أذكر حربين، وأكابد قلق الثالثة.
ولم تكن عشية حرب 1991 أو عشية غزو 2003، بمثل هذه الدكنة والبؤس. على الأقل في عام 91 كنا ننتظر تحرير الكويت والخلاص من وطأة تهديد مباشر. وعشية 2003 كانت لمسة الوعد الديموقراطي مُسدلة مثل ستارة شفافة تلطف المشهد الذي وراءها، والتهديد غير مباشر على أية حال. لكن ما الذي يمكن الآن التفكير فيه لتلطيف فكرة - وهي في الواقع أكثر من مجرد فكرة - الحرب ضد إيران ومُركباتها في المنطقة؟ حتى الاحتماء بعدم جدية الأمر لم يعد ممكنا، "مجرد تهويش سياسي. أساليب ضغط. سمعنا مثل هذا كثيرا ولم يحدث شيء"، لأنه وخلال الأسبوعين الأخيرين على وجه الخصوص، كلما جاء الراشح الإخباري والتحليلي برأي يهدئ المخاوف، جاء إلى جواره أحدهم "يحدثكم أو يكتب لكم من واشنطن أو من قلب الجمعية العمومية للأمم المتحدة"، ليؤكد أن الأمر جاد جدا وخطر جدا.
هل القلق محكوم بالقرب أو البُعد عن موقع الحَدَث؟ هل أقلقُ لكوني أتساءل يوميا عن مصير الحياة وسلامة النسيج الاجتماعي للمنطقة الشرقية، حولي، حيث أسكن؟ هل القلق يحق فقط للساكنين على ضفة الخليج المائي الذي يفصلهم عن إيران؟ غير صحيح، بالطبع. وحرب أو ضربة مثل تلك لو وقعت فهي على تماس مع مصالح وحياة الجميع. لماذا إذا لا يبدو أحد من النخب المحلية مشغولا فعلا بما قد يحدث خلال أسابيع على الضفة الإيرانية القريبة، وتحت أقدامنا على إثر ذلك - حسب الوعيد الإيراني؟ سبقتني د.فوزية أبوخالد إلى إعلان دهشتها في مقال منشور في "منبر الحوار والإبداع" الإلكتروني، ليست بالضبط دهشة الافتقار النخبوي إلى القلق، بل دهشة أبوخالد من طبيعة المواقف: "نجد أن الموقف العربي والخليجي موزع بين مواقف باهتة كأنها لا تعرف ما تريد أو لا تدرك خطر انهيار سقف المعبد (....) بل حتى على مستوى الموقف السياسي في أواسط المثقفين الذين يفترض أن تتسم مواقفهم بعقلانية وبحس نقدي تحليلي". المواقف متراوحة من باهتة إلى لا موقف. وهذا هو شكل الوعي النخبوي الثقافي المحلي عشية البدء في تشكيل استراتيجيات الحرب، "كش ملك"، وعودة الرئيس الإيراني منصورا - حسب الدوائر الإيرانية - من موقعة "كولومبيا".
في هذا الوقت، تبدو دوائر النخب المحلية مشغولة مستنفرة حتى أقصاها بحلقة طاش "ليبراليون... ولكن". وانعكس هذا الاستنفار الذي بدأ عاميا وعشوائيا على الشبكة، إلى سلسلة غير منتهية من المقالات والتنويعات التفسيرية على مضمون الحلقة، اكتسحت الصحافة السعودية منذ 12 رمضان وحتى اليوم. شيء يثير التساؤل: لماذا شعرت الصحافة ممثلة بكتابها وصحافييها أن الأمر يعنيها إلى هذه الدرجة؟ لماذا شعر غير كاتب أن الأمر شخصي وأن لديه ما يضيفه وما يُعلق به حول الأمر؟ وصولا إلى: كيف تصبح حلقة من طاش أهم من تصاعد وتيرة الإشارات إلى حرب محتملة في الشرق الأوسط؟ وحتى السؤال الأكبر عن أولويات الوعي لدى النخب المثقفة محليا.
