مفهوم المثقف وإشكالية الذات المثقفة

إن المتأمل في واقع مجتمعنا يلحظ بعد قرابة جيلين من الزمن على بدء التحولات والمتغيرات التي مرت بها المنطقة، أن هناك إنكساراً روحياً وثقافياً وشيوعاً لثقافة انهزامية تقبل مفاهيم مغايرة لطبيعة الفطرة الإجتماعية وروح بيئتها الأصلية، وصار واقعنا مترهلاً في كل مستوياته وطبقاته. فيما يزال ما يسمى بالمثقف - إلى الآن - عاجزاً عن تشكيل وصياغة ذلك الوعي الثقافي والإجتماعي الناضج والمتماسك، والقادر على مواجهة الصعاب والتحديات التي يمر بها المجتمع، فلم يرَ هذا المثقف خلال تلك الفترة الزمنية يمارس دوره في الحراك الإجتماعي وفي الفعل الثقافي الناجز، منعزلاً في صومعته المحكمة الإغلاق، ومتعالياً في برجه العاجي، ومستأنساً بعزلته، وراضياً بمنفاه الإختياري، في وقت كانت ثقافة الإستهلاك والإعلان العالمية تغزو عقولنا في عقر دورنا وتزاحمنا في مضاجعنا ومخادعنا. وعندما نفتش عن أسباب فشل المثقف تجتمع عوامل خارجية وداخلية، وأخرى هيكلية وذاتية على تفاعل فيما بينها تجعل للعوامل الخارجية قابليات داخلية، وللداخلية قابليات هيكلية وبنيوية ذاتية. وفي هذا السياق علينا أن نضع الموازين التي تزن قوة العامل الخارجي وتحدد وجهته دون انزلاق في تفكير المؤامرة الذي يعفي الذات ويحجم الوعي عن اثبات ما للعوامل الداخلية من قدرة وتأثير، من غير إعفاء للذات الثقافية من مسؤولية ومحاسبة. ومواجهة غزو مشاريع الثقافة الإستهلاكية العالمية وخياراتها التطبيعية لا يتأتى إلا بمشروع ثقافي مضاد من طبيعة أرضنا وسمائنا، معبراً عن هويتنا وثقافتنا الأصلية. وأولى خطوات هذا المشروع، البدء بمراجعة نقدية جسورة لتجاربنا السابقة في كل مستوياتها وعلى توالي محطاتها، حتى نستوعب الصالح منها ونطوره ونرفض السيء ونتجاوزه. كما أن لا تكون هذه المساءلة والمراجعة حالة تدفع إلى اليأس وإنما إلى حالة تمنح التفاعل الخلاق وتزيل ركام الزمن السيء، للوصول إلى حقيقة الجواب عن السبب في عدم تمكن المجتمع من تحقيق تطلعاته وطموحاته؟ وحتى لا تكون أحكامنا عفوية وارتجالية حول هذه الحقبة من تاريخنا، علينا أن نبدأ بعملية مراجعة دقيقة وواعية لهذه التجربة حتى نصل إلى حقائق الأمور وجوهر القضايا، لا لكي نصاب بالتخمة الثقافية والترف الفكري، وإنما لنبدأ مشوار النهوض والتقدم على ضوء الحقائق الجديدة والمكتسبة.

المثقف في الثقافة الشعبية

تتساقط في الذهن عند سماعنا لكلمة المثقف صورة رجل كثير القراءة، وهو لذلك يجيد الحديث بطلاقة وبأسلوب موزون وجميل وذو لغة تعبيرية جذابة، ويعتمد في حديثه على المصطلحات الفكرية والمفاهيم النظرية نتيجة ما اكتسبه من معلومات عن طريق إسرافه في القراءة. والثقافة لديه ترف، متعدد المعارف، ويتحدث في كل الموضوعات وفي كل القضايا. والسؤال هو: هل هذا التصور الذهني يعادل واقعياً ويتطابق عيانياً مع موجبات ودلالات المفهوم؟

من هو المثقف؟

ليس من اليسير إعطاء تعريف دقيق ونهائي لمفهوم المثقف، لإختلاف المعنى والمدلول بين مختلف الثقافات والحضارت الإنسانية، أو بين أفراد الحضارة الواحدة نتيجة تباين الثراء المعرفي والتباين في تراكم التجربة التاريخية. وتتراوح هذه التعريفات بين مفهوم ضيق يجعلها مقتصرة على النشاطات الذهنية، وبين مفهوم يدمج النشاطات الذهنية بما تنتجه من وعي ومسؤولية، وبين مفهوم ثالث أكثر شمولاً يحاول أن يربط الشخص الثقافي بالدور الذي يمارسه في سبيل تحقيق أهدافه وطموحاته.

