الشبكة العامة لقبائل الحويطات - المنبر الاعلامي و المرجع الرسمي المعتمد

الشبكة العامة لقبائل الحويطات - المنبر الاعلامي و المرجع الرسمي المعتمد (https://www.alhowaitat.net/index.php)
-   منتدى المقالات و الاحداث العربية و العالمية (https://www.alhowaitat.net/forumdisplay.php?f=5)
-   -   المتطرفون وصناعة خطاب الجهل (https://www.alhowaitat.net/showthread.php?t=5537)

مسافر بلا هوية 15-07-07 09:33 PM

المتطرفون وصناعة خطاب الجهل
 
المتطرفون وصناعة خطاب الجهل

الموقف من الليبرالية نموذجا

بقلم [ محمد المحمود ]




بداية؛ يقول الباحث القدير: رمسيس عوض: “يحلو للعقل الديني المتطرف أن يخلق أعداء من صنع الخيال” . أي أن العداوة التي يصنعها المتطرفون ليست - في أصلها - من إفرازات العلائق الاجتماعية الأولية، وإنما هي صناعة خيالية؛ بغية البحث عن مبرر وجود، في حال عدم وجود هذا المبرر في الواقع . فهي نوع من البحث عن مكانة في وقت لم يعد المجتمع محتاجا إلى التطرف؛ كما هو الحال في البيئات العصبية المتناحرة، تلك التي لا يقوم وجودها إلا على العصبية والتطرف .


إذن، لولا هذا العدو المُتَخَيّل، أو (الحقيقي !) الذي جرت صناعته؛ لم يكن هناك من مبرر مقنع، لوجود كل هذا الزخم الكهنوتي، هذا الزخم الذي يقدم نفسه - اجتماعيا - كصاحب مهمة مقدسة، وكصاحب دور مركزي في الحياة، لا وجود للحياة بدونه . بدون هذا العدو المتخيل الذي يصنعه خيال المتطرفين؛ لغاية براجماتية، يسقط الخطاب المتطرف من الأساس، أي من حيث مبدأ الوجود ذاته؛ لأنه خطاب (عدائي) يتطلب وجود أعداء في عالم الحقيقة أو في عالم الخيال .

خطاب التطرف هو خطاب الجهل والتجهيل . وهذا الوصف ليس من الهجائية في شيء، وإنما هو من توصيف الشيء بما هو عليه واقعيا . وبما أن مقاربة خطاب الجهل لا يمكن أن تنتهي؛ لأن الجهل - كخطاب متعد - لا يمكن أن ينتهي، فإن هذه المقاربة، لا تغني عنها المقاربات السابقة، التي قاربت الخطاب الجهلي/ التجهيلي من زوايا أكثر عمومية . جهالة هذا الخطاب هي جزء من جوهر وجوده، فهو خطاب قائم على الجهل، وبانتفاء الجهل، واتساع دائرة المعرفة - كَمّاً وكيفاً - يضمحل الخطاب تلقائيا، وتستقر مكوناته البشرية في صلب خطابات أخرى .

خطاب الجهل، هو خطاب التطرف المتمحور حول الأنا، والمضاد - بفعل الجهل والتعنصر - للآخر؛ جراء جهل بالذات وبالآخر . وليس شرطا أن يكون خطاب التطرف/ الجهل دينيا، فقد يكون عشائريا وعرقيا ومناطقيا وإقليميا، وذلك عندما يعمد عرق من الأعراق البشرية، أو قبيلة، أو منطقة، أو إقليم، إلى بناء تصور جاهل عن الذات وعن الآخر؛ فتظن أنها الأفضل، وأن الآخر هو الأسوأ . ولولا الجهل؛ لتعذّر بناء هذا التصور الذي يقف على الضد من حقائق العلم التجريبي، وآفاق الفكر الإنساني المتسع باتساع الإنسان .

ومع أن التطرف قد يكون غير ديني، إلا أن المجتمعات المتدينة، يتم استغلالها من جهة الدين . لهذا، غالبا ما يكون التطرف فيها دينيا . والتطرف الديني في المجتمعات الإسلامية، هو التطرف الذي يضاد المدنية من جهة، ويتبنى العنف والانفلات الأمني، من جهة أخرى . ومع أن التطرف الديني ليس من الأشياء التي تتفرد بها المجتمعات الإسلامية، فقد عانت أوروبا في العصور الوسطى، وبدايات عصر النهضة، من أبشع ألوان التطرف والتعصب، إلا أن التطرف الديني اليوم، يكاد يكون - للأسف - من سمات المجتمعات الإسلامية؛ بسبب جملة التأزمات الفكرية والاجتماعية التي تواجهها .

نحن الآن، وكما يعرف الجميع، نواجه خطر التطرف الديني لدينا على وجه التحديد، وليس أي تطرف آخر. وهو خطر على وجودنا، صنعه المتطرفون، وتسامح معه المجتمع في فترة من فترات (الغفوة) التي ظنوها انبعاثا إسلاميا مجيدا، بينما كانت في الحقيقة صناعة إيديولوجية متطرفة، أشد ما يكون التزمت والتطرف . ولسذاجتنا الفكرية، وحسن ظننا، ظننا أن كل كلام باسم الدين، هو كلام الدين ذاته، ومنحنا كل خطاب متأسلم ثمرة عقولنا وقلوبنا !.

لقد أصبح المتطرفون لدينا هم القلق الدائم، وهم السرطان الذي يهدد الجسد الاجتماعي كله، وتكاد مسألة التطرف، وما يطرحه المتطرفون علينا، أن تشغلنا عن المسائل الأساسية في النهضة المدنية المأمولة . ننام ونصحو على بياناتهم المتطرفة المتشنجة في أحسن الأحوال، وعلى اكتشاف خلايا الجناح العسكري لهم، والمدجج بأنواع الأسلحة في أسوأ الأحوال .

