عبد الإله حيدر شائع
بدت عمليات "جهاديون" في اليمن للوهلة الأولى أنها عشوائية أو متخبطة، ولا تحقق أهدافا، أو أنها عمل استخباراتي كون الجهاديون أصلا صنيعة مخابراتية في حالة إذا ما تم قراءتها بعيدا عن سياقاتها الطبيعية، وهذه النظرية جاءت من محللين يرون في عمليات (الجهاد العالمي) من يوم الحادي عشر من سبتمبر وأخواتها أنها عمليات عبثية وعشوائية ولا تحقق أهدافا، وليس فقط هذه التي ضربت مواكب السياح الكوريين الجنوبيين وموكب عوائلهم وذويهم وفريق التحقيق الأمني التابع لهم.
ومع التأمل قليلا فيها ندرك أن هذه العمليات الأخيرة في جنوب ووسط اليمن تنتمي إلى العمليات الاحترافية، وتنذر بخطورة قدرة الفكر الجهادي العالمي أن يبني خلايا ذاتية الحركة قادرة على شن هجمات منسقة تضرب مفاصل رئيسية على جبهة الخصم، وتكسب الحركة الجهادية الأم اختزالا زمنيا للاقتراب من تحقيق أهدافها. فقد تركت لنا العمليات الأخيرة أشبه ما يكون بمخطط هندسي له أبعاد محلية وإقليمية، ودلالات زمانية ومكانية وموضوعية.
فالعملية الأولى ضربت السياح الكوريين الجنوبيين في "شبام حضرموت"، وبعد يومين كانت العملية الثانية على بعد 380 كيلو متر من الموقع الأول وتحديدا في العاصمة صنعاء تستهدف موكبا على مستوى عال من الحماية يحمل أقرباء وعوائل قتلى العملية السابقة وفريق أمني رفيع المستوى قادم من العاصمة الكورية "سول"، وبحضرة رجال أمن محليين والسفير الكوري الجنوبي.
تقارب الزمان، وتباعد المكان، واتفاق الأهداف والأدوات، تشكيلة هندسية في الخارطة الميدانية للعمليات الأخيرة لخلايا جهادية في اليمن؛ ما عادت القاعدة مهتمة كثيرا أنها تنتمي إليها عضويا وتنظيميا أم أنها تأثرت بخطابها والتحقت ببرنامجها؛ على غرار التعليم عن بعد والحصول على ماركة الإمتياز من القاعدة نفسها فيما بعد.
البعد المحلي
العملية في بعدها المحلي تخدم القاعدة وتخدم السلطة المركزية في صنعاء التي تبحث عن الذرائع والمبررات، فالقاعدة في إطار المنظومة الفكرية لها ترى ضرورة إخراج "المشركين من جزيرة العرب، وطرد اليهود والنصارى منها" وتريد إضعاف السلطة المركزية بضرب مفاصلها الأمنية والسياسية والاقتصادية، وهو ما تجلى في العمليات الأخيرة من حيث التوقيت – بداية تفويج السياح الغربيين وتقاطرهم إلى اليمن مع بداية الترويج للموسم السياحي- ومن حيث الأماكن، (حضرموت) الحبلى بأوهام الدولة المستقلة والحالمة بحكم ذاتي بعيدا عن "الشماليين المحتلين" في نظر سكانها، والمكان الثاني (صنعاء) العاصمة السيادية والسياسية التي بدأت الأطروحات تتزايد مؤخرا بسحب هذا اللقب منها ونقله إلى المدينة الجنوبية الساحلية (عدن) ضمن خطة شاملة تقضي على دعاوى انفصالية تعمل على العودة إلى التشطير.
وأظهرت العمليات أن المنظومة الأمنية مخترقة من خلايا الجهاديين؛ للدقة البالغة في تحديد توقيت وصول الوفد الأمني المرافق لعوائل القتلى، فقد قتلوا أبناءهم في حضرموت بسيارة مفخخة، واستقبلوا ذويهم عند مطار صنعاء بحزام ناسف.
والعمليات تخدم السلطة المركزية على التوازي مع "الخلايا الجهادية" المتنامية من حيث إبقاء الهاجس الأمني مرتفعا لضبط ميزان القوى داخليا، واستمرر تدفق الدعم والتمويل خارجيا. السلطة المركزية الأمنية تستفيد من تسخين وتيرة الإرهاب الجهادي في اليمن لإخضاع بعض القبائل المستعصية على السلطة المركزية، بحجة إيواءها لعناصر "جهادية" والسماح لأبنائها باعتناق هذا الفكر والتحرك بالسلاح في أوساطهم وتسعى إلى زعزعة البلاد وتفكيك السلطة المركزية.
