من قديمي الجديد أتمنى أن يعجبكم
كانت إحدى زميلاتي تنعي لي أحد أقاربها وتذكر لي محاسنه وختمت حديثها بجملة غريبة ظننت حينها أني لم أسمع جيداً حيث قالت: "كان رحمه الله غبياً لا يرفض طلب أي شخص، فلا يعرف كلمة لا!!"، ففهمت من كلامها أن مد يد العون للآخرين أصبح غباء!!..
حللت جملتها في نفسي وقلبتها يميناً وشمالاً في داخلي وقارنت بين ما أفرزه عصرنا وعصر الدولة الأموية عندما امتدح الشاعر الفرزدق زين العابدين بقوله:
ما قال (لا) قط إلا في تشهده
لولا التشهد كانت لاؤه نعم
فشتان بين وجهة نظر محدثتي التي تمثل زماننا ووجهة نظر الفرزدق الذي يمثل عصر العطاء والقيم والثوابت، حيث نظر شاعرنا لهذه الصفة التي وصف بها ممدوحه أنها تمثل النبل والعظمة. وكلماتي هنا لا تعني أن نقول نعم على الاطلاق، ولكن "نعم" في الموقع الصحيح دون المساس بالذات فإن كانت (نعم) في موضع فيه انقاص للذات أو إهانة لها فمرحباً بكلمة لا، لأن هناك مواقف لا بد أن يظهر فيها الجانب القوي وأن يعلو صوت لا.. فالموازنة مطلوبة ولكن كما قال الشاعر:
وإني لحلوّ تعتريني مرارة
وإني لتَرَّاكٌ لِمَا لَم أُعوَّدِ
ولكن لماذا تقاعس من معظم الناس عن البذل والعطاء في أبسط الأمور وأسهلها؟ لماذا أصبحت القاعدة هي الشح والجحود وعدم الاكتراث والاستثناء هو العطاء والجود، حتى أنك تجد من يجزل لك الثناء والشكر على أدائك لواجبك تجاهه وكأنك متفضل عليه لأن الشائع الآن هو التقاعس عن أداء الواجب وليس فقط التهاون في مد يد المعونة وهذا ما نلحظه في الأماكن العامة والمرافق الحكومية حيث يراك من حولك تسير في المكان الخاطئ، ولا تجد المبادرة لأن يدلك أحد على المكان الصحيح وان استفسرت تجد إجابة بصوت رفيع وكأنك تلقي بأثقال على ظهره.. فلماذا اندثرت الفزعة والنخوة (بلهجة آبائنا وأجدادنا) ولماذا اتسعت شريحة المتمحورين حول ذواتهم؟!
لن أنسى ذلك الموقف الذي حدث معي في غرفة الانتظار لصرف الدواء من صيدلية أحد المستشفيات، حيث كان صرف الدواء بالأرقام وكل واحدة منا تعرف دورها بمجرد ظهور الرقم على الشاشة التي تتوسط الغرفة وعند انتهائي من دوري قابلت امرأة مسنة تريد أن تعرف متى دورها، فقرأت لها الرقم، فردَّت كيف لي أن أعرف دوري فأنا لا أعرف القراءة، عندها سألت بصوت مسموع عن المرأة صاحبة الرقم الذي يسبقها حتي أجلسها بجانبها ولم أجد إجابة فظننت أنها غير موجودة ولكن شاء الله أن أرى الرقم يترنح في يد إحدى الأخوات ورغم امتعاضي من تصرفها لعدم إفصاحها عن الرقم (الأمر الذي لم يكن يشكل عبئاً عليها لو أجابت) إلا أنني قلت للمرأة المسنة اجلسي بجوار هذه المرأة وبمجرد أن تصرف الدواد فأنت لك الدور فتمتمت ببضع دعوات لي .. فلو نظرت تلك المرأة من زاوية صاحبة الحاجة لبادرت بمد يد العون قبل أن أبحث عنها فأين هي مما أوصانا به نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم (المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص)!
يجهل الكثير أن السعي في قضاء حوائج الآخرين هو باب من أبواب المروءة والجري في خدمة الناس هي متعة نفسية، التعب فيها له لذة، هذه اللذة لو استشعرها الجميع لتسابقوا على أداء المعروف. فعلينا ألا نستصغر أي معروف فصغير الأعمال ككبيرها وما نراه صغيراً قد يكون عظيماً في عيون صاحب الحاجة. ولنسمو في العطاء بحيث نكون مبادرين وليكن عطاؤنا لوجه الله دون انتظار المقابل أو حتى كلمة شكر وامتنان وفي هذا توطين للنفس بأنه لو حدث جحود فقافلة العطاء لا بد أن تسير ولنمحو من قاموسنا المثل الدارج (ما يخدم بخيل!!).
ورغم جمال كلمات الشاعر حين قال:
مررت على المروءة وهي تبكي
فقلت علام تنتحب الفتاة
فقالت كيف لا أبكى وأهلي
جميعاً دون خلق الله ماتوا
التي تصور شيئاً من الواقع، إلا أنني لست مع الشاعر في نظرته التشاؤمية فوجود هذه النماذج لا يجعلنا نصاب بالإحباط لأن هناك قناديل مضيئة من حولنا مازالت تعتز بقيمنا وثوابتها وتتمسك بها رغم طغيان المادة على الأحاسيس وغمرتنا بعطائها المميز، ولكن ما كتبته هنا هي قطرات لعلها تحيي جدب وجفاف بعض القلوب لنظل خير أمة أُخرجت للناس.