أسوأ ما في هذا الخطاب المتطرف أنه يستغل الدين؛ للوصول إلى أهداف سلطوية/ سياسية . ولأنه خطاب جهل، جهل بالواقع وبالذات وبالآخر، فهو يصطدم دائما بالعلم الحديث، وبالرؤى التنويرية، وبالصيرورة المدنية المعاصرة، ويجهل - جراء تركيبة الجهل فيه - أن نتيجة هذا الصدام ليست في صالحه، بل هي كفيلة بتقويضه في المستقبل المنظور .

لقد حاول أبو العقلانية الحديثة: رينيه ديكارت، إقناع الكنيسة المتطرفة - التي كانت تضطهد العلماء، وأرباب الفكر الحر، وتقيم محاكم التفتيش لهم - وقساوستها المتزمتون، أن مصلحتهم تقتضي ألا يناصبوا العلم الحديث العداء . ولكنهم لم يسمعوا له؛ لأنهم تصوروا أن شحن المجتمع بالعداء للرؤى التنويرية التقدمية، وللعلم الحديث، سيجعل المجتمع يلقي إليهم بمقاليده، وينقاد لهم؛ لمجرد أنهم كانوا يتحدثون بلسان الدين، ويدعون أنهم يعبرون عن إرادة الله .

دائما ما يزداد عنف الخطاب المتطرف، وضراوته في مهاجمة أعدائه، في الوقت الذي يجد نفسه محاصرا من قبل تنامي الوعي الاجتماعي بحقيقته . شراسة الخطاب المتطرف تزداد؛ كلما وجد أن أرضيته الاجتماعية التي يشتغل عليها، ومن خلالها، قد أصبحت غير مستقرة، وأن المتعاطفين معه، أو المخدوعين بخطابه، بدأوا يتحسسون حجم الخديعة . وهذا ما نراه الآن من قبل تيار المتطرفين لدينا .

لقد أهدى كوبرنيكوس كتابه (دوران الأجرام السماوية) الذي عرض فيه نظريته في دوران الأرض إلى البابا . ولم تتنبه الكنيسة إلى ما فيه . لكن، وبعد مرور ما يقرب من قرن من الزمان، أدانت الكنيسة جاليليو، بسبب الفكرة نفسها . هذا التسامح مع كوبرنيكوس، والسكوت عنه، في مقابل اضطهاد جاليليو، لا يفسره إلا أن الكنيسة لم تكن قد تعرضت للحصار النقدي زمن كوبرنيكوس، ولم تكن القناعة بها قد بدأت تتزعزع .

لكن، مع جاليليو، كان الكثير من المفكرين والعلماء، قد كتبوا عن زيف التطرف الديني لدى الكنيسة، بل وعن حقيقتها، أو عن حقائقها ! . لهذا كانت في غاية الشراسة مع الأخير؛ لأنها كانت تحس إحساسا حادا بخطر نمو الوعي على وجودها، وأن تحولات الزمن ليست في صالحها . لهذا جاء عنفها مع جاليليو بحجم الخطر الذي يتهددها .

إننا على يقين من أن صيرورة الزمن آخذة في اتجاه التقدم، وأن المكتسبات التي تطال الوعي - وعي الأمر، وليس وعي الأفراد - لا يمكن التنازل عنها، وأن مصير خطاب الجهل/ التطرف يتجه نحو الضمور والاضمحلال النسبي . لا بقاء للتطرف مع تنامي الوعي، وانحسار مساحات الجهل . لكن، ما نسعى إليه - جاهدين - أن يتم تجاوز الخطاب المتطرف، بأقل قدر من الخسائر . كون الخطاب المتطرف في مصيره إلى الضمور، لا يعني أن هذا سيكون بلا ثمن . ونحن نحاول ألا يكون الثمن باهضا؛ كما يريده المتطرفون .

كل ما يعارضه الخطاب المتطرف: خطاب الجهل لدينا، من مفردات حضارية تقدمية، سوف تأتي بها الضرورة التقدمية الحتمية؛ مهما حاول الوقوف في وجهها، أو التشنيع - باسم الدين - عليها . لكن، قد يتسبب في تأجيلها إلى حين . وهذا ضرر بالغ، وخسارة حضارية لا تقدر بثمن . كما قد يستلزم الأمر بعض التضحيات التي قد تكون غير ضرورية؛ لولا ممانعة خطاب الجهل/ التطرف .

ما يلاحظ اليوم على الخطاب المتطرف، أنه، وبفعل الإحساس الحاد لديه بأن الجميع قد فضح حقيقته، بدأ بالهجوم على التيارات العصرانية، وأبرزها: التيار الليبرالي . كون الهجوم من قبل تيار التطرف مركزا على الليبرالية، يعني أن الليبرالية هي النقيض الجذري لرؤى التطرف، وأن التيار المتطرف يحس بهذه الضدية والنقضية والجذرية، ويدرك أن زواله (النسبي )، وانعدام أثره في المجتمع المحلي، سيكون على يدي مبادئها الكلية، وليس على يدي الخطاب يعارضه في واحد، ويوافقه في تسعة وتسعين ! .

كما كان الشأن مع الحداثة في ثمانينيات القرن الميلادي المنصرم، تواجه - اليوم - الليبرالية - كرؤية - هجوما في غاية الشراسة والإقصائية من قبل تيار الجهل/ التطرف . هجوم يتضح فيه أنه ينبع من تيار تنظيمي أو شبه تنظيمي، يريد أن يمارس على المجتمع الدور الوصائي الذي مارسه في أزم الحداثة . إنه يريد أن يضع نفسه وسيطاً معرفياً، وليس دينيا فحسب !، بين المجتمع، وفهم الليبرالية . إنه لا يريد من المجتمع أن يفهم الليبرالية؛ عبر تاريخها و مقولاتها وتجاربها الواقعية، وإنما يريد أن من المجتمع أن يفهم الليبرالية كما يتصورها خطاب الجهل/ التطرف .

