا الاقتراح نظرًا لافتقاره إلى تأييد بريطانيا ومعارضة ف رنسا العنيفة له، اثره في
التأثير على جميع اللجان الأميركية، التي تقدمت بمقترحات لتوحيد سوريا وتنصيب فيصل ملكًا عليها . وكان
نصيب كل هذه المقترحات هو التجاهل.
ثم جاءت ضربة أخرى موجهة إلى لورانس ومجهوداته، فقد شبت إضطرابات في بلاد الرافدين، عندما
حاولت القبا ئل أن تقاوم الحكم البريطاني، مدفوعة من حكومة الهند . وبعد أن أخمدت هذه الاضطرابات،
اكتشفت السلطات البريطانية المحلية أن مشعلي الفتنة قد مولوا الاضطرابات بأموال منحتها بريطانيا إلى شريف
مكة، وشجعت على نطاق واسع بدعاية من دمشق حيّث كان الأمير زيد الذكي، إ ّ لا أنه ليس بالرجل الناضج،
ينوب عن فيصل، والذي وجد نفسه ليس بأصلح في السيطرة على العناصر المتطرفة في بلده، من شقيقه في
معالجة ما يسمون أنفسهم بالحلفاء في باريس.
وليس بالامكان أن يحدث كل هذا في لحظة أسوأ من تلك اللحظة بالنسبة إلى فيصل، فقد كان أولئك المتنفذون
في وزارة الخارجية البريطانية، وعلى رأسهم اللورد "كورزون" ممكن كانوا يدافعون عن المصالح البريطانية
على حساب العرب، في وضع يمكنهم من المناقشة والمجادلة والادعاء بأن الإخلاص للشريف وقضية العرب
لن يدمر التحالف الانكلو فرنسي فحسب، بل وسيمكن انتصار الوطنيين ال عرب الذين يعارضون في النفوذ
١١٤٤٧٧
الأوربي والغربي ومصالح الغرب في جميع أرجاء الجزيرة العربية، ومنذ ذلك الوقت أصبح موضوع خذلان
الأمير موضوع وقت.
وفي أيار سنة ١٩١٩ ، وقبل أن يتم تقرير أي شيء بالنسبة لمصير سوريا، عاد فيصل إلى دمشق ليقابل
بالهتافات من اشياعه والعبوس من الفرنسيين، ولم يقابل لورانس بأية هتافات عندما عاد إلى موطن طفولته في
اكسفورد. وكان والده قد توفي مؤخرًا، ووجد أن اثنين من أشقائه قد قتلا في الحرب، وكانت أمه تعد نفسها
للسفر إلى الصين مع أخيه الأصغر "بوب" في بعثة طبية.
وعلى الرغم من أن ما كتبه ونشره بر وي الشيء القليل عن حالته النفسية في ذلك الحين، إ ّ لا أنه من الواضح
من سلوكه أن فشله في باريس كان يأتي على رأس ما يعانيه من آلام نفسية، وعذاب جسماني، ومرارة
فشله في تحقيق أطماعه التي يكرس لها سني الحرب.
حتى ليمكن القول بأن ذلك الفشل قد أوصله إلى الإنهيا ر الكلي، فكان يجلس ساعات طوا ً لا دون أن يتحرك،
وفي نفس الإتجاه، وعلى وجهه تعبير العذاب لا يتغير.
وبعد فترة لم يعد بمقدوره أن يتحمل ذلك أكثر مما تحمله، فقرر أن يسافر إلى مصر ليجمع أوراقه وغير ذلك
مما تركه هناك في غمرة إسراعه بالانسحاب من دمشق.
وكانت الطائر ة التي سافر عليها نوعًا من قاذفات القنابل، ولكنها في حاجة إلى كثير من الإصلاح، ولذلك
اضطرت للهبوط هبوطًا اجباريًا في إيطاليا، وقتل في ذلك الحادث الملاحان اللذان كانا فيها.
وعلى الرغم من أن جراحه كان تشتمل على كسر في الضلع وآخر في عظم الترقوة، إ ّ لا أنه است قل طائرة
أخرى وواصل رحلته إلى القاهرة، حيّث قابله موظف بريطاني يعمل وفقًا لتعليمات وزارة الخارجية، فسأله أن
يقدم له تأكيدات بأنه لن يسافر إلى سوريا ويحدث مشاكل هناك للفرنسيين.
وكانت أخبار رحلته قد بلغت مسامع المسؤولين في الحكومة الفرنسية، الذين على ما يبد و، حملوا تهديداته
التي أطلقها في باريس على محمل الجد، بينما كان هو يمزح . وأحد هذه التهديدات قاله مباشرة إلى "كليمنصو "
والمارشال "فوش" وهو قوله إنه سيحمل السلاح ضد فرنسا، ولن يتركها تستولي على سوريا.
وبعد أسابيع قليلة عاد لورانس إلى باريس ليقوم بمحاولة أخي رة لانقاذ سوريا التي يحبها من سيطرة فرنسا .
ولكن مجهوداته باءت بالفشل مرة أخرى، فعاد إلى لندن ليدافع عن سوريا أمام "لويد جورج " والوزارة
البريطانية، ولكنه أبلغ بكل برود أن يصالح الحكومة الفرنسية، وقد عملت بريطانيا كل ما بوسعها له، وهي
ليست مستعدة لاغضاب أفضل اصدقائها في اوروبا من أجل العرش الذي يريد إيجاده.
وكانت الحكومة البريطانية توشك أن تتلقى وثيقة الانتداب على بلاد الرافدين وامتياز التنقيب عن البترول في
الموصل، وفي مقابل ذلك كان يتحتم عليها أن توافق على منح فرنسا وثيقة الانتداب على سوريا كلها.
هذا وقد ا ستثني لورانس، أو لعل الأصح أنه استبعد، عن المناقشات التي دارت مع الأمير بموجب تعليمات
رئيس وزراء بريطانيا الخاصة، ولربما كان ذلك أفضل بالنسبة له، وعلى الأقل لأنه انقذه من أن يرى إهانة
فيصل الأخيرة، ولكنه ثار وبعث برسالة إلى جريدة "التايمس" اللندنية كشف فيه ا النقاب عن جميع نقاط
المناقشات التي حاول عبثًا إقناع مؤتمر باريس بها طوال الأشهر التي انقضت على انعقاده.
١١٤٤٨٨
وخرج عن تقاليد الرجل البريطاني عندما ربط وسام "كويكس دي كوري " الفرنسي إلى طوق كلب من طراز
"هوغارث" وعرض الكلب في شوارع اكسفورد.

وتصالح فيصل م ع "كليمنصو" ثم عاد إلى دمشق بشروط جعلت منه شخصًا هو دون رئيس ولاية اقطاعية .
والحقيقة أنه ما كان ليسمح له بالعودة إلى سوريا على الإطلاق، لولا أن السلطات الفرنسية المحلية كانت
مشغولة آنذاك بقمع محاولة قامت بها بعض الوحدات التركية، ممن لم تحل بعد، لإعادة الحك م العثماني إلى
مناطق الحدود في سوريا الشمالية . وبينما كانت هذه السلطات منهمكة في تلك العمليات، اقترح المسيو "جورج
بيكو" على الحكومة، بأنه لكي تضمن أقل المشاكل مع العرب، فلا بأس من اختيار أهون الشرين والسماح
لفيصل بالعودة إلى دمشق، على أساس أنه اقدر من يستط يع كبح جماح المتطرفين، وقال: إنه كلما قلت مشاكلنا
مع العرب كلنا أسرع في قمع الاضطرابات.
وقد لعب فيصل لمدة أشهر دوره بكرامة وتحفظ، ثم وفي شهر آذار سنة ١٩٢٠ نفذ صبر العرب وفقدوا
أعصابهم، فقد كانت سوريا وبلاد الرافدين، أو العراق، كما كانت ستسمى من جديد، قد ح ررتا من الأتراك قبل
ثمانية عشر شهرًا، ومع ذلك لم تكن هنالك في الأفق أية بارقة توحي بأن العرب سينالون أي استقلال حقيقي.
وكانوا ما يزالون دون ملك في بلادهم، كما أن "محرريهم" يفرضون عليهم سلطاتهم بطريقة لا تقل عنفًا
وجرحًا للكرامة العربية عن تلك التي كانت الإ مبراطورية التركية تتبعها . ولذا فقد اجتمع مؤتمر عربي في
دمشق، وقرر العمل على تأكيد حقوق العرب، وأعلن تعيين فيصل ملكًا على سوريا وشقيقه عبد الله ملكًا على
العراق.
واحتجت فرنسا بشدة على هذا الإعلان واعتبرته تحديًا، ودعت بريطانيا لتشترك معها في إبطال الإعلان ،
وابدى "كرزون" استعداد الفوري لتأييد فرنسا، وشجبت الدولتان معًا ذلك القرار الذي اتخذه المؤتمر، وأمر
فيصل بشكل حازم، أن يحضر مؤتمر "سان ريمو" حيّث تسوى جميع هذه المشاكل من قبل فرنسا وبريطانيا.
وانعقد المؤتمر في الشهر التالي، ولم يتردد في منح فرنسا حق الان تداب على سوريا، وبريطانيا حق الانتداب
على العراق وفلسطين، وتخلت فرنسا عن مطالبتها في حقول زيت الموصل، فالحقت المنطقة بمنطقة الانتداب
البريطاني.
وهكذا انتصرت فرنسا، وأصبحت أيام فيصل معدودة، ولم يكن ينقص السلطات الفرنسية في بيروت غير
الذريعة للإطاحة به . ولم يطل الامر بالمسيو "جورج بيكو" ليجد تلك الذريعة، فقد جوبهت بريطانيا في أوائل
شهر تموز بنشوب اضطرابات جديدة بين القبائل في وادي الفرات، فكانت تلك إشارة إلى المتطرفين في سوريا.
وكانت خطوط السكة الحديدية الفرنسية، بين حلب والقوات الفرنسية المرابطة في سوريا ا لشمالية قد أصبحت
مهددة، وقد أرسل الجنرال "غورو" القائد الفرنسي العام، والقائد العالم السابق في السودان، والذي عرف بقسوته
في معالجة مثل هذه الامور، أرسل إنذارًا فظًا إلى فيصل طلب فيه ضمان حرية استعمال تلك الخطوط . ونظرًا
لما كانت فرنسا تبيته من تصميم، فقد أمر "غورو" القوات الفرنسية بالزحف على دمشق.
وقد تردد الأمير في بادئ الأمر اعتقادًا منه بأن البريطانيين، وقبل كل شيء صديقه "اللنبي "، لن يسمحوا
للفرنسيين بالتمادي في هذه المعاملة مع حلفائهم العرب. ولكن القرار لم يعد بيد "اللنبي".
١١٤٤٩٩
وكان من الضروري سؤال لندن عن التعليمات الواجب اتباعها . وفي الوقت ا لذي وصل فيه نداء فيصل إلى
القاهرة، كانت لندن في ذلك الوقت مضطربة جدًا ومهتمة بأحداث العراق، وكان الآلاف من الجنود البريطانيين
يشتركون في عمليات القمع، كما أن تكاليف تهدئة البلاد بلغت أكثر من ٣٠,٠٠٠,٠٠٠ جنيها سنويًا، ولذلك فقد
تساءلوا في "الوايت هول : كيف يمكن لبريطانيا أن تتخذ أشد إجراء لمعالجة تمرد يؤثر على مصالحها،
ومعارضة فرنسا في اتخاذ إجراءات مماثلة لتؤمن مركزها؟ وبالاضافة إلى ذلك، ألم يثبت في المرة الأخيرة،
عندما نشبت الاضطرابات في العراق بأنها قد شجعت من دمشق ومولت من مكة؟.
وابلغ "اللنبي" بألا يتدخل وأن يدع فيصل يخوض معركته وحده. وقد وقعت مهمة إبلاغ هذه الأنباء القاسية
للأمير على سئ الحظ "كيرك برايد" الذي قال بأن فيصل قد تصرف كالطفل عندما تلقى جواب بريطانيا ، ففي
غمرة تأمله من هذه الأخبار، نسي كل كبريائه له، وراح يبكي ويلعن حظه العاثر وخيانة حلفائه لقضيته.
ولما استرد وعيه، قام الأمير بمحاولة أخيرة للتفاوض مع الفرنسيين . فبعث ببرقية إلى الجنرال "غورو " طلب
إليه فيها وقف زحف القوات الفرنسية على دمشق تجنبًا لسفك الدماء، ولدراسة المطالب الفرنسية في فسحة من
الوقت.
ولكنه لم يتلق جوابًا على هذه الرسالة واستمر الزحف الفرنسي . وبعد يومين سلم تحت شروط، فقد بعث
ببرقية أخرى قال فيها إنه لن يقاتل، وانه قبل الإنذار الفرنسي بحذافيره، ولم يطلب إ ّ لا أن يتراجع الجيش
الفرنسي عن المواقع التي احتلها مؤخرً ا. غير أن الفرنسيين كانوا قد امت لأوا غيظًا، ولم يعد هناك ما يوقفهم عن
احتلال دمشق، وطرد فيصل من سوريا . ان تلغراف الاستسلام قد "ضاع " ليتيح ضياعه الفرصة للقوات
الفرنسية كي تصل إلى العاصمة السورية، وتهزم القوات الأمير التي تقدمت لمواجهتها.
ثم .. وفي السابع والعشرين من تموز تلقى الأمير رسال ة فظة، تطلب منه أن يتخلى عن مركزه، ولم يجئ
فيها أي ذكر لقبوله إنذار "غورو"، وابلغته بأن ثمة قطارًا سينقله صباح اليوم التالي إلى فلسطين.
وانتشرت أخبار قرب مغادرة فيصل للبلاد حول دمشق انتشار النار في غابة، ونجم عن ذلك اضطرابات
ومظاهرات، اخترقت شوارع دمشق، لأ ن الذي خاطر بحياته من أجل ملكه أثناء الاحتلال التركي، ثم أنقذه من
محاولة الانقلاب التي قام بها عبد القادر، لن يقبل منه أن يسلم نفسه ولا شعبه إلى أطماع استعمارية وعدو
غاصب.
وقد قام الدمشقيون بمحاولة يائسة أخيرة، فتجمعوا بأعداد كبيرة لسدّ الطريق أمام فيصل ومنعه من الخروج
من المدينة، ولكن فيص ً لا لم يكن يرغب في المقاومة فأمر قواته النظامية بقيادة نوري السعيد أن تشق له طريقًا
بالقوة خلال الجماهير التي كانت ترفع عقائرها بالاحتجاج.
وبعد أيام قليلة وصل القدس، منتصب القامة، ولكنه حزين الملامح، يرد دموعه التي كانت على وشك
الانحدار من مقلتيه، وسمح له باللجوء، تحت الحماية البريطانية.
فاذا كان ما أصاب فيصل في سوريا من إذلال يمكن اعتباره بالشئ القليل، إ ّ لا أن ما أصاب والده من سوء
حظ لم يكن يتوقعه، كان أكثر بكثير من نصيب فيصل، فقد انتخب فيصل ليكون ملكًا على العراق بعد سنة من
١١٥٥٠٠
طرده من سوريا، أما والده، فقد خلع بعد أربع سنوات وفقد عرش الحجاز ونفي، دون تعويض من أي نوع
كان.
وكان الشريف العجوز قد تكدر كثيرًا لتسليم ابنه بالشروط الفرنسية، بعد عودته إلى سوريا من مؤتمر الصلح،
كما أنه قد جرح لخيانة الحلفاء له ونكثهم وعودهم وتخلفهم عن تنفيذ تعهداتهم له.
ولذلك فقد قرر أن يقوم بمحاولة أخيرة ليؤكد استقلاله وسلطانه في العالم الاسلامي . فأعلن بأنه الخليفة و"ملك
الأراضي العربية ". ولكنه لم يرتكب أكثر من هذا الإجراء حماقة، إذ أن عدوه القديم، ابن سعود كان منذ مدة
يتطلع إلى الحجاز بنظرات طم وح معتبرًا نفسه واتباعه من الوهابيين، الحرس الوحيدين للأماكن المقدسة في
مكة والمدينة.
وهكذا فقد أعطاه إعلان حسين هذا عذرًا ليقوم بحملة عنف ودعاية، واخيرًا إعلان الحرب ضد حكم الشريف،
الذي انتهى باتحاد الحجاز ونجد في مملكة واحدة وهي المملكة العربية السعودية ، الأمر الذي خلق عداء سعوديًا
هاشميًا ما يزال قائما حتى هذا اليوم.
وفي شهر تموز سنة ١٩٢١ ، وأثناء انعقاد مؤتمر القاهرة، أرسل لورانس إلى جدة ليحاول إقناع الشريف
بالاعتدال في مطالبه والتوقف عن تحريض جيرانه، وخول صلاحياته التفاوض لعقد معاهدة لوضع الحجاز
تحت الحماية البريطانية، إذا ما استطاع الشريف أن يتبنى سياسة المصالحة.
غير أن الشريف لم يكن من السهولة بحيث يشترى بأي عرض بريطاني، وبعد سلسلة من الاجتماعات
العاصفة، توقفت المفاوضات، وتوجه الشريف إلى مكة حيّث حجز نفسه هناك، تاركًا لورانس ولا سبيل أمامه
غير العودة إلى القاهرة.
وارتكب الشريف خطأ آخر عندما أمر ابنه عبد الله بقيادة حملة من أربعة آلاف رجل، يتوجه بها إلى نجد
ليؤكد نفوذ خليفة مكة الجديد . وسرعان ما اشتبكت قوات عبد الله مع الوهابيين، فأبيد معظمها في مذبحة بشعة،
ونجا عبد الله نفسه من الموت أو الأسر بأعجوبة.
لقد كان الشريف طموحًا أكثر مما يجب، كما أن ابن سعود كان مصممًا على إ ّ لا يقف حتى يطهر الحجاز من
الهاشميين، وكل الذين اساؤوا إلى سمعة شبه الجزيرة العربية بتحالفهم مع "الكفرة".
وفي سنة ١٩٢٤ خلع حسين وحمل إلى قبرص، تاركًا ابنه سئ الحظ عليًا ليدافع عن جد ة، آخر معقل حصين
في وجه الوهابيين المنتصرين. وعلى الرغم من أن بريطانيا كانت ممولة سخية للشريف.
فقد رفضت أن تشترك في النزاع مع ابن سعود . ولذلك فإنه ما إن انتهت الذخيرة حتى انتهت الحرب، وسلمت
جدة وهرب علي إلى العراق، حيّث قدم له شقيقه فيصل بيتًا يعيش فيه طوال حياته في المنفى.
ولقد جر الشريف العجوز المصاعب على نفسه، وهناك قلائل بكوا على هزيمته النهائية، فقد سمح لشكوكه
الخاصة، أو لشكوك اولئك الذين يحيطون به، بأن تسيطر على أعماله، تلك الأعمال التي كثيرًا ما كانت خاطئة.
لقد رفض أن يساعد ابنه عندما كان يحمل عبء الثورة العربية على كتفيه الضعيفتين، بل لقد تآمر ضد
فيصل، وحرض جنوده على التمرد في أحرج اللحظات، وكذلك فقد نسف نفوذه في مؤتمر الصلح.
١١٥٥١١
وأخيرًا، قام عندما كان فيصل يحاول أن يعيش على السراب والنتائج غير المؤكدة لمجهوداته الخاصة في
باريس، قام بالتخلي عنه وأعلن استقلاله، بوصفه الخليفة، وملك شبه الجزيرة العربية، الأمر الذي أثار ضده
زعيمًا آخر من زعماء شبه الجزيرة العربية، بينما كان ابنه الذي يأمل في مساعدته يجلس على عرش مملكة
أخرى.
وثمة عمل آخر قام به الشريف حسين يبعث على الدهشة، إذ أنه بعد وصوله إلى قبرص منح من قبل
الحكومة البريطانية وسام الصليب الكبير لنوط ربط الساق، وهو نفس الوسام الذي رفضه لورانس من مليكه
احتجاجًا على خيانة بريطانيا لتعهداتها للشريف.
والغريب أن الشريف قبل الوسام من يد "رونالد ستورز " الذي كان يشغل عندئذ منصب حاكم جزيرة قبرص،
والذي كان خادمًا للورانس طوال الثورة العربية، والمحرض الرئيسي لبريطانيا على التخلي عن تعهداتها
بالنسبة للحركة العربية
[/align]

