تعليق: د. سـامـح عبـاس
[email protected]
<!--[if !supportEmptyParas]--> <!--[endif]-->
مفكرة الإسلام: على الرغم من الاعتداء الصهيوني الغاشم على أسطول الحرية لكسر الحصار المفروض على قطاع غزة منذ أكثر من ثلاث سنوات ، وعدم وصوله لسواحل غزة الباسلة، لكنه نجح فى كسر الصمت الدولي حيال ممارسات إسرائيل الوحشية وحيال هذا الحصار الظالم، وشق فى طريقه بارقة أمل لبشائر رفع الحصار عن غزة.
فالتحركات الدولية المكثفة فى جميع أنحاء العالم الداعية لرفع هذا الحصار، تبعتها تحركات فى الداخل الإسرائيلي تنادي وتدعو برفعه فوراً حتى لا يخنق الإسرائيليون أنفسهم بهذا الحصار قبل أن يخنقوا به أهل غزة المحاصرين . فقد أدرك الصهاينة بعد مرور سنوات عجاف من الحصار المُحكم لنحو أكثر من مليون ونصف المليون نسمة تخللتها حرب وحشية واعتداء آثم استمرت لأكثر من خمسة وثلاثين يوماً بهدف النيل من عزيمة الشعب الفلسطيني فى قطاع غزة وكسر إرادته السياسية وإصراره على المقاومة، وإسقاط نظام حركة حماس فى القطاع وإعادته على طبق من فضة لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس "أبو مازن" بعد أن طُرد أنصاره أمثال محمد دحلان وأشباهه مدحورين من القطاع عام 2007 بأن هذا الحصار سيكون حبل مشنقتهم، وسيخنقهم ويصبحون المسجونين، بدلاً من أن يكونوا السجانين.
فدائما الاسرائيليون يحسبون المواقف السياسية على المستويين الدولي والاقليمي من أجل الخروج بأفضل النتائج لصالحهم، وبعد الاعتداء على أسطول الحرية انقلبت جميع الأوراق الإسرائيلية، وتحول الحديث فى الاعلام الصهيوني بكافة أشكاله إلى الحديث عن الحصار المفروض على غزة وضرورة وضع نهاية له لأن استمراره سيعني المزيد من الخسائر الصهيونية على المستويين الدولي والإقليمي؛ والخسائر الفادحة التى تكبدتها اسرائيل عقب الاعتداء على أسطول الحرية هو الذي دفعها نحو الحديث عن رفع الحصار، ولوقف سيل الخسائر التى سوف تتحملها مستقبلاً. وهذا ما أكدته صحيفة هاآرتس العبرية فى إحدى تقاريرها التى اعترفت فيها بأن حكومة نتنياهو والتخطيط الفاشل فى مواجهة سفن أسطول الحرية وضعت اسرائيل داخل حصاراً دولياً، بينما الحصار الذى فرضته على قطاع غزة يتفكك رويدا رويداً، وأن المجتمع الدولى الذي يطالب بالتحقيق فى أحداث أسطول الحرية، يوجه انتقادات لاذعة للحصار الذى تفرضه اسرائيل على مليون ونصف مليون من سكان غزة . وحسب الصحيفة العبرية فإن الوضع تدهور بشدة لحد طالبت فيه حكومات صديقة لتل أبيب كالولايات المتحدة وفرنسا برفع القيود المفروضة على نقل البضائع والمواد الخام للاستخدامات المدنية. ودعت الصحيفة فى تقريرها نتنياهو إلى المسارعة لرفع الحصار المدنى عن غزة ، ورغم أنها خطوة غير كافية، لكنها ضرورية من أجل انقاذ إسرائيل من الحصار الدولى الذى يعد بمثابة مصيبة استراتيجية بالنسبة لها على حد وصف الصحيفة العبرية .
