الأشهر الحرم مدرسة الاستقامة!!
في مدرسة الأشهر الحرم التي لا يعظمها إلا أصحاب القلوب التقية كما قال تعالى: (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)، يتربى العبد على حفظ نفسه التي زكاها في رمضان بالطاعات والمسارعة إلى الخيرات، من الوقوع فيما يدنسها، فيظلمها صاحبها بالتفريط في جنب الله تعالى، وأي ظلم للنفس أعظم من أن يأخذها صاحبها بالجد والصبر والمثابرة شهراً كاملاً حتى يضعها على جادة الطريق ثم يرديها بعد ذلك إلى هاوية المعصية، وظلمة الخطيئة، وضياع السبيل؟! فيكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً. إن من رحمة الله تعالى بنا ومن تمام فضله علينا أن شرع هذه الأشهر الحرم فعظمها، وأمرنا بتعظيمها، وجعل ذلك من الدين القيم، وحرم علينا ظلم النفس فيها قال تعالى: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين) «التوبة: 36». وعن أبي بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجته فقال: «ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادي وشعبان» أخرجه الشيخان وأحمد. فقوله تعالى: «ذلك الدين القيم» أي هذا هو الشرع المستقيم، من امتثال أمر الله فيما جعل من الأشهر الحرم، والحذور بها على ما سبق في كتاب الله الأول وقوله: «فلا تظلموا فيهن أنفسكم» قال ابن عباس قوله
((فلا تظلموا فيهن أنفسكم))
في كلهن، ثم اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حراما، وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم. وقال قتادة: إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزراً، من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء، وقال: إن الله اصطفى صفايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسلاً، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر، فعظموا ما عظم الله، فإنما تعظم الأمور بما عظمها الله به عند أهل الفهم والعقل. قد لا يتعذر على الكثير منا فعل الطاعات وعمل المستحبات، ولكن يشق على الكثير ترك المنهبات والابتعاد عن المحرمات! الأمر الذي جعل العبد في حاجة إلى أمرين حتى يستطيع مجاهدة نفسه على ترك الذنوب والمعاصي التي تعلق بها قلبه وأشرب حبها، واعتاد ممارستها.أولاً: زمان طويل كافٍ ومحدد يتسنى للعبد فيه مجاهدة نفسه من جهة، ثم الالتزام بهذه المجاهدة من جهة أخرى كي لا يقع في مزلق التسويفثانياً: ضابط قوي يردعه عن ظلم نفسه، ويلزمه مباشرة الطاعاتوذلك كله متحقق في هذا التوجيه الإلهي إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين) «التوبة: 36». أما الشرط الأول: وهو حاجة العبد لوقت طويل ليربي نفسه على عادة ترك ظلم النفس فإنه متحقق في الأشهر الحرم التي شرعها المولى عز وجل وجعل الدين القويم في تعظيمها، وامتثال أمر الله تعالى فيها، وهذا أمر جعل منذ بدء الخليقة.. فمن اتقى الله تعالى في هذه الأشهر فاجتنب ظلم نفسه بالمعاصي والمخالفات الشرعية، وعمر زمانه بما ينفعه بالعمل الصالح فإن الجد سيكون له عادة، والتقلب في ألوان الطاعات يصبح له سلوكاً، والبعد عن الأخلاق السيئة، والصفات المذمومة سينقلب سجية لنفسه، كما أن استثمار الوقت سيصير منهجاً واضحاً في حياته، ومن ذاق حلاوة الطاعة وتنعم بها لا يعود في الغالب إلى سالف عهده. أما الشرط الثاني: وهو قوة الضابط الرادع عن التفريط في حرمة هذه الأشهر يتمثل في نهي الله تعالى عن ظلم النفس في هذه الأشهر فالذنب فيها ليس كالذنب في غيرها، كما أن العمل الصالح فيها ليس كالعمل في غيرها. قال ابن كثير: أي: في هذه الأشهر المحرمة، لأنه آكد وأبلغ من الإثم في غيرها، كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف، وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام، ولهذا تغلظ فيه الدية في مذهب الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء، وكذا في حق من قتل في الحرم أو قتل ذا محرم. ومن عظم رحمة الله تعالى بعباده أن شرع لهم في هذه الأشهر أعظم الأعمال التي تعين العبد على الاستقامة، وعلى تعظيم هذه الأوقات، ففي هذه الأشهر تؤدى فريضة الحج، وفيها أيام عشر ذي الحجة، ويوم عرفة، ويوم عيد الأضحى، وفيها أيام التشريق، ويوم عاشوراء، ولا يخفى فضائل هذه الأعمال، وأثرها في استقامة العبد.. فكل عمل منها كفيل بإصلاح الأمة بكاملها، فكيف حين تجتمع كلها في عبد وتوافق قبولاً من المعبود سبحانه وتعالى؟! فحري بنا معرفة فضائل هذه الأشهر، وإعطائها قدرها من التعظيم والإجلال أشد مما كان عليه العرب في جاهليتهم من تعظيم هذه الأشهر حتى إنهم يقعدون عن القتال والترحال فلو أن أحدهم قابل قاتل أبيه فإنه لا يقتله تعظيماً لحرمتها.
د. وفاء الزعاقي
قسم الثقافة الإسلامية