والقبيلة بقيت عصية على هذه السلطة ومحتفظة بقوتها بعاملين رئيسيين، احتفاظها بالسلاح بيدها، واستقلالية قرارها بعيدا عن نظم وقوانين البلاد التي يخرقها رموز السلطة المركزية دائما أو يكيفونها على مصالحهم مما أفقدها هيبتها.
دلالات وإشارات
وعلاوة على تعديل "الخلايا الجهادية" لمفهوم الأمن والوصول إلى معادلة متوازنة تقريبية "كما تفقدوننا الأمن نفقدكم الأمن" فإنها حققت تقدما أمنيا ملحوظا في هذه العمليات من حيث المعلوماتية الدقيقة التي حصلت عليها، ولم تصل السلطات الأمنية كما تزعم في كل مرة أنها تمتلك قدرة إفشال العملية قبل وقوعها.
البعد الدعائي الذي يعمل تلقائيا كان حاضرا في مستوى أقل من مستوى حادثة استهداف السفارة الأمريكية، لأن الهدف هنا حلفاء لأمريكا في حرب الإرهاب من الدرجة الثانية؛ كوريا الجنوبية.
والخسائر المادية والبشرية هنا ليس لها معنى أو مدلول كبير، وإنما نوعيتها في قوة استطلاع "الخلايا الجهادية" ودقة معلوماتها عن أهدافها وسط العاصمة، وأمام أكبر قاعدة جوية عسكرية (قاعدة الديلمي الجوية) وعلى مقربة من كلية القيادة والأركان العسكرية، فالمنطقة هي منطقة أمنية عسكرية من الدرجة الأولى، والعنوان الأبرز لعملية الأربعاء 18 /3/2009 التي ضربت أمام سور مطار صنعاء الدولي موكبا رسميا بحماية أمنية عالية "خلايا جهادية" تخترق المنظومة الأمنية.
إذا كان عبد العزيز المقرن القائد الميداني السابق لتنظيم القاعدة في جزيزة العرب – قتلته قوات الأمن السعودية يونيو 2004 - قد قلص خلايا حرب العصابات إلى ثلاثة أفراد فإن القيادة التي انبعثت من جديد بعد مقتله بأكثر من أربع سنوات قد أعطت قدرة عملية عالية على أن الخلية الجهادية يمكن أن تتكون من شخص واحد إلى شخصين، وهي أطروحة القيادي في حركة الجهاد العالمية أبو مصعب السوري المعتقل حاليا منذ أواخر العام 2005، وتقوم على أساس تشكيل خلية يتيمة أو بدون شركاء، فهو الذي يجمع المعلومات، وهو من يصنع حزامه الناسف أو يفخخ سيارته، وهو الذي يحدد أهدافه مع رفيق له في أماكن متباعدة اتفقا على إشارة البدء بينهما لتكون الخاتمة عند الآخر.
العمليات التي جرت، لم يكن فيها شركاء، سوى مشتبه بهم كالعادة يفرج عنهم لعدم صحة الدعوى بعد سنوات من الاحتجاز القسري، ولم يكن فيها قيادة وتوجية تنظيمي، بعد أن رسمت القاعدة خارطة أهدافها "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب".
فكل من ينطبق عليه التوصيف يجب أن يخرج في فلسفة القاعدة النظرية، إما طواعية وإما كرها وإما يقوموا بإخراجه من الدنيا نهائيا وليس جزيرة العرب فقط.
البعد الإقليمي
خبر العملية الأولى أدلى بتفاصيله "مصدر أمني مسؤول" متعمدا إبراز أن منفذ الهجوم تلقى تدريبا في الصومال، وهذا يحمل دلالته التي تنبئنا عن مستقبل خطير ينتظر اليمن أو ينتظرها حلف الناتو من دور حقيقي فاعل في اليمن.
الناتو قرر شن حرب على الصومال أو معسكرات يعتقد أنها إرهابية، وتضم عناصر قاعدية تحرك شباب المجاهدين المسيطرة على معظم الصومال هناك، بذريعة ملاحقة القراصنة وسط معلومات غير مؤكدة عن روابطهم مع إرهابيين مفترضين هناك.