خطاب الجهل/ تيار التطرف، لا يقارب الليبرالية من وجهة نظر خاصة، أي أنه لا يقدم رأيه بوصفه مجرد وجهة نظر خاصة، أو مجرد رؤية لطرف آخر محافظ، وإنما يقدمها بوصفها رؤية الدين لليبرالية . وليس هذا فحسب، بل يقدمها بوصفها: الكفر البواح، وأنها مشروع إلحاد وانحلال، لا يتحمس له، بل ولا يتعاطف معه، كافر مرتد ! . وكل هذا يقدم بواسطة جهل مُروّع بالليبرالية، فضلا عن سياقاتها التاريخية .

هناك في العالم العربي والإسلامي، تيارات ثقافية، لا تتفق مع الليبرالية، بدافع المحافظة التقليدية، أو بدافع تباين الرؤية، وتنوع الخيارات الحضارية . ما يميز هذه التيارات التي تعارض - وقد تعادي - الليبرالية عن التيار المتطرف لدينا، أن أولئك حاولوا فهم الليبرالية، كقيم نسبية، وعرفوا ماذا تعني في مؤداها العام، وتعاملوا معها على أن الخلاف عليها خلاف مدني، وليس دينيا . بينما المتطرفون لدينا، هم أولا لا يعرفون عن الليبرالية إلا ما كتب على بعض الصفحات الانترنتية، وما كتبه بعض المؤدلجين العروبويين أو الإسلامويين عنها، وفي أحسن الأحوال، بالرجوع إلى القواميس العربية أو الأجنبية ! .

الرجوع إلى القواميس عمل مفيد . ولكن، ليس دائما، فقد يعطي القاموس المعاني مجردة، أو عابرة للثقافي، ويبتسر الجانب الحيوي والمتغير من التيار، كما أن طبيعة الاختصار التي هي من خصائص القواميس، تجعل التثبيت، والتأطير، لا بد منهما في سبيل نجاح القاموس كمشروع . لكن كل ذلك يقود إلى نوع من الجهل بموضوع البحث . إن هذا الاستخدام الآلي للقواميس لا يفعله الذين يمتلكون وعيا بالعصر؛ عبر الانخراط الفاعل والموسوعي في ثقافة العصر .

الرؤية الكهنوتية الوصائية، التي ينظر من خلالها الخطاب المتطرف: خطاب الجهل، إلى مخالفيه، هي ما تجعله يقسم العالم والأفكار والتجارب الإنسانية إلى ثنائية: الإيمان أو الكفر . وهذا ما حدا ببعض دعاة خطاب الجهل إلى دعوة الليبراليين إلى التوبة (يذكرنا بمحاكم التفتيش التي تطلب من العلماء التوبة من الهرطقة، أو أن يتم إحراقهم) والعودة إلى الإيمان ! .

النفس التكفيري واضح - بجلاء - في مثل هذه الدعوات الكهنوتية، التي ترى في نفسها الممثل الشرعي والوحيد للدين . ومن ثم فهي تريد أن يركع المفكرون والعلماء بين يديها طالبين المغفرة؛ حتى يتم تعميدهم من جديد، كمؤمنين ! . وهذه الرؤية التي تطبع سلوك التيار المتطرف ناتجة عن أمرين:

الأول: العنف، كسلوك مادي و معنوي . والعنف مكوّن جوهري من مكونات خطاب التطرف، فبدون العنف، ينتفي وجود الخطاب من الأساس، أي لو تخلى الخطاب المتطرف عن العنف؛ لم يصبح متطرفا، ولأصبح خطابا آخر . إذن، لا بد للتطرف من أن ينتج العنف: العنف الفكري أولا، والسلوكي ثانيا . وهذا واضح جدا لمن يتابع الخطاب المتطرف/ خطاب الجهل .

الثاني: الجهل . وهو من مكونات الخطاب المتطرف لدينا، فهو خطاب جاهل بالخطاب الآخر، ودعواه العلم بمقولات التيار الذي يعارضه - خاصة إذا كان تيارا حديثا - دعوى لا تتجاوز إدعاء المعلوماتية المجزّأة التي لا تحدد عوالم الآخر، بل قد تقود - رغم صحتها في بعدها الجزئي المجرد - على تصورات مغلوطة، تزيّف الموضع؛ بدل أن تمنحك وعيا واقعيا به .

ولا شك أن هذا الجهل الذي هو لازمة من لوازم التيار المتطرف، نابع من عدة عوامل، منها ما هو مرتبط بالكسل المعرفي؛ لأن المعرفة ليست غاية في ذاتها لديهم، وإنما هي للتوظيف الإيديولوجي، ومنها ما هو مرتبط بالقدرات العقلية المتواضعة لرموز هذا التيار، فضلا عن مريديه الكبار؛ لأنه لولا التواضع في هذه القدرات ابتداء؛ لم ينخرط الرمز أو المريد - أساسا - في تيار التطرف الذي يقوم وجوده على الجهل بكليات الواقع وكليات التاريخ .

أخذ العلم على هذا النحو الذي يراهن على المعلومة المجردة، المجتزئة من عدة سياقات، لا يمكن فهمها إلا من خلالها، هو ما يراهن عليه رموز خطاب الجهل/ التطرف؛ لأنهم لا يحسنون أكثر من هذا . هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فالجماهير التي يستهويها العامي والشفهي والجزئي، لا تتقاطع إلا مع هذا النوع من الجهل المظنون علما ! . وهذا ما يفسر جماهيرية الخطاب المتطرف، التي تنظر إلى خطاب الجهل، كمصدر علمي وحيد !.

