الغش سلوك مكروه وعمل قبيح، يشتكي منه كثيرون ومع ذلك يمارسه كثيرون، فقد تشتري صندوق فاكهة يحلف لك البائع أنها جديدة ثم تكتشف أن الطبقة السفلى من الصندوق كلها تالفة فتعرف أنه كان يكذب عليك، وقد تنقل كفالة خادمة إليك بعد أن يخبرك كفيلها أنها ماهرة لكنه مضطر للتخلي عنها لأنه مغادر البلاد، فتكتشف فيما بعد أنها حامل أو مريضة مرضا مزمنا فيصدمك أنه خدعك. وقد تطلب من مهندس الورشة إصلاح سيارتك بقطعة غيار جديدة فيغافلك ليصلحها بقطعة مستعملة ما تلبث أن تتعطل من جديد فتدرك آنذاك أنه غشك.
كل أنواع الغش السابقة هي غش في الأشياء المادية، وهذا النوع من الغش هو على مرارة طعمه، إلا أنه مهما كبر يسهل كشفه وفضح صاحبه، لكن الغش الذي تصعب معرفته، هو ما يحدث في الأشياء المعنوية، كمن يدعي صداقتك ومودتك وكل ما سنحت له الفرصة أخذ يعبر لك عن عمق إخلاصه ومتانة علاقته بك، بينما هو في حقيقة أمره ليس كذلك أبدا، أو مثل من يظهر التقوى والورع ويبدي الزهد في ملذات هذه الدنيا، وهو في باطنه أفسق من الشيطان، أو غير ذلك من صور الغش المعنوية.
هذا النوع من الغش غالبا ينخدع به الناس بسهولة وينطلي عليهم بنعومة فلا يمكنهم اكتشافه أو رؤية دليل عليه، لكنهم متى حدث أن اكتشفوه ووضعوا عليه يدهم، فإن وقعه على نفوسهم يكون أشد إيلاما وجرحا من الغش في الماديات. وبالتالي فإنه سرعان ما تكون عاقبة ذلك النوع من الغش، النفور من فاعله وهجره والابتعاد عنه، وهي فطرة طبيعية، تحدث عفويا في سلوك الإنسان فتمده بنوع من الراحة يخفف عنه ما أصابه من لذع حرقة الخداع.
إلا أن ما هو أسوأ من ذلك، وأشد حرقة منه، هو أن لا يتمكن الإنسان من ممارسة تلك الفطرة الطبيعية في داخله، فيجد نفسه مجبرا على ملازمة من غشه، عاجزا عن الابتعاد عنه، غير قادر على التخلص والفكاك منه، وغالبا يحدث هذا عندما يكون الغش موجها من الذات للذات، ففي مثـل هذه الحالة ليس أنه يصعب اكتشاف الغش، وإنما أيضا لا يمكن الخلاص من فاعله، الذي هو هنا الذات نفسها.
وغش الذات للذات ليس من الحالات النادرة، هو كثير الوقوع، لكن لفرط إحكام الذات للغش، فإن الناس لا يحسون بغشها لهم ومن ثم لا يعترفون بوجوده. فكم منا من يرى في نفسه غير حقيقتها، وكم منا من يرفع نفسه فوق ما تستحق لكنه لا يعترف بذلك !.
اعتاد الناس أن يقولوا عن الضحايا المغشوشين بذواتهم، (مخدوع في نفسه)، لكنهم لو تمعنوا لأدركوا أن لا أحد خدعه، وإنما نفسه خدعت نفسه.
عزيزة المانع
عكاظ