يبدو أن حالة الاغراق في الفتاوى، والتي استشرت مع ظهور الانترنت، وتفاقمت مع تعدد وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة من غير أهلها من العلماء الراسخين في العلم، قد خلقتْ مناخا ملائما لتوظيف الفتوى في قصف كل ما يُراد قصفه، بحيث أصبح في وسع كل من لا يروقه حدث ما أو موقف أو عمل أو رأي، أن يتوجه إلى أحد المتطوعين للإفتاء، وما أكثرهم، ليطرح عليه السؤال عما يريد بصيغة مريبة لا تتيح مجالا إلا للإدانة، ليظفر بالنتيجة بالفتوى التي تتناغم مع مراده، حدث هذا ذات مرة مع أحد المسلسلات التليفزيونية، والذي أُستخدمتْ إحدى تناولاته لاستصدار فتوى حازمة تقضي بتحريمه بالجملة، ووضعتْ الفتوى حينها تحت جباه المصلين في المساجد، وحدث مع غيره وبذات الأسلوب وفي مناسبات عدة، ويبدو أيضا أن هذا الجو المدجج بالفتاوى التي باتت تتربص بكل شاردة وواردة، قد أفضى لدى البعض إلى حالة من فوبيا الثقة، والخوف من الرمي بتهمة الخروج عن النص، ما جعل الكثيرون لا يترددون عن المبادرة وحسب، وإنما قد يذهبون للي أعناق أعمالهم أو مواقفهم أو آرائهم لربطها بأي مفهوم ديني، حتى وإن كانت مما يقع تحت عنوان "انتم أعلم بأمر دنياكم"، طلبا للتزكية الاستباقية، وتحسباً من أن تنقض عليها فتوى جامحة تكسر مجاديفها، وهذه الفوبيا في تقديري هي التي جرجرتْ إلينا البطالة من عهد النبوة، بهدف تسويغ حضورها الراهن، وإلا فما الذي يدفع مسؤولا طالما تمنى الكثيرون سماع صوته لتبرير ذلك الارتباك في مخرجات بعض خطط التنمية، واتساع دائرة الهدر فيها، حيث ظل صامتا، وحين نطق (فرمت) حوالي تسع خطط خمسية، وأكثر من ١٤٠٠ سنة، فقط ليبرىء ساحة وزارته من أسباب البطالة، ويجعلها قدرا محتوما بالتواتر من أبهى وأجلّ العصور.
تسييل الفتوى، وتوظيفها في التقاصف، أو استخدامها كمتاريس رغم تحذير هيئة كبار العلماء، وتأكيدها على ضرورة حصرها في الهيئة والعلماء المعتبرين الكبار فقط، وما نجم عن ذلك من الاحالات غير المبررة بدافع التماس التزكية، سيفعل بنا الأفاعيل، وسيحولنا إلى مجتمعات أسيرة لآراء ووجهات نظر مجردة، تتلبس لباس الفتوى القاطعة، مثلما سيعزز من حضور الفتوى الموجهة، خاصة في ظل وفرة المفتين الذين لا يضربون أي حساب لصياغة أسئلة الاستفتاء وغاياته ومقاصده، و ممن يتسرعون في إصدار الفتاوى دون حساب للعواقب، حتى وإن اضطروا بعدئذ للتراجع عنها أو التنكر لها، طالما أن هنالك من سيتجرأ عليها من ذوي الثقافة القاصرة، والذين لم يمنعهم قصورهم من اقتحام المنابر كصاحب نظرية كأس الماء، والذي أراقه على هامة كل الحقائق والمسلمات العلمية التي يُدركها حتى الصغار ليثبت عدم دوران الأرض، وهراء الصعود إلى القمر، أو ذلك الذي منح الملكة اليزابيث الثانية شرفا لم تدعيه، ولم تطالب به، بإلحاق نسبها ببيت النبوة، وبالمناسبة لا أعرف إلى أي مدى سيتسع النسب للبيت النبوي الشريف لكل هذه الادعاءات، بعد أن تداخلت فيه كل العرقيات والإثنيات والجينيالوجيا أو علم الأنساب من العرب والفرس وصولا للعجم في أغرب تمازج عرقي وخارج نطاق كل قواعد البيولوجيا، فيما لم يبق أي أثر لأحفاد أبي جهل وأبي لهب؟.. ما علينا.. المهم وعلى ضوء هذا السياق والسباق المحموم باتجاه البحث عن الأضواء، فإنه لم يبق سوى ساحة الرياضة التي لم تبلغها الفتوى بعد، وهي الساحة التي تحظى بكل الأضواء، وتُستخدم فيها كل أنواع أسلحة الدمار الشامل جراء التعصب والاحتقان المتزايد، مما يجعلها مؤهلة بجدارة لاستدعاء الفتوى كسلاح من شأنه - لو حدث- أن يقلب تراتبية سلّم الدوري رأسا على عقب، والأمر لا يحتاج لما هو أكثر من سؤال أحدهم عن الحُكم في هدف تم تسجيله باليد من وراء ظهر الحكم؟
هل تستبعدون ذلك؟ وبيننا من يفتي أو يأتي بالعجائب بحثا عن الأضواء، ثم هل هنالك نجومية أكثر لمعانا من نجومية أهل الرياضة؟.. ثقوا أن هذه هي المحطة القادمة إن استمر الحال على ما هو عليه.
فهد بن محمد السلمان
جريدة الرياض