خالد الحويطي 18-02-07 01:33 AM

[align=center]الفصل الثلاثون

عودة إلى النور

بعد أن تداعت كل أحلام لورانس، وأحس بالتنكر لكل ما حارب من أجله، من الجائز أن يكون الشيء الذي
يريده أكثر من أي شيء آخر، هو أن يعود للاختفاء عن الناس ونسيان الماضي.
وصحيح أنه كان يستمتع بنظرات الحسد والإعجاب، التي كانت تلاحقه وهو يرافق فيص ً لا إلى مؤتمر باريس
وأثناء تجواله اليومي معه، وكان يرتدي ملابس بيضاء مذهبة كتلك التي يلبسها امراء مكة، إ ّ لا أنه كان يفعل
ذلك خصيصًا ل يلفت انظار الحاسدين والمعجبين بين الجموع، كما أنه كان يسر عندما يعرف بأنهم يتحدثون عنه
على اعتبار أنه "الملك غير المتوج" لشبه الجزيرة العربية.
غير أن استمتاعه ذاك لم يكن كله بدافع من زهوه، ولطالما كان يسخر من اولئك المعجبين به، ويصفهم بأنهم
مجانين أو مخدوعون بمظهره السحري.
وكذلك فإنه عندما كان يسخط على أولئك الذين ينظرون إليه بعين الحسد، كان لا يستطيع إ ّ لا أن يحتقر نفسه .
ولكنه كان يرد نظراتهم بمثلها لينتزع منهم كلمات الاطراء والثناء.
وأما مهمته في شبه الجزيرة العربية فقد انتهت إلى فشل وخيانة وكارثة، ومهم ا كان "الرجل، الذي يعترف
بأنه يتمتع، فأن "المظهر العبقري" الذي كان يظهر به لم يكن ليساوي شيئًا لبلاده، ولا له شخصيًا.
يومذاك بدأ يكتب مذكراته الخاصة عن الثورة العربية والدور الذي لعبه بها . وقد نشرت المسودة الأولى من
كتابه "أعمدة الحكمة السبعة " أثناء الجو المحموم الذي كان يسود مؤتمر الصلح، وكان يأمل عند عودته إلى لندن
في نهاية سنة ١٩١٩ أن يتمكن من الحصول على قليل من الهدوء والسلام لينهي هذا العمل الكبير.
ولكن الأمور لم تجل على هذا المنوال، وكان السبب في ذلك صحفيًا اميركيًا يدعى "لويل توماس "، أو الرجل
الذي قدر أن يكون الشخص الذي يريد أن يجعل من لورانس اسطورة في كل البلاد الناطقة باللغة الانكليزية.
١١٥٥٢٢
فقد أرسل "توماس" من أميركا في سنة ١٩١٧ ، كمراسل حربي، من قبل جماعة من مؤيدي الحلفاء، ممن
يرغبون في الحصول على مادة دعائية دسمة لنشرها في الصحافة الاميركية، بقصد تش جيع أميركا على دخول
الحرب ضد الألمان.
ولما وصل إلى فرنسا لم يجد أي شيء سوى بحور من الطين ومناظر المذابح، وهذه لا تكفي للمهمة التي
أوفد من أجلها.
وقد نصحه بعضهم بأن يجرب الشرق الأوسط، حيّث سيكون من الممكن مع قيام الثورة العربية وبلوغ حملة
"اللنبي" القمة، أن يجد ميادين أكثر لنجاح مهمته.
ووصل "توماس" إلى فلسطين، وعلى الأثر قدم إلى لورانس بوساطة "رونالد ستورز" ثم حاكم القدس . وكان
هذا ما يريده بالضبط، وهل أفضل من أن يقابل بط ً لا بريطانيًا خياليًا يعمل في الصحراء!.
وقد ترك "توماس" خيالاته تجري بسرعة متأثرًا من بضع مقابلات مع لورانس وزيارة إلى العقبة لرؤية
معسكر فيصل . وكان لورانس يعجب من المهمة التي يقوم بها "توماس" ويعجب بصورته وهو يرتدي الملابس
العربية. ولذلك راح يملأ أذنيه المتشوقتين بتفاصيل براقة عن دوره في الثورة وعن اخلاق وطبائع العرب.
وقبل "توماس" كل ذلك، وبعد زيارة قصيرة إلى البتراء، عاد إلى الولايات المتحدة ليكتب مقالاته، ثم …
وعندما انتهت الحرب، قرر أن يجمع كل ما كتبه، وأن ينظم سلسلة من المحاضرات في نيويورك، وغيرها من
بلدان الولايات المتحدة.
وكانت تلك المحاضرات مصورة، يعرض خلالها صورًا في الفانوس السح ري وافلام سينمائية وكانت بعنوان
"مع اللنبي في فلسطين ولورانس في شبه الجزيرة العربية".
وبطبيعة الحال برز لورانس كبطل صليبي ذي أخلاق رفيعة وشجاع وشريف.
ومنذ أول محاضرة القاها "توماس" في ماديسون سكوير غاردن لاقى نجاحًا كبيرًا، وبدأ اسم لورانس
يلمع على صفحات الجرائد الأميركية.
وكان ذلك العصر عصرًا لا يحب المزاح، كما أن أهله كانوا يفضلون في أبطالهم الاستقامة ولمعان الاسم،
دون أن يكون معقدين أو يناقض الواحد منهم نفسه.
وقد حضر إحدى محاضراته الأولى رئيس فرقة موسيقية بريطاني يدعى "بيرسي بورتون " فاستغرب أن
يعرف الجمهور الأميركي عن بطل بريطاني، ما لم تغن له اناشيد المدح في بلده بالذات.
فعرض على "توماس" أن يعرض أعماله في لندن، بحيث تعرف بريطانيا أيضًا عظمة واحد من ابنائها . وقد
أجاب "توماس" مازحًا بأنه على استعداد للشخوص إلى لندن، إذا ضمن "بورتون " له تخصيص دار ا لاوبرا
الملكية مكانًا لمحاضراته، واذا جعل ملك انكلترا يحضر تلك المحاضرات . وبعد شهر أبرق "بورتون" من لندن
يقول، بأن الطلبين قد أجيبا واتخذت الترتيبات بشأنهما.
وأخذ توماس يعرض صوره بالفانوس السحري من شهر أيلول سنة ١٩١٩ حتى بداية سنة ١٩٢٠ ، في اوبرا
"كوفينت غاردن" وقاعة "البرت" أمام نظارة بلغ عددهم أكثر من مليون، بينهم وزراء، وجنرالات، واميرالات،
وسفراء، وزعماء ورؤساء المجتمع في بريطانيا.
١١٥٥٣٣
وطلب منه الملك جورج عرضًا خاصً ا. ومن لندن سافر "توماس" إلى الكومنولث البريطاني، حيّث تابع
محاضراته المذهلة، واستمرت جولته أربعة أعوام . أما بالنسبة إلى لورانس فقد أنقلب بين ليلة وضحاها إلى
شخص ينشد وده، على اعتبار أنه بطل وأسطورة، أسطورة خلقها ذلك الرجل الذي اعترف فيما بعد من تلقاء
نفسه، بأنه كان في كثير من الحالات مخدوعًا بالبطل الذي صنعه.
وقد أثار هذا الثناء المفاجئ شعورً ا مختلطًا عند لورانس، ولم يستطع أن يقاوم الاغراء الذي كان يتملكه
للذهاب بنفسه ورؤية الدعاية التي تجري له، فتوجه وجلس في ظلال القاعة، بينما كان "لويل توماس " يقدم
محاضرته المصورة.
وقد ذكر "توماس" أن لورانس قد قام بخمس أو ست زيارات من هذا القبيل، ومع ذلك فإن لورانس بعد أن
حضر المحاضرة الأولى كتب إلى الصحفي الأميركي يقول : "لقد حضرت عرضك ليله أمس، إنني أشكر الله ن
النور قد انطفأ".
وبد أيام قليلة، أخبرنا "توماس" بأن لورانس قد توجه لمقابلته، ورجاه بأن يعود إلى أميركا وأن يتوقف عن
إطلاع الجمهور على ما فعله في البلا د العربية، وقال إنه أصبح عرضة للملاحقة من قبل الصحف والناشرين
وجامعي التواقيع، ومن قبل سيدات يبغين الزواج منه، واللواتي كن، كما قال، "أشد هو ً لا عليه من جيش تركي
باكمله".
وعلى كل فإن لورانس قد أبدى عدم ارتياح لأن يصبح، كنتيجة لمحاضرات "توماس" أكثر الناس في بريطانيا
عرضة للمصورين والرسامين في ذلك العصر . وعلى العكس من ذلك، فإنه قلما زار الأروقة التي كانت
تعرض صورة فيها، وقلما أحب الوقوف أمام الرسامين، ولكنه وجد متعة فائقة في الملاحظة الفجائية التي اولوه
إياها أناس مشهورون مثل اللورد "كورزون" فانتهزوا كل فرصة لتشجيع الادباء من امثال "جورج برنارد شو "
و"أي. م. فورستر" و"توماس هاردي " و"إدوارد غارنيت " وكذلك مشاهير الفنانين من أمثال "أوغسطس جون "
و"اريك كنيتغون" على الكتابة عنه أو رسم الصور له.
لقد كان لورانس محبًا للشهرة، ولكنه ك ان لسبب ما يخشاها، وكما قال "لويل توماس " بعد وفاة لورانس
مستشهدًا بمثل تركي يقول : "إنه يملك عبقرية تؤهله للعودة إلى النور ". ولقد ذاعت شهرة لورانس، وأعماله
البطولية، في مختلف انحاء العالم، وأصبحت له سمعة يحسد عليها، حتى أصبح يقارن بكل من الاسكندر
ونابليون، وقال كثيرون إنه وحده هو الذي قضى على الامبراطورية العثمانية.
وأخيرًا، فإن هناك شيئًا واحدًا مؤكدًا، وهو أن تحوله إلى أسطورة قد أرضى شخصيته أو ذاتيته، ولكنه لم يعد
إليه احترامه لنفسه، وكذلك فقد أرضى زهوه وكبرياءه، ولكنه تركه أكثر يأسًا وحاجة إلى نسيان تلك الأشباح
التي كانت تلاحقه من صحراء شبه الجزيرة العربية.
__________________
[/align]

