قبل خمس وعشرين سنة بالضبط من الآن، وتحديدا في الثالث جانفي 1985، سألت جريدة "ألجيري أكتوياليتي" المرحوم مولود قاسم نايت بلقاسم: "كيف تفسرون أن الصحف المكتوبة بالفرنسية يرتفع سحبها باستمرار بينما نلاحظ عند الآخرين نوعا من الخمول والتكدس"؟ قاصدة خمول المعربين وتكدس الصحف التي تكتب بالعربية
وبغض النظر عن الجواب المفحم الذي رد به حينها المرحوم، فإن أي عاقل اليوم يدرك بالضرورة أن ذاك السؤال الذي طرح باستفزاز كبير آنذاك على أحد أكبر المنافحين على لغة الضاد في الجزائر، قد صار الآن بالمعكوس، وجاز لنا معه أن نطرح على أباطرة الفرانكفونية عندنا ذات السؤال وبذات الصيغة : " كيف تفسرون أيها السادة أن الصحف المكتوبة بالعربية يرتفع سحبها بشكل كبير وباستمرار بينما نلاحظ عندكم كل هذا الخمول وهذا التكدس " ؟ .
سؤال محرج كهذا، بالتأكيد لن يجد من بين ترسانة الفرانكفونيين عندنا من له فطنة مولود قاسم للرد عليه، ذلك أن انقلابا كبيرا في الساحة اللغوية الجزائرية قد حصل بالفعل لصالح اللغة العربية على حساب "ضرتها" الفرنسية، وبالتالي ماذا يمكن لعباد وسدنة معبد الفرانكفونية أن يعللوا به هذه الفضيحة التي حولتهم من نخبة طلائعية يضرب بها المثل في الانتشار والجدية والاحترافية إلى مجرد طحالب لغوية هامشية و " زوائد دودية " على خاصرة الوطن؟ .
هل سيقولون إن السلطة هي التي تآمرت عليهم ودعمت العروبيين حتى صارت لهم جرائد تسحب ملايين النسخ يوميا، وهم الذين يمسكون بمداخل ومخارج هذه السلطة التي استسلمت لنزواتهم منذ زمن طويل في عرقلة ووقف تطبيق قانون استعمال وتعميم اللغة العربية؟.. هل سيتهمون أطرافا عربية بغزونا ثقافيا بواسطة الأفلام والمسلسلات، وبالتالي وجب علينا " الانكفاء " نحو فرنسا لاستعادة " هويتنا " الضائعة؟ ...
أي تبرير يمكن أن يخطر على بال هؤلاء هو بحق يمثل لعنة إضافية في سجلهم الأسود، فجزائر اليوم ليست بأي حال من الأحوال جزائر الستينيات أو السبعينيات أو الثمانينيات.. لقد تغير العالم كثيرا ومعه تغيرت الجزائر أكثر، ولئن كنا نقر أن الواقع اللغوي على المستوى الرسمي في الوزارات والمؤسسات والإدارة ما زال يتخبط بين فكي الأفعى الفرانكفونية، رغم بعض المحاولات المحتشمة هنا وهناك، إلا أن ظهور أجيال كاملة من خريجي المدارس والمعاهد الذين يجيدون العربية قد قلب كل الموازين على المستوى الشعبي، الأمر الذي انعكس مباشرة في شكل ثورة حقيقية على نسبة ونوعية المقروئية بالعربية إلى مستويات قياسية، لم تستعد معه الجزائر مكانتها فقط بين الدول العربية، إنما تبوأت الريادة وتفوقت حتى على مصر والعراق وغيرهما من الدول العربية التي تملك التاريخ والكثافة السكانية العالية.
صحيح أن الصحافة المعربة في الجزائر والتي تخلصت من تهمتي "الخمول والتكدس" التي كانت توصم بها من قبل، ما زالت تعاني إلى اليوم ضعفا في التجربة وقلة في الاحترافية، وهذا واضح بجلاء في الكثير من العناوين الصحفية، لكن العبرة ليست هنا تحديدا بقدر ما هي في هذا "النهم" الشعبي في معانقة لغته العربية وفي العودة إلى أحضانها، وقد اكتشفت الملايين من الأجيال الصاعدة ذاتها في هذه اللغة التي باتت تعشقها تماما كما تعشق الفريق الوطني والراية الوطنية.. بينما ازدادت الفرنسية انحسارا على الرغم من المقاومة التي تبديها في بعض الأحياء الراقية بالجزائر العاصمة ومنطقة القبائل فقط .