كاميرا تجوب سماء غزة
عبد العزيز السويلم
( لـُجينيات )
المشهد الأول:
تَدخل الكاميرا إلى بيتِ أَحدِهم.. وقَد استَعَدَّ هو وأَبنَاؤه للنَّوم..وتَبدأ التَّسجيل.. يُغْلِقُ الأَبُ بابَ مَنْزِلِهِ بِإِحْكَام.. ويَلْتَفِتُ إِلى أَبْنَائِه في مَهَاجِعِهم .. وَقَد نَال مِنْهم التَّعَب.. والرَّغْبَة في النَّومِ كل مأْخَذ..وَهم مُسْتَلْقون عَلى مَفَارِشِهم الصَّغِيرة..
الأّب: لا تَنْسَوا يا صِغَاري أَن تَنْطِقُوا بالشَّهَادَة.. قَبْلَ أَن تَخْلُدوا للنَّوم.
محمد _الإبن الأصغر_: لماذَا يا أَبي مُنْذُ بِدَايَة الغَزْو الصُّهْيُوني، وَأَنت تُلَقِّنُنَا الشَّهَادَة قَبْل النَّوم؟ هَل هي مِن أذْكَار النَّوم؟
الأب _وقد عَلَتْهُ ابتسامة_: لا يا بُنَي! وإِنَّما نحن في حَرْب .. وَنَتوقعُ أَن نموتَ ونحن نَائمون.. فَلْيَكُن آخر كَلامِنَا هَذه الشهادةُ العَظيمة "لا إله إلا الله ، محمد رسول الله".
ابتسم محمد واضطجعَ على جَنبهِ الأَيمنِ وراحَ يردِّدُها بصوتٍ مَهْمُوس.. أَطْفَأ الأَب الشَّمْعَة وراح يردِّد " لا إله إلا الله محمد رسول الله" .. توقفتِ الكاميرا عن التسجيل.. وانطلقت في سماء غزة..
المشهد الثاني:
في بواكير الصباح.. ومع ظهورِ أشعةِ الشمس.. طارتِ الكاميرا إلى الأعلى لتبدأ التسجيل.. فالتقطتْ لقطةً بانوراميةً واسعة.. تبْحَثُ عن صَيْد إِعْلامي ثمين .. بَدأ صوتٌ من بعيدٍ يقتربُ ويعلو شيئاً فشيئاً .. ظهرت سيارةُ الإسعافِ مسرعةً في طَريقها إلى بَوابة المستشفى.. قامت الكاميرا على عَجَل بالاقتراب من السيارة.. والمُسْعِفُون يَهْرَعُونَ إليها.. أَخْرجوا منها جَرِيحاً مُضَرَّجاً بدمائه.. وأُصْبُعُ السَّبَّابة مُرْتفع وهو يصيحُ ويقول " لا إله إلا الله، محمد رسول الله.. حسبي الله ونعم الوكيل..حسبي الله ونعم الوكيل".. أوقفت الكاميرا التسجيل.. وانطلقت في سماء غزة..
المشهد الثالث:
أثناء تجوّل الكاميرا في ممرات المستشفى.. تَوقفت عِنْدَ بابٍ كُتِبَ عَلى لوحَتِه "جناح (د) للمرضى " استغلت الكاميرا الدخول مع أحد الأطباء .. توجهت إلى أَسِرَّةِ المرضى.. توقفت عند عَتَبَةِ البَاب.. وأخذت لَقْطَةً متحركة.. جمعتْ تلك اللقطات تَعَالي أَصَابِع السَّبَّابة من المرضى.. أوقفت الكاميرا التسجيل.. وانطلقت عبر النافذة إلى سماء غزة..
المشهد الرابع:
بينما الكاميرا في طريقها تَجُوبُ _ فيما يطلق عليه _ شوارع غزَّة.. تُسَجِّل آثار الدمارِ الذي خلَّفَتْه آلة الحربِ الصُّهْيونية.. التقطت صَفاً من الرَّجال.. يسيرونَ فوقَ أنقاضِ بيوت مُهَدَّمة.. يُهَمْهِمُونَ بَأَصْوَات غير مفهومة.. اقتربت الكاميرا أكثر .. اتَّضَحت الصورة أكثر.. يحملُ كل واحد منهم.. ما تبَّقى من مَتَاع بيته المهْدُوم.. ينظرون إلى الكاميرا وهم يهتفون " الله أكبر .. لا إله إلا الله.. الله أكبر" أوقفت التسجيل.. وأخذت أدراجها في أزقة غزة..
المشهد الخامس:
استوقفها صوت يجلجلُ .. يتردَّد صدَاهُ بين الأنقاض.. التقطت الصوت.. وبحثت عن الصورة.. إنه هنَاك شاب عشريني صَعَد على حُطَامِ بيت متهدِّم .. وضع أُصْبعيه في أذنيه.. وراح يصّدَح بالأذان.. أوقفت التسجيل.. وانطلقت في سماء غزة..
المشهد السادس:
صوت دَوِيٍ يمزِّق السُّكون .. تسارعت الكاميرا إلى مكان الحدث.. الحشُودُ تُسْرِعُ صَوْبَ مكان الدَّوِي.. الصيحات تَعْلو.. جَرِيحٌ طَرِيْحٌ هناك يَئِنّ .. تقترب الكاميرا منه.. تبدأ التسجيل.. شاب في العقدِ الثالث من عمره أصابه الذُّهولُ من هَوْل المفاجأة .. لكنَّه رَافع أُصبع السبابةِ .. ويردد " لا إله إلا الله، محمد رسول الله" أوقفت التسجيل.. وانطلقت في سماء غزة..
انتهت المشاهد .. وارْتَجَل المعلّق كلمة لمشاهديه يقول:
لقد علَّمتنا معركة الفرقانِ في غزّة أنها معركة التوحيد والعقيدة.. والشهادة والاستشهاد.. وأنَّ الحياة رخيصة في سبيل الدين والعرض والأرض.. ونرى بأمِّ أعيننا مَعَاني النِّصْر الحقيقي بأَدْنى المقوِّمَات.. وأنَّ الرَّاية الحقيقية هي راية "لا إله إلا الله محمد رسول الله" وما سواها يَبُورُ ويخورُ ويذهب جفاءً.. وأن الأمة لو اجتمعوا على أن يضرُّوك بشيء.. لم يضرُّوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك.. رفعت الأقلام وجفت الصحف ..