خالد الحويطي 18-02-07 01:34 AM

[align=center]الفصل الحادي و الثلاثون

كفارة في شبه الجزيرة العربية

تدهورت الأمور في صيف سنة ١٩٢٠ من سئ إلى أسوأ بالنسبة للعرب، وخاصة بالنسبة لفيصل، ولما بدأ
لورانس في تأليف كتابه، رد كل شئ، مصحوبًا بنقد شديد، ومرارة بالغة إلى الفرنسيين، وأولئك البريطانيين
الذين كانوا يتولون السلطة، واتهمهم بخيانة اصدقائه العرب.
وكان لورانس خلال الاشهر القليلة الماضية يعيش في أوكسفورد، حيّث قدم له أحد أصدقاء الدراسة مكانًا
هادئًا يأوي إليه ويبتعد عن إزعاج الصحافة، وحيث يخلو إلى ذكرياته . ولكن عندما ذهب فيصل إلى المنفى،
خرج لورانس من المكان الذي كان يختبئ فيه، مستخدمًا مركزه الجديد إلى اقصى حدود الاستخدام.
وراح يقرع أبواب كبار المسؤولين في "الوايت هول" ابتداء من "لويد جورج" فناز ً لا. وقد قوبلت كل محاولاته
تقريبًا بالتجاهل التام، غير أن هناك استثناء واحدًا يجب أن نحسب له حسابً ا، ممث ً لا في شخص "وينستون
تشرشل" الذي كان على وشك أن يصبح وزيرًا للمستعمرات، وكان قد قابل لورانس في باريس فآمن به.
وفهم "تشرشل" أكثر من أي عضو في الوزارة البريطانية الأسباب التي تكمن وراء التوتر البالغ الذي كان
يسود يومئذ منطقة الشرق الأوسط . فقد كان "المكتب العربي " في القاهرة يبذر الثورة والقومية العربية ضد
الأتراك والبريطانيين فأخذ يحص ثمار ما بذر في العراق.
ولم تكن بريطانيا تتوقع من العرب ان يختاروا بين نوع من الحكم الأجنبي ونوع آخر . وأن يقبلوا بكل هدوء
الاستسلام لبريطانيا (أو لفرنسا ) بد ً لا من الأتراك، وخاصة بعد أن اضطرمت نيران الحماسة في صدورهم إثر
الدعوة التي انتشرت آنذاك (بلاد العرب للعرب ). لقد كان كل شيء يخالف هذا الواقع، كما أظهر التاريخ خلال
النضال المتواصل للمسلمين ضد الأوروبيين الغزاة.
وفي الوقت ذاته، ومن أجل تهدئة الضغط الصهيوني، وعدت بريطانيا اليهود بمنحهم وطنًا قوميًا في فلسطين،
وعلى الرغم من أن "تشرشل" نفسه كان يعطف على الصهيونية، إ ّ لا أنه فهم أنه في سبيل تحقيق هذه السياسة
دون التعرض للقتال مع العرب، يقتضي اتباع سياسة دقيقة حذرة.
وكان "كورزون" الذي كانت إدارته آنذاك جزءًا من وزارة الهند التي كانت مسؤولة عن كل هذه المشاكل،
ليس بالرجل الكفء، لحل مثل هذه المشكلة.
وبوصفه استعماريًا من المدرسة القديمة، فقد نظر إلى القومية العربية بذات النظرة التي تميزت بها السياسة
الفرنسية: "أعطهم إنشًا وسيأخذون ميلا "، ولقد كان مثل هذا الرأي في العراق يكلف دافع ا لضرائب البريطاني
سنويًا، ثلاثة اضعاف ما كان يدفعه في سبيل تدمير الامبراطورية العثمانية، واذا لم ينقلب الأمر، فانه ضمين
بخلق كراهية للبريطانيين قد لا يمكنه إزالة أثرها.
وقد أقنع "تشرشل" لويد جورج بتعيينه وزيرًا للمستعمرات، وذلك في سبيل نقل المسؤولية بالنسب ة للشرق
الأوسط إلى إدارة جديدة في وزارة المستعمرات يكون فيها موظفون خبراء مثل "كلايتون " و"يونغ "
و"مينرتزهاغن" مساعد اللنبي السابق في فلسطين.
١١٥٥٥٥
وكذلك فإنه أقنع لورانس بأنه يوجه طاقاته واحتجاجاته إلى طرق إيجابية، عن طريق الحاقه بالوزارة بمنصب
مستشار لشؤون فلسطين.
وقد رفض لورانس في بداية الامر هذا المنصب، إ ّ لا إذا أكد له بأن تعهدات بريطانيا للعرب ستنفذ، وبعد
مساومات، سمحت له بصلاحيات واسعة في منصبه، قبل الوظيفة.
هذا ويعتقد "ج. ب. فيلارز" بأن وصول فيصل إلى لندن في نهاية سنة ١٩٢٠ ربما كان له اثره في إسراع
لورانس باتخاذ قراره، لأنه كان يشعر بالنسبة لفيصل بتبكيت الضمير.
وكانت أولى إجراءات "تشرشل" الدعوة إلى مؤتمر في القاهرة يعقد في آذار سنة ١٩٢١ ، وقد حضر هذا
المؤتمر حاكم العراق الجديد السير "بيرسي كوكس" و"كلايتون" و"كورنواليس" (وهو عضو سابق في المكتب
العربي، أصبح فيما بعد سفيرًا لبريطانيا في بغداد) و"يونغ" واللورد "ترنشارد"، مؤسس سلاح الجو الملكي،
و"غرترودبيل" المستشرقة المشهورة" و"جعفر باشا" رئيس أركان حرب فيصل السابق، و"لورانس".
وكان الهدف الرئيسي للمؤتمر هو البحث في أنجح السبل لإقرار السلام في العراق . وكان لابد من منح الحاكم
في بغداد بعض إجراءات الحكم الذاتي، وفي الوقت ذاته خلق محطة في سلسلة الدفاع الأمبراطورية، والمحافظة
على الإشراف على تلك المناطق التي تأخذ بريطانيا منها ما تحتاجه من بترول.
وكانت هناك مشكلة "شرق الأردن" التي يجب أن تبحث بعناية، وشرق الأردن هي المنطقة الصحراوية التي
تقع إلى الشرق من فلسطين، والتي كانت مسرحًا للثوار العرب.
هذا وقد أضيفت ترتيبات أخرى بالنسبة لجارات فلسطين الأكثر أهمية، والتي تدخل في نطاق النفوذ
البريطاني.
وقد وصلت أنباء في شهر كانون الثاني سنة ١٩٢١ إلى الادارة البريطانية في فلسطين تفيد بأن الأمير عبد الله
قد استقال من منصبه كوزير لخارجية والده في الحجاز، وترأس قوة من ألفي محارب، واتجه بهم إلى دمشق
لطرد الفرنسيين والاستيلاء على سوريا وجعلها مملكة خاصة له.
ولكي يصل إلى هدفه كان عليه أن يمر بشرقي الأردن . واسرع "كيركبرايد" الذي كان يحكم تلك المنطقة
يطلب التعليمات من رؤسائه في القدس، وسأل عما إذا كان عليه أن يقاوم تقدم قوات الأمير، واذا كان الجواب
نعم، فليكن معلومًا بأن لديه قوة لا تعدو خمسين شرطيًا، واذا كان الجواب لا، فهل يرحب بالأمير في المنطقة
الخاضعة للنفوذ البريطاني؟.
وكان جواب القدس غير مشجع، إذ جاء فيه أن الأمير على ما يبدو، لن يقوم بمثل هذه المحاولة لغزو سوريا.
ولما كانت قوات الأمير في معان، أي على مسيرة يوم واحد من عمان، فقد قرر "كيركبرايد" أن ينفذ القانون
بنفسه، وأن يمنح عبد الله معاملة دبلوماسية . وخرج لملاقات الأمير، و لما التقيا، رحب به باسم الإدارة
البريطانية.
وسر عبد الله من هذا اللقاء ولم يستغربه، ودعا إلى وقف الزحف على سوريا . ولما انعقد مؤتمر القاهرة،
أعلن نفسه أميرًا على شرقي الأردن، وكان من أسهل الأمور بالنسبة إلى "تشرشل" ومستشاريه، أن يقبل بحقيقة
١١٥٥٦٦
الأمر الواقع هذ ه، ولكنهم وضعوا شرطين اثنين فقط، الأول يقضي بأن يعترف الأمير بالانتداب البريطاني على
جميع فلسطين غربي الأردن، والثاني، هو أن يتخلى عن اطماعه ونياته في غزو سوريا.
وقبل عبد الله الشرطين دون تردد، وهكذا سويت مشكلة شرقي الأردن بسهولة، وكانت أول منحة تعطى
للعرب.
أما بالنسبة للعراق، فقد حبذ المؤتمر إقامة مملكة دستورية فيها وعلى عرشها الأمير فيصل بعد تنصيبه ملكًا،
وكان فيصل آنذاك في لندن، وبعد ليلة من النقاش الحاد في منزل اللورد "وينترتون" اقتنع فيصل بضرورة قبول
العرش، واشترط الانكليز لذلك إجراء استفتاء، وقد حمل لورانس الامير على قبول هذا الشرط.
وفي شهر حزيران وصل فيصل إلى العراق، بعد أن حصل على أغلبية ساحقة من أصوات السكان الذين
اختاروه ملكًا، وأصبح السير "بيرسي كوكس " بناء على رغبته وامتثا ً لا لقرارات مؤتمر القاهرة، مستشارًا بد ً لا
من حاكم عام، مهمته أن يمهد الطريق لفيصل وييسر له نقل السلطات من البريطانيين إلى العرب.
وغادر الجيش البريطاني العراق، وظلت وحدة من سلاح الجو الملكي ترابط في وادي الفرات كدليل على
وجود بريطانيا في العراق، وهو إجراء لم يعترض عليه إ ّ لا إثر ثورة سنة ١٩٥٨ وعلى أساس وضع القاعدة
هناك.
ويعود ا لفضل في تسوية مشكلة العراق وتعويض فيصل على ما لحقه به من إهانة في سوريا إلى المجهود
المشترك الذي قام به كل من تشرشل ولورانس، وكان ذلك على أي حال تحقيقًا للهدف الذي يسعيان إليه، وهو
إيجاد عرش لفيصل.
وعلى كل، فقد صور الحل تصويرًا دقيقًا للجهود التي كانا يسع يان لتنفيذها، وتتلخص في الحصول على عرش
لفيصل والسيطرة على القوات العربية، ووضع جيش يتضمن قوات من سلاح الجو.
وكانت كل الدلائل تشير إلى أن فيصل يحيط مصالح بريطانيا، وينصب نفسه حارسًا لها.
وعلى الرغم من أن الأمور كانت تجري على هذا المنوال، وتكلف الكثير من ك برياء بريطانيا، يجب ألا
نستغرب كثيرًا أن نعرف مما كتبه لورانس نفسه، أنه يعتبر مقررات مؤتمر القاهرة بصدد العراق وشرقي
الأردن كتنكر قام من بريطانيا لوعودها للعرب.
وكان الطلب قد قدم في معروض مؤرخ في الثامن عشر من شهر تشرين الثاني سنة ١٩٢٢ لمختصر كتاب
"أعمدة الحكمة السبعة " الصادر عن أكسفورد، من وضع "إدورد غارنيت" ولكن هذا المختصر لم ينشر أبدً ا.
وفيما يلي ما قاله لورانس نفسه عن هذا الموضوع:
"اتخذ الكتاب لنفسه تاريخًا سنة ١٩١٩ ، أي عندما كانت العناصر القوية في الحكومة البريطانية تسعى لتجنب
التزاماتها وتعهداتها ز من الحرب للعرب، ولكن ذلك العهد انتهى في آذار سنة ١٩٢١ عندما تولى المستر
"وينستون تشرشل " مسؤولية الإشراف على منطقة الشرق الأوسط، فقد راح يعمل بشرف من أجل تنفيذ الوعود
التي قطعناها، سواء أكانت وعودًا كتابية أم شفهية . ولقد أتم جميع تعهدات ما كماهون "التي كانت تدعى
بالمعاهدة التي وضعها شخص لم يرها".
١١٥٥٧٧
تلك المعاهدة الخاصة بفلسطين وشرقي الأردن وشبه الجزيرة العربية . أما بالنسبة لبلاد الرافدين فقد ذهب إلى
أبعد من نصوص تلك المعاهدة. معطيًا العرب القسم الأكبر ومحتفظا لنا البريطانيين بالقسم الأصغر، بل واقل
مما قدر السيد " هنري ما كماهون" نفسه.
أما شؤون فرنسا في سوريا فلم يكن قادرًا على التدخل فيها، الامر الذي جعل شريف مكة يشتكي من ان
التسوية التي تمت لا تتفق واتفاقية بريطانيا وفرنسا سنة ١٩١٦ ، أو ، بالنسبة لوعدنا لهم"
وقد عمل لورانس تأكيدًا آخر مماث ً لا في أواخر مسود ات كتابه "أعمدة الحكمة السبعة" وإن كان قد إدعى هناك
بأن بريطانيا قد خرجت من المعركة نظيفة اليدين. وكذلك أبلغ لورانس كاتب تاريخ حياته "روبرت غريغز".
… "بأن اتفاقية القاهرة يجب ان ينظر إليها نظرة تفوق نظرتنا للحرب التي خضناها".
ومن المستحيل القول إلى أي مد ى تنعكس هذه التأكيدات التي تمخضت عن نتائج باهرة لأعماله في مؤتمر
القاهرة، أو مدى ما يمكن أن تعطيه من عذر للتهرب من المسؤوليات الأخرى في شبه الجزيرة العربية.
ويعتقد "ليدل هارت " بأن لورانس يؤمن بأن مهمته قد انتهت وتعهداته قد نفذت، غير ان في هذا القول شيئًا
قلي ً لا مما يمكن الأخذ به.
وهناك سبب واحد لهذا الرأي هو أن التسوية رغم انها قد عوضت على فيصل عن خسارته في سوريا، إ ّ لا
أنها حتى تلك المرحلة لم تفعل شيئًا، ولم يكن بمقدورها ان تفعل شيئًا للتعويض عن سوريا في خسارتها لفيصل.
والواقع ان تفاؤل لورانس بأن تشرشل و سياسته المتحررة بالنسبة للعراق ستنعكس في المستقبل على بقية
المناطق العربية قد ثبت مع الايام انه في غير محله. إذ أن سورية لم تنل استقلالها إ ّ لا بعد خمس وعشرين سنة.
واذا ما اخذنا بعين الاعتبار ما ابداه لورانس من احتجاجات في لندن وباريس ودمشق، نستطيع أن نعرف بأن
سوريا كانت بالنسبة له اهم من بقية البلدان العربية مجتمعة.
ولو أن فع ً لا شعر بالامتنان لنتائج مؤتمر القاهرة فلماذا لم ينقع بقبول منصب كبير الممثلين البريطانيين في
.؟ شرق الأردن، ذلك المنصب الذي عينه فيه تشرشل صيف سنة ١٩٢١
وصحيح أنه لم يكن على وفاق مع عبد الله، وربما كان يشعر بميل أقل للتدخل في منع اعوانه من اثارة
الاضطرابات في جبل الدروز في سوريا !… وفي المناوشات المتكررة بين القوات الفرنسية والقوات العربية
التابعة لعبد الله، والتي كانت تحصل عندما تسلم منصبه. كان شعوره وهذا لا شك فيه مع العرب.
غير أنه يستفاد من مذكرات تشرشل نفسه ان لورانس قد استعمل قوة خارقة مع اعدائه القدماء فسرح عددًا
من الضباط، واستخدم القوة، وأخيرًا استطاع ان يستعيد الهدوء التام . (وهناك كثير من الكتاب الفرنسيين يدعون
بأن لورانس قد خلق لفرنسا مشاكل في سوريا أكثر من المشاكل التي ح اول منعها في ذلك الوقت، غير ان
قراءة التاريخ توضح للجميع بأنه كانت هنالك مشاكل كافية تحتدم في سورية كنتيجة لمعالجة فرنسا لقضايا
العرب دون ان تطلب النصح من الخارج).
ومع ذلك فقد شعر لورانس بأنه لا يستطيع البقاء في شبه الجزيرة العربية مدة أطول . وبعد شهرين، أ ي بعد
أن أتم سنة من الخدمة مع تشرشل في وزارة المستعمرات، طلب أن يسرح . وقد حاول تشرشل، كما حاول
اللنبي في دمشق ان يضغط عليه ليبقى، وتمكن من اقناع لورانس بالبقاء في الخدمة خمسة أشهر أخرى … غير
١١٥٥٨٨
أنه في شهر تموز تلقى برقية مفادها ان مستشاره الشاب لا يستطيع البقا ء في منصبه أكثر مما بقي. وقد علق
تشرشل على رفقته القصيرة مع لورانس بقوله "انه حيوان رائع، ولكنه لا يستطيع العيش في الاسر".
وعلق في مناسبة أخرى بقوله "الغريب أنه كان قادرًا على دفن شخصيته من أجل تحقيق إرادته ودفع ما لديه
من معلومات إلى الجمهور البسيط ". ورغم ذلك فان لورانس قد التحق بسلاح الجو الملكي بعد ذلك بأقل من
شهرين كطيار من الدرجة الثانية ! وتطوع مختارًا معرضًا نفسه للاسر ومغيّرًا اسمه المشهور، ودافنًا شخصيته
في أحط مهاوي الجيش البريطاني
[/align]

