قال السفير للملحق الديبلوماسي الشاب وهما على الطائرة بين نيودلهي وكولومبو، ناولني تلك المجلة التي الى جانبك. ففعل. ففتحها السفير على مقال يتعلق باستقلال سري لانكا حديثا، وراح يترجمه الى العربية والملحق يكتب. وعندما انتهى طلب اليه ان يطبع الترجمة ويرسلها الى وزارة الخارجية على انها تقرير السفير حول اوضاع المنطقة! وفي مناسبة اخرى نرى هذا الديبلوماسي الشاب في احد شوارع نيودلهي حيث يتزاحم الوف البشر. وفجأة يقف امامه احد فقراء الهند، وهو يجر خلفه جدائل طويلة حتى الارض، والجدائل يعلوها الذباب، والاسمال يحط عليها الذباب، وحاجباه الغليظان يغط عليهما الذباب. يتطلع هذا الرجل في صاحبنا بعينين حادتين، حمراوين، في بياضهما من الغضب او التعب او رفقة الذباب. يتطلع اليه بنظرات صاعقة، فيشعر ان قواه قد شلت، ثم يشعر فجأة بنشوة غريبة كأنه يطير عن الارض، ثم يقول له الهندي ذو الجدائل: «اسمع. سوف تلحق بك كارثة كبرى. انت وعائلتك. لكنك لن تصاب بأذى». وبعد اسابيع قليلة كان الديبلوماسي الشاب وزوجته وطفله الرضيع في رحلة الى بكين. وفجأة هبت عواصف واعاصير وقامت الدنيا واختلط غضب السماء بارتعاد الارض، وانفجرت الطائرة التي كانت تحاول الهبوط الاضطراري. ونجا الوالد الشاب وزوجته والرضيع.
ثم نقرأ هذا الديبلوماسي وهو يحلل لنا الفارق بين دولتي المليارات، الهند والصين. مع ضعف واضح للاولى: «احببت الهند. احببت الناس فيها. الهنود وغير الهنود». وراح بفضول شديد يبحث في تناقضاتها حيث «تشم رائحة شواء. ثم يقولون لك ان جثة يجري حرقها وان الريح تحمل الرائحة اليك. وبالفعل ذهبت ذات يوم ووقفت وسط اهل يودعون فقيدهم وينتظرون الحصول على رماده في قارورة غير محكمة الاغلاق. ولا اشك للحظة ان الامر كان اشد ازعاجا عندما كانت ارملة الفقيد تلقي بنفسها وسط النار لحرق نفسها مع زوجها. كانت تعلم ان لا حياة لها من بعده، فلا احد سوف يتزوجها واولادها لن يرعوها لانها تخلت عن زوجها وعاشت. وقد فعل البريطانيون خيرا حين الغوا هذا التقليد».
يقول الديبلوماسي محللا: «اما في الهند فالديموقراطية ضرورة ليس فقط للنخبة السياسية، وهي نخبة متسعة ومتجذرة الى اعماق الريف الهندي. الديموقراطية الهندية تحمي الامة من الانفراط. فالامة الهندية اذا انقسمت رأسيا صارت عشرات من الشعوب، لايتحدث اي منها لغة الآخر وعدد منها لا يؤمن بديانة الآخر. والهنود امة اذا انقسمت افقيا تحولت الى هرم مدرج، كل طبقة فيه تزدري الطبقات الادنى. ولا شيء غير الديموقراطية يحمي هذه الامة من الانفراط. وصراع الحضارات والاديان والتاريخ».
في «اول حكاية»، كتاب «الهلال» الجديد يروي الزميل جميل مطر حكاية رحلة قصيرة مع الديبلوماسية وتجربة ثرية بدأت في الارجنتين وانتهت في روما، مرورا بالعاصمة الصينية حيث ترافق مع ديبلوماسي شاب آخر كان يدعى نزار قباني. وفي هذه الحكاية نرى عصرا قد زال. العصر الذي لم يكن في بكين شقة للايجار ولم يكن ممكنا تمييز المرأة عن الرجل في الشارع بسبب الزي الواحد وقصة الشعر الموحدة، والعصر الذي كانت فيه الخارجية المصرية تصر على ان ترسل مقال محمد حسنين هيكل الى جميع سفاراتها مشفرا مع انه يصدر في «الاهرام» كل اسبوع، والعصر الذي لم يكن فيه من مدخل الى الصين الا من بوابتين: واحدة في هونغ كونغ واخرى في ارتسوك السوفياتية على الحدود.
قرأت العام الماضي اكثر من مذكرات ديبلوماسية صدرت في بيروت. وكانت عبارة عن خطب القاها صاحبها او صور تقديم اوراق اعتماد او احيانا تجميع معلن، غير خجول، لبرقيات وكالات الانباء، وقد متعت النفس والذاكرة وشغف المعرفة بكتاب جميل مطر، الذي تعرفت اليه المرة الاولى في بيروت اوائل السبعينات عندما كان كبير البحاثة الى جانب الاستاذ هيكل. وقد اهداني كتابه هذا عندما التقينا في دبي قبل ايام. وحملته معي الى الطائرة في رحلة الى باريس تستغرق سبع ساعات كانت، بفضل «الحكاية الاولى» احدى اجمل الرحلات، برغم ضيق المقاعد، على غير عادة «الامارات».
بقلم / سمير عطاالله
المثقفون و الموظفون
العرض العادي