سيناريو رفع الحصار
ولعل بشائر رفع الحصار عن غزة بدت واضحة فى تقرير لكبير المعلقين السياسيين بصحيفة يديعوت أحرونوت العبرية وهو درور زئيفي الذى أكد أن نتنياهو ألمح عدة مرات مؤخراً لقرب رفع الحصار عن غزة؛ بعدما أدرك أن تلك القصة أوشكت على الانتهاء ، وأن ورقة الحصار لم تعد مجدية بالنسبة لتل أبيب وغير مؤثرة على الفلسطينيين فى قطاع غزة. ووضع درور سيناريو خبيث لكي تخرج تل أبيب بأعلى نسبة من المكاسب من الحصار الغاشم الذى فرضته على قطاع غزة، وبشكل يجنبها التعرض لأية إملاءات أو ضغوط من قبل المجتمع الدولي . وطبقا لهذا السيناريو تدعو تل أبيب لعقد مؤتمر دولى تشارك فيه الولايات المتحدة، وأعضاء اللجنة الرباعية الدولية وتركيا ومصر. والمشاركة التركية فى هذا المؤتمر ستكون حيوية بسبب نفوذها المتعاظم على حركة حماس وعلى الشرق الاوسط بشكل عام. أما مشاركة مصر فستكون مهمة كون لها حدود مشتركة مع غزة ولان مصلحتها متماثلة مع المصلحة الاسرائيلية، على حد زعم درور. أما الولايات المتحدة – وطبقاً للسيناريو الاسرائيلي- فستشارك فى المؤتمر كوسيط وكضامن للاتفاق. المبادرون الى المؤتمر سيدعون ايضا حكم حماس للمشاركة فيه، وأن هذا المؤتمر من الضروري عقده حتى لو رفض خالد مشعل واسماعيل هنية تلك المبادرة.
وحسب السيناريو فسوف تعلن إسرائيل إدعائها خلال المؤتمر بأنه ليست لديها أي نية لتجويع سكان القطاع أو المس بهم. وأنها ستطلب فقط منع ادخال السلاح الى حماس وتعلن عن استعدادها لرفع الحصار، اذا ما تم تلبية هذا الشرط بشكل مرض. ومع ذلك شدد درور على عدم ضرورة الربط بين هذا الموضوع وبين مسألة الإفراج عن الجندي الصهيوني الأسير لدى حركة حماس جـلعاد شليط، خاصة بعد وجود تحركات فى الآونة الاخيرة بشأن الإفراج عنه وتردد أحاديث فى الاعلام الاسرائيلي تشير إلى أن رفع الحصار عن غزة ربما يكون ضمن صفقة الإفراج عن شاليط .
خريطة شرق أوسطية جديدة
لكن يبدو أن مسألة رفع الحصارعن قطاع غزة لن تسير بالضبط حسب السيناريو الاسرائيلي الذي وضعه المحلل الاستراتيجي الصهيوني درور زئيفي، لأنه وببساطة لن يحقق كافة الأهداف التى وضعهتا تل أبيب لتحقيقها من وراء فرض الحصار، خاصة فى ظل حدوث تغيير فى الخريطة الجيوسياسية بمنطقة الشرق الأوسط بعد التدخل التركي المكثف فى القضية الفلسطينية، وتبلور ما يسمى بمحور إيران – تركيا- سوريا، فى مقابل تراجع الدور المصري وتفاقم الخلافات "العلنية" بين القاهرة وحركة حماس. إلى جانب إحتدام الصراع الخفى بين مصر واسرائيل حول إلقاء المسئولية عن قطاع غزة على كاهل أحد الطرفين.
وقبل تحليل ملامح الخريطة الجديدة للشرق الأوسط، حري بنا أن نشير إلى أن إسرائيل وضعت لنفسها هدفان معلنان للحصار الغاشم الذى فرضته على قطاع غزة حسبما ذكرت صحيفة هاآرتس العبرية : الأول هدف أمني فوري ومباشر ؛ وهو منع أو تقليص إدخال الاسلحة، والوسائل القتالية، والمواد المتفجرة ومواد البناء اللازمة لاقامة التحصينات. والهدف الثاني، هدف سياسي في جوهره، وهو محاولة الإضرار باقتصاد غزة بهدف التقليل من القوة السياسية لحماس من خلال إضعاف التأييد الجماهيري والشعبي لها. حيث ترى تل أبيب أن الضغط الاقتصادي هو وسيلة سيئة وقاسية، ونجاحها غير مضمون، لكنها أفضل من الحرب والقتل. ومع ذلك مارست تل أبيب الوسيلتين معاً بأبشع صورها ضد قطاع غزة وسكانه : الحصار المجحف والحرب المدمرة.