خالد الحويطي 18-02-07 01:35 AM

[align=center]الفصل الثاني والثلاثون

اعمدة الحكمة السبعة

يمكن اعتبار قصة لوران س الكلاسيكية "أعمدة الحكمة السبعة" كتابًا قائمًا في حد ذاته، فقد بدأ كتابته أثناء
مؤتمر الصلح في باريس، وذلك في أوائل سنة ١٩١٩ . وقد انتهى من كتابته في تشرين الثاني من العام ذاته،
ولكنه أضاع أربعة أخماس المسودات اثناء تغييره القطار في محطة "ريدينغ" وهو في طريقه إلى منزله من
لندن إلى أوكسفورد.
ولكن لورانس لم يتأثر بهذه الكارثة، بل عمد إلى كتابة مذكراته من جديد فجس نفسه في غرفة في بيت أحد
أصدقائه في شارع "بوسطن" بمدينة "وستمنستر" وبنشاط يفوق نشاط البشر استطاع ان يفرغ من كتابة المسودة
. في نهاية سنة ١٩٢٠
وقد أخذ منه هذا العمل مجهودًا جبارًا، إذ كرس نفسه لعمله ليل نهار وفي إحدى المناسبات انقطع لعمله
مدة ثمان واربعين ساعة متواصلة يعيش احلامه أثناء الحرب من جديد، والكوابيس التي مرت في حياته وهو
في الصحراء، وأقدامه بنفسه على تدمير شخصيته، ومساوماته بين اسياده الا نكليز واصدقائه العرب. واثناء ذلك
الوقت كان يعيش على مخزونه من اعصابه القوية لا يكاد يأكل شيئًا، ولا يكاد يرى أحدًا.
وفي الوقت الذي فرغ فيه من عمله كان في منتهى الاعياء.
ويقول "ليدل هارت" من خلال مطالعاته الشخصية للورانس، أنه "كان من الافضل بالنسبة للوران س تأليف
كتابه أعمدة الحكمة السبعة أكثر مما احرزه من نجاحات اثناء الحرب، تلك النجاحات التي كادت أن توصله إلى
القمة".
وفيما يتعلق بنشر الكتاب، كتب إلى ادوار غارنت من قاعدة سلاح الجو الملكي في "أو كسبريدج" يقول.. "لقد
قررت بالأمس أثناء حضوري قداسًا في الكنيس ة إ ّ لا أنشر شيئًا، ولكنني اليوم أشعر بميل إلى النشر، فهل أنا
مختل الشعور أو مجرد أحمق؟".
ولعل تردده في نشر كتابه لا يعود فقط إلى خوفه من ألا يلاقي الكتاب تحبيذا، أو يصادف نقدًا شديدًا أو
يراجع مراجعة قاسية، بل يمكن رد تردده في نشر كتابه إلى شيء شخصي جدً ا… كتلك الفصول التي يبحث
فيها عن نفسه.
١١٥٥٩٩
فقد اكتشف ان الحقيقة هي "انه لا يحب ذاته التي يراها ويسمعها ". لقد كان الأمر مختلفًا تمامًا بين أن يكتب
لبضعة أشخاص كل ما فعله أو شاهده أو شعره اثناء حرب الصحراء، وبالدقة التي يتمكن بها من تذكر الاحداث
كما جرت تمامًا، وبين أن ينشر ذلك للعالم، ويقف أمام البشرية عاريًا محدقًا في كل من حوله.
ولما طلب إلى لورانس أن يعيد تنقيح الكتاب، بحيث يحذف منه تلك الفصول التي يتحدث فيها عن شخصه،
ادى بأنه لا يملك الوقت الكافي من جهة، ولا يحب أن ينشر شيئًا ناقصًا من جهة أخرى، وخاصة عن الت جارب
التي مر بها.
والظاهر أن لورانس قد اقتنع وقبل أن ينشر كتابه، وتوصل إلى اتفاقية مع "جوناثان كاب " على ان ينشر
مختصرًا كان قد أعده له ، " أدوار غارنت" ولكن الاتفاقية وصلته في بداية سنة ١٩٢٣ أو حوالي ذلك التاريخ،
عندما اكتشفت الصحف أن الكولونيل "جون هام روز" من سلاح الجو الملكي، ليس إ ّ لا الكولونيل "ت. أي.
لورانس" الذي أدت ثوريته إلى طرده من الخدمة.
ولما كتب إلى "برنارد شو " بعد ذلك بوقت قصير قال لورانس "إنه عندما اطلقت علي الرصاصة الأولى من
"الديلي اكسبرس "، القيت (أو بالأحرى) رفضت اتمام توقيع الاتفاقية التي اعدها "كاب" من أجل نشر الملخص ".
وقال لورانس في مذكراته إن "كاب" قد احتدم غيظًا. ومضى لورانس يقول:
"بعد مرور لحظة شعرت بالأسف لأنني الغيت الاتفاقية، وأخذت أفكر في نشر الكتاب، ليس بشكل مختصر،
بل القصة كاملة، وعلى هذا الاساس كتبت إلى "كاب" أسأله عن إمكانية ضمانه لألفين من النسخ في اشتراكات
خاصة… "وقد دهش "كاب" للوهلة الأولى… ولكنه لم يلبث أن نهض للمهمة… فكتب اتفاقية جميلة … وارسلها
إلي لأوقعها.
وفي ذلك اليوم بالذات تلقيت أمر صرفي من خدمة سلاح الجو الملكي، ولذلك، فقد الغيت الاتفاقية أيضًا".
ويبدو ان بذور ا لمدح التي بذرها "شو" كان لها بعض التأثير في إقناع لورانس بأنه قد أنجز كتابًا رائعً ا. وفي
شهر حزيران سنة ١٩٢٣ كتب إلى صديقه القديم "هو غرث " … يقول "عندما التحقت بسلاح الجو الملكي كنت
أعتقد بأن كتابي عن الثورة العربية ردئ للغاية".
ولكن "شو" استطاع منذ ذلك ا لوقت ان يغير رأيه تدريجًا حتى أقنعه بأنه كتاب ممتاز. ثم هنالك مطمح كان
يعتمل في صدر لورانس بشكل دائم عبر عنه بقوله : وكان يردد هذا القول "إن همي أن أؤلف كتابًا ممتازً ا".
ولكنه في بعض الاحيان كان يأخذ وجهة النظر المخالفة، فقد كتب إلى "ادوار غارنت" واصفًا كتابه "بأنه مهزلة
لا تستحق أن تقرأ، فاذا ما أردت ان ترى بعينيك كيف تشوه الافكار الجميلة والمادة الرائعة فارجع إلى أية
صفحة من صفحات الكتاب.
انني لا أعتقد بأن هنالك أي ناشر في "فليت ستريت" يرضى حتى بأن يحرق الكتاب، فكيف بحق السماء تعتقد
بأني قد جئت بعمل ممتاز؟".
وعلى الرغم من هذا التردد الواضح في موقف لورانس الخاص بنشر كتابه أو عدم نشره إ ّ لا اننا لا نعلم
وليس من الواضح لماذا لجأ لورانس في النهاية إلى نشر كتابه فقد قيل بأنه أقدم على ذلك عندما طلبت
١١٦٦٠٠
"كرترود بل " ان تستعير نسخة من نمسخ اوكسفورد، ورفض طلبها لأن جميع النسخ كانت قد اعيرت، فقررت
الحصول على نسخة أخرى مطبوعة من بعض اصدقائها.
والذي يبدو اقرب إلى الواقع إلى لورانس كان محيرًا بين رغبته في ان يرى نفسه كمؤلف، وخوفه من النقد
الذي قد يمزق مجهوده بددً ا. ومهما كان السبب فانه لورانس قرر اتخاذ حل وسط وهو ان ين شر مائة نسخة على
ان تباع الواحدة منها بمبلغ ثلاثين جنيهًا، ولكن الناشر طلب منه ان يضمن الكتاب أرقى أنواع الفنون المصورة
لأحسن الرسامين بما فيهم "اغسطس جون" و"اريك كننغتون".
وكان لورانس قد طلب منهما ان يرسما له صورًا مختلفة، وكذلك صورًا لفيصل واللنبي واكثر من عشر
شخصيات من البريطانيين والعرب الذين لهم علاقة بالثورة العربية.
ومرة أخرى عاد لورانس إلى العمل لينقح ويعيد كتابة مؤلفه حاذفًا منه بعض الاشارات المعينة إلى كبار
الضباط البريطانيين .
الذين: ابلغ كننغتون مازحًا "بأنهم سيقيمون عليه ما لا يقل عن سبع وعشرين قضية قذف وشتم
فيما لو نشر كل ما يعرفه عن اعمالهم.
وكذلك فان بعض الفصول المعينة التي ظهرت في طبعة اكسفورد قد اعاد كتابتها أو اهملها كليًا بحيث
اختصر النص الكامل إلى حوالي خمسة عشر في المائة.
ولكن لورانس طوال حياته لم يقتنع أبدًا بقراره إ ّ لا ينشر النص الكامل لكتاب اعمدة الحكمة السبعة، وترك
الأمر لشقيقه الاصغر "ارنولد لورانس " بوصفه وريثًا له في الميدان الادبي . وقد اصدر مؤلفه الممتاز وعرضه
. للجمهور بعد وفاة لورانس، وكان ذلك في سنة ١٩٣٥
وقد استغرق العمل في تنقيح الكتاب حتى سنة ١٩٢٥ ، وفي السنة ال تي تلت كانت نسخ المشتركين في كتاب
اعمدة الحكمة السبعة قد ظهرت في الاسواق، وكان نجاحها يفوق الاحلام "أو مخاوف مؤلفه".
فقد كان الطلب عليه كبيرًا، ولكن ما كان موجودًا منه كان قلي ً لا. حتى لقد بيعت النسخة الواحدة الاصلية بمبلغ
ثلاثين جنيهًا.
والذي اشتراها اعا د بيعها مقابل خمسة أو ستة آلاف جنيه، وكان الناس ينشرون في أعمدة الاعلانات في
الصحف يعرضون مبلغ خمسة جنيهات في الاسبوع مقابل استعارة نسخة من الكتاب.
ولكن ايًا من هذه الارباح لم تدخل جيب المؤلف أو جيب الناشر "جوناثان كاب" وبالعكس فقد اثبتت الارقام ان
الكتاب، رغم الاقبال الشديد على شرائه قد خسر خسارة فادحة.
وقد حاول "جوناثان" من اجل التعويض عن هذه الخسارة، اقناع لورانس بأن ينشر نسخة ملخصة على ان
تسمى "ثورة في الصحراء" شريطة ان يحذف كل الاشياء الشخصية والتحاليل النفسية.
وقد اشترط لورانس شرطًا واحدًا هو ألا ي نشر الكتاب إ ّ لا بعد مغادرته البلاد ووافق "كاب". وفي شهر كانون
الثاني سنة ١٩٢٦ غادر لورانس البلاد ليلتحق بقاعدة لسلاح الجو الملكي في الهند، وبعد اسابيع قليلة من ذلك
كان كتاب "ثورة في الصحراء" قد وصل إلى باعة الكتب.
١١٦٦١١
وكان نجاح الكتاب نجاحًا فوريًا وغطت أرباح ه لا مجرد الخسارة التي نجمت عن كتاب أعمدة الحكمة السبعة
فحسب، بل وتركت ربحًا صافيًا مقداره خمسة عشر الف جنيه.
ولما كان لورانس صورة طبق الاصل عن الرجل الذي لم يفهم ولم يهتم بالمال، فقد اقدم على سحب الكتاب
من التوزيع ورفض ان يستفيد من أفضل كتاب كتب بدماء ال بريطانيين والعرب، وزاد على ذلك فخصص
حصته من الارباح لصالح المشاريع الخيرية.
إن هذه القصة حول إصدار ومولد كتاب اعمدة الحكمة السبعة لتدل على طبيعة لورانس، تلك الطبيعة التي
تدل عليها كل اعماله.
واذا ما شئنا ان نتبسط في الموضوع فإننا نقول إن جميع تناقضاته الشخصية وكل آماله ومحاوفه وتصميمه
وارادته وشذوذه العقلي كل ذلك قد اجتمع ليكون شخصيته غير العادية، فقد كانت هنالك اولا للثورة العارمة
الناجمة عن تأليف الكتاب بغض النظر عما سيكلفه من مجهود عقلي وجسماني … وبالاضافة إلى ذلك كانت
هنالك رغبة الموزعين في الحصول على مطبوعة من الدرجة الأولى، واشترطوا لذلك شروطًا من حيّث
التأليف والصور، ثم، وبعد ان انتهى العمل في الكتاب جاء الخوف القاتل من تقديم انتاجه للجمهور، على الرغم
من ان النقاد ذوي الخبرة مثل "برنارد شو " و"غارنت" قد اكدوا له أن كتابه سيلاقي نجاحًا باهرً ا. واخيرًا وعندما
تحقق النجاح جاءت الخسارة من جراء نشره.