إن الجهل الذي يشكل مكونا أساسيا من مكونات خطاب التطرف، ليس مجرد تهمة، بل جهل يدركه من يمتلك الحدود الدنيا من القرائية؛ شرط عدم التماهي مع الخطاب المتطرف ذاته . ولعل الفضائح المعرفية التي ظهرت في هجومهم الأخير على الليبرالية، تكشف - حتى للمريدين - مستوى الجهل فيمن يرون أنفسهم رموز هذا التيار . إنه جهل يطال حتى المعلومة الجزئية التي يراهنون عليها .

وكمثال، فإن أحدهم أقام حلقة خاصة عن الليبرالية، في برنامج تلفزيوني خاص به، على إحدى الفضائيات المتطرفة، فجاء بالمضحكات المبكيات، على لغة أبي الطيب المتنبي . لقد جاء بكل ما يدل على جهله الفاضح؛ من تطرف في الأحكام، وجهل بالموضوع الذي هو بصدد عرضه، واحتقار - غير أخلاقي وغير علمي لمقدم البرنامج، الذي ساهم - بدوره - في تعزيز هذا الاحتقار، إلى استغفال المشاهدين، بوضع الانحلال والكفر والإلحاد، كناتج حتمي من نتائج الليبرالية التي يهاجمها .

سأفصّل في الكثير من دلائل الجهل الفاضح، عنده وعند غيره، ممن ناقش الليبرالية مؤخرا، في الجزء الثاني من هذا المقال، الذي سيكون ردا تفصيليا على التهم (الجهلية) الموجهة إلى الليبرالية . لكن، لا استطيع إنهاء هذا الجزء؛ دون أن ذكر المعلومة الفريدة التي تضحك وتبكي، والتي أتحف بها مشاهديه الكرام، وهي في قوله إن (إسبانيا) تعتبر قمة التقدم الحضاري !. لقد أدلى بهذه المعلومة الفريدة، لأنه يريد أن يدلل على هول المعاناة في أسبانيا؛ رغم - فيما يزعم - ليبراليتها وتقدمها، بل رغم أنها (قمة التقدم) ! .

إن المطلع - أدنى اطلاع - على العالم الغربي اليوم، يدرك أن (أسبانيا) ليست في قمة التقدم الحضاري - كما ادعى هذا، وهو أحد رموز خطاب الجهل - وإنما هي تكاد أن تكون في قاع المنظومة الغربية الرأسمالية، التي تنحى المنحى الليبرالي في سياستها واقتصادها. بل إن إدراج (اسبانيا) في الاتحاد الأوروبي، أريد به انتشالها من تأخرها عن منظومة الدول القيادية في الاتحاد الأوروبي، ولولا أنها من أوروبا - جغرافيا وثقافيا - لتم تجاهلها؛ لأنها لا ترقى إلى مستوى دول الاتحاد الأولى .

إذن، فكيف تكون هذه الدولة التي يصفها كثير من المحللين الأوروبيين بالمتخلفة، في قمة التقدم الحضاري ؟! . إنه ثناء غير بريء، قاده إليه الجهل من جهة، ومن جهة أخرى، رغبة متطرفة في استخدام تلك المعلومات عن أسبانيا للتشنيع على الليبرالية، مع أن أسبانيا ليست من الدول ذات العراقة الليبرالية، فعهدها بالاستبداد والسلطة الكهنوتية قريب. ما كان لهذا العبث، ولا هذا التطرف أن يمر، حتى في أوساط المريدين؛ لولا الجهل الفاضح التي تميز به خطاب التطرف/ الجهل عن غيره من الخطابات الرائجة؛ على اختلافها وتباينها .

وهذه الصفة (الجهلية) التي تميز بها الخطاب المتطرف عندنا، ليست صفة مقصورة عليه، وإنما هي صفة تكاد تعم جميع أنواع الخطابات المتطرفة، في جميع الثقافات والديانات والمذاهب، قديمها وحديثها. إنها (الجهلية) صفة تلازم نسق التطرف؛ أينما وجد هذا النسق؛ لأن التطرف هو - بالضرورة - نتاج الجهل. مع أن الجهل لا يستلزم - بالضرورة - تطرفا .

الجهل، كحالة لازمة للتطرف، تكاد تستولي على جميع أفراد الخطاب المتماهين معه؛ حتى أولئك الذين حالوا الانعتاق منه، وبدأوا (يحاولون) - صادقين أو مخادعين - إنتاج نوع من الخطاب المعتدل. ما يأسرهم هنا ليس التطرف الذي يحاولون تجاوزه، وقد ينجحون!، وإنما هي البنية المعرفية التي ترسّخت فيهم زمن الاشتباك مع خطاب التطرف/ الجهل.

المتطرفون، والمتطرفون السابقون، يختلفون حول مفردات التطرف حاليا، ولكنهم يستوون في الجهل؛ لأن التركيبة العقلية التي تمت صناعتها في الماضي لعقود، يستحيل تفكيكها، وإعادة تركيبها من جديد، في بضع سنين. وهذا ما يفسر كيف أن بعض المبتعثين من جامعات تقليدية لدينا، قد يذهبون إلى أرقى جامعات العالم، ولكنهم يعودون ممارسين لخطاب الجهل، بأشد وجوه هذا الخطاب تطرفا وجهلية؛ مع أنهم يمتلكون المعلومة الحديثة، ويستطيعون استخدام الوسائط المعرفية بكل مهارة. إنهم يصبحون أدوات فاعلة لتمرير خطاب الجهل، أو الجهل المسمى: علما، بلغة الأستاذ: إبراهيم البليهي.

قد يخاطبك المتطرف/ الجاهل بأحدث أساليب الخطاب، من حيث اللغة المباشرة، وإغراءات المعلوماتية، كثافة وجدّة. لكنه في النهاية لن يقدم خطابا عقلانيا، يتجاوز - بل ويفصل - مع خطاب التطرف/ الجهل؛ لأن كل ما استحدثه من وسائط ومعلومة يتم إدراجه في أنساق عقلية تشكلت في الزمن الغابر، تشكلت على إيقاع رؤى الانغلاق والمفاصلة والتمايز، بل والعداء - عداء صريحا أو خفيا قابعا في أعماق اللاوعي - لكل ما هو آت من خارج دائرة الأنا .

