لست أشك في أن وزراء الخارجية العرب سمعوا بأخبار الأزمة الصامتة التي تمر بها الخلافات الروسية ـ الإسرائيلية والأزمة المعلنة بين روسيا وواشنطن.
وأستغرب جدا انهم لم يحاولوا أن يستثمروا هذا الظرف لمصلحة قضاياهم المعلقة، وعلى رأسها قضية فلسطين، ولا أعرف إن كان هذا الموضوع قد نوقش في لقاءات وزراء الخارجية العرب أثناء اجتماعهم الأخير بالقاهرة أم لا، لكن الثابت أن بيان مجلس الجامعة لم يشر بكلمة الى الموضوع، وان تحركات الأمين العام للجامعة العربية خلال الاسابيع المقبلة تتضمن زيارة لموسكو للتباحث مع قادتها واستكشاف أجوائها في ظل التحولات الراهنة.
لقد بات معلوما للجميع ان شهر العسل الروسي ـ الأميركي انتهى في الوقت الراهن على الاقل، وبالتالي فإن الصورة التي استقرت في الأذهان خلال السنوات الأخيرة، الموحية بأن العالم، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، دخل في مرحلة القطب الواحد، تؤكد ان فرصة العرب في الإفادة من وجود القطبين انتهت، وبالتالي فلم يعد أمامهم إلا أن يراهنوا على واشنطن ويتعلقوا بأهدابها، لكي يكسبوا عطفها ورضاها، علها تجود عليهم بشيء يحسّن موقعهم في قضاياهم المختلفة،
لكن الأمر اختلف الآن، خصوصا بعدما اجتاحت القوات الروسية حدود جورجيا، منتهزة فرصة خطأ وقع فيه رئيسها، حين تحدى سلطة الكريملين وأرسل قواته إلى أوسيتيا الجنوبية، فقررت القيادة الروسية تأديبه وتوجيه رسالة الى واشنطن وحلفائها، والى الدول الأخرى المجاورة مفادها أنها جاهزة للدفاع عن أمنها القومي، ولن تسكت على العبث الأميركي في محيطها الإستراتيجي.
هذا التطور يهمنا من أكثر من زاوية، إذ رغم أن روسيا الراهنة مختلفة عن الاتحاد السوفييتي الذي ساند الحقوق العربية طوال سنوات الحرب الباردة، إلا أنها تحاول استعادة مكانتها كقطب آخر في الساحة الدولية، كما أنها لم تبد استعدادا للتسليم بالهيمنة الاميركية، على الاقل في محيطها الاستراتيجي، وقد بدا ذلك واضحا في الازمة الجورجية الاخيرة، الأمر الذي يكسب معسكر الممانعة لتلك الهيمنة حليفا قويا، يمكن ان يكون نصيرا مهمّا للعرب اذا عرفوا كيف يستثمرون تلك اللحظة، وبطبيعة الحال فإن ايران هي احد الرابحين الكبار من هذه المواجهة بين موسكو وواشنطن، لأن ذلك يعزز معسكر الممانعة الذي تثق به، كما انه يقوي موقفها في صراعها دفاعا عن برنامجها النووي.
من الامور المهمة التي كشفت عنها الازمة الجورجية ان اسرائيل كانت طوال الوقت هي الواجهة أو الذراع التي استخدمتها الولايات المتحدة في تعزيز موقف جورجيا ودفعها الى تحدي موسكو، شجعها على ذلك ان لها مطامعها الخاصة في منطقة القوقاز الغنية وذات الاهمية الاستراتيجية، اذ ثبت ان اسرائيل هي احد الموردين الاساسيين للسلاح الى جورجيا، كما ان خبراءها هناك يعملون مع القوات الجورجية، اضافة الى بعض المرتزقة ايضا، بل إن وزير دفاعها ذاته من أصل إسرائيلي، وحين أسقطت طائرة روسية طائرة أخرى جورجية بدون طيار، تبيّن أنها إسرائيلية الصنع، وهو ما أكدته جريدة يديعوت أحرونوت التي استعرضت في تقرير نشرته صور التعاون العسكري بين اسرائيل وجورجيا، وهو ما أثار حفيظة الروس. الذين حذروا حكومة تل أبيب عدة مرات من مغبة استمرار دعمها لجورجيا، ومساعدتها على تهديد الأمن القومي الروسي، ورغم أن الإسرائيليين قالوا إنهم يقدمون اسلحة دفاعية الى جورجيا، إلا أن ذلك لم يقنع موسكو،
وذكرت صحيفة هاآرتس أن الخارجية الاسرائيلية أوصت بتجميد مبيعات السلاح الى جورجيا خشية ردود فعل روسيا، التي قد تدفعها الى تقديم اسلحة متقدمة مضادة للطيران الى ايران وسورية.
الشاهد أن هذه الملابسات أوصلت العلاقات بين موسكو وتل أبيب الى حدود الأزمة، التي يفترض في الظروف العادية أن تُحدث ثغرة تمكِّن العرب من أن يستفيدوا منها، سواء عبر استعادة أو ترميم جسورهم مع موسكو، أو في تعزيز موقفهم في الملف الفلسطيني، باعتبار روسيا عضوا في مجلس الامن لها حق الفيتو، لكن ذلك يفترض وجود عقل عربي واع، غيور على المصالح العربية العليا، وحريص على الخروج من قيد الهيمنة الاميركية، ثم انه يفترض وجود ارادة عربية واحدة، مدركة لطبيعة التغيرات في الساحة الدولية، وفاهمة أن روسيا لن تعطي شيئا بالمجان، وليست فاعل خير، ولأن شيئا من ذلك كله غير متوافر، فقد كان طبيعيا أن يتجاهل وزراء الخارجية العرب الموضوع، معتبرين أنه لا شيء فيه يخصنا
فهمي هويدي