لا تزال المخاطر تحيط بمشروع الإتحاد النقدي بين دول مجلس التعاون الخليجي من جراء الخلاف الذي دار حول اختيار الدولة التي ستستضيف مقر البنك المركزي للإتحاد النقدي المقترح والذي سيكون بمثابة العمود الفقري لهذا الإتحاد. وتظهر الأسباب الداعمة لموقف كل من الأطراف المتنافسة مدى التعقيدات التي تكتنف مثل هذا القرار.
هل يمكن أن يتحقق الحلم؟ يبدو أن هذا هو السؤال الذي سيطر على الأذهان بين الحين والآخر في الطريق إلى تحقيق الوحدة النقدية بين دول مجلس التعاون الخليجي.
والآن أكثر من أي وقت مضى، وما يؤكد شرعية هذا السؤال هو أن الإتفاق الذي طال إنتظاره حول موقع البنك المركزي قد تحول إلى لعبة شد الحبل بين أكبر قوتين إقتصاديتين في الخليج. وقد حدث هذا بعد الإتفاق الذي توصلت إليه دول مجلس التعاون الخليجي الخمس في الخامس من مايو بأن تصبح العاصمة السعودية _الرياض_ هي مقر المؤسسة المالية المشتركة الجديدة. وفي بداية الأمر، أعربت الإمارات عن تحفظها ثم أعلنت فيما بعد إنسحابها الرسمي من الإتحاد النقدي في العشرين من مايو هذا العام.
وقد جاء هذا الحدث بمثابة مفاجأة للكثيرين، ويمكن تشبيهه بصفعة قوية لمشروع تحقيق الإتحاد النقدي بين دول مجلس التعاون الخليجي. وقد قوبلت هذه الأنباء برد فعل موحد بين الإقتصاديين والمصرفيين يتلخص في أن الإتحاد النقدي إذا لم يكن قد حكم عليه بالموت، فإنه على أقل تقدير قد تم إرجاؤه إلى أجل غير مسمى بسبب إنسحاب ثاني أكبر قوة إقتصادية في الخليج والتي بلغ إجمالي الناتج المحلي الاسمي لها 260.1 مليار دولار العام الماضي وفقاً لما جاء بالتقرير الإقتصادي الإقليمي لصندوق النقد الدولي: الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، مايو 2009. وهذا الإنسحاب لا يمكن مقارنته بإنسحاب عمان من الإتحاد في عام 2006، حيث أن سلطنة عُمان هي ثاني أصغر إقتصاد في منطقة الخليج إذ بلغ إجمالي الناتج المحلي الاسمي لها 52.6 مليار دولار بنهاية العام 2008.
ومع ذلك، فقد تركت الإمارات العربية المتحدة الباب مفتوحاً أمام إمكانية عودتها للإنضمام إلى الإتحاد النقدي إذا ما تغيرت الأحوال، أي بمعنى أدق إذا ما تم التراجع عما اتخذ من قرار سابق بحيث يسمح لها بإستضافة مقر البنك المركزي لدول مجلس التعاون الخليجي، وهي خطوة تبدو مستبعدة للغاية.
ولكن هل لرد الفعل الإماراتي ما يبرره؟ قد يعتقد البعض أن له ما يبرره حقا كون الإمارات العربية المتحدة كانت أول دولة خليجية تطلب إستضافة مقر البنك المركزي لمجلس التعاون الخليجي في عام 2004، وكان ذلك قبل أن تعرب الدول الثلاث الأخرى عن رغبتها في ذلك. إذ أعربت البحرين عن رغبتها بإستضافة البنك المركزي الخليجي عام 2006 تلتها قطر عام 2007 فالمملكة العربية السعودية عام 2008.
ليس ذلك فحسب، بل إن الإمارات العربية المتحدة قد وطدت من مكانتها كمركز مالي إقليمي بينما لا تستضيف على أرضها أي كيان آخر تابع لمجلس التعاون الخليجي، بعكس نظرائها في الخليج. فالرياض هي مقر الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي، كما تستضيف الكويت الصندوق العربي للتنمية الإقتصادية والإجتماعية، بينما يقع مقر المكتب الفني للإتصالات التابع لمجلس التعاون الخليجي في البحرين.
ولا تنتهي القضية عند هذا الحد. فوفقاً لآراء كثير من المحللين فإن القرار الأخير الذي تم اتخاذه في قمة الرياض قد يعد قرارا باطلاً نظراً لأنه لا يلتزم بالنظام الأساسي لمجلس التعاون لدول الخليج العربي والذي ينص في المادة التاسعة منه على أن: "تصدر قرارات المجلس الأعلى في المسائل الموضوعية بإجماع الدول الأعضاء الحاضرة المشتركة في التصويت وتصدر قراراته في المسائل الإجرائية بالأغلبية".
ومع ذلك، فقليلين هم الذين توقعوا إنسحاب الإمارات العربية المتحدة من الإتحاد النقدي، وتكهن الكثيرون بأن التحفظ المبدئي الذي أظهرته الإمارات العربية المتحدة يمكن التعامل معه من خلال طرح بدائل مثل تولي أحد رعايا الإمارات العربية المتحدة منصب أول محافظ للبنك المركزي.
