ينصرف النظر والذهن فوراً إلى دول العالم الثالث عندما تسمع أن شعباً بكامله يعيش تحت المراقبة. إلا أن مراقبة الشعوب ووضعها تحت المتابعة الدائمة أصبحت في الوقت الحاضر من مميزات وخصائص الدول المتقدمة؛ حيث تعيش بريطانيا الأكثر بين دول العالم من حيث رصد تحركات شعبها عبر الكاميرات المنصوبة على الشوارع والممرات لمتابعة السيارات والمشاة ومن خلالها تقوم برصد ومراقبة كل حركات المجتمع وتنقلاته إلى الدرجة التي لا يمكن بأي حال من الأحوال الحديث عن الحرية الشخصية الحقيقية كما وضعها فلاسفة الغرب الذين أوجدوا مفهوم الديمقراطية والحرية السياسية، حيث أصبحت اليوم معادلة الفلاسفة تلك مقلوبة؛ فبدل أن يكون المجتمع والإعلام رقيباً على الحكومة وسلوكها أصبحت الحكومة هي التي تراقب المجتمع وتحركاته بل وحتى خصوصياته.
لقد باعت الحضارة الغربية مفهوم الحكومة المختارة بطريقة ديمقراطية، كما استطاعت أن تقنع العالم بأن المجتمع الغربي يراقب حكومته، وأن الحكومة هي ممثل الشعب، إلا أن قوة الحكومة وتصرفها الكامل وقدراتها المالية والبوليسية أصبحت أقوى من قوة الشعب المزعومة، وأصبحت هذه الحكومات هي العين البوليسية على شعوبها بكل حركاتهم وسكناتهم.
كل ما نرجوه هو أن تتوقف شعوب تلك المجتمعات عن التشدق بالحرية الحقيقية، وليعترفوا أنها حرية تخص حركة الشركات الكبرى ذات الاهتمام بالبعد الاقتصادي، وحرية تهتم بانطلاق المجتمع على مستوى الحرية السلوكية وخصوصاً الشاذة منها، وأن الحرية على مستوى الخصوصية الحقيقية أصبحت تحت المراقبة الدائمة لكاميرات التصوير المنصوبة على جميع الشوارع والممرات والتنصت على المكالمات الهاتفية.
إن هذا القرن من زمن التطور البشري يعد بحق أحد قرون تراجع مفهوم الفلسفة الديمقراطية كما فهمها الفلاسفة الكبار الذين وضعوا هذه المبادئ، وأن الدول التي ترعرعت فيها تلك الديمقراطيات هي اليوم التي تهددها عبر المراقبة الدائمة للمجتمع الذي يفترض به أنه هو أصل قوة الدولة ومصدر شرعيتها.. وتبقى بريطانيا العظمى أحد هذه الرموز الكبيرة التي وضعت شعبها تحت المراقبة الدائمة.
بقلم د صالح النملة