وزعيم صومالي جديد (شيخ شريف) توافق عليه دول الناتو بقيادة أمريكا لا يستطيع أن يدير دولته الجديدة من "مقديشو"، ولا أن يعقد برلمانه في مقرة في "بيداوا" بسبب سيطرة حركة الشباب المجاهدين هناك، وتهاجمه الحركة بأنها لا تريد "شريعة مختلطة بشرائع البشر، ولا شريعة إسلامية تحميها أمريكا" بعد إعلان شيخ شريف أنه سيطبق الشريعة الإسلامية، وخطاب لأمير القاعدة الشيخ أسامة بن لادن يحرض على خلعة وقتاله ويقول لا فرق بينه وبين سلفه.
الإستراتيجية العالمية تقتضي تأمين الإقليم البحري والبري والجوي، واليمن تطل على معظم نقاط بحرية إستراتيجية في السياسة الدولية والإقليمية، واليمن هي الحزام الآمن في حرب الإرهاب والخلفية المفترضة لعمليات حلف الناتو على الصومال.
أبو بصير القائد الميداني للقاعدة في جزيرة العرب
وترى القاعدة في جزيرة العرب -بحسب خطاب أميرها أبو بصير- في تحريضه للقبائل بالدفاع عن أنفسهم في مواجهة ما يعتبره من حملة الدولة عليهم "لإضعافهم وتفكيكهم وإخضاعهم وتركيعهم" أن هذه الحملة على القبائل تخدم حلف الناتو بقيادة أمريكا لتامين تحركاته في المنطقة.
فمن خلال قرار الحرب المتوقعة ربيع هذا العام – بسحب قرار الناتو- فإن منطقة الحرب بحاجة إلى تأمين أطرافها ومنطلقاتها، وحركة الجهاد العالمي تسعى أن لا تحقق لحلف الناتو أي استقرار في أي مكان في العالم؛ على رأس مناطق الاهتمام اليمن.
والسلطات المحلية في اليمن بتعاون دولي وإقليمي تسعى جاهدة أن تضبط الإيقاع بحيث يأمن الناتو حين يشن حربا على القراصنة، ويلاحقهم في أراض صومالية بعد إجازة مجلس الأمن له ذلك "بشن عمليات لملاحقة القراصنة حتى داخل الأراضي الصومالية" وشيخ شريف الرئيس الجديد أعلن تعاونه مع المجتمع الدولي.
وتقرأ القاعدة أن السلطة المركزية في صنعاء تسعى لتأمين هذه الحرب بحيث لا يصل إليها أذى من أي جهة كونها ملتزمة بقرارات وقوانين أمام المجتمع الدولي؛ سواء قبلية أو جهادية أو حتى قاعدية تنظيمية، وهذه نقاط القلق لدى التحالف الدولي لأنه يرى في الأطياف الإسلامية الأخرى أن ردة فعلها لن تتجاوز اللافتات في الميادين العامة وهو لا يرى ذلك مقلقا.
ربط المحلي بالإقليمي بالدولي في اليمن أصبح عنوانا لسياسات دول الناتو بقيادة أمريكا مع تنامي تواجدها في المنطقة بصورة جماعية ومكثفة في إطار إستراتيجية سيادية تؤمن منافذ وطرق وخلفيات حركتهم في العالم.
وهذا ما يحعل القاعدة تحرض باستمرار على استهداف السلطة المركزية لأنها تعتبرها أنها تخلت عن مسؤولياتها في حماية البلاد وأهلها مما تعتبره أخطارا خارجية وجعلت البلاد رهينة لقوى دولية وإقليمية، بالإضافة إلى اتفاقها مع المعارضة على أن السلطة المركزية بددت ثروات البلاد الداخلية وأفقدته ركائز التنمية.
بلا شك أن خلايا القاعدة لن تستسلم، ومن ورائها خلايا جهادية، ستزداد سخونتها مع أولى ضربات الناتو في المنطقة، وتكثيف الأساطيل الغربية المرابطة قبالة الشواطىء اليمنية تواجدها، وبالمقابل سترفع السلطات اليمنية من حدة المواجهة، مما يعطي مؤشرا بأن مستقبل تلك المنطقة الواقعة على أطول شريط ساحلي، وبالقرب من تمركز وتموضع القيادة الأمريكية وقيادة حلف الناتو؛ يتجه نحو المواجهة والتصعيد وليس الحسم والسيطرة.
منقول