ذهنية الثقافة وثقافة الأفكار

هناك من يعتبر المثقف ذلك الفرد الأكثر إحتكاكاً بالفضاء الذي تسبح فيه الكلمة، والكلمة هي حالة تعبيرية تجعل منه منتجاً للأعمال الفكرية والثقافية بأشكالها الإبداعية والعلمية أو المرتبطة مباشرة بنشاط ذهني، ليكون المثقف بذلك في المقام الأول والأخير صاحب النتاج الفكري والإبداعي، وهذا النتاج وما يتبلور عنه من أفكار هي بضاعته التي يريد بها أن يغير وجه الحياة إلى ما هو أفضل، وهذه الأفكار تسعى إلى خلق (قيم) تؤثر في سلوك الإنسان ومسار حياته.

التراكم المعرفي والوعي المسؤول

لا شك أن هناك ارتباطاً بين القراءة والتراكم المعرفي وبين النتاج الإبداعي والفكري للمثقف بصفته منتجاً للأفكار. على أن هذا النتاج الفكري ليس نهاية المطاف في الدلالة على مفهوم المثقف. فالمفهوم أوسع من أن يكون الفنان أو الشاعر أو الأديب الذي يعتزل ويستبطن بعض القضايا ويكتب فيها قصيدة أو مسرحية، بل هو إنسان ملتزم وصاحب دور ريادي، وعنده تراكم معرفي وتراكم علمي وفي ذات الوقت عنده ملكة إبداع أو على الأقل ملكة استقبال الإبداعات، وهو في آخر المطاف واعي لكونه رائداً وصاحب رسالة وإنساناً ملتزماً، وليس فناناً معتزلاً أو عالماً معتكفاً في معمل. ولكونه رائداً وصاحب رسالة فإنه يوظف كامل إمكانياته الثقافية والفكرية والإبداعية ويكرس حياته ليفكر بشكل عام في أمور هذا العالم، ويفكر في الأشياء بمضمونها الشامل. بمعنى أن حرفته أو مهنته في الدرس، القراءة، التدريس، الكتابة، النشر، وفي مخاطبة الجماهير تجعله أكثر انفتاحاً لتقبل المزيد من القضايا العامة، مما يؤدي به ذلك إلى اعتناق شعور أكبر وأشمل بالمسؤولية تجاه العالم ومستقبله.

الثقافة بين الأفكار والأفعال

والسؤال الذي يظل يلاحق المثقف هو عن كيفية وعي واقعه المعاش بعمق، وعن قدرته على نقل تفاصيل واقعية لحياة الناس من حوله في قراهم ومدنهم التي يعيشون فيها، وعن قدرته على توظيف امكانياته الثقافية في خدمة من حوله من جماهير مجتمعه وأهله. فإذا تحولت الثقافة في وجدانه إلى مسؤولية فردية واجتماعية، مسؤولية مؤرقة، حارقة عندها تتحول إلى مسؤولية لا يستطيع إلا أن يعبر عنها. فيحترق ويفني عمره ويجهد فكره من أجل نشر الوعي ومن أجل نصرة قضاياه العادلة التي تخص جماهير مجتمعه وأهله. فهو ضميرها ونصير لقضاياها وممثل لطموحاتها وصوت ينطق بحال واقعها، فمثله كمثل شمعة تحترق من أجل انارة الطريق للآخرين. والعلامة الفارقة التي تجعل من مجتمع ما مجتمعاً (مدنياً) أو (متمدناً) تتمثل في مدى غزو (الوعي) لهذا المجتمع وانتشاره فيه. والوعي تنتجه الثقافة والخبرة، والمثقف هو الذي ينشط من أجل تكوين هذا الوعي وتأسيسه والتقدم به في حقل الفعل البشري بالمثابرة والعمل الجاد المتواصل، ذلك لأن التغيرات الجوهرية والحضارية هي في الأساس عمليات تغلغل وليست عمليات إقتحام وتصادم، تنبثق من خلال فهم وتحليل عمليات التحول في البيئة الإجتماعية والتي تحكمها قوانين الحركة السياسية والإجتماعية والثقافية.