ان لكل كتاب انتقاداته، ولكل مؤلف عثراته، ولكن ما الذي يمكننا ان نقوله اكثر مما قلناه عن كتاب اعمدة
الحكمة السبعة.
وقد قال "ج. ب . فيلارز" عنه بأنه "كتاب كان وسيبقى قمة للكتب والادب الكلاسيكي".
وبالاضافة إلى ذلك، كما اوضح "فيلارز"، فإن لورانس في كتابته لمذكراته قد خلق نوعًا جديدًا من الكتاب،
واثبت انه يجاري "مالرو" و"كريسلر" و"بول سارتر".
ان القراء في يومنا هذا قد اعتادوا قراءة كتب تحتوي على أخبار العنف والفظائع والخيانة وكل ما يتعلق
بالحرب.
ولكن لو رانس عندما كتب أعمدة الحكمة السبعة كان يعرف بأنه يشق طريقًا جديدً ا. وكان غير مقتنع بضرورة
رفع الستار ولو جزئيًا عن ابطاله الحقيقيين، أو أن يعرضهم إلى أنظار الناس.
فقد ازاح ذلك جانبًا واكتفى بأن يكشف شخصيته وحده، والحقيقة الناصعة عن حملة الصحراء كما رآها
وعاشها، ولم يوفر نفسه ولا من كان معه اثناء الحملة من النقد عندما سرد الحقائق كما هي.
وطبيعي ان الاشخاص الذين حطوا من قدره، مثل "رتشارد الدنغتون" قد وجدوا في وسط التناقضات الواردة
في النص والخلاصة التي توصل إليها لورانس شخصيًا دلي ً لا على ان القصة بأكملها ليست إ ّ لا مجرد كذب.
والواقع ان لورانس يجب ان يتحمل قسطًا من اللوم لهذا السبب، ذلك لانه كان يبدو من كتابه قد وضع عدة
متناقضات وتأكيدات فيما يتعلق بمحتويات الكتاب. ففي المقدمة الأولى التي كتبها لمذكراته كشف النقاب عن
ذلك في كتاب آخر نشره شقيقه "ارنولد" تحت رعاية الجمعية الشرقية حيّث قال: "يبدو لي من ناحية تاريخية أنه
من الضروري ان اقدم القصة بشكل ربما لم يكن بمقدور من كان في جيش فيصل أن يدون ملاحظاته ويكتبها
١١٦٦٢٢
في الوقت الذي جرت فيه الاحداث بدقة مثلي … إن كل الذي كنا نأمله قد جربناه"، ولكنه قد انتهى بملاحظة
متناقضة حيّث قال : "لقد بدأت كتابة مذكراتي لأكشف القناع عن حقيقة القصص والاشياء، ولأقنع العرب القلائل
الذين يعرفون مثلما اعرف.
وفي هذا الكتاب أيضًا عنيت للمرة الأخيرة ان أسجل حكمي الخاص على ما يجب أن يقال ". وقال مرة أخرى
إلى الكولونيل "مينيرتز هاغن " وهو ضابط س ابق من ضباط الجنرال اللنبي. "إن كتابه قد بني على الأكاذيب "،
ولكن نظرًا لأنه أصبح بط ً لا اسطوريًا فقد كان من الضروري أن يعيش هذه الاسطورة.
وعلى الرغم من كل ذلك فان أية رواية من هذه الروايات لا ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالثورة العربية . فقد تقبل كل
من اللنبي، وك لايتون، وستورز، ونيوكامب، وجويس، وادوناي، كتابه دون ان يعترضوا عليه، وهذا مما يعطي
الكتاب ثقة لا يستطيع رجل مثل "الدينغتون" ان ينال منها بشكل من الإشكال.
وليس هنالك من شك في أن لورانس قد أهمل ذكر حقائق معينة واشياء حصلت، ولكنها لم تكن متفقة مع
الخلاصة الت ي استنتجها . وهنالك سبب واحد لذلك، فقد اختصر الحديث عن البريطانيين، واختصره أكثر عن
الفرنسيين وعن دور كل منهم في كسب الحرب ضد تركيا وفي نجاح الثورة العربية.
وكنتيجة لتحامله على الفرنسيين، فإن القارئ غير الفطن انما يترك ليحمل انطباعًا بأن العرب قد تلقوا
مساعدات قليلة من الحلفاء إذا ما استثنينا كمية من الذهب وبعض الاسلحة التي قدمت لهم بناء على طلب من
لورانس.
وكذلك فإن فشله في تحليل الالتزامات البريطانية السياسية والوعود إلى الشريف حسين أوحى بأن الشيء
الكثير قد عرض، ولكن الشيء الكثير قد انكر! وأن القضية بالنسبة للعرب كانت على هذا النحو.
ومن الانصاف القول بأن الضرورة كانت تحتم على لورانس ان يذكر تلك الحقائق حتى ولو كان غير مدرك
عند كتابته لهذا الكتاب، بأنه كان مقدرًا له أن يصبح كتابًا كلاسيكيًا.
غير أن لورانس كان يكتب بشكل موضوعي عن الثورة العربية وعن "أنا في تلك الثورة ". وليس بشكل
إيجابي عن حملة الشرق الاوسط ككل. لقد كان يحفظ سج ً لا للاحداث ولكنه كان أيضًا يدافع عن قضية.
ولعل ملاحظته إلى "مينرتز هاغن" كان المقصود بها ان يعرب عن الثورة العميقة التي كانت تحتدم في نفسه
على نعته بالباطل.
بينما كان كل ما شعر به أ ثناء حملة الصحراء شعورًا مزيفًا. ولعل هذا التفسير أقرب إلى الصحة من القول
بأنه قد ملأ كتابه بالاكاذيب والقصص الخيالية عن بطولاته . أما بالنسبة للمتناقضات التي وردت في خلاصته،
فهي أبعد من أن تظهر لورانس بمظهر الكاذب، ولعلها أقرب إلى اظهاره بمظهر الشخص الذي ي عبر عن
الحقيقة كما هي.
ولقد كان في الواقع مصممًا على ان يسرد افكاره وملاحظاته تمامًا كما حدثت في حينها مع غض النظر عن
المدى الذي تتغير به في فصول قليلة لاحقة.
وانه لمن الافضل أن يسجل المرء الحقيقة كما رآها في سنوات الحرب من ان يحذف أو يعدل من تلك الحقيقة
حتى تصبح مناسبة مع مرور الوقت.
١١٦٦٣٣
وفض ً لا عن ذلك فان لورانس نفسه كان مجموعة من المتناقضات، كما أن حياته كانت تتسم بهذا الطابع، فلماذا
يقال إذن بأنه كاذب؟… وان مذكراته قد كشفت عن طبيعة نفسه!.
كما قال "ج. ب. فيلارز".
إن كتاب لورانس قد اظهره بأنه كان حريصًا ع لى الدفاع عن قضيته . وعلى أن يظهر الحقائق مهما دقت في
ذلك التاريخ الواسع الذي قدر له ان يساهم بكتابه . وصحيح أن قارئ كتاب "أعمدة الحكمة السبعة " سيجد مادة
تختلف في طرازها عن الريبورتاجات العادية أو الرسائل العادية عن الحرب، فهو في بعض الاماكن يأتي على
صور رائ عة حتى ليبدو بأنها قد صنعت بيد مثال ماهر، وبعد جمل قليلة نجده قد شوه تلك الصور الرائعة بما
كان يحشده من سخرية.
وكذلك فان هناك صفحات من كتابه لا يمكن ان توصف من حيّث البساطة في اللغة، والتفهم التام، والأسى
العميق التي تظهره لانسان يصور مشاعره في ظروف مؤلمة للغاية، ولكن الحقيقة هي ان لورانس كان بامكانه
وقد فعل ان يكتب عن ذكرياته في الحرب بهذا الاسلوب، غير ان ذلك لا يعني أن لورانس كان يملك
الشجاعة والتفهم لينظر بعمق إلى قلوب زملائه في الحرب، وان يكتب كل شيء رآه.
وفي معرض كتابته المسودة الثانية اعترف لورا نس بقوله "لقد عملت نحاتًا مرة واحدة في حياتي، وذلك
لأعرب عن ذاتي بشكل خيالي". ومما لا شك فيه انه كان يعني بذلك كتابة "أعمدة الحكمة السبعة".
وكما كتب "ونستون تشرشل " في تعليقه الخاص على هذا الكتاب الكلاسيكي باللغة الانكليزية. "ليس هنالك في
هذا الكتاب من أثر بالغ… كل ما فيه مبالغ فيه، وشخصي، وقد كتب في ظروف لا يستطيع الإنسان كما يبدو
أن يعيشها. ولكن لورانس كان على كل حال رجلا
[/align]