مأزق حصار غزة
لكن وبعد مرور أكثرمن ثلاث سنوات على الحصار الغاشم بات واضحاً وبشكل قاطع فشل إسرائيل فى تحقيق أي من أهدافها التى كانت تأملها من وراء حصار غزة، فالأسلحة والعتاد العسكري وجدت طريقها إلى غزة والمقاومة الفلسطينية بشتى الطرق، وربما لم يحدث التقليص فى كميات الأسلحة التى تدخل للقطاع بالشكل الذى كانت تتمناه تل أبيب. أما الضغط الاقتصادي فقد كان الورقة الرابحة لتزايد شعبية حركة حماس فى داخل القطاع وخارجة، ولم يحدث ما كانت تخطط له إسرائيل من إسقاطها بواسطة الشعب الفلسطيني، وهنا يصدق قول الله تعالى عز وجل: }وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ{ (سورة الأنفال: الآية30).
وحالياً يخطط قادة تل أبيب لعدم الخروج من مأزق حصار غزة بخفي حنين، وربما يكون ثمن ذلك هو تحسين علاقاتها مع أنقرة – حيلفتها الاسلامية الكبرى سابقاً- بعد تدهورها بشدة؛ إلى جانب ذلك ستسعى إسرائيل وبواسطة آلتها الإعلامية لتخويف الدول العربية، خاصة مصر ، من تعاظم الدور الأقليمي التركي بصبغته الدينية الإسلامية، على غرار ما فعلته مع إيران. كما ستسعى إسرائيل فى الفترة القادمة، وطبقا للخريطة الجيوسياسية الجديدة بمنطقة الشرق الأوسط إلى التهويل من المحور التركي-الايراني- السوري وتصويره على إنه محور شر جديد حري بالدول العربية ، خاصة البرجماتية منها أن تخشاه .
صراع القاهرة وتل أبيب
أما الصراع بين القاهرة وتل أبيب حول المسئولية عن قطاع غزة فهو يحمل أبعاد سياسية خطيرة، ظهرت ملامحه مع إعلان وزير المواصلات الصهيوني إسرائيل كاتس خطة لغلق المعابر التجارية بين قطاع غزة وإسرائيل، وتحويل كافة البضائع عبر منفذ رفح الحدودي بين مصر وغزة، وأن تكون مصر مسئولة بتوفير الامدادت والاحتياجات اليومية للقطاع من نفط وكهرباء ومياه. وهى الخطة التى تهدف فى المقام الأول إلى تنفيذ المخطط الصهيوني القديم بشأن توطين الفلسطينيين فى سيناء ، وجعلها وطناً بديلاً للفسطينيين مع مرور الأيام. كما أن هذا المخطط يهدف إلى الوقيعة بين مصر والفلسطينيين، وتأجيج الاحتقان بين قيادات حماس والإدارة المصرية، بالزعم أن مصر لا تريد تحمل مسئولية قطاع غزة، وأنها هى التى تقوم بتشديد الحصار على غزة وليس إسرائيل لأنها تمنع دخول البضائع والمساعدات له. لكن الإدارة المصرية تدرك تماماً أبعاد المخطط الإسرائيلي، ولازالت متمسكة بموقفها بضرورة أن تكون إسرائيل هى المسئولة بإمداد القطاع بكافة احتياجاته الانسانية، لأنها مازالت دولة إحتلال رغم خروجها من القطاع، وعلى ضوء ذلك من المتوقع أن تشهد الفترة القادمة تصادماً دبلوماسياً بين القاهرة وتل أبيب بسبب قطاع غزة، وأنه قد يزداد حدة فى حال التدخل الأمريكي بالضغط على مصر لقبول المخطط الإسرائيلي، حينها ستزداد الضغوط الداخلية لمطالبة الإدارة المصرية باتخاذ موقف حازم وصارم تجاه اسرائيل على غرار الموقف التركي. فهل من الممكن أن تتحول بشائر رفع الحصار عن غزة إلى نُذُر حرب جديدة ؟ .