ولأن المسألة هنا، هي دفاع عن الإسلام بالدرجة الأولى، ولأن كل ما يشوه صورة الخطاب الإسلامي يمزقني - ألما - من أعماقي، فشدما يحزنني، بل يجعلني أعيش لحظة (خزي فضائحي) أن أجد أحد رموز الأسلمة، يتكلم في أوسع الفضائيات انتشارا، عن كل قطر إسلامي، اقتصادا وسياسة وثقافة ..إلخ، بمعلومات (عاطفية) يستطيع تصحيحها له (المتوسط) من طلاب المرحلة الابتدائية. يفضح نفسه بنفسه، ولا يعي ذلك؛ لأنه غارق في ذاتية ملتهبة، ملكت عليه كل خطواته. وهو حر في ذلك؛ لولا أنه يتحدث بلسان الأسلمة، ويجني على الإسلام - وعلينا من وراء ذلك - بهذا المستوى المروّع من الجهل الفاضح .

يجب على المسلم، كل مسلم، أن يدافع عن دينه، ولكن ليس من حقه أن يشوه صورة الإسلام بهذا المستوى الفاضح من الجهل، فضلا عن المستوى المفضوح من التطرف الخفي. كل يريد أن يقدم نفسه كرمز إسلامي؛ لأن هذا شرف، ولكن لا بد من التأكد أن هذا الترميز يعزز من إيجابية الخطاب الإسلامي وانفتاحه أم لا. لا بد أن يتجاوز المتأسلمون الذاتية، على الإسلام ذاته كموضوع، وأن يدركوا أن الجاهل عدو نفسه، كما قالت العرب قديما .

لهذا، فعندما يتصدر أحد المتطرفين لمهاجمة الليبرالية، فإنه يهاجمها بلسان الإسلام. وهذا يجعل من جهله الفاضح في هذا الهجوم، هجوما على الإسلام ذاته، وإن لم يدرك المتطرف/ الجاهل ذلك. مشكلة الخطاب المتطرف/ الجهل أنه لا يدرك مستوى جهله - عكس الجاهل الطبيعي - ولا يعي حقيقة أنه موغل في التطرف أشد ما يكون الإيغال .

لهذا، فالمتطرف يرى سلوكه طبيعيا من جهة، وخطابه خطاب معرفة من جهة أخرى. والجماهير من وراء ذلك تصدق هذا وذاك؛ لأنها - أي الجماهير - تم اختطافها في فترة من فترات (الغفوة) التي لازلنا نعاني من ويلاتها - تطرفا وجهالة - إلى الآن. ومعظم الذين يروجون لخطاب التطرف/ الجهل، هم من نتاجها المباشر أو غير المباشر.

الليبرالية بوصفها الحاضن الاجتماعي لصيرورة العلم الحديث، ولتطورات الحداثة، وبوصفها الأشد تسامحا، والأكثر انفتاحا، والأبعد عن التطرف، لا بد أن تواجه بالعداء من قبل التيارات التي هي على الضد من كل ذلك. أعداء التسامح، وأعداء الانفتاح، وأعداء الإخاء الإنساني، وأعداء العلم، هؤلاء الأعداء لتاريخية التطور كلها، هؤلاء الأعداء من كل دين، ومن كل مذهب، وفي كل مكان وزمان، لا يمكن أن يتسامحوا مع الليبرالية وقيمها السامية. بل سيهاجمونها بكل شراسة، لأنها تنفي التخلف والجهل والدجل المعرفي، الذي يقوم عليه خطاب التطرف/ الجهل، وترتبط به مصالح ذويه، من الأساس؛ لأنه - في آخر الأمر - دفاع عن مصالح، ومناطق نفوذ، يقتاتون عليها ماديا ومعنويا .

ربما هناك من يتصور أن هذا العداء لليبرالية عداء حديث، أو أنه خاص بالمتطرفين من داخل الإسلاموية المعاصرة. لكن، حقائق التاريخ والواقع تؤكد أن الليبرالية منذ البداية، واجهة عداء مستعرا من قبل سدنة خطاب التطرف/ الجهل الذي كان هو المهيمن على الخطاب المسيحي في أوروبا في زمنها الما قبل حداثي. بل استمر ذلك إلى بدايات القرن العشرين. وعاشت أوروبا صراعا حادا بين الخطاب الديني المتطرف، وبين حملة الرؤى الليبرالية من التيارات الحديثة كافة. لقد أصدر البابا بيوس العاشر قرارا بإدانة الاشتراكية والليبرالية والديمقراطية وحقوق الإنسان، واعتبرها (كفرا! ).

هذا البابا المتطرف (التكفيري) الذي يمثل خطاب التطرف/ الجهل، أفضل تمثيل، حكم بكفر الليبرالية، كما يفعل ذلك الخطاب المتطرف/ الجاهل عندنا. وهذا يدل على أن النسق الفكري واحد، عند جميع المتطرفين، أيا كان انتماؤهم الديني. آلية التكفير والحرمان الكنسي تم استخدامها من قبل المتطرفين في أوروبا على امتداد أربعة قرون أو تزيد، وأقيمت في فترات طويلة من تاريخ أوروبا محاكم التفتيش التي اضطهدت المفكرين والعلماء؛ إلى درجة الإعدام حرقا. إن هذه المحاكم هي النموذج التاريخي الكامن في أعماق متطرفينا، والتي يتحرّقون لإقامتها للمفكرين العرب والمسلمين.