خالد الحويطي 18-02-07 01:36 AM

[align=center]الفصل الثالث والثلاثون

تجريد من الرتب العسكرية

قبل انخراطه في سلاح الجو الملكي، اتخذ لورانس اسمًا مزورًا له "جون هرم روس" وعلى الرغم من أن
تغيير الاسم هذا لم يؤثر قانونيًا كما أثر انتحاله لاسم شو فيما بعد، إ ّ لا أنه قد ساعده في تأدية غرضين
مزدوجين: الاول .. احداث انقطاع تام عن ماضيه بوصفه الكولونيل لورانس، والثاني إحلاله في مرتبة من
الخمول كانت ضرورية له في وظيفته التي كما اثبتت الاحداث فيما بعد لا تقبل فكرة انضمام رجل
اسطوري إلى صفوفها.
وبالاضافة إلى رغبته في نسيان الحرب، فإن مؤتمر القاهرة كان في رأي لورانس الخاتمة لأعماله في منطقة
الشرق الاوسط.
فقد تم تعيين فيصل في العراق، وعبد الله في شرق الاردن . وعلى الرغم من أن اصدقاء عبد الله قد فشلوا في
مشاركة لورانس رأيه في مقررات مؤتمر القاهرة وانتقدوه انتقادًا جارحًا، ووصفوا تلك المقررات بأنها نسف
لحريات العرب، على الرغم من ذلك فقد كان لورانس غير مستعد للبقاء والمجادلة معهم.
١١٦٦٤٤
ثم إن الواقع كان يشير إلى أنه ليس ثمة شيء يستطيع أن يفعله ب النسبة إلى سورية، حيّث كان الفرنسيون
يتمركزون هناك، وليس في نيتهم أن يتركوها نتيجة للهيجان أو السخط اللذين كانا يسودان عمان.
أما بالنسبة للشريف حسين فقد كان يحث الخطى نحو نهايته المحتومة، ولم يكن هنالك من أحد يستطيع ان
يوقفه. ولما عرف لورانس الدرس المرير الذي يقول بأن الملوك الذين يصنعون ملوكًا يزاحون من
الطريق حالما تنتهي مهمتهم، لما عرف لورانس ذلك، أدرك أنه ليس أمامه أي شيء يفعله في البلاد العربية،
وقد عرض عليه تشرشل منصب حاكم، ولكنه رفض.
ولسنا ندري أكان شعوره بأن العرب يجب ان يمضوا قدمًا في تعلم كي ف يحكمون انفسهم بأنفسهم، لسنا ندري
أكان ذلك الشعور خيرًا أم شرًا، فقد كان عقله المضطرب يضج بأفكار ابسط، ومشغول بمهمة أكثر بناءً.
ولقد أدى به الاجهاد الفكري في الاشهر الستة الماضية إلى حافة الانهيار العصبي حتى انه لم يستطع أن
يسترد قدرته على التفكير إ ّ لا بعد أن قطع كليًا جميع علاقاته بالماضي.
وكان كثيرًا ما يتكلم عن امكانيات التوظف في إحدى الدوائر، بل لقد درس الموضوع مع "ليوبولد إمري "
صديق تشرشل وأحد أعضاء مجلس العموم من حزب المحافظين، وسأله عما إذا كان من الممكن أن يعين في
وظيفة حارس شواطئ أو "حارس منارة".
وكان في الوقت ذاته يناقش موضوع سلامة عقله بالنسبة لاصدقائه، فقد كتب على سبيل المثال إلى "ليونل
كورتس" يقول: "انني أفكر أحيانًا كم أنا مجنون، وما إذا كان مستشفى المجانين سيكون لي المقر المثالي
(والرحيم بي )". كما أن أجاب ضابط التجنيد عندما سأله عن السبب ا لذي يحدوه لأن يلتحق بسلاح الجو الملكي
بقوله: "أعتقد بأنني سأصاب بانهيار عصبي عقلي".
وقال بعض المراقبين بأن السبب الرئيسي لالتحاقه بسلاح الجو الملكي هو الحصول على السمعة السيئة، وأنه
بانتحاله اسمًا مزورًا واحاطة نفسه بهالة من الغموض يستطيع أن يلفت إليه انت باه الصحف أكثر مما يستطيع لو
استمر في العيش باسمه الحقيقي أو بقبوله منصبًا رفيعًا وراء البحار خدمة لبلاده.
غير أن هذه النظرية لا تبدو معقولة، فهو لم يخفي شخصيته عن جميع اصدقائه، فقد كان "شو" و"غارنت" بين
الذين يعرفون السر، السر الذي كان غامضًا بالنسبة للع الم الخارجي، وهنالك قليل من الشك في ان لورانس قد
حزن حزنًا شديدًا عندما استدعاه أحد الضباط في قاعدة "أوكسبريدج" وطرده من سلاح الجو الملكي، عندما
نشرت الصحف، القصة كاملة تحت عناوين بارزة.
هذا وقد أعطى لورانس نفسه ثلاثة أسباب لانخراطه في سلاح الجو الملكي، ا لاول الأمان، والثاني الهرب من
المسؤولية، والثالث اذلال النفس . وقد كتب إلى صديقه القديم "هو غرت" جوابًا عن سؤاله عن سبب التحاقه
بسلاح الجو الملكي فقال : "ان الامان كان رائدي بالدرجة الأولى، ففي التحاقي بهذا السلاح ضمانة سبع سنوات،
إذ لم يعد لدي العقل الذي يس تطيع ان يفكر، لا بد أن تدرك أنني قد انتهيت من قصة لورانس الاستطرادية،
وانني لم أعد أحب ما كانت تصفه الشائعات في من كان يسمى لورانس…
ثم ان الحياة السياسية تتغير وتتغير كثيرً ا. وقد قال إلى "ليونل كورتس"… "أنت تعرف بأنني قد التحقت بسلاح
الجو الملكي لا جعل من نفسي انسانًا عاط ً لا عن العمل".
١١٦٦٥٥
وقد أجاب أولئك الذين حدثوه امثال "يانغ" عشية التحاقه بسلاح الجو الملكي عن ضرورة مطالبته بالتعويض
فقال: "انه لا يفكر كثيرًا في أن يصبح من الضباط أو حتى الجنود التابعين لسلاح الجو الملكي".
ولم يكن هنالك من شيء يستطيع ان يقنع ه بأن يصبح مجرد متعهد لتوريد المؤن ممتث ً لا لأوامر السلاح الجوي
السخيفة.
وكان عليه ان يختار بين اثنتين، القمة حيّث يستطيع أن يثبت ان الاوامر الحمقى لا تجدى فتي ً لا، أو الحضيض
حيّث يفرض عليه الطاعة وأن يغمض عينيه عن حماقات رؤسائه . ونظرًا لأنه قد تحمل الكثير من المسؤوليات
"ورفض السلطة" فقد آثر الحضيض.
وفي الثلاثين من شهر آب سنة ١٩٢٢ ، دخل (جون هوم روس) مكتب التجنيد لسلاح الجو الملكي في شارع
(هنريتا) بلندن بعد أن أمضى مدة ساعتين يقطع الشارع جيئة وذهابًا قبل ان يستقر على رأي، ويرتجف كورقة
في مهب الريح خشية من الاستقبال الذي ينتظره وراء الأبواب.
حيّث يجتمع عدد من الشباب كلهم يريدون خدمة انكلترا عن طريق سلاح الجو . ولم يمض طويل وقت حتى
تأكدت مخاوفه، إذ أن أوراق الهوية التي قدمها إلى الضابط المسؤول كانت مزورة، وتشير إلى ان صاحبها لا
بد وان يكون من اصحاب السوابق، وق د ازداد هذا الشك بعد ان ذهب إلى الفحص الطبي، فقد كان ظهره يحمل
علامات جراح عميقة، وقد حاول ان يخدع الطبيب بالقول بأنه قد جرح نفسه بسلك شائك.
ولكن ذلك لم يعد عليه بفائدة من أي نوع كان، فقد أبلغ بأنه غير مرغوب فيه . ولكن بعد أن حصل على
التدخل الشخصي من مارشا ل الجو "لورد ترتشراد " وافقت وزارة الطيران على ادخال لورانس كضابط تحت
اسم روس، ومن ثم شق طريقه إلى التدريب في قاعدة "أوكسبريدج".
ولقد كان عقد خدمته عقدًا غير عادي، فقد أبلغه "ترتشارد" بأن هذا العقد يمكن ان يلغى بعد شهر من إبلاغ أي
من الطرفين رغبته في إنهائ ه. وعلى الرغم من ان اللورد "ترتشارد" قد أخذ بأقوال لورانس التي جاء فيها "إن
غزو الفضاء يبدو لي هو المهمة الرئيسية لعصرنا الحاضر "، إ ّ لا أنه اقتنع بصعوبة تامة بأن يصبح طرفًا في
هذا المشروع غير العادي، فقد كان يخشى من أنه إذا ما اكتشفت حقيقة هوية لورانس فسيكو ن ذلك وبا ً لا عليه
أمام رؤسائه، وأمرًا مشينًا بالنسبة لمركزه.
ولقد كانت تجارب لورانس الأولى في "أوكسبريدج" خلافًا لما كان يأمل، إذ أنه خلال الحرب قد وجد زمالة
مع الجنود العاديين كانت اسهل بكثير من أي شيء عرفه بالنسبة لمن هم في رتبته أو أعلى منه رتبة.
وكان يأمل ان يكتشف هذه الزمالة في سلاح الجو الملكي، ولكنه بدلا من ذلك وجد نفسه كسمكة في حوض لا
ماء فيه، ومحاطًا بفريق من الجنود الذين يتميزون بالوقاحة، والذين كانت لغتهم وعاداتهم من الامور التي لم
يستطع أن يفهمها ولا ان يستسيغها.
وكذلك فقد راح يتلقى الأوامر م ن صف الضباط الذين كانت طريقتهم في حفظ النظام تعكس ما كانوا يعانونه
من نقص… كانوا يشعرون بأن أي شخص آخر هو أقل منهم مرتبة، وخصوصًا المتطوعين الجدد.
١١٦٦٦٦
ولذلك فان الأمر بالنسبة إلى لورانس كان ما يمكن أن يبدو لرجل مثقف يسعى إلى السلام وينشد الراحة بعيدًا
عن العا لم المضطرب الخارجي بما يحويه من ضجيج وقلة أدب، وخاصة ما يراه في غرفة النوم الذي كان
بمثابة كابوس ثقيل.
وبعد شهرين من مكوثه في قاعدة "أوكسبريديج". أرسل لورانس إلى قاعدة سلاح الجو الملكي في "فارنبوغ "
وهي مركز للتدريب على الطيران والتصوير . وعلى الرغم من أنه لم يسمح له بالطيران، إ ّ لا أنه وجد هناك
عم ً لا ملائمًا. فراح يشغل نفسه بدراسة محركات الطائرات أو بمختبرات التصوير.
ولكنه ما إن بدأ يجد نفسه الجديدة ويفقد ظل "لورانس اللغز" حتى افتضح أمره للصحف. ففي السابع والعشرين
من شهر كانون الثاني سنة ١٩٢٢ كانت الصفحات الاولى والوسطى من جريدة الديلي اكسبرس تعلن للعالم أن
الرجل الشهير والاسطوري الكولونيل لورانس هو الآن في سلك سلاح الجو الملكي مجندًا تحت اسم "روس".
وعلى الفور اصبح معسكر فارنبورغ محاطًا بالكثير من المخبرين الصحفيين والمصورين الذين راحوا
يطلبون مقابلة لورانس والتقاط الصور له.
وقد اعتبرت قيادة سلاح الطيران الملكي ان الاستجابة لطلباتهم غير ممكنة أبدً ا. وبعد شهر طرد من الخدمة
وفقًا للاتفاقية التي وضعها "ترنشارد".
وقد ازعج لورانس أصدقاءه الذين يحتلون المراكز السامية، وترنشارد بصورة خاصة من أجل مساعدته
لإعادة تعيينه في سلاح الجو الملكي.
على الرغم من ان سجل خدمته كان خاليًا من العلامات السوداء فانه بتصرفه الاحمق عن طريق تغيير اسمه
لم يستطع ان يقنع رؤساءه في "اوكسبريدج" بقبوله في سلاح الجو الملكي.
وكان أخر شيء يمكن ان يلجأ إليه اللورد ترنشارد هو ان يعيد النظر في الطلب الذي قدمه لورانس إذا ما
حصل على شهادة حسن سلوك بعد خدمة فترة من الزمن في الجيش وإلا فإنه يستطع ان يحصل على تعويض
من سلاح الجو الملكي في الحال.
وركب لورانس رأسه ورفض التعويض، وفي أوائل شهر اذار سنة ١٩٢٣ التحق بسلاح الدبابات بعد ان غير
اسمه للمرة الثانية إلى "ت. إي. شو".
وقد ارسل إلى معسكر للتدريب على الدبابات في "بونينغتون" التي تقع في "دورست".
وبعد أن أكمل تدريبه انتدب ليعمل امينًا للمخازن، حيّث كانت مهمته تنحصر في رسم العلامات واصلاح
ملابس الجيش.
ولقد كان للهدوء النسبي الذي يسود جو مهمته هذه الا ثر الأكبر في إتاحة الفرصة له ليكرس نفسه للكتابة .
وفي هذا المكان بالذات انهى تنقيح نسخة اكسفورد من كتاب "اعمدة الحكمة السبعة". وكذلك قام، من أجل
الحصول على مزيد من المال، بترجمة قصتين من الفرنسية إلى الانكليزية لحساب "جوناثان كاب"
واستطاع لورانس أيضًا في ه ذا المكان أن يرضي نزعة أخرى من نزعاته، ألا وهي السرعة، إذ تمكن عن
طريق الاتصال الشخصي بالمستر "جورج بروغ" صانع الدراجة المعروف باسمه من الحصول على دراجة
بسعر مخفض وأقساط سنوية.
١١٦٦٧٧
ومنذ ذلك الوقت فصاعدًا اصبحت دراجات "بروغ" هي الوسيلة الوحيدة لتنقلاته على الأ رض، واستبعد التنقل
بالسيارات على اعتبار ان هذا التنقل "سئ لا يليق بالبشر إ ّ لا في الطقس الممطر".
وعندما كان يزور بعض اصدقائه القدامى مثل برنارد شو وكانغتون وتوماس هاردي . كان يقطع مسافة
تتراوح بين اربعمائة وخمسمائة ميل في الاسبوع على الدراجة بسرعة تتراوح بي ن ٨٠ و ١٠٠ ميل في الساعة
مهما كانت الوجهة التي يسير إليها.
وخلافًا لذلك فقد وجد إلى جانب معسكر بونينغتون البيت الوحيد الذي امتلكه في حياته، وهو عبارة عن كوخ
متداع يسمى "كلاودز هيل"، وقد أعاد بناءه واثثه بسرير وثلاثة كراس ومائة كتاب وحاك ليرضي ميله إلى
الموسيقى.
وقد أصبح هذا الكوخ موضع اهتمامه الرئيسي خارج ميدان عمله، ولقد كان يصف كل تغيير يحدثه في الكوخ
بكل رسالة من الرسائل التي يبعث بها إلى أمه . ومنذ ذلك التاريخ فصاعدًا اصبح الكوخ مقر رئاسته الدائم،
والمكان الذي يدعو إليه اصدقاءه للترفيه، وكان ذلك الترفيه بالنسبة إليه ثقافيًا أكثر منه مضيعة للوقت.
وبالنظر لحساسيته في الشم، وخاصة رائحة الاكل كان دائمًا يأكل من القدر مباشرة، ويقدم الطعام بهذا الشكل
لضيوفه، وذلك توفيرًا لغسل الاطباق. وكان الشاي هو الشاي الوحيد الذي يسمح بتقديمه.
وتقول المسن "اريك كننغتون " ان طريقته في غسل الاقداح بعد شرب الشاي غريبة الشكل، فقد كان يلجًا إلى
وضع الاقداح في ممر الحديقة ثم يسكب ماءً مغليًا على الدرج بحيث يسيل من قدح إلى آخر.
وبعد خدمته في سلاح الدبابات ابلغ لورانس اللورد "ترنشارد" أنه حسب رأيه فقد نفذ شرطه الخاص بإعادته
إلى سلا ح الجو الملكي . وعلى الرغم من الهدوء النسبي والحياة الهانئة التي كان يعيشها في "بونينغتون " إ ّ لا أنه
لم يكن سعيدًا.
وكان على الدوام يفكر بالعودة للخدمة في السلاح الذي اختاره . وقد وجد صعوبة فائقة في ان يبقى بين رجال
يصغرونه، كثيرًا، ولكنهم أقوى منه جسميً ا. وكانت التمرينات الرياضية جزءًا من التدريبات اليومية، ولذلك فقد
كان يخشى دائمًا أن يقصر من مجاراة زملائه.
والحقيقة ان "ترنشارد" قد وقف ضد عودة لورانس إلى سلاح الجو الملكي حتى بعد سنة قضاها في الجيش،
ففي شهر أيار سنة ١٩٢٥ ، أوضح له بجلاء في جواب ارسله إليه ر دًا على طلب تقدم به بأن طلبه مرفوض
جملة وتفصي ً لا.
وكانت آمال لورانس قد قويت في السابق عندما تقدم بطلبه إلى وزير العمل لشؤون الطيران اللورد
"طومسون" بأنه يرغب في كتابة تاريخ لسلاح الجو الملكي، فوافق.
غير أن لورانس اشترط ان يعاد إلى ذلك السلاح، إذا ما اراد لهذا العمل ان يتم، ولكن اللورد "طومسون "
رفض هذا الشرط ومن ثم سحب لورانس اقتراحه.
وعندئذ جرّب لورانس وسيلة أخرى، فقد كان مجتمعًا في المدة الأخيرة ب "جون بوشان" المؤلف المشهور
والقصصي المعروف، والذي أصبح فيما بعد اللورد "تويدز موير"، والحاكم العام لكندا.
١١٦٦٨٨
وكان "بوشان" على صداقة وطيدة مع "ستانلي بالدوين" الذي كان قد أعيد انتخابه رئيسًا للوزراء بعد هزيمة
حكومة حزب العمال في انتخابات سنة ١٩٢٤ ، وكذلك كان صديقًا للمستر "غارنت".
وقد كتب لورانس إلى "بوشان" يطلب منه أن يتوسط له. وفي نفس الوقت كتب إلى "غارنت " قائ ً لا: "لست
ادري ما قيمة حياتي على الارض، ولذلك قررت أن أنهي هذه الحياة، ولكن على طريقتي الساخرة المعتادة …
انني عازم على انهاء الكتاب واعادة طبعه وتصفية حساباتي مع "كاب" قبل ان … أرسل اليك مذكراتي عن
حياتي في سلاح الجو الملكي".
وقد أفلح هذا التهديد البسيط با لانتحار، فأسرع غارنت وكتب إلى "بوشان" و"شو" اللذين طلبا إلى "بولدوين " ان
يتدخل لدى سلطات سلاح الجو الملكي، ولو لمجرد تفادي فضيحة محلية.
وعمل بولدوين بسرعة، وخلال اسبوع كان "ترنشارد" يستدعي لورانس ليبلغه بأنه يستطيع الآن ان يعود إلى
سلاح الجو الملكي . وفي السادس عشر من تموز سنة ١٩٢٥ . وافق ترنشارد رسميًا على نقل الجندي "ت. إي.
شو" إلى سلاح الجو الملكي
[/align]

