تربي علي الموسيقي في أسرة بروتستنتية، ليثور علي الدين وسلطته القهرية، وكان مثله الأعلى للشخصية الدينية هو محمد (صلى الله عليه وسلم)، فرأى في النبي العربي تلك الحماسة الدينية وذلك الجهاد في سبيل التحرر من السلطة، وهو يرى أن خير ما في حياة النبي أنه لم يدّع سلطة دينية سخرها في مأرب ديني، ولم يحاول أن يسيطر على قول المؤمنين، ولا أن يحول بين المؤمن وربه، ولم يفرض على المسلمين أن يتخذوه وسيلة لله تعالى.
الفتي المتمرد
فعندما كان "برنارد شو" في التاسعة عشرة من عمره جاء إلي دبلن -عاصمة ايرلندا - بعض الدعاة الدينيين، وعقدوا اجتماعا دينياً حضره كثير من أهل المدينة، وعلقت الصحف عليه وأجمعت على أنه كان اجتماعاً ناجحاً، وأنه دليل على ما كان للشعور الديني من مكانة لدي الناس، ولكن الفتى برنارد شو يخرج على الناس بخطاب يحاول أن يحلل فيه العوامل التي دفعت الناس إلى هذا الاجتماع الديني، فهو يعزو الأمر جميعه إلى أسباب لا تمت إلى الدين بصلة!
وهو يرى أن الناس قد اجتمعوا لأن حبهم للاستطلاع دفعهم لرؤية هؤلاء الدعاة الدينيين، ولأنهم كانوا يريدون أن يروا العرض من دون أن يستمعوا إلى الوعظ الديني.
ونجد في المقابل إعجاب برنارد شوً بالنبي محمد (صلي الله عليه وسلم)، فقد كان يرى في حياة الجهاد التي عاشها النبي شبهاً بالحياة المثالية التي أراد هو نفسه أن يعيشها، وبلغ به الإعجاب أن حاول قبل سنة 1910م أن يكتب مسرحية عن "محمد".
وقد أراد أن يدعو إلي ذلك الفكر الذي أمن به من خلال عرض مسرحي، فما كان له إلا أن يصور بطله الديني في مسرحية عامة، ثم هو يعلم أيضاً أن المسرحية لا تكتب لتمثل فقط، بل لنشر آراءه الدينية من حيث الكفاح في سبيل حرية الرأي، ومن حيث الخلاص من التعصب الأعمى، ومن حيث التحرر من استبعاد السلطة، لقد أراد أن يكتب مسرحية "محمد" ليلقي بآرائه هذه في صعيد واحد.
ولكن حرصا علي رضا السفير التركي لدي بريطانيا في ذلك الوقت، فقد قامت الرقابة في البلاط الملكي برفض أن يمثل النبي العربي علي خشبة المسرح.
محمد في جان دارك
ولكن رغم منعه من نقل إعجابه عن طريق مسرحية (محمد) فإنه نقل تلك الأفكار عن طريق رائعته (جان دارك) التي كتبها بعد ذلك بعشرة أعوام، ففي هذه القصة حاول أن يصور الفتاة الفرنسية في صورة القديسة التي تؤمن بالوحي الإلهي، ثم أن يجعلها في موقف تدافع فيه عن الفكرة لا بلسانها فحسب، ولا بقلبها فقط، ولا بيدها لا غير، بل تدافع عنها بكل ذلك وبحد السيف أيضاً، والعلاقة واضحة بين اختياره موضوع النبي وبين اختيار موضوع جان دارك، وهي واضحة من الفقرات الكثيرة التي يتحدث فيها النبي في محاكمة جان دارك.
فنجد في "جان دارك" ذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم عدة مرات، وهذا رد (ورك) وهو نبيل انجليزي علي (كوشون)- وهو أسقف بوفيه الفرنسي-.
فيقول (ورك): "أنا رجل حرب لا رجل دين، وقد حججت إلى بيت الله المقدس، ورأيت بعضا من أتباع محمد، فلم أجدهم من سوء الأدب بالمكانة التي أفهمونيها قبلاً، بل وجدت لهم أدبا لا يقل من بعض الوجوه عن أدبنا".
ولم تظهر أراء برنارد شو سواء السياسية منها أو العقائدية في "جان دارك" فقط بل كانت كل مسرحية تعبر عن موقف ورأي يتبناه، ففي عام 1900 كتب مسرحية "تحول الكابتن براس باوند"، ثم هناك مسرحيته "الإنسان والإنسان الخارق" التي كتبها عام 1905 والتي يعتبرها النقاد من أفضل المسرحيات الكوميدية التي كتبت في القرن التاسع عشر وهي مسرحية تظهر تأثر شو بكل من داروين وبيرجسون، وغيرها العديد من المسرحيات.
المدارس كالسجون
ولد برنارد شو في دبلن في يوليو 1856، وكان أبوه موظفاً في أحدى المحاكم، ثم اشتغل بالتجارة، أما أمه فكانت ابنة لأحد ملاك الأراضي.
