يا صاحباتي وأصحابي، القراء والقارئات... اعذروا حالة ارتباكي...
أنا مؤمن جداً أن الحياة، بلا أمهات، رخيصة، مقيتة، بسيطة حد التفاهة، لا تصلنا بماضٍ، ولا تقدمنا إلى مستقبل، ولا تعلمنا التؤدة والاستعداد، والجاهزية لمواجهة الصعاب، وبها نتخلى عن القدرة على الغرف من التراث والمعرفة والقدرة...
بالأمس، فجعتُ بالمرض الخبيث، يجتاح، لمرة ثالثة، أمي، وسيدتي؛ حلوة اللبن، وجميلة التربية، مولاتي، وحبيبتي وقدوتي: مزنة المحمد العطيشان... من جديد!
إنها بحاجة جديدة إلى المزيد من الكيماوي اللعين الذي أحال يديها الطاهرتين البيضاويتين إلى يدين سوداويتين خشنتين محترقتين من أثر الكيموثربي!
أي خبر يمكن أن يجتاح كيانك فيحيلك من السكون إلى الاضطراب، ومن الهدوء والدعة إلى الصخب والضجيج الداخلي، غير ذاك الذي ينقل لك أن خير الناس إليك؛ أمك؛ حُظنك، ومستودعكَ، ومستنفد سرك، ونزقك، وجهلك، وعقلك... تحتاج جرعات متواصلة ومؤلمة من الكيموثربي؟
الصدمة تستحق البكاء، والأنين، والألم، والتلعثم يا قوم... فسامحوني، فأمي لم تكن لي أماً فقط، بل أم وأب وأخت وصديقة، وسياقات مرضها تخيفني، وتزلزلني، فألهج إلى الله بالدعاء، اللهم سلّم سلّم...
كانت أمي لي أماً وأباً، بل أخ وأخت وصديق وصديقة، يوم كان أبي في سياقات الطفرة مشغولاً بالسفر المتواصل، من أجل بناء شيء لنا!
علمتني أمي كيف يمكن أن أتعامل مع المرأة، باحترام وتقدير وإجلال.
بيني وبينها أقل من سبعة عشر عاماً، فاستثمرت هذا الفارق، وجعلتني صديقاً قبل أن أكون ابناً، تُحدثني وأحدثها، تستشيرني واستشيرها، علمتني أن أختلف معها بأدب، إذا كان لخلافي مبرر منطقي.
أذكر أنها ذهبت معي بعباءتها وشيلتها ودخلت معهد العاصمة النموذجي، لتسجلني للصف الأول. عندما سألها المدير عن أبي، قالت: أنا أبوه وأمه وأهله وذريته. سكت المدير برهة، فقالت له: هل عندك شك؟ فرد على الفور: أبداً. عندما كنت أرى التلاميذ مع آبائهم، اعتراني شيء من الألم لأني الوحيد الذي جاء برفقة والدته، لكني بعد حديثها مع المدير أحسست أني أكثرهم تميزاً.
أنا مضطرب الآن، منساق في أجواء الارتباك، فتحملوني من أجل حلوة اللبن، جميلة التوجيه، سديدة الرأي، دافئة الصدر.... من أجل أمي وكفى!
لو كانت الحياة توهب من القليل للعظيم، لوهبت حياتي، لأم تركي.
عندما بلغني الخبر السيء قبل يومين، ذهبت لغرفتي مبكراً وأنا في غاية التأثر، أردت أن أفرغ ألمي في البكاء، فما استطعت، تخيلتها تخاطبني، قائلة: انكسارك كسر لي، فلا تفعل! اتصلت بها، في اليوم التالي: فانساب صوتها الدافئ، وهي تكرر ذات الكلمات، فتماسكت وسألت الله خيراً!
يا ليتني بينك وبين المضرة
من غزة الإبرة إلى سكرة الموت
بقلم / تركي الدخيل
رحم الله والدتك وأسكنها جنات الخلد