خالد الحويطي 18-02-07 01:36 AM

[align=center]الفصل الرابع والثلاثون

نهاية لورانس

بعد ثمانية عشر شهرًا في كلية "كارنويل" للضباط، حيّث عمل كمساعد طيّار، وفي أثناء فراغه كتب ملخص
. كتابه "ثورة في الصحراء" وبعدئذ نقل لورانس إلى الهند، وذلك في شهر كانون الاول سنة ١٩٢٦
وبناء على طلبه، ولم يكن غير سعيد في "كارنويل" بل على العكس، فان رسائله كانت تتحدث بأنه وجد وطنًا
جديدًا إثر عودته إلى سلاح الجو الملكي، ولكنه لم يشأ ان يكون موجودًا عند صدور كتابه "ثورة في الصحر اء"
كي يتجنب المزيد من الدعاية بالنسبة لهذا الموضوع.
ومهما يكن من أمر فإن المشاكل قد لاحقته في الهند، إذ ان المسؤولين الهنود كانوا ينظرون بنوع من عدم
الرضى لوجود رجل بينهم يعرفون بأنه قد فعل الشيء الكثير من أجل تحطيم الامبراطورية العثمانية، وبالتالي
تدمير مصالحهم في بلاد الرافدين، أثناء وبعد الحرب.
وعلى هذا الاساس فقد أمر لورانس بأن يلازم الثكنات خلال اقامته في كراتشي، وهي القاعدة الاولى التي
عمل فيها، وذلك لتجنيبه مصاعب لا ضرورة لها.
وبعد اكثر من شهر من إقامة إجبارية في كراتشي دون ان تكون له أية سلوى غي ر إنهاء "مخترعاته "، طلب
أن يعين في وظيفة خارج البلاد . وكان صديقه القديم منذ أيام الحرب العالمية مارشال الجو "سالموند " عندئذ،
مسؤو ً لا عن سلاح الجو الملكي في الهند، وقد احب ان يسدي خدمة إلى لورانس، فوافق على نقله إلى قاعدة
لسلاح الجو الملكي تدعى "ميرانشاه" على الحدود الشمالية الغربية، وكانت هذه القاعدة تضم فرقة من الجنود
مؤلفة من ستة وعشرين جنديًا وخمسة ضباط وبضع مئات من الهنود، وهي مبنية من الطوب والتراب ومسيجة
بالأسلاك الشائكة، وتقع عند سفح تلة صخورها زرقاء اللون، واطرافها حادة كاسنان المدى . وكانت هذه القاع دة
كذلك تبعد مسافة عشرة أميال عن الحدود الافغانية.
١١٦٦٩٩
أما بالنسبة للطقس فيها فقد كان جافًا وصحيًا على عكس كراتشي، غير ان هذا النقل أثبت فيما بعد أنه النهاية
بالنسبة إلى لورانس، إذ لم يمض عليه أكثر من شهر هناك، وعلى الرغم من الاحتياطات الشديدة، حتى غدا
وجوده في تلك البقعة المتنازع عليها من الممتلكات البريطانية معروفًا بالنسبة للصحف الأميركية التي كانت
تبحث منذ مدة عن قصة مثيرة حول عودته السريعة إلى الشرق.
وقد بدأت الصحف السوفييتية في حملة اتهامات تقول بأن لورانس يتجسس على افغانستان، وان الوزير
البريطاني في "كابول" طلب إرجاعه إلى انكلترا وكانت العلاقات بين الحكومة الهندية وأفغانستان آنذاك في
اقصى درجات الحساسية، واستمرار وجود لورانس على الحدود الافغانية قد يجر إلى وقوع حوادث مؤسفة.
وعاد في أوائل سنة ١٩٢٩ ليواجه واب ً لا من التعليقات والاتهامات في بريطانيا. ومن سوء حظه أنه قبل أن
يسحب من قاعدة "ميرانشاه" وقعت ثورة في افغانستان، وتمخضت عن خلع الملك، وقد اصبح الساسة العماليون
كما أصبحت الصحف اليسارية في بريطانيا على اقتناع تام بأن لورانس الذي طالما كانوا يشكون في أنه أخذ
افراد مكتب الاستخبارات، ولكنه متنكر تحت رداء جندي طيار هو الذي نظم الثورة في افغانستان بتحريض
من الحكومة الهندية.
وقد قدمت أسئلة في البرلمان حول هذا الموضوع، وفي أثناء مظاهرة قام بها جماعة من الشيوعيين في
"تاورهيل" أحرق المتظاهرون دمية تمثل لورانس.
وقد قرر لورانس إثر عودته أن يضع حدًا للدعاية ال فارغة التي تثار حوله، وتوجه رأسًا إلى مجلس العوم
حيّث قابل الزعيمين المعروفين المستر "جيمس ماكستون" والمستر "ارنست تورتل " وكلاهما من الاعضاء
المستقلين في حزب العمال.
ونجح في إقناعهما بأنه لم يكن يتجسس لحساب أية حكومة وانه لا علاقة له إطلاقًا بالثورة الأفغ انية، وانتهى
الحادث عند هذا الحد.
وبعد ذلك وجد لورانس قبلته في سلاح الجو الملكي حيّث جدد اتفاقية الخدمة لخمس سنوات أخرى تبدأ من
سنة ١٩٣٠ . ونظرًا لأن "ترنشارد" كان متضايقًا جدًا من وجوده، فقد اقترح إعطاءه وظيفة في أبعد مكان عن
لندن.
واقترح لذلك سكوتلندا، غير ان لورانس قدر بأن سكوتلندا مكان بارد ورطب، فاعترض على الاقتراح، ولم
يكن له من محيص إ ّ لا أن يقبل الاقتراح التالي وهو نقله إلى "كات ووتر" في "بليموث ساوند" التي سميت فيما
بعد "مونت باتن".
وهناك اتخذ له صديقين جديدين : الاول الضابط المسؤول عنه قائد الجن اح "سيدني سميث" الذي كان ذكاؤه
وإنسانيته سببين جعلا منه "اللنبي صغيرً ا" بالنسبة إلى لورانس، أما الثاني فقد كانت الليدي آستور عضو مجلس
البرلمان عن "بليموث"، والتي كان بيتها يوفر لها صحبة الكثير من الشخصيات المرموقة من مختلف البلدان،
حيّث كانوا يتبادلون الأح اديث حول السياسة والفنون، الأمر الذي زوده بدوافع مثيرة كلما احتاج إلى مثل هذه
الدوافع.
١١٧٧٠٠
وكان يغيظ الليدي "آستور" دون شفقة أو رحمة عندما يعلق بقوله : "إن "كات ووتر" لا بد وان تكون قد سميت
بعد ولادتها ". وخلال هذه الفترة قسم لورانس وقته إلى قسمين الاول للمساعد ة في تنظيم سباق "شنايدر تروفي "
للطائرات البحرية، وتطوير الزوارق البخارية من أجل استعماله في حوادث الانقاذ.
أما الثاني فقد بدأ بشكل عفوي إذ كان في أحد الايام يمر في بليموث ساوند في لنش تابع لسلاح الجو الملكي
عندما تحطمت إحدى الطائرات التابعة لقاعدته وسقطت في البحر، فاسرع لورانس للإنقاذ، ولكنه فشل في أن
يصل إلى مكان الحادث في الوقت المناسب، لكي يبقى الطائرة عائمة أو ينقذ ملاحيها المحاصرين داخلها.
ولقد كان لهذه التجربة تأثير كبير على نفسه استمر طوي ً لا، فصمم على ان يخترع قاربًا يكون من السرعة
بحيث يمكن استعما له يف حوادث الانقاذ في المستقبل عندما تنحطم طائرات أخرى، على أن يكون مجهزًا
باختراع يمنع الطائرة من الغرق لفترة تسمح لملاحيها بالنجاة.
وكان فن الانقاذ البحري عندئذ فنًا مجهو ً لا، ولكن بمساعدة وتشجيع "سيدني سميث " كرس لورانس نفسه
لتصميم وتجربة القوارب البخار ية لهذا الغرض، وبعد مفاوضات كثيرة من وزارة الطيران استطاعت فكرة
لورانس ان تنجح.
ومنذ ذلك الوقت وحتى نهاية خدمته في سلاح الجو الملكي سنة ١٩٣٥ ، كرس معظم وقته لتجربة وتصميم
وصناعة هذه القوارب السريعة، ولعل من الانصاف القول بأن الكثيرين من الطيارين مدينون بحي اتهم لما قام به
لورانس في هذا الميدان.
وفي صيف سنة ١٩٢٩ عادت حكومة العمال مرة أخرى إلى الحكم في بريطانيا، وأصبح اللورد "طومسون "
مرة أخرى وزير الدولة لشؤون الطيران.
ولما كان مغتاظًا لرفض لورانس كتابة تاريخ سلاح الجو الملكي دون شروط، وانه لم يخف سرًا بالنس بة
للحقيقة، وهي أنه يتحين الفرص لطرد الطيار "شو" وإبعاده عن سلاح الجو الملكي.
وقد حانت المناسبة عندما كان الجنرال "بالبو" مارشال الجو الايطالي ضيف شرف في أحد سباقات سلاح الجو
الملكي، وشوهد وهو يتحدث إلى لورانس، رافعًا الكلفة على اعتبار أنه صديق قديم.
وبعد ذلك شوهد آخرون من الشخصيات السياسية المشهورة من حزب المحافظين يتحدثون مع لورانس.
وبناء على أمر من "طومسون" أبلغ لورانس إنذارًا بصرفه من الخدمة، ولما توسط له بعض اصدقائه من
البارزين، استدعي لمقابلة "ترنشارد" الذي قال له إنه يستطيع ان يبقى في سلاح الجو الملكي إذا ما تصرف في
المستقبل كأي طيار عادي يخضع للواجبات الروتينية ومتخليًا عن اتصالاته مع الشخصيات المشهورة من حزب
المعارضة مثل تشرشل واللورد "بركينهيد" و"اوستن تشمبرلين" والليدي "آستور".
ولما كان لورانس يدرك أن هذه القيود لا يمكن إ ّ لا أن تكون قيودًا مؤق تة، فقد وافق على هذا الشرط، وكرس
كل أوقات فراغه لترجمة "الأودية ل هوميروس".
التي كان أحد الناشرين الأميركيين مستر "بروس روجرز" قد طلب إليه ان يترجمها، وفي الوقت الذي أنهى
فيه الترجمة وذلك حوالي نهاة سنة ١٩٣٠ ، كانت القيود التي فرضت عليه قد زالت، وأصبح بامكانه أن يعاود
اتصالاته من جديد.
١١٧٧١١
وقبل سنة من نهاية عقد خدمته سنة ١٩٣٥ بدأ لورانس يقلق على مستقبله. وفي هذا الوقت رأى عددًا كبيرًا
من أصدقائه من ايام "كارشمش" مثل الدكتور "ارنست التونيان" وفي رأي الدكتور "التونيان" أن لورانس كان في
ذلك الوقت "يعالج من انهيا ر عصبي وضعف في قواه العقلية"، الأمر الذي حدا به إلى اخفاء نفسه عن الناس في
سلاح الجو.
غير ان رسائله إلى أمه كانت تتحدث بحماسة عن نشاطه في الحياة . وقد قال في إحدى رسائله إن حياته
النشطة قد انتهت منذ أن ترك سلاح الجو الملكي " انني صغير لكي أسعد بألا أفعل أي شيء وكبير حتى أبدأ
بداية جديدة".
وكتب إلى أحد أصدقائه يقول "إنني سأشعر ككلب ضائع حالما أغادر سلاح الجو الملكي … إن الاثر الغريب
للحياة بين الملابس والعمل والزملاء والاتصال المباشر بالناس لا مثيل له في حياتي اجما ً لا انني اشعر شعورًا
عميقًا بأن حياتي من حيّث الشعور الفعلي قد انتهيت الآن."
وفي شهر آذار سنة ١٩٣٥ ودع لورانس سلاح الجو الملكي ولجأ إلى كوخه في "كلاودز هيل ". غير أن
الصحافة كانت بانتظاره هناك، فاضطر إلى سجن نفسه داخل الكوخ عدة أيام، ليهرب من اسئلة الصحافيين.
غير ان هؤلاء كانوا من التصميم على درجة ك بيرة، فراحوا يلقون الحجارة على سطح الكوخ وعلى نوافذه
لإجباره على الخروج اليهم، والإجابة على اسئلتهم والامتثال لآلات تصويرهم.
وبعد ان يئسوا انصرفوا . وتفرغ لورانس إلى ما اسماه ب "الحياة الفارغة في هذه الجنة الأرضية". وقد كتب
إلى الليدي "آستور" يقول: "في مث ل هذا الجو لن أقبل بأية وظيفة على الاطلاق، هنالك شيء ما قد تلف في ،
واعتقد بأن هذا الشيء هو ارادتي".
ومع ذلك تلقى بعد خمسة أيام، أي في الثالث عشر من أيار رسالة من احد اصدقائه يدعى "هنري وليامسون "
وكان هذا الشخص يعتقد بأن انكلترا يجب ان تسعى إلى التفاهم مع المانيا.
وقد جاء في رسالته قوله "انك انت الوحيد الذي يستطيع ان يتفاوض مع هتلر، انني اريد أن احدثك في هذا
الموضوع فورً ا. وقد ركب لورانس دراجته النارية، وتوجه إلى مكتب البريد حيّث أبرق إلى وليامسون يقول :
"موعدنا مساء الخميس عند العشاء في كوخي الذي يبعد مي ً لا واحدًا إلى الشمال مع معسكر بوفينغتون".
واثناء عودته إلى كلاودز هيل حاول ان يتجنب صبيين كانا يمتطيان دراجتين فانقلبت دراجته عن الطريق،
وبعد هذا الحادث لم يعد لورانس إلى وعيه.
وبعد ستة أيام توفي . وقد دفن في مقبرة "موريتون" التي تبعد بضعة أميال عن كوخه. وقد حضر عدد من
اصدقائه بينهم تشرشل، وستورز، ونيوكامب وكانيتغون، وقد جاؤوا ليروا هذا البطل الانكليزي الكبير في
الأرض التي أحبها كثيرًا، واعترافًا بخدماته التي اداها لبريطانيا ومساهمته في التاريخ البريطاني وضع تمثال
نصفي له في كاتدرائية القديس بول في لندن إل ى جانب تماثيل مماثلة لشهيرين من الرجال مثل نلسون
وكونستابل، وهم ابطال في ميادين الحرب والفن ويمثلون عظمة بريطانيا من الناحيتين العسكرية والفنية، الأمر
الذي كان مجسمًا في "ت. إي. لورانس
[/align]