صحيح، كيف تصبح حلقة من طاش أهم من تصاعد وتيرة الإشارات إلى حرب محتملة في الشرق الأوسط؟
ما هي طبيعة الوعي التي تجعل الجدل حول خيارات السلوك الاجتماعي للفئة الليبرالية أهم من الجدل حول خياراتنا المتاحة كوطن بقضه وقضيضه للتعامل مع الحرب المحتملة؟ هل يُعبر هذا عن أولوية وطنية؟ وهل يُعبر هذا عن خيار ليبرالي أو انتصار لما هو ليبرالي؟
خيار ليبرالي؟ لا أعتقد. خاصة ومعظم الكتابات المُستنفرة - والإلكترونية منها على وجه الخصوص حيث هي أكثر عفوية وصراحة - لم يكن مناط غضبها واستفزازها كما حاولت بعض المقالات أن تؤنق الأمر "من أجل تصوير المثقف كشخص جبان، تنظيري، منفصل عن الواقع"، بل كان موضوع الغضب الأساسي، بصراحة، هو الإشارة إلى المسألة الكحولية في سهرات المثقفين. هذه بالذات كانت النقطة الموجعة جدا التي لو خلت منها الحلقة لما حصدت نصف ما حصدته اليوم من ردود الأفعال. وهي أيضا الذراع الموجوعة التي أمسكها آخرون وهم يغمزون في مقالاتهم من جهة "الكبسة" و"ما وراء الكبسة" و"ما قبل الكبسة"، والمقصد واضح. المفارقة هي أن أس الليبرالية هو حرية الاختيار في النطاق الشخصي، طالما أن هذا لا يؤذي أحدا، وهو الحق الذي تنص عليه وتحامي عنه وتحاول أن تنظر له الكتابات الليبرالية المحلية. موضع المفارقة هي أن يُستفز الليبرالي للتبرؤ والتنصل من المسألة الكحولية التي تأتي في نفس سياقات الليبرالية كممارسة للحرية الشخصية التي لا يحق لأحد التدخل فيها. اتهام مؤلف الحلقة بـ"تشويه الصورة" يقول أن الليبرالي المفترض ما يزال خاضعا وبقوة لأعراف المجتمع "الديني" "البطركي" "القروسطي" الذي يعيش فيه ويُقيم كل مشروعه على نقده، لكنهُ في النهاية يرهبهُ أيما رهبة، ويخضع له أيما خضوع.
خيار وطني؟ هل الاهتمام بحلقة طاش أكثر من الاهتمام بالتطورات الإقليمية، يُعبر عن وعي وطني؟
خلاف أنه يُعبر عن استغراق فئوي ضيق، فإنه يُعبر عن وعي محدود بصفة عامة. وعي يحمل هم ما يقوله الناس - هكذا بصورتهم الصريحة وثرثرتهم المخيفة - أكثر من حمله هموم ما يقوله الرئيس الأمريكي أو الإيراني أو دوائرهما. هذا الوعي المصاب بالرهاب الاجتماعي مألوف عند عموم الناس محدودي الحيوات والهموم، لكن... أن تشعر أن النخب يمكن أن تنسى وتهمل كل موضوع آخر، عندما توضع في مواجهة وطأة المجتمع مُتكشفة عن رهاب اجتماعي في مستوى متقدم؟! هكذا وعي لا يمكنه أن يُخلص لهموم وطنية أو انشغالات إقليمية. لأن ما يقوله الجار أكثر هما وألما ، بالنسبة له.
لا أحد يدري ما الذي سيحدث. قد يحدث كل شيء وقد لا يحدث شيء. لكنني أود أن أسجل هنا ملاحظة صغيرة كي لا أنساها: "في شهر سبتمبر 2007، عندما كانت الأخبار المتسربة تقول إن موعد الضربة المحتملة لإيران قد تحدد في مارس، كان الانشغال الثقافي الأبرز هو حلقة من طاش".
*نقلاً عن صحيفة "الوطن" السعودية