تلقى شو مبادئ التعليم الأولى على يد قريب له كان قسيسا بروتستانتيا، ثم دخل إحدى المدارس الدينية في سن العاشرة، ولكنه تركها إلى مدرسة ثانية، ثم إلى ثالثة، ليكتشف انه عاجز عن تعلم أي شيء لا يروقه، فاتجه إلى القراءة بشكل مكثف، وقد كان رأيه عن المدارس إنها: " ليست سوى سجون ومعتقلات"، لذا فهو لم يتعلم من المدارس.
وقد أحب شو الرسم، لكنه اكتشف أنه لا يملك موهبته، فاكتفى بزيارات لقاعات المتحف القومي الايرلندي، وفي سن الخامسة عشرة، أصبح شو على قدر كبير من النضج ومن الثقافة التي اكتسبها بمجهوده الخاص، وحين بلغ الثالثة والعشرين، قرر أن يشتغل بكتابة الروايات، ووضع لنفسه برنامجا يقضي بأن يكتب خمس صفحات يوميا على الأقل، وألزم نفسه بتنفيذ هذا البرنامج، فألّف خمس روايات في أربع سنوات.
وقد كان برنارد شو يعتمد في إعالة نفسه على أمه وبعض الكتابات الصحفية من نقد فني وموسيقى وعرض للكتب في الصحف والمجلات .
كان شو خجولا بطبيعته، ولكنه تعلم في جمعيات المناظرة التي كان يتردد عليها، كيف يتغلب على خجله، فقد كان يوجه للخطيب أو المتحدث، أسئلة لم يكن يتوقعها، وظل اثنتي عشرة سنة يتحدث في (الجمعية الفابية) بلا مقابل، بمعدل ثلاث مرات في الأسبوع، وكان بعض أحاديثه ومحاضراته، تتم على قارعة الطريق.
وفي العقد الثالث من عمره تخللت حياته بعض العلاقات مع عدة نساء، إلا أنه عزم حين بلغ الثالثة والأربعين من عمره أن يعيش مع رفيقة عمره وهي "تشارلوت بيتاونشيد" فتزوجها عام1898، ولكن دون ممارسة الحب ودون إنجاب، وهي امرأة أيرلندية كان قد التقي بها في أجواء الفابيين، وقد شاعت أيضا أقاول حول محبة شو للممثلة "باتريك كامبل".
نوبل من أجل الشعب
وقد عرض على شو أكثر من مرة أن يرشح نفسه لعضوية مجلس العموم البريطاني، ولكنه كان يرفض، وظل يقاوم طيلة حياته كل محاولات التكريم وكان يعتبر كل عرض يتلقاه من احدي الجامعات لمنحه الدكتوراه الفخرية أو لتقليده وساما، اعتداء على استقلاليته، وقد تردد كثيرا في قبول جائزة نوبل، حين عرضت عليه عام 1925، ولكنه قبلها وقال: "إن وطني ايرلندا سيقبل هذه الجائزة بسرور، ولكنني لا أستطيع قبول قيمتها المادية، إن هذا طوق نجاة يلقى به إلى رجل وصل فعلا إلى بر الأمان، ولم يعد عليه من خطر"، وتبرع بقيمة الجائزة لتأسيس منشأة تشجع نشر أعمال كبار مؤلفي بلاد الشمال إلى اللغة الانجليزية.
شو .. المرح الساخر
وقد كان شو مرحاً بطبيعته، وقد عرف كيف يستغل هذه الطبيعة في بث أفكاره، وقد اكتشف أن الإنسان إذا أنت أضحكته، يكون مستعدا لقبول كل ما تقوله، حتى إذا كان يختلف معك، ..وعندما كان صديقاً حميماً لونستون تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا، وكان الأخير يحب النكتة ويسعى لبرنارد شو ليداعبه، قال له تشرشل(وكان ضخم الجثة): "أن من يراك يا أخي برنارد (وكان نحيل الجسم جداً) يظن أن بلادنا تعاني أزمة اقتصادية حادة، أزمة جوع خانقة". فأجابه برناردشو على الفور: "ومن يراك أنت يا صاحبي يدرك رأساً سبب الأزمة".
وكان شو يرى أن الفقر هو عدو الإنسانية الأكبر، وأنه أصل جميع ما في العالم من جهل ومرض وشرور.
وقد سخر من بريطانيا التي كانت تسمي نفسها (بريطانيا العظمى) حيث لم يعترف بعظمتها، ولا بشيء مما قاله الشعراء والكتّاب عنها، ويضحك من كل ذلك، ويتنبأ لها بأفول نجمها يوم تصحو المستعمرات من سباتها، وكان مسرحه مدرسة يتلقى فيها عامة الناس ثقافة مبسطة تتناول معظم ميادين المعرفة.