الحرف التاسع والعشرون

عندما تنعطب قوانين العالم في خلدك .. وتجد أنه لا جدوى من محاولة إقناع أي أحدٍ بأي شيءٍ .. لا بالحسنى ولا ((بالتي هي أحسن)) ;

ثم تجد طفلاً ما يصرخ داخلك وثكلى تجيبه بالعويل وتتسارع ترددات ذلك مع تسارع نبض أفكارك .. حتى يتلفك من الداخل عنف الصرخات الذي لا يُجدي معه جعلُ الأصابع في الآذان .. وبعد ذلك تظهرُ للغير بمظهر الأخرس و المَهينٌ الذي لا يكاد يــُبــِين ..

فتشعر أنك سجنٌ متنقل يمشي على الأرض .. أو أنك أرضُ صالةِ أفراح ٍ تدوسها أرجلُ أناس ٍ بحفلة زفاف يتكلم فيها الجميع ولا أحد يسمع .. ويغني فيها الجميع ولا أحد ينطرب ..

وعامة الحضور ظرفاء إلى درجة السخف .. يتكلمون في كلِّ شيءٍ .. وفي أي شيءٍ .. المهم أن يتكلموا .. وأغلب كلامهم .. فلسفة مزاجية .. وردود سطحية .. وشكراً .. وعفواً .. ومشكوووووووووووور .. ويسلمو .. وشعارات .. وتواقيع .. وبــكاءٌ مع شجن أو بدونه .. وعواطف صادقة وبعضها "مشلخة" .. وانطباعاتٌ تترجَم فيها أكبر الأكاذيب بأصدق الإصرار والتصميم -وآمل ألا نراها مدونة في صحائفنا يوم القيامة وألا تشهد علينا يومها - ..

ثمَّ يمضي الجميع بروتينهم المعتاد .. ودبكتهم المفضلة .. والكلُّ يبحث عن شيءٍ ما .. كان وما زال وسيظلُّ يبحث .. يريد بيتاً خيراً من بيته .. وداراً خيراً من داره .. وضيعة خيراً من ضيعته .. وغربة خيراً من غربته .. يريد ويريد .. ويطمع بالمزيد ..

وفي صدر المحفل شخصيات بارزةِ الكرش ِالفكري .. يلبسون البدلات والكرافيتات .. ويجلسون في الصدر بمقابل العرسان على سرر مرفوعة وزرابي مبثوثة .. يتكلمون بشكل واحد ونمط واحد .. يعتقد أحدهم أنه كلما جلــَّسَ ربطة عنقه بيده أثناء حديثه أكثر .. كان الحق في كلامه أشدَّ وأكثر ..

ثمَّ يخرج أبرزهم ((كرشاً فكرياً)) ويقول .. ((الحمد لله والثناء عليَّ .. أما بعد أيها الناس اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد .. فإن الحق ما أقول .. والهرطقة ما يقولون ..))

وقبل أن يتابع كلامه .. تنصبُّ مجدداً عليه عبارات ال "شكراً .. ويسلمو .. وصح لسانه .. وبارك الله )) .. معلنة أنهم قد أخذوا مناسكهم عنه .. ومدعية فرط الأدب معه بكل "أدب" ..

لكن رجلاً من الخلف يكتم امتعاضه من المحفل هذا يصيح بعد أن تنفجر حويصلته .. فيقول (اتبعوا من لا يجتهد أن يظل حذاءه أعلى من نواصيكم ))..

فيتفل عليه المحتفلون والراقصون جميعاً في صف واحد مرصوص .. أن لعنة الله عليك أيها الصوص .. من أنت أمام فقيهنا هذا الفطحل ..

أما فريق كبار العارفين المتمركزين في صدر المجلس .. فيلتزمون الصمت كعادتهم .. وكأن الرجل الذي تحدَّث -غير آنف - زائدة ً دودية على يمين أمعائهم الغليظة وُجدت لتكون حرفاً ساقطاً ..

لينطوي ذلك الحرف على نفسه فينحر ذاته بذاته .. وينسدح على رصيف كل مسألة .. وهامش كلِّ سطر ..

وللهوامش كالأشجار أرواح ..