خالد الحويطي 18-02-07 01:37 AM

[align=center]الفصل الخامس والثلاثون

الدافع

ما الذي كان يكمن في أعماق لغز لورانس ؟ وكيف يمكننا ان نفسر الاعمال وردود الفعل لهذا المخلوق الغريب
الذي حوى من المتناقضات والعقد النفسية ما يكفي ألف رجل؟.
كثير من الكتاب قد حاولوا ان يعطوا الجواب على هذين السؤالين، ولكن أيا منهم لم يوفق . وكأي شخص آخر
لديه الرغبة، في أن يضع استنتاجاته عن هذه ا لشخصية الغريبة فقد حاولت الاتصال بأصدقائه وأقربائه الذين ما
يزالون في قيد الحياة.
ومرة أخرى لم اجد تفسيرًا حقيقيًا للسبب الذي دفعه ليعمل كل ما فعل . وقد يستطيع المرء ان يجد هنا أو هناك
شيئًا من الاثر، ولكنه سرعان ما يكتشف أنه لا يؤدي إلى نتيجة، أو أن العقد ة الرئيسية للقسم التالي من التفسير
ضائعة وعندها يتوقف الاثر.
ويرجع قسم من السبب في هذا إلى أن لورانس كان طوال حياته ملتزمًا خطة تجعله لا يعطي الجواب الواحد
إلى أكثر من شخص واحد، وقد انبثقت هذه التفسيرات المتناقضة بعد وفاته من وثائقه الشخصية، ومن شهادات
أصدقائه.
وكذلك كان هنالك غموض عندما يريد المرء ان يحلل شخصيته، وخاصة في نقطتين تتعلقان بحياته، وهما
اولا: ما الذي جعله يغادر دمشق؟.
ثانيًا ما الذي دفعه إلى الانزواء في سلاح الطيران الملكي؟ . وانه لمن السخف القول بأن هذين السؤالين
متصلان، إذ أن بينهما فارقًا كبيرًا.
فالاول هو في الغالب قضية سياسية ذات حقائق معينة، وقاسية ذات شروط خاصة، والثاني ينبع من مشكلة
أكبر بكثير من التفاعلات الشهوانية والعقلية والروحية التي تحتدم في جسم رجل معذب ولما ووجه الكتاب
بهذه المشكلة المعقدة، والتي لا حل لها أحبوا ان يعطوه ا تفسيرًا بسيطًا "سياسيًا" فقالوا إن لورانس كان يتألم
لخيانة بريطانيا للعرب، وذلك هو السبب ليس لمغادرته دمشق فحسب، بل ولتصميمه على ان يذيب شخصيته
عن طريق التحاقه بسلاح الجو الملكي، وهذا امر ليس بالصحيح. كما تثبته التحريات عن الحقائق.
ومن المؤكد ان سبب نقم ته العارمة هو شعوره بالفشل في دمشق، الأمر الذي حداه لأن يدير ظهره للانتصار
الذي عمل عم ً لا طوي ً لا في سبيل تحقيقه.
فقد كان مستاء مما حصل من غدر بريطانيا، ومستاء كذلك من النزاعات والحسد والتآمر بين اصدقائه،
ومستاء من خيانة الحلفاء، وكذلك كان مستاء من محاولات فيصل الحط من قدره وعدم شكرانه لجميله، مستاءً
إلى درجة بلغت به حافة الانهيار العقلي التام.
وكانت الحرب العربية التي خاضها لورانس قد بدأت كوسيلة للهرب من الجو الخانق الذي كان يسود غرفة
الخرائط في القيادة العامة.
١١٧٧٣٣
ثم وبعد أن أكتشف فيصل اصبح اشتراكه في الحرب العربية حلمًا يغذيه الشعور بأنه يؤدي رسالة هدفها
مساعدة العرب على تحرير البلاد العربية، وهو أمر يتضمن الكثير من الاطماح، ويبشر بشهرة كبيرة وفوائد
عظمى، حتى لقد رأى لورانس نفسه رج ً لا "يصنع ملكًا" وبمثابة اليد اليمنى لفيصل في سورية الحرة.
ثم حدثت نكسة وهي ا كتشافه خطط بريطانيا وفرنسا فيما يتعلق باقتسام البلدان العربية فيما بينهم، خلافًا
لوعودهم بمنح البلدان العربية استقلالها غير ان التوفيق ما لبث أن تتابع سريعًا، فحصل تقدم في الحجاز
واحتلت العقبة، وأصبح لورانس بعد هذه النجاحات رج ً لا اسطوريًا بين القبائل العرب ية التي كانت صيحات
فرحها من القوة على جانب كبيرة، بحق تغطي على همسات الخيانة التي كانت تتردد في أذنيه . وكان يعتقد بأن
العرب سينتزعون حريتهم من جميع أولئك الذين يتحدونهم، وعليهم أن يحققوا ذلك في دمشق.
وفي يوم من الايام تحول الحلم إلى كابوس، وادرك لورانس بأ ن الوحدة بين القبائل العربية التي عمل لها
فيصل كثيرًا ليست إ ّ لا ستارًا تختفي وراءه مطامع الشرف لتدس السموم وتنشر المؤامرات الرامية للقضاء عليه
شخصيًا، ولذلك كان الرحيل أمله الوحيد على اعتبار أن العرب سيكونون قادرين على الدفاع عن الحرية التي
هم في سبيل الحصول عليها من الاتراك.
ولما كان لورانس يعرف كيف أن الحلفاء يعتزمون تقسيم العالم العربي فيما بينهم، بعد هزيمة تركيا، ولما كان
يعلم بأن النصر لا يمكن أن يكون بالنسبة إليه إ ّ لا عارًا… فقد قرر ان يغادر دمشق دون ان يتأخر دقيقة واحدة.
ولكنه اضطر إلى الرجوع إلى م يدان السياسة العربية وسياسة الحلفاء، أولا بوساطة فيصل، وثانيًا بوساطة
تشرشل، وعلى الرغم من أن عودته هذه كانت أقسى بكثير من فشله في مؤتمر الصلح، كما عرفنا ذلك من
مذكرات لورانس نفسه فيما بعد حيّث قال : "إن جميع الاخطاء التي وجهت للعرب في مؤتمر القاهرة سنة
١٩٢١ قد اصلحت، وبذلك خرجت بريطانيا نظيفة اليد من الشؤون العربية".
وعلى الرغم من ذلك فاننا نراه بعد سنة من الزمن يعترف في مذكراته بأن بريطانيا قد خادعت في تنفيذ
وعودها للعرب، وبذلك وجهت إليه إهانة بالغة فانزوى هربًا من الفضائح في سلاح الجو الملكي تحت اسم
مستعار. وعلى هذا الاساس لا يجوز القول بأن السبب في دخوله الجندية كان نفس السبب الذي عجل في
مغادرته لدمشق.
فما هو إذن الجواب على السؤال الثاني؟ ما هي القوة القاهرة التي دفعته للهرب مرة ثانية؟ أهي الدعاية التي
تلت محاضرات "لويل توماس"؟ هذا احتمال صعب، إذ أن الحيرة التي كلفته إياها هذه الشهرة المفاجئة كانت
سطحية على نطاق واسع، وكان لورانس ضحية لما هو أكثر من الحيرة.
فهل كان السبب هو الجنون؟ . ومرة ثانية يكون الجواب نفيًا، فقد تحدث لورانس كثيرًا عن العقلانية أثناء
انخراطه في سلاح الجو الملكي، وقد قيل أيضًا الاشقاء الخمسة قد أقسموا على إ ّ لا يتزوجوا مطلقًا بسبب الخوف
من وجود جنون وراثي في اسرتهم.
ولكن… حتى ولو كان هذا التفسير معقو ً لا يظل هناك سؤال هو، ما الذي جعله يجن، ودفعه إلى هذا المستوى
المخيف من تحقير الذات؟
١١٧٧٤٤
ولقد حاول أكثر من كاتب ان يفسر هذا اللغز بأن لورانس كان ضحية شذوذ جنسي، ولكن أيًا من هؤلاء
الكتاب لم يقدم الدليل على صحة ذلك، والواقع أن كل من عرفه معرفة جيدة قد أكد دون تردد بأن لورانس لم
يكن مريضًا جنسيًا، ومن هؤلاء "روبرت غريفز" و"الدكتور التونيان" و"كير كبرايد" والكولونيل "جويس" والمسز
"كينيتغتون" و "ديفيد غارنت " و"باسيل ليدل هارت " والمرحوم الكولونيل "نيوكامب" وقد اجمعوا على نفي هذه
الشائعة.
وفض ً لا عن ذلك، وربما كان هذا من أقوى الادلة، فإنه خلال انخراطه في سلك سلاح الجو الملكي والجندية لم
يكن هنالك أي دليل على انحرافه الجنسي، مع أنه قد أمضى في سلاح الجو الملكي وسلاح الدبابات مدة تزيد
على اثنتي عشرة سنة بين ذكور فقط . وقد أعلن "دايفيد غارنت" بصراحة أنه قد رأى مرة رسالة موجهة من
لورانس إلى أحد المنحرفين جنسيًا، وقد جاء فيها أنه لا مانع من ممارسة العمل الجنسي، وإن كان يعتبر ذلك
العمل منافيًا لطبيعة البشر.
والواقع أنه استنادًا إلى أفضل الروايات المتوفرة، فإننا نستطيع القول بأن الصدمة التي نجمت عن إبلاغه
حقيقة مولده، كانت كافية لأن تصيبه بانهيار عصبي، إذ أنها تجلب له ولأشقائه العار، لكونهم أبناء زنى . فمن
الطبيعي والحالة هذه أن يزهد لورانس في أي نوع من أنواع الجنس.
وهذا الدليل يكشف النقاب عن حقيقة القصة التي تقول بأن لورانس كان على علاقة غرام مع مومس يهودية
تدعى "سارة أرونسون"، كانت تعمل في قلم الاستخبارات البريطانية وراء خطوط الأتراك، زمن الثورة العربية.
وقد قيل إن لورانس نسي حبه هذا، وهو في "درعا" وختم بذلك مأساته. واستنتج بعضهم من القصيدة التي
جعل لها لورانس عنوانًا رمزيا على أنها موجهة إلى "ساره أرونسون". غير أن هذا التقدير الخيالي لا يستند إلى
حقيقة.
فبالاضافة إلى القسم الذي أداه بالابتعاد عن الزواج، دلت التحقيقات الرسمية على أن لورانس و "سارة " لم
يلتقيا، بل لم يكن من الممكن أن يلتقيا، لأن "سارة" كانت في فلسطين، بينما كان لورانس في مصر والحجاز
وشرقي الأردن على التتابع، وقد توفيت "سارة" في أحد السجون التركية في شهر آذار سنة ١٩١٧ ، أي قبل
ثمانية أشهر من أسر لورانس وتعذيبه في درعا.
ولم يقل لورانس أبدًا من هي (الرمز)، ولعل الأصح أن نقول بأنه أعطى عدة تفسيرات متناقضة عنها إلى
أشخاص مختلفين.
فقال لبعضهم إن هذا الرمز يعود لشخص عزيز عليه قد توفي، وقال الآخرون بأن أحد الحرفين يشير إلى
أسم، بينما يشير الحرف الثاني إلى مكان.
كما أخبر "روبرت غريفز " إن (الرزم) يشير إلى الشيخ أحمد، الشاب العربي الذي تعرف عليه في سورية من
قبل الحرب.
ولكي يزيد الامر تعقيدًا فقد أدعى بأن العلاقة بينه وبين الشيخ أحمد لم تكن وثيقة، فكيف إذن ينظم بمدحه
قصيدة؟ ولكن الحقيقة كما تبدو هي أن (الرمز) لم يكن اسمًا لعلم أو لمكان، بل لشخص خيالي، يمثل كل ما
أحس به لورانس وعاش فيه من عدل وجمال في البلاد العربية، وما كان يكنه لاهلها من محبة . وهناك شيء
١١٧٧٥٥
واحد على الأقل يمكننا أن نعتبره مؤكدًا، ألا وهو أن هذا اللغز لا يعطينا أي تفسير، ولا يلقي أي ضوء على
اللغز الأكبر في حياة لورانس.
ونحن نعتقد جازمين بأن مفت اح هذا اللغز يمكن أن يوجد في أشياء ثلاثة مجتمعة هي : تلذذه بالألم، وخوفه من
المسؤولية، وإصابته بانهيار عقلي . ومما لا شك فيه أن لورانس كان مريضًا جسميًا وعقليًا، ونستطيع أن نجد
الدليل الكافي على ذلك في كتاباته الشخصية، ومذكراته، وأعماله التي قام بها أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى.
ولنأخذ على سبيل المثال جملة وردت في كتابه "أعمدة الحكمة السبعة" إذ قال "لقد عذبت نفسي برضائي،
ووجدت في هذا التعذيب راحة تقل عن الاثم الذي ارتكبه ". وكتب في تعليق آخر عن تجاربه في البلاد العربية
يقول: "إن العذاب كان بالنسبة لي راحة، وقد احتملته عن طيبة خاطر".
وقد أكد لفيف من أصدقائه أن لورانس كان يميل كثيرًا إلى "حب الألم" حتى لقد ذهب بعضهم إلى أبعد من
ذلك واكد بان هذا "الحب" كان في دمه.
وقد قال "كيركبرايد" ذات مرة : "إن لورانس يحب أن يلقي بنفسه في العمل دون رحمة، والواقع أنني لا أشك
في أنه يجد لذة في التألم".
ويشارك "دايفيد غارنت " رأي "كيركبرايد" هذا. ومن المؤكد أنه قلما يوجد إنسان يلقي بنفسه في المصاعب
مختارًا. ويعرضها للألم طواعية، مثل لورانس الذي ما كان ليقدم على ذلك لو لم يكن مصابًا بمرض التلذذ
بالألم.
واكتشاف هذه الحقيقة، ح قيقة كونه مريضًا بحب الألم يكفي أي شخص آخر، غير لورانس، لينهار روحيً ا.
ولكننا يجب أن نذكر أن لورانس منذ علم بقصة ولادته غير الشرعية، لم يعش حياة عادية على الإطلاق،
وتجنب النساء، هربًا من العار الذي لحق به وبعائلته.
غير أن هناك سببًا للاعتقاد بأن لورانس كا ن في اوائل حملة الصحراء يعتقد بأنه "مسيح" جديد، أرسل لينقذ
العالم من الاضطهاد والعذاب، فقد كان دائم القلق حول موضوع واحد هو : لماذا أنا هنا؟ ومن أرسلني؟… لقد
أرسل نفسه بنفسه، ولكن هذا ليس بالجواب الكافي.
والحقيقة هي أن لورانس كان يحب دائمًا أن يقارن نفسه ب السيد المسيح، فقد كانت هناك علامة استفهام حول
مولده، وكان يشن حربًا من أجل قضية كبرى، مستخدمًا التبشير أكثر مما كان يستخدم القوة.
ثم إنه كان يعيش في الصحراء، وقد وعد بمملكة، وكان يلقى الاحترام والتقديس في كل مكان يذهب إليه
بوصفه منقذًا ارسلته السماء . ولقد قام بما يشبه المعجزات أثناء احتلال العقبة، وأثناء الزحف على سيناء، وأثناء
تصفيته للخلافات القبلية بين العرب.
وعندما أضطر إلى تجريد سيفه، كما حدث في "أبي لسان" كان يشعر بعد ذلك بالشفقة على العدو الذي قتله.
ومن المؤكد أن هذه الاستنتاجات لا ترقى إلى درجة ا لتأكيد، ولا إلى درجة قراءة ما بين السطور، في
مذاكراته الخاصة . غير أن هناك تأكيدًا غريبًا لهذه النظرية يمكن أن نجده في جواب بعث به لورانس إلى
"كننغتون" حول أحد الرسوم التي نشرت في المطبعة الخاصة لكتابه "أعمدة الحكمة السبعة" وكان هذا الرسم
بعنوان "ستراتا" ويمثل لورانس كإله يطل من فوق السحب على الأرض المضطربة التي تمثل الثورة العربية.
١١٧٧٦٦
والواقع أن لورانس قد استغرب كثيرًا عندما عرض عليه "كننغتون" هذا الرسم، وراح يؤكد بأنه لا يستطيع أن
يصدق بأن هناك انسانًا ما يمكن أن يشتمل على كل هذه الخصائص التي تظهرها هذه الصورة عن نفسه.
وهنالك حقيقة معروفة أخرى، هي أنه بعد ان ترك الحرب في الصحراء عمد إلى تعذيب نفسه، وكان تفسيره
لذلك هو اعتقاده بأنه سيدعى في يوم من الايام ليلاقي عذابًا أليمًا، وانه لذلك يمرن نفسه على التعذيب كي يغدو
قادرًا على احتمال الألم مهما كان شديدًا.
وكان عندما دخل درعا في تشرين الثاني سنة ١٩١٧ يعاين هذا الشعور بالذات، وعندما بدأ الاتراك يضربونه
احس بأن رسالته قد أُتمت وان عليه أن يتحمل التعذيب كما تحمله السيد المسيح.
ثم جاءت اليقظة المفاجئة التي وصفها في كتابه بقوله : " انها حرارة تبعث السرور بالنفس، ومن الارجح
القول بان الشعور الجنسي قد فقد مني ". ولقد كان يعرف بأنه ليس نبيًا ولا إبنًا لله بل مجرد رجل يتلذذ بالعذاب،
وان هذه اللذة تفوق في قوتها الراحة النفسية وهذا يفضح نفسه بنفسه ويثير السخرية عند حاسديه.
هذا وقد شطبت هذه المتناقضات فيما يتعلق بحبه للأ لم من طبعة المشتركين، حيّث تكلم في تلك الطبعة عن
فقدانه "لحصن كرامته " في درعا، ومنذ ذلك الوقت أصبح رج ً لا متقلبًا، قاسيًا شديدًا في احكامه على نفسه وعلى
الآخرين، مهم ً لا في أعماله . وكما كشف النقاب في التحليل الذي كتبه بنفسه عن شخصه أثناء وجوده في
الصحراء وفي مذكراته، نجد أنه قد هرب فجأة من النزاع الروحي بعد أن أحس بأن الشعور الذي كان يحدوه
للقيام بمهمته قد فقد، وان الرياح جرت بما لا تشتهي السفن.
وكان حتى ذلك الوقت يستعمل قواه الخارقة في القيادة، حتى أنه بنفسه في خضم العالم العربي بشكل يفوق
احتمال البشر، فكره نفسه للخيانة التي عرف أنها قد حصلت، ومع ذلك ظل يجاهد في سبيل كسب قضيته ورفع
روحه المعنوية.
ثم جاء اليوم الذي اكتشف فيه ان هذا الطموح ليس إ ّ لا مجرد خيال وان حلمه في السلطة قد انتهى، وهدفه
النبيل قد تحول إلى هدف ليس وراءه سوى القتل . وأثناء ما كان يعيش في كابوس دموي جاءته لطمة على
وجهه انهت ذلك الكابوس … ولما صفا عقله من حب سفك الدماء أدرك بأنه قد انتهى، وأنه يعيش على ما تبقى
من عقله وجسده، ولم يعد يستطيع أن يفكر إ ّ لا في الهرب من المسؤوليات، والتهرب من الزعامة التي كان يحتل
مركزها.
وكما كتب الدكتور "التونيان" واصفًا اجتماعه مرة أخرى مع لورانس بعد الحرب إذ قال : "لقد وجدت رج ً لا …
أصيب في بصيرته ولا يهتم بمنجزاته الماضية وانما في احتمالات غير جائزة إ ّ لا إذا ارادها هو ان تجوز".
ولقد أصبحت مشكلة لورانس أكثر تعقيدًا، لأنه لم يكن قادرًا البتة على التحدث عنها لأي كا ن، ولو أنه عاش
حتى هذا اليوم وهذا العصر لتحتم عليه أن يكون بحاجة إلى علاج عقلي.
ولكن ما دام مثل هذا العلاج لم يكن متوفرًا يف عهده ذاك فقد لجأ إلى معالجة نفسه بنفسه، وذلك عن طريق
انخراطه في سلك سلاح الجو الملكي حيّث كان يأمل أن يستعيد كرامته وراحته النفسية التي فقد الكثير منها في
الصحراء.
وكان يأمل كذلك في أن يجد هناك آمالا جديدة، وينسى الكابوس الذي عاشه في سني مسؤولياته.
١١٧٧٧٧
غير أن هذه الحياة في الجندية، وعلى الأقل في البداية، كانت محزنة، فبدلا من الجنود البسطاء الذين عرفهم
في الحرب، وجد نفسه بين رجال لم يستطع أن يفهمهم، وضباط لم يقدر أن يحترمهم.
ومع ذلك لم يكن بمستطاعه ان يتراجع لأنه أقسم على أن ينسى تاريخه في البلاد العربية . وحتى عندما أُلقي
به إلى الخارج كان يعرف بأن عليه أن يعود إلى سلاح الجو الملكي مرة أخرى ليجد فيه العلاج.
وكانت مسألة الشرف بالنسبة إل يه ذات أهمية كبرى . وفضلا عن ذلك فإن حبه للتألم كان يبعث في نفسه
سرورًا من جراء المعاملة القاسية التي كان يلقاها . فما الذي يستطيع المرء إذن أن يستنتجه من نهاية هذه
القصة؟.. هل كان علاجًا ناجعًا أم أنه ترك سلاح الجو الملكي وهو ما يزال رجلا مهيض الجناح؟ … أما القول
بأنه قد شفي تمامًا بما فيه الكفاية ليتمكن من استعادة الحياة من جديد وممارسة مسؤولياته فأمر مشكوك فيه
كثيرًا.
فقد أراد أن يعرف الجميع بأنه سيعود، ولكنه مخاوفه من مغادرة "الدير" ومواجهة العالم واعتقاده بأن حياته قد
انتهت فعلا، لهي أسباب لا تؤهل رجلا لتحمل المسؤوليات أو شطر من المسؤوليات في شؤون دولة.
(انتهت)
__________________
[/align]

بــعــيــد الــهــقــاوي 28-03-07 09:21 AM

يعطيك العافيه أخوي خالد على المجهود اللي بذلته


مشكور كل الشكر

خالد الحويطي 29-03-07 01:38 AM

[align=center]اخي الكريم بــعــيــد الــهــقــاوي

جزيل الشكر والتقدير
على مرورك الطيب

تحياتي لك[/align]

ريتاج 09-06-07 08:57 AM

رائع ما طرحته أخي خالد

أستمتعت كثيرا بقرأه جزء منه

وسأعود لأستكمله

لك تحياتي

ريتاج

خالد الحويطي 11-06-07 07:30 PM

[align=center]
اقتباس:

رائع ما طرحته أخي خالد

أستمتعت كثيرا بقرأه جزء منه

وسأعود لأستكمله


اختي ريتاج

يسعدني ان حاز الموضوع على اعجابك

تحياتي وتقديري لك



[/align]


الساعة الآن 06:05 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

إنطلقت الشبكة في 2006/10/17 م - المملكة العربية السعودية - المؤسس / تيسير بن ابراهيم بن محمد ابو طقيقة - الموقع حاصل على شهادة SSL