كتابات كثيرة، وبرامج فضائية عديدة، تم توجيهها في الأشهر الأخيرة للهجوم على الليبرالية المحلية. ولو كان الأمر مجرد هجوم؛ لكان مقبولا، بل ومطلوبا؛ لإثراء الساحة الثقافية بكثير مما هو غائب أو مغيب عنها. لكن، كان الهجوم ينبع عن جهل فاضح من جهة، وينضح بلغة التكفير، أو التضليل على أقل تقدير، من جهة أخرى. وكانت الاتهامات بقدر ما تشي بتغلغل النفس التكفيري، وتفشي الحقد في أوساط المتطرفين ضد كل ما هو جديد، بقدر ما تعلن عن أزمة ثقافية، تظهر في صورة السذاجة الجماهيرية التي تصدق - أو تكاد أن تصدق - التهم التي يسوقها خطاب التطرف/ الجهل في حق الليبرالية.

حزمة التهم التي وجهها المتطرفون لليبرالية، إما أنها تعبر عن جهل، أو عن تطرف، أو عنهما جميعا. وسأقف عند أشدها تكرارا في الخطاب المتطرف. وليعذرني القارئ النوعي؛ لأن مناقشتي لها ستكون سجالية من ناحية، وتوضيحية من ناحية أخرى، أكثر منها علمية؛ لأن الجماهير التي يستهدفها خطاب التطرف/ الجهل، محكومة بالنفس السجالي؛ جراء تماهيها الطويل مع خطاب سجالي، تبسيطي، خطابي في نبرته ذات التشنج العالي.

أفعل ذلك؛ لأني أدرك أن القارئ النوعي لم ولن يخدعه خطاب التطرف/ الجهل؛ لأنه لا يمتلك العلمية التي يمكنها أن تحاور( عقل )، وإنما هي تمتمات خطابية، يخدع بها عواطف الجماهير التي تعودت التواصل من خلال شبكة العواطف فحسب.

إن أهم التهم التي تم توجيهها للخطاب الليبرالي، خطابا وأفرادا، من قبل تاير التطرف/ الجهل، تتحدد فيما يلي :

1- عدم التحديد، أو عدم وجود تعريف (جامع مانع!) يمكن تعريف الليبرالية من خلاله. فالليبرالية مصطلح مائع، مصطلح متموج، مصطلح متشظي الدلالة، وهذا - في نظر خطاب الجهل - من عيوب الليبرالية التي يعني - في نظرهم - أنها غير قادرة على تحديد نفسها.

هنا، نجد أن خطاب الجهل، وهو خطاب تقليدي بامتياز، يصطدم بشيء خارج عن عالمه، أو عن حدود خارطته المعرفية، أو خارج الإمكانيات التي منحتها هذه الخارطة له. التقليدي إنسان متذكر وليس إنسانا متفكرا. التقليدي يمتهن الحفظ فحسب، ولا يستطيع التفكير. وفي حال عدم وجود تعريف (جامع مانع!) يسهل حفظه، ومن ثم ترديده، فإن العقل التقليدي يقع في ورطة معرفية رهيبة. كيف يلملم أشتات موضوع لا يمكن أن يحفظ، وهو الإنسان الذي تعود أن العلم = الحفظ.

لقد تعود التقليدي أن العلم شيء ناجز جاهز معلب، وأن مهمة العقل لا تتعدى الاستذكار، كآلية تسجيل رديئة جدا، بحيث يخونها النسيان مرارا. لم يتعود التقليدي على أن العلم بحث وتفكير واشتباك مع أبعاد غير قارة، ومع نسبيات يصعب إخضاعها للتثبيت في الزمان والمكان. العقل التقليدي عقل استاتيكي جامد، ومن ثم، فهو يطلب معنى جامدا، بحيث يستطيع عقله الجامد أن يتعاطى معه .

لكن، تكمن المشكلة أن الليبرالية لو تم تجميدها وتثبيتها وارتهانها إلى لحظة تاريخية واحدة، ومكان واحد؛ لانتفت الليبرالية أن تكون ليبرالية. أهم ما يميز الليبرالية هو انفتاحها على كل التجارب الإنسانية التي تعلي من الإنسان كقيمة، ومن الحرية كقيمة مركزية، وأنها دائمة التطور من الداخل، ومشتبكة - بإيجابية - مع إحداثات الخارج، وأنها قابلة للتشكل وللتشكيل؛ في إطار قيمها التي تشكل الأساس الروحي لها.

يستحيل تأطير الليبرالية، بحيث يسهل على صاحب الكسل المعرفي (المتطرف) أن يعيها بأبعادها المتعددة. إشكالية التيار المتطرف أنه كسول معرفيا، فلكي يعرف ما هي الليبرالية يريد أن يرجع إلى موقع إلكتروني، أو إلى قاموس فلسفي في أحسن الأحوال! . القواميس، كما قلت من قبل، قد تنفع في بعض المصطلحات، وقد تقرّب الصورة إلى حد ما. لكنها، لن تمنح (فهما) بالمصطلحات العريضة الممتدة في مساحات جغرافية متباينة، وعمق تاريخي يمتد لقرون، وتشظي فرداني، تكاد منه الليبرالية أن تتعدد بتعدد أفرادها.

دون الارتحال الذهني مع الليبرالية في تاريخها الطويل، يستحيل الوعي بالجوهر الروحي للليبرالية. كتوطئة تاريخية، أولية، وضرورية، لا يمكن أن تلمس الليبرالية دون قراءة المجلدات العشرة (= عشرين جزءا) من قصة الحضارة ل( ول ديورانت) التي تحكي شعابها البذور الأولى التي تشكلت منها وبها الليبرالية. لا بد من هذا كتوطئة ضرورية؛ فضلا عن فترة ما بعد الثورة الفرنسية إلى اليوم، وهي - وإن كنا نعاصر بعض فتراتها - جزء من تاريخ الليبرالية التي يستحيل الوعي بها من دون الوعي به. بل يكاد مصطلح الليبرالية أن يكون هو تاريخ الليبرالية، ممتدا باتساع هذا التاريخ .