وبمزيد من البحث حول رد الفعل المتشدد للإمارات العربية المتحدة، يتم كشف النقاب عن سبب آخر محتمل. فوفقاً لما جاء بمقال للدكتور "عبد الخالق عبد الله" في إحدى الصحف المحلية بالإمارات، فقد تقدمت الإمارات العربية المتحدة بخطاب إلى الأمانة العامة بشكل رسمي تطلب فيه ألا تتم مناقشة موضوع مقر البنك المركزي لمجلس التعاون الخليجي في قمة الرياض. وقد رفض مسئول رفيع بالأمانة العامة _كان قد تحدث بشرط عدم الإفصاح عن هويته_ التعليق على هذا الموضوع عندما تم الإتصال به. لذا فإنه على الرغم من عدم إثبات صحة هذا الإدعاء على نحو قاطع، فإنه يثير مزيداً من التساؤلات والشك.
والآن وبعد أن تم إرساء الحجج الداعمة لموقف الإمارات العربية المتحدة، يقتضي الإنصاف إستعراض موقف المملكة العربية السعودية. فالمملكة تعد أكبر قوة إقتصادية في منطقة الخليج حيث بلغ إجمالي الناتج المحلي الاسمي 481,6 مليار دولار وذلك وفقاً للتقرير الإقتصادي الإقليمي لصندوق النقد الدولي (مايو 2009).
وهذا يذكرنا بحقيقة هامة وهي أن المملكة تعد أيضاً أكبر قوة في منظمة أوبك وتلعب دوراً هاماً في قرارات هذه المنظمة لأنها ببساطة أكبر منتج ومصدر للنفط في العالم. وإضافة إلى ذلك، يوجد بالمملكة أقدم بنك مركزي في منطقة الخليج والذي تم إنشاؤه في عام 1952، محرزة بذلك قصب السبق على دول الخليج. وقد حذت الكويت حذوها بإنشاء بنك مركزي بها في عام 1969. أما الإمارات العربية وقطر والبحرين فلم يتم إنشاء بنك مركزي بكل منها سوى في عام 1973، وقد لحقت عُمان بالركب متأخرة في عام 1974.
ثمة أمر آخر يعزز موقف المملكة وإن كان أقل قوة من تلك الحجج التي تم ذكرها سابقاً وهو أن المملكة تعد أكبر دولة خليجية من حيث عدد السكان البالغ 25 مليون نسمة؛ الأمر الذي سيضمن للبنك المركزي لدول مجلس التعاون كماً هائلاً ومتنوعاً من المهارات خصوصاً عند تعيين الخليجيين.
وقياساً بالنهج الأوروبي، قد يتحجج كثيرون بأن مقر البنك المركزي الأوروبي يوجد في ألمانيا التي تمثل أكبر إقتصاد في منطقة اليورو. فلماذا إذن لا يتم إتباع نفس المنطق فيما يتعلق بالبنك المركزي الخاص بدول مجلس التعاون؟
وفي المقابل، يمكن أن يرد البعض على هؤلاء بالقول إن الكثير من الدول الأوروبية إتبعت السياسة النقدية التي وضعها البنك المركزي الألماني، الأمر الذي أمن حجة مقنعة لجعل مقر البنك المركزي الأوروبي في ألمانيا والتأكيد على أن أكبر إقتصاد في أوروبا يشارك في تحقيق الوحدة النقدية. أما في حالة مجلس التعاون الخليجي، تتبع الدول السياسة النقدية التي يضعها الإحتياطي الفيدرالي الأمريكي نتيجة لإرتباط عملات تلك الدول بالدولار الأمريكي (بإستثناء الكويت).
إضافة إلى ذلك، فإنه لا يمكن تجاهل تأثير القوى السياسية في هذا الصدد. وعلى أية حال، يبدو أن دول مجلس التعاون الأخرى توافق على اختيار الرياض، فموقف البحرين ليس مستغرباً حيث إنها ترتبط إرتباطاً وثيقاً بالمملكة ولكن ماذا عن قطر؟
يحلل "د.كمال الوصال" وهو إقتصادي يعمل في دبي موقف الدوحة بقوله: "تفضل قطر أن تتخلى عن رغبتها في إستضافة البنك المركزي للسعودية لأنها أكبر إقتصاد خليجي على أن تتخلى عن موقفها لدولة تشعر بأنها منافسة لها (في إشارة إلى الإمارات)". ناهيك عن أن قطر لا ترغب في المخاطرة بعلاقاتها مع المملكة التي لم يمض وقت طويل على إصلاحها.
لكن لا شك أن إنسحاب الإمارات بمثابة عائق ضخم في طريق الوحدة النقدية حتى بالرغم من أن الكثير من الشك قد أحاط بالمشروع منذ بدايته. وتكمن عدة أسباب في حقيقة أن إقتصاديات دول مجلس التعاون متشابهة وتعتمد بشكل أساسي على النفط مما يقلل من مكاسب الوحدة النقدية، فضلاً عن أنه كي يتم تحقيق هذه الوحدة، يتعين على هذه الدول التخلي عن بعض من سيادتها، وهو الأمر الذي ليس لدى أي منهم إستعداد للقيام به على ما يبدو. ومع ذلك، فإن الإتحاد النقدي قد يمنح أعضاءه موقفاً أقوى على الساحة الدولية. فالدول الست مجتمعة لديها إجمالي ناتج محلي اسمي يزيد عن تريليون دولار وبدون الإمارات وعمان يهبط هذا الرقم بنحو 30%.
إذن هل يمكن أن يتحقق الحلم؟ يبدو من المستحيل التوصل إلى إجابة شافية على هذا السؤال. فالطريق لا يزال طويلاً ووعراً، لكن مع تشبث الدول الأربع الباقية بالهدف، قد يرى الإتحاد النقدي لدول مجلس التعاون النور، إلا أن نهاية الرحلة ليست قريبة على ما يبدو.
منقول