المثقف بين الواقع والطموح

إذا كان الفعل الثقافي والتغير الإجتماعي لا يعتمد في انجازه على العمل الإجتياحي السريع. وإذا كان العمل الجاد المتواصل هو السبيل إلى خلق الحقائق الجديدة على أرض الواقع، فإنه ينبغي على المثقف أيضاً أن لا يركن في عمله على الأمنيات فيغيب في عالم الأحلام الكبيرة أو يضيع في عالم الأشياء الصغيرة، بل عليه أن يوازن بين ما هو حلم وبين ما هو واقعي. فهناك خيط رفيع يفصل بين عالم الحلم المطلق وعالم الواقع المطلق، وعلى المثقف أن يتبين هذا الخيط من أجل أن لا يغيب في عالم الأحلام أو يغرق في عالم الواقع. لهذا فإن صناعة خط الوصل بين نقطة الإنطلاق الذي يمثله (عالم) الواقع والهدف (أي عالم الأحلام) هو السبيل الطبيعي لتحويل الأفكار (الأحلام) من صفتها المجردة أو صورتها اللفظية أو الصوتية إلى واقع يتشابك مع حركة المجتمع.

إستراتيجية الفعل الثقافي

يمارس المثقف دوراً اجتماعياً ناقداً خلال التفاعل الإيجابي مع ايقاع وحركة الواقع الإجتماعي، فلا ينعزل ويمارس تنظيراته الفوقية والإستغلالية، وإنما يتفاعل ويعايش مشاكل وتناقضات مجتمعه عن قرب، حتى يمكنه إقتراح الحلول والمخارج التي تتناسب وظروف المجتمع الذاتية والموضوعية. لأن المثقف لا ينفصل فيه البعد الثقافي للمعرفة عن البعد السياسي للدور الذي يمكن أن تلعبه المعرفة (السياسة بمفهومها العام الذي يتطابق مع ادارة الناس ومصالحهم وشؤونهم)، لذلك يصبح الحس الإنتقادي والدور الإنتقادي شرطاً وجودياً لتحقيق مفهوم المثقف من خلال ما يحققه من زلزلة للتصورات السائدة والمفاهيم التقليدية الراسخة بإثارة الأسئلة وهز القناعات البالية من أجل اعادة صياغة لحياة جديدة، وتقديم رؤية أفضل للعالم، محاولاً إختراق الزمن والوصول إلى المستقبل. لأنه في ذاته شخص مركب، تاريخي ومعاصر في وقت واحد، ومهيأ للمستقبل، فليس من اليسير الزعم أن واقعاً بعينه سوف يظل قائماً دون تغيير، فعوامل التبدل تتفاعل ظاهرياً وتحت سيطرة نشطة لا تسمح للأشياء بالبقاء كما هي دون تغيير لأمد من الزمن طال أم قصر، فالتغيرات المعاصرة هي وليدة وقائع وتفاعلات ماضية، كما لا يمكن أن يظل ما هو معاصر خاضعاً بالضرورة لنفس الأقانيم السابقة.

بقلم / ابراهيم زاكي

شكري وتقديري لك على هذا الموضوع الهادف...


تحياتي

اشكر مرورك الكريم استاذ موسى

الثقافة هى ابحار فى بحور العلم والمعرفة التى ليس لها حدود كلمة وصلت لنقطة التماس الشمس مع الماء تجد امامك بحر اكبر واعمق

تحياتى لك سيدى

تحياتي اخي الاتي الاخير

موضوع جميل جدا و هادف اشكرك عليه

اشكرك اخي الكريم الآتي الأخير


لك تحياتي

اخي الفاضل الآتي الاخير

اشكرك علي هذا الطرح الراقي ,,, وليس بمستغرب ان اجد خلف هذا المعرف سيل من الابداع

اريد ان اضيف شئ فقط وهو تعريف الثقافه في اللغه لكي يتسع افقنا قليلا

الثقافه في اللغه مشتقه من الفعل ثقف اي حذق وفهم وتعني ايضا تهذيب وتسويه من بعد اعوجاج

اي هي تعديل المعوج من الافكار وتهذيبها

ومفهوم الثقافه في اللغه العربيه بنبع من الذات الانسانيه ولا يأتي من الخارج وهذا يعني ان الثقافه

تتفق مع الفطره , وما يخالف الفطره يجذب تهذيبه ,

طبعا هناك اختلاف حول تعريف الثقافه , كمفهوم

اما المثقف في وجهه نظري هو من يستطيع صناعه امه

وهذا ما فعله مؤلف قوانين كليله ودمنه , كأول شخص يضع قوانين دوله في شكل قصه


اسف اخي علي الاطاله


لك كل الاحترام والتقدير

شكرا اخي الزيزفون لمداخلتك التي زادت الموضوع ثراءا

دمت لي سيد الرقي