إن الليبرالية كغيرها من المصطلحات التي خضعت - وأخضعت - لتجارب تاريخية عديدة، وتداخلت مع تنويعات ثقافية متباينة، بل وربما متضادة، يستحيل تحديدها في سطور، كما يريد ذلك تيار الجهل. لقد قال أحد النقاد الغربيين في شأن تعريف الرومانسية كمذهب أدبي: إذا أردت أن تعرف حماقة الرجل، فاطلب منه تعريفا (محددا) للرومانسية، فإذا قام بذلك فاعلم أنه أحمق. وكذلك الحال مع الليبرالية. وأنا أقصد هنا التعريف المحدد؛ لا التعريف المتسع باتساع المفردات الأساسية في كل منهما.

الغريب أن تيار التطرف/ الجهل، مع أنه يعترف بعجزه عن تحديد ماذا تعني الليبرالية، إلا أنه يهاجمها على درجة تكفيرها وتكفير أفرادها. وهذا من التناقض الدائم الذي يسم خطاب التطرف/ الجهل. إنه يريد وصم الليبرالية بالفوضوية المصطلحية من جهة، ويريد إدانتها بالكفر من جهة أخرى. إنه يقوم بتكفير شيء يعترف أنه لا يستطيع تحديده! .

2- ومن التهم التي يصم بها التيار المتطرف الليبرالية، ولها نوع علاقة بإشكالية المصطلح، أنها بلا مرجعية محددة. وهذا أيضا من طبيعة التفكير المحدد والمؤطر الذي هو من سمات العقل التقليدي. إنه لا يستطيع التفكير إلا عبر النموذج الذي اعتاد التفكير من خلاله. فهو اعتاد عندما يهاجم الفرق والمذاهب والطوائف أن يهاجمها من خلال المراجع المعتمدة عند هؤلاء.

إشكالية الليبرالية - وهي من أهم إيجابياتها - عند التيار التقليدي أنها لا تعترف بمرجعية. وهذا صحيح. فالليبرالية لا تعترف بمرجعية ليبرالية مقدسة؛ لأنها لو قدست أحد رموزها إلى درجة أن يتحدث بلسانها، أو قدست أحد كتبها إلى درجة أن تعتبره المعبر الوحيد أو الأساسي عنها، لم تصبح ليبرالية، ولأصبحت مذهبا من المذاهب المنغلقة على نفسها.

مرجعية الليبرالية هي في هذا الفضاء الواسع من القيم التي تتمحور حول الإنسان، وحرية الإنسان، وكرامة الإنسان، وفردانية الإنسان. الليبرالية تتعدد بتعدد الليبراليين. وكل ليبرالي فهو مرجع ليبراليته. وتاريخ الليبرالية المشحون بالتجارب الليبرالية المتنوعة، والنتاج الثقافي المتمحور حول قيم الليبرالية، كلها مراجع ليبرالية. لكن أيا منها، ليس مرجعا ملزما، ومتى ألزم أو حاول الإلزام، سقط من سجل التراث الليبرالي .

3- عقلانية الليبرالية. وهذه التهمة من عجائب التيار المتطرف الذي لا يعرف حتى كيف يدين خصومه. فكون الليبرالية عقلانية، يعني أنها مع العقل. وتيار التطرف تيار معادٍ للعقل. ومن ثم، نفهم، كيف تصبح العقلانية - التي يتشرّف بها حتى من لا يمتلكها - تصبح موضوعا تهاجم الليبرالية من خلاله. لكن، وكما قال البحتري: إذا محاسني اللاتي أدل بها كانت ذوبي فقل لي كيف أعتذر؟!

4- أن الليبرالية كرؤية عامة، هي غربية المنشأ. وهذه التهمة تعكس الجرح النرجسي (بتعبير جورج طرابيشي) الذي تعاني منه الذات الإسلامية عامة، الإسلاموية خاصة. فكل ما هو رائع ومفيد، لا يمكن أن تتم الاستفادة منه؛ ما دام آتياً من الغرب/ خاصة إن كان على مستوى الثقافة ومنظومة القيم؛ لأن هذا لا بد أن يؤدي إلى وضع نفسي جارح للذات، أي اعتراف ضمني أن الغرب متفوق، ليس في المجال المادي فحسب، وإنما في القيمي أيضا. وهنا تظهر (عقدة الغرب) كعقدة ضاغطة على الوعي؛ لأنها تذكر - دائما، وفي جميع الأحوال - بفشل الأنا، ونجاح الآخر .

ولهذا لا تعجب حين تسمع أحدهم - من مدعي الاعتدال - عندما يتحدث عن تجديد الخطاب الديني، أن يقول صراحة، إنه يرفض هذا التجديد إذا كان نتيجة الاطلاع على التراث العقلاني الغربي، ممثلا في فلاسفته العظام. ويصرح أنه يرفض الاستفادة من كل أعلام الفلسفة الغربية؛ لأن لدينا ما يغنينا عنهم. هكذا قال!، ولا أدري ما هو الذي لدينا، ويغنينا عنهم؟!.

4- يقول التيار المتطرف: الليبرالية مادية، تعبر عن مادية الغرب، بينما الإسلام روحاني. وهذا جهل فاضح بالمنظومة الليبرالية؛ لأن الليبرالية بالدرجة الأولى، مجموعة قيم إنسانية، تعزز من إنسانية الإنسان؛ في مواجهة غول الطغيان والاستبداد الذي قد تعضده المادية، على الأقل في بعض مراحله. نعم قد تسمح الليبرالية - من حيث جانب الحرية فيها - بأن يتغوّل الرأسمال، ويصبح طاغيا على الروحاني. لكن، جهل هؤلاء أن الليبرالية واسعة الأطراف، وبين يمينها ويسارها، من الرؤى موضوع التجربة، ما يمكن أن يحد من سلبياتها.

