أوراق الورد

سأود هنا مقتطفات من رسائل مصطفي صادق الرافعي لحبيبته ,

البلاغه تتنهد

تقولين في رسالتك أيتها العزيزة

(( لقد كنت احسب فيما حسبت _ بعد ان طوحت بنا النوى وضرب الدهر هذه الضربه بيننا ـ أن سعاده الفكر المتصل بي

منك والمتصل بك مني تخفف عني بعض بعض ما اجد فتنقل خفقه قلب الي قلب وترسل لمحه نفس الي نفس وتعطي العمر

ولو ساعه من غير هذا الزمن فأقطع اليك هذه المسافات المتراخيه بقوه كقوه الاحلام : لاتدع في الكون ابعاد ولامسافه

بل تحويه كما تحوي المرآه الصوره التي تقابلها , تتراءي فاذا هي مرسومه كما هي منظوره , ولكن يا أسفاه

لقد ارتني الحقيقه ان الحياه ماده وان هذه المعاني المحبوبه التي نحفظها ممن نحبهم لا تزال تنازع دائما الي اشخاصها

المحبوبين ليخففوا من لوعتها او قل ليزيدوا في لوعتها فان الحب هو الطرف الشاذ الذي لم يعرف له وسط فان لم يكن

ذاهبا الي الزياده مطردا بها , وكان غير شك منحدرا الي النقص مستمرا فيه .

الحياه ماده يا صديقي , فاذا لم اقل كلمه واسمع ردها , او اخط سطرا واقرا مثله , او ارسل نظره واتلقي جوابها

فان الفكر الذي يسعدني في كل شي هو نفسه الذي يعذبني حينئذ باحب الناس الي , يعذبني بك حين لا اراك !.

أما والله يا عزيزتي ان في دون هذا للبلاغه كل البلاغه , فكلامك بيان كأشراق الضحي , وهو مثلك فزق وصف الوصف

وان فيك لمنبع سحر كالنهار الذي ينبع من شمسه , فلا تخط انا ملك سطرا الا تضوأت فيه الحياه , ولا اقرأ لك لفظا

تكتبينه الا بمعني منه ومعني منك ,

بل لا اراك تجمعين ضميري وضميرك معك في كلمه الا احسست انه لقاء بيننا في لفظ ...

وان كتابك ليأتيني وكانه مرآه مسحوره بسر من اسرار الحياه : لا تلبث عيني ان تدور فيها دوره فاذا انت ماثله ,

واذ انا لا اقرأ كلامك بل اقرأ وجهك !

ولما طلعت لي في هذا الكتاب القيت نفسي من شفتي علي شفتيك , وما اسرع ما نبهني مس الصحيفه , فنظرت فأذا

انا اقبل كلماتك البديعه : ان الحياه ماده

كنت اعرف ان اللغه موضوعه لكل اهلها , شائعه في السنتهم جميعا , وقد خلقت من قبل ان يخلقوا , وتركها الاول

للاخر , ولكن بلاغتك التي يتهلل بعضها تهلل جبينك , ويستحي بعضها استحياء خديك , ويفتر بعضها افترار شفتيك

وتأتي مفننه ناعمه كأنها جسم بديع ناضج للحب _ قد جعلتيني اعرف ان الكلمه التي يلقيها حبيب الي محبه تأتي

وكأنها لغه مخلوقه لساعتها , اذ ينتزع منها المحب صورا لا يراها في مثلها من كلام الناس , ويصيب لها في نفسه

معاني لانكون لها في ذات نفسها , ويراها مبتدعه له ابتداعا غريبا علي نسق حي , فما القيت كلمه بين حبيبين

الا جاءت وهي تتنهد او تبكي او تضحك او تتوجع , او تنظر الي معني من المعاني بينهما , اذ لابد ان تضرب علي

القلبين : احداهما او كليهما .

ان الكلام في نفسه وسيله من وسائل الفهم و فهو لغه ولكنه في الحب وسيله الجذب , فهو قوه , واللغه من بعض ادوات

الحياه : اما لغه الحب خاصه فالحياه من بعض ادواتها.

لهذا يا عزيزتي لاتكون الحياه في الحب الا ماده : وان النفس قد تجوع وتأكل من جوعها , اذ تخلق بارادتها من الجوع

اكلا فتشبع شبعا معنويا يلائمها كما جاعت ذلك الجوع الذي يلائمها: كنفس الذي قنع بالفقر وهو محتاج للغني

والذي صبر علي المرض وهو فقير الي العافيه ,ويطرد هذا القياس في كل اغراض الحياه الا في الحب , فان جوع

النفس العاشقه يقتلها قتلا اذ لا غذاء لها من شئ بالوجود كله الا ممن تحب .

ليس الحي منقطعان من الوجود بل هو منه لانه فيه , ويكاد كل شئ يقول له : يا ابني , او يا ابي او يا اخي او نحوهما

فهذه الوشيجه بين الحي ( والموجودات كلها ) هي قرابه العقل المسماه بالمعرفه , وصلته (بخصائص) الوجود في طائفه

من الاحياء او الموجودات , هي قرابه النفس المسماة : بالصداقه , وشابكته بأخص الخصائص في حي واحد يجمع كل

ذلك ويزيد ولا يزال يزيد , هي قرابة القلب المسماة بالحب .

نعم ان الحب ليكاد يكون معني كبر في السن والقيمه والعقل من ذلك المعني الطفلي الذي يندمج بالام والابن معا

في الوجود والعاطفه فاذا كانت الامومه هي التي تلد حقيقه الحياه بمعانيها الواقعه , فان الحب وحده هو الذي يلد

الحياه بشعرها ومجازها ومعانيها الخياليه الجميله , ومن ثم لم يكن الحب رحما , وهو اشد منها صله واوقع في القلب

ولم يكن نسبا وهو فوق النسب , ولم يكن دما من دم , وهو اشد ما عرف من حنين الدم للدم .

ولقد يكون في الدنيا ما يغني الواحد من الناس عن اهل الارض كافه , ولكن الدنيا بما وسعت لايمكن ابدا ان نغني

محبا عن الواحد الذي يحبه .

هذا الواحد له حساب عجيب غير حساب العقل فان الواحد في الحساب العقلي :اول العدد اما في الحساب القلبي فهو

اول العدد واخره ليس بعده اخر اذ ليس معه اخر.

والحياه في كل موضع يا حبيبتي هي هي , كما تكون في كل موضع وكأنها البحر : ماؤه في امريكا هو ماؤه في

مصر _ الي حيث يكون الحبيب فهناك مع الحياه شئ غيرها هناك الماده الخفيه القادره التي تنساغ في هذه الحياه

لتلونها تلوين الزهره منفرده بالجمال والعطر من بين اوراق شجرتها , علي حين كل اوراق الشجره مسحه لون واحد

(الحياه ماده)) فاين انت يا ماده الروح المنسكبه في روحي ؟

اضع في اخر كلماتي سطر غير مكتوب , سطر فيه كثير من المعاني المتكلمه من غير كلام ..... !