![]() |
جنون التاريخ الذي نعيشه
المملكة لم تكن تعرف الأحزمة الناسفة واستهداف المساجد حيث كان إرهاب القاعدة في تسعينيات القرن الميلادي الماضي موجهاً إلى مؤسسات أمنية، أو رجال الأمن أو مجمعات سكنية في المنطقة الوسطى، وقليل منه موجه إلى منشآت نفطية في المنطقة الشرقية. لكن إرهاب القاعدة فشل فشلا ذريعًا، فخلال بضع سنوات استطاعت المملكة أن تُطهر أرضها من إرهاب القاعدة. وحلت داعش محل القاعدة، ولكن باستراتيجية جديدة، تتلخص في قتل المواطنين السعوديين من الشيعة وفي مساجدهم في المنطقة الشرقية. هذا تطور نوعي غير معروف في بلادنا.
الراصد لإرهاب القاعدة وداعش لا يجد كبير فرق بين الاثنين، إلاّ في تطبيقات تدخل فيما تسميه الجماعتان الإرهابيتان: بإدارة التوحش. وفي استهداف المواطنين الشيعة وفي مساجدهم. هذا يجعلنا نبحث عن قراءة غير تقليدية لتفسير توجه داعش لقص الرقاب مثل ما تُذكى الشاة، أو تفجير دور العبادة على رؤوس المصلين. هذا التوجه الذي اسميه: جنون التاريخ، لأنه يستند إلى تراكم تاريخي ماضوي مجنون، مع الأخذ في الاعتبار أن القراءات الدينية أو السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية لظاهرة الإرهاب مطلوبة، لكن في هذا الحديث سنقتصر على قراءة فلسفية. في البداية يظهر أن جنون التاريخ هذا لن تفككه فقط قراءات علماء الدين أو الطبيعة أو علماء علوم إنسانية واجتماعية معروفة. لابد من علم آحر. وفي زعمي أن الفلسفة قد تكون مرشحة لهذا العمل. على أنني اسارع فأقول إن الفلسفة بكل مدارسها قد تكون عاجزة هي ايضا أمام هذا السلوك الوحشي وأمام جنون التاريخ، على أن النزوع إلى فلسفة ذات مبحث نفسي/ تاريخي ربما تمكننا من تفكيك هذا السلوك الإجرامي وهذا الجنون التاريخي. وقد سبقني زميلي في هذه الجريدة الأستاذ يوسف أباالخيل وتناول يوم الأحد الماضي: الصراع السني- الشيعي من خلال فلسفة التاريخ التي قال بها الفيلسوف هيجل. لكنني هنا سأتناول جانبًا آخر من الإرهاب من خلال فلسفة هيجل التاريخية أيضا. الفيلسوف جورج فردريك هيجل (George Freidrich Hegel (1770-1831 من أوائل من دمج فرعًا من فروع علم النفس بالفلسفة بزعمه أن الديالكتيك (الجدل الفلسفي) كفيل بتبيين جنون التاريخ الذي يؤدي إلى القتل العشوائي باسم الدين. كيف يمكن لديالكتيك هيجل أن تتقصى سبب انحدار وتقهقر العدل والخير والأخوة والمواطنة بين فصيلين متنافرين دينيًا. وما الحلول التي تقترحه تلك الفلسفة الديالكتيكية؟ بداية يرى هيجل أن الصراع الديني (المذهبي هنا) صراع متداخل في العقل البشري، متجذر في اللاشعور. وهذا الصراع لا يقبل النظر العقلي المحدود. لهذا يقترح هيجل أن ننظر إلى هذا الصراع من خلال ثلاثة تصورات: التصور الأول: دعوى الفصيل الأول، التصور الثاني: نقيض الدعوى أو دعوى الفصيل الثاني، التصور الثالث: جمع الدعوتين وهو ما يسميه: التأليف. جمع التصورين أو دمجهما، وإخراج المتكرر والمتشابه، ويبقى القليل جدًا من التصورين. وهذا القليل يمكن أن يصبح نسقًا تاريخيًا قابلاً للتفكيك. ويؤكد هيجل أن على القراءة الفلسفية لهذا الجنون أن تتحرر من سلطة التاريخ الماضي، ذلك لأنه يرى أن الجدل الديالكتيكي يمكن أن يُقرب الفصيلين إلى بعضهما، على أنه يؤكد على خطورة المؤثر الخارجي جماعة أو دولة بالتدخل أو التأثير على قراءة تصورات الفصيلين. وهو يعول على نزعة التنوير العقلية عند الناس. وهي نزعة أو فطرة موجودة عند كل الناس، ولكنها تخبو أو تضعف عند الرعاع والدهماء والسفهاء وصغار السن والجهلاء وأنصاف أو أرباع المتعلمين. ويؤكد هيجل أن مسيرة التاريخ محكومة بمحطات حرب وقتل وفواجع إنسانية، لكن التاريخ سيصل إلى المحطة الأخيرة: محطة السلام. ومع صدقية تشخيص الفلسفة الديالكتيكية (الجدل الفلسفي) إلاّ أن هيجل أغفل التطور البشري نحو التمدن والحرية والتنوير. والسؤال هنا: هل على الفصيلين السني والشيعي المرور بالمحطات التي اقترحها هيجل؟ إذا كان الجواب بنعم. فالواقع سيئ، إذ علينا أن نشهد كثيرا من الدماء البريئة المسفوحة. وإذا كان الجواب بالنفي، فيمكن عندئذ أن نستفيد من درسْ التاريخ، وتطبيق قاعدة الجدل الفلسفي التي اقترحها هيجل على قضية الصراع المذهبي أو التشدد الديني لنصل إلى بر الأمان. وفي أطروحة هيجل أن تفكيك الثقافة الماضوية في محيط من العقلانية والتنوير كفيل بأن يوضح للمتشددين والمتطرفين أنهم سائرون في الطريق الخطأ. وهذا صحيح، بل إني أزعم أن المتدين لا يحتاج لكل الثقافة التراثية التراكمية المتعلقة بالفِرق الإسلامية، ذلك أنها نشأت وتقعرت بعد مجيء الإسلام وإرساء قواعده بمئة سنة. لكنه يحتاج إلى -جانب العلوم الدينية الأساسية -درس الفلسفة. وهو ما يؤكد عليه هيجل الذي يرى أيضا أهمية الفلسفة ورسوخ القيم الإنسانية في المجتمع. ويؤكد هيجل أيضا على ضرورة توفر الفنون في المجتمع. وهو يقول: إن خليطًا من كل هذا تجعل الفرد أرق حسًا، وأكثر نزوعًا لأخيه الإنسان بصرف النظر عن معتقده الديني. ونختم بمقولتين لهيجل تصبان في هذا السياق. يقول هيجل: التعليم هو فن جعل البشر أخلاقيين، فإذا فشلنا في جعلهم كذلك، يعني هذا فشل برامجنا التعليمية. وهو يقول: ألاّ نخشى من تقاطع النظرية مع الواقع المعاش، لأن هذا التقاطع يعني الحقيقة. ولعل هذا التقاطع يُفسر لنا جزءا من جنون التاريخ الذي نعيشه الآن. د. عبد الله بن إبراهيم العسكر جريدة الرياض |
الساعة الآن 12:06 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir
إنطلقت الشبكة في 2006/10/17 م - المملكة العربية السعودية - المؤسس / تيسير بن ابراهيم بن محمد ابو طقيقة - الموقع حاصل على شهادة SSL