هذه مقالة رائعة للشيخ الدكتور عبد المجيد البيانوني
شتان بين فطرة محروسة وفطرة منكوسة .!!
قالت لي طفلتي التي لم تتجاوز السابعة من العمر ، بعدما أوت إلى فراشها : بابا ما معنى كلمة ذكر الله .؟ فقلت لها : ذكر الله يا حبيبتي هو أن يتذكّر الإنسان ربّه ولا ينساه ..
قالت : أقصد ماذا يقول .؟
قلت : يقول : " لا إله إلاّ الله .. أستغفر الله العظيم .. سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلاّ الله ، والله أكبر .. والصلاة على النبيّ من ذكر الله "
وانشغلت عنها قليلاً ، ثمّ التفتّ إليها بعدما لفت نظري هدوؤها غير المعتاد ، فإذا بها ترفع يديها الصغيرتين ، وتسبّح بأصابعها في استغراق والله لا يصدّق ، ولا يتناسب مع سنّها مطلقاً .. فدمعت عيني لهذا المشهد ، وتوجّهت إلى الله تعالى بدعاء ضارع خاشع أن يجعلها قرّة عين لنا في الدارين ، وأن ينبتها نباتاً حسناً ..
وقبل هذا الموقف بيومين قالت لي : يا أبي أنا أتمنّى أن أموت بعدما ولدتّ فوراً .. فقلت لها : لماذا .؟! قالت : لأدخل الجنّة .. فقلت لها : ولكنّ الأحسن من هذا أن تكبري ، وتعبدي الله ، وتعملي أعمالاً صالحة ، وتتزوّجي ، ويكونَ لكِ أولاد وأحفاد مثل أمّك إن شاء الله ، كلّهم يوحّدون الله ، ويعبدونه ، ويعملون أعمالاً صالحة ترضيه ..
حدث لي هذان الموقفان قريباً مع طفلتي الصغيرة ، وأحسب أنّ كثيراً من الأسر المسلمة المهتمّة بتربية أولادها يحدث لها مثل ذلك ، وأكثر منه وأعجب ..
فكم في المسلمين من أطفال يحفظون القرآن الكريم كاملاً ، ولم يتجاوزْ سنّهم السابعة .؟!
وكم في المسلمين من أطفال يحفظون أكثر القرآن الكريم ، ولم يتجاوزْ سنّهم السابعة .؟!
وكم في المسلمين من أطفال علائم النبوغ والنضج والرجولة تبدو عليهم ؛ في أسئلتهم وأجوبتهم ، وفي مواقفهم وشخصيّتهم ، وفي حلّ المشكلات التي تعترضهم .؟!
وكم في المسلمين من أطفال يتحمّلون مِن المسئوليّة ما لا يتحمّله الكبار ، فيقومونَ بها بكفاية واقتدار .؟! وربّما لم ير أحدهم من الكبار إلاّ التقريع والملامة ..
وكم في المسلمين من أطفال عباقرة مبدعين ، لم يروا من أهلهم ، ومن المجتمع حولهم إلاّ الكبت لمواهبهم ، والإهمال والتنكّر .؟!
وكم في المسلمين من أطفال لهم مواهب فذّةٌ ، لم تتهيّأ لها الرعاية المناسبة ، فقُتلت مواهبهم ووئدت .؟! ومعَ ذلك كلّه ففي بيئاتنا الإسلاميّة ومجتمعاتنا خير كثير ، وإيجابيّات لا تنضب ..
تواردت في نفسي هذه الخواطر ، وأنا أقرأ خبرين عن أطفال في الغرب ، مفاد أحدهما أنّ أطفالاً صغاراً جدّاً في السن يتفوّهون بعبارات وتصرفات جنسية فاضحة ، وتبدر عنهم تصرّفات مبتذلة تجاه زملائهم ومدرّسيهم ، الأمر الذي ينجم عنه فصلهم من دور الحضانة والمدارس ، عدّة مرّات ، أو فصلهم نهائيّاً ..
ومفاد الخبرِ الثاني أنّ فتىً يبلغ 15 عاماً من العمر أدين بقتل طفلة عمرها سنتان ، تركت تحت رعايته لـ 90 دقيقة فقط. وقام الفتى بضرب " ديمي ماهون " وعضّها ، وجزّ شعرها خلال الهجوم الذي خلف 68 جرحاً في جسدها ، حسبما كشف عنه في محكمة بمدينة مانشستر في بريطانيا. ولم يشرح الفتى على الاطلاق دوافع إقدامه على قتل ديمي ، لكنّه لمّح أمام المحكمة إلى أنّه كان غاضباً من سلوكها ..
كما قرأت من قبل عدّة أخبَار عن أطفال في عمُر الزهور قتلوا رفاقهم بأسلحة ناريّة ، في حوادث متكرِّرة ، أخَذت تشكّل في الغربِ ظاهرةً مقلقة ..
قارنت بين الصوَر الأولى وبينَ هذه الصور ، وقلت : إنّ الفرق بين هذين النوعين من الأطفال هو الفرقُ بين الفطرة المحروسة والفطرة المنكوسة .. الفطرة المحروسة بالتربية السليمة ، والأخلاق القويمة ، والفطرة المنكوسة عن سنن الفطرة ، بمؤثّرات البيئة التي تعجّ بالمشكلات المستعصية ، والعلل الفتّاكَة .. وتذكّرتُ حديث النبيّ : ( مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ ؛ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ .. ) ( ) .
وأنا لا أنكر أنّ تلك المجتمعات تولي الطفولة عناية فائقة ، ورعاية متميّزة ، ولكنّها عناية من وجهتها الظاهريّة ، وفلسفتها المادّيّة ، وبما يخدم تلك الوجهة ، وينمّيها فحسب ، ولا مكان فيها للقيم الروحيّة ، التي هي سرُّ ضبطِ الحياة المادّيّة ، وتوجيهها الوجهة الصحيحة .. كما لا أنكر أنَّ أوضاع الطفولة في بلادنا ليست على ما يرام على وجه العموم من حيثيّات متعدّدة ، ومع ذلك فأقول :
إنّ لنا أن نعتزّ ببقيّة الخَير فينَا ، ونسعى لتنميتها ورعايتها ، لأنّها أصل للتوازن الحكيم بين الحياة المادّيّة والروحيّة ، ونواةٌ يمكن أن يقومَ عليها بناء رَشيد ، وصرحٌ مَشيد ، ولأنّنا أحوجُ ما نكونُ إلى تقويةِ الثقة بأنفسِنا ، والاعتزازِ بقيمنا ، من أنْ تكونَ أبصارُنا مشدودَة دائماً إلى هناكَ بكلّ شَيءٍ ، وبعجر الأمور وبجرها ، ومزدريةً لما نحن عليه في كلّ شَيءٍ .. فجلد الذات لا يحيي أمّةً ، ولا يبني نهضةً.
-------------------
ملتقى أهل الحديث