أما روحانية الإسلام ومادية الليبرالية/ الغرب، فهو اصطلاح روّج له كثير من المستشرقين، ويكاد يصبح رؤية استشراقية مقصودة، كما نبّه إلى ذلك إدوارد سعيد في كتابه الرائع (الاستشراق). وهنا نرى، كيف أن الجهل يتسبب في أن يقع التيار التقليدي المتطرف في رؤى من يراه ألد أعدائه. فضلا عن كونها تعكس رؤية جامدة (جبرية) بوصف الصفة (الروحانية) في حال التسليم بها، صفة لازمة، لا يمكن تجاوزها. كما تعكس - في الوقت نفسه - الجهل بنسبية الصفات، تلك النسبية التي لا تجعل من (الروحانية) صفة إيجابية دائما، وفي كل الأحوال. كما لا تجعل من المادية صفة سلبية، في كل الأحوال .

5- يتحدث خطاب التطرف/ الجهل عن أن الليبرالية ضد الدين، أو أنها تهاجم الدين. وهذا كلام عام، يراد به التنفير من الليبرالية، واتهام روادها بالكفر. أي انه نوع من التكفير المضمر، أو التجييش الإيديولوجي لصالح خطاب التطرف، وضد خطابات الاعتدال على اختلافها وتنوعها.

كون الليبرالية تهاجم الدين، لا بد من التحديد، أية ليبرالية، وأي دين. وبدون هذا التحديد في كلا الطرفين، لا يمكن أن يكون الجواب صحيحا بحال. الليبرالية ليبراليات، ويوجد ملحدون وكارهون لكل دين، ينتسبون إلى الليبرالية، كما يوجد مؤمنون موحدون متدينون، ينتسبون إلى الليبرالية أيضا.

وهنا، لا بد من الارتباط بما قلت من قبل، وهو أن الليبرالية تكاد تتعدد وتتنوع بتعدد وتنوع من يتمثلونها. لا يمكن أن أحاسب ليبرالياً ما، بقول يقول به ليبرالي آخر؛ لأن كلا منهما مسؤول عن ليبراليته، وليس عن ليبرالية الآخرين. كما أن تيارات الليبرالية متنوعة، فمنها ما ينحو منحى إيمانيا يكاد أن يعم جميع أفراد التيار، ومنها ما ينحو على الضد من ذلك .

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فبعض أنواع الليبرالية قد تهاجم الدين، ولكن أي دين؟. إنها تهاجم الدين الذي يروّج للخرافة، أو الدين الذي يدعو إلى التعصب والإقصاء، بينما هي تتحمّس للدين الذي يدعو إلى الإخاء، والعدل، وتعزيز الإنسان كقيمة. أي أنها تهاجم الجوانب السلبية التي ينسبها الغلاة المتطرفون من أتباع الديانات السماوية، على الأديان. ومن هنا نفهم كيف اصطدم الليبراليون الأوائل بالسلطات الكهنوتية؛ لأنها كانت سلطات تدعي أنها تتحدث بلسان الدين/ الله، وأن من حقها حساب الناس على عقائدهم، والتفتيش عليها. وهذا ما حاربته الليبرالية، وحققت فيه انتصاراتها المذهلة في الغرب.

6- الليبرالية تفرز الانحلال. وهذه التهمة هي من أبرز التهم التي يوجهها خطاب التطرف/ الجهل إلى الليبرالية. صحيح أن الليبرالية تعلي من قيمة الحرية الفردية؛ لكن هي تفعل ذلك في سياق ثقافي/ تاريخي لا يمكن تجاوزه. ومن ثم فالحرية بوصلة اتجاه. وبعد ذلك، لا مانع من كون بعض الأنظمة تحدد مجالات الحرية، وتضع المطلق في سياق النسبي. وفضاءات الليبرالية الواسعة قابلة لأن تحتضن مثل هذا الارتباط بالسياق.

أحد المتطرفين الذين تحدثوا عن الليبرالية، لم يفهم من الليبرالية إلا أنها دعاية للانحلال. وكي يثبت هذا الفهم الجاهل/ الفاضح لمشاهدي قناته المتطرفة - وهم أقرب إلى السذاجة، والتصديق بكل ما يقوله صاحب (العمامة) - فقد أتى بإحصائيات عن الإباحية في بعض دول الغرب، ثم نظر إلى الكاميرا - في مشهد درامي - قائلا: هذه هي الليبرالية، لا، لا نريدها. فكم من مخدوع بهذا الجهل؟!.

جريدةالرياض

مستحل المستحيل 15-07-07 11:21 PM

رد: المتطرفون وصناعة خطاب الجهل
 
مسافر بلا هويه
شكرا على نقل هذا الموضوع
الهام والمفيد
تحياتي لك

الآتي الأخير 16-07-07 12:34 AM

رد: المتطرفون وصناعة خطاب الجهل
 
شكرا دكتور على هكذا طرح
و بالفعل التطرف هو آفة الأمم و مهلكها .
لك اجمل تحياتي

الشهاب 16-07-07 02:53 AM

رد: المتطرفون وصناعة خطاب الجهل
 
اخى مسافر بلا هوية

طرح رائع اخى


كما عهدتك سيدى

مبدع فى جميع المجالات

تقبل تحياتى


الشهاب

الآتي الأخير 19-07-07 10:32 AM

رد: المتطرفون وصناعة خطاب الجهل
 
شكرا دكتور على هكذا طرح
و بالفعل التطرف هو آفة الأمم و مهلكها .
لك اجمل تحياتي

almansy 19-07-07 12:45 PM

رد: المتطرفون وصناعة خطاب الجهل
 
شكرا اخي مسافر بلاهويه

طرح متميز

دمت بخير


الساعة الآن 03:12 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

إنطلقت الشبكة في 2006/10/17 م - المملكة العربية السعودية - المؤسس / تيسير بن ابراهيم بن محمد ابو طقيقة - الموقع حاصل على شهادة SSL