في عالمنا العربي ( الثالث ) , تعوّدنا - كسلوك اجتماعي عام - أن لا نضع الحلول الإحترازية إلاّ بعد جمع أشلاء الضحايا ( أي بعد وقوع الكارثة ) , و قد تكون الكارثة موت شخص أو عدة أشخاص أو عائلة على طريق سريع كان كل ذنبهم الذي ارتكبوه هو تصديقهم اللوح الإرشادية و ثقتهم بأن الطريق السريع الذي يسيرون عليه يحترم قواعد الأمن و السلامة التي تمس بشكل مباشر حياة المسافرين عليه ... أشلاء الضحايا ما زالت تتطاير و عجلة الهلاك مازالت تدور و لا نظن أنها ستتوقف في ظل وجود مقاولين مستهترين و تجار جشعين و غير مبالين , و مجتمع غير مكترث بهذا الإستهتار بحياة أبناءه .
و آخر صور هذا الإستهتار التي وقفت عليها بنفسي موجودة في شرما على الطريق السريع , و هي صورة استهتار أقرب إلى الكوميديا المضحكة و المحزنة في نفس الوقت , فقد حوّل أحد تجار الإسمنت اتجاه لوحة ارشادية على الطريق السريع و جعلها تشير إلى اليمين صوب محلّه و كتب عليها عبارة ( إسمنت ) في حين أنها كانت تشير إلى الإتجاه المعاكس حيث ينحرف مسار الطريق يساراً و ذلك لوجود أعمال جسر لوادٍ يقطع الطريق , و لو اتجهت أي سيارة لليمين حسب وضع اللوحة الحالى لسقطت من مسافة ثلاثة أمتار أو إصطدمت في الصبات المحمولة , و قد صوّرت اللوحة , و أعضاء المنتدى من أهل شرما لا شك أنهم رأوها ( و هي تقع مباشرة شمال تقاطع طريق تبوك مع الخط السريع باتجاه الخريبة ) , و كنت قد شاهدتها قبل عدّة أشهر و أتصلت وقتها برقم الطوارئ و الذي طلب مني إبلاغ مخفر الشرطة فأبلغتهم و وعدوا بإزالتها و محاسبة صاحب محل الإسمنت إلاّ أني في اليوم التالي وجدتها على وضعها فذهبت للمخفر بنفسي و هو لا يبعد عن اللوحة أكثر من كيلو متر واحد إلاّ أني لم أجد إلاّ الوعود و خلال إجازة العيد الفائتة فوجئت أنها مازالت على وضعها , و قال لي أحد الأصدقاء ضاحكاً : إنها لم تسبب حادثاً برغم مرور عدة أشهر فدع التاجر يسترزق فقلت له : إن ذلك يضيف على هذا التاجر جرماً أكبر فهو أقدم على عمل هدد حياة الناس لأشهر عدة و ليس لأيام قليلة و لكن لا غرابة يا صاحبي في الأمر , فحياة الإنسان عند مجتمعنا ليس لها أي أهمية قبل موته و جمع أشلائه, و هي عند هذا التاجر أرخص من الـ 12 ريال قيمة كيس اسمنت يشتريه شخص دلّته على محله لوحة إرشادية مضللة ..
في شرما .. حياة الإنسان أرخص من كيس الإسمنت
العرض المتطور
