[align=center]من يشتري الجنة؟
دكتور : راغب السرجاني
الحلقة الأولى
=================
المقدمة
===
إن الحمد لله ، نحمده و نستعينه ، ونستغفره ونستهديه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا و من سيئات أعمالنا ، إنه من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أشهد أن محمدا عبده ورسوله
وبعد ....استوقفتني كلمة جميلة لأبي هريرة ، رضي الله عنه ، توضح جانبا من حياة ذي النورين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ..فقد أخرج الحاكم عن أبي هريرة ( متحدثا عن عثمان ) : ( اشترى عثمان الجنة من النبي صلى الله عليه وسلم مرتين ..!!) و قد نسأل أنفسنا : بأي ثمن اشترى عثمان الجنة؟
إن لشراء الجنة طرقا كثيرة
*قد تشتري الجنة بركعتين خاشعتين في جوف الليل
* قد تشتري الجنة بكلمة حق ..ترد ظالما .. أو تنتصر لمظلوم
* قد تشتري الجنة بصيام يوم حار في سبيل الله
* و قد تشتريها ببسمة ود صافية في وجه أخيك
* أو مسحة كف حانية على رأس يتيم
حقا يا أخواني .. ما أكثر طرق شراء الجنة! ولكن .. أي هذه الطرق سلك عثمان؟؟ و الجواب ..عند أبي هريرة ..يقول : ( حين حفر بئر رومة و حين جهز جيش العسرة ) في كلتا المرتين - وفي غيرهما - سلك عثمان في شرائه للجنة طريقا تميز به كثيرا طوال حياته رضي الله عنه..ذلكم هو الطريق
الجهاد بالمال
ومما لا شك فيه .. أن الجهاد بالمال من أهم طرق شراء الجنة .. الجهاد بالمال عبادة تحتاج إليها كل قضايا المسلمين اليوم .. في فلسطين والعراق وغيرهما ..فلا يعقل أن يكون المسلمون صادقين في تعاطفهم مع أخوانهم المجاهدين في أي أرض إسلاميةمحتلة ..دون أن يكون لهذا التعاطف صدى واقعي مادي .. فلا يعرف التاريخ قضايا نصرت بالتعاطف المجرد ، أو بالكلمات المنمقة و الشعارات الرنانة ..ولا يعقل أيضا أن يتحمل فريق من أمة الإسلام وحده عبء صد العدو و تحرير الأرض بالمال و النفس جميعا ..بينما يكتفي سائر المسلمين بالمراقبة لما يحدث و التعاطف السلبي - إن وصل الأمر للتعاطف السلبي - دون أن تتعدى المشاركة هذه الشكليات إلى دعم مادي يساهم بفعالية في إخراج المسلمين من
أزماتهم
في هذه الأسطر نحاول - إن شاء الله - إلقاء الضوء على قضية الجهاد بالمال ... كطريق من طرق شراء الجنة .. وكعنصر أساسي من عناصر التضحية في سبيل الله ..لا يرجى نصر للأمة - لا في فلسطين و لا في غيرها - إلا برسوخه في وجدان المسلمين و سلوكهم
و قد يلحظ القاريء الكريم في هذه السطور تركيزا على الواقع الفلسطيني ، دون غيره من مآسي المسلمين مع أهميتها و إلحاحها جميعا ..و إنما مرد ذلك إلى كون هذه الكلمات ألقيت ضمن سلسلة محاضرات كانت تركز على القضية الفلسطينية في الأساس و معلوم أن سائر مواطن الألم في جسد الأمة تلتقي معا في احتياجها للجهاد بالمال
و غني عن البيان أن لدعم قضايا المسلمين مقومات أخرى - إلى جانب الجهاد بالمال - كوضوح الرؤية ، وقتل الهزيمة النفسية ...فضلا عن تثبيت دعائم الإيمان و تقوية الروابط بين المؤمنين
و نسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين
يتبع
====================
من يشتري الجنة؟
دكتور : راغب السرجاني
الحلقة الثانية
=============
لقطات قبل البداية
========
اللقطة الأولى : رجل يعول أسرة مكونة من عشرة أفراد ...يعمل خارج مدينته ..يخرج كل يوم إلى عمله فإذا بالمعابر مغلقة والمدينة محاصرة ..فيعود إلى أهله خالي الوفاض
اللقطة الثانية:شيخ يمتلك متجرا ..لا يستطيع أن يفتحه إلا قليلا : فالحالة الأمنية حرجة جدا ، و أبناء يهود يعيثون في الأرض فسادا .. و إذا فتحه يوما لا يشتري منه إلا القليل ، فالمال قد قل في الأيدي ، والفقر قد عم في الأرض
اللقطة الثالثة :خمس عائلات قصفت منازلهم ، و بدد متاعهم ، وضاعت أملاكهم ..وهم يبحثون عن مأوى و قد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت
اللقطة الرابعة : عائلة مكونة من أب و أم تجاوزا الستين ، وتسعة أبناء : أكبرهم في السادسة والعشرين .. أما الأب فلا يعمل ، والابن هو من يعول الأسرة ..خرج هذا الابن في مسيرة غاضبة يحمل حجرا يواجه اليهود ..فإذا به يتلقى رصاصة في صدره فيلقى ربه ..و تفقد العائلة عائلها
ولقطة خامسة : رجال من أمتنا مجاهدون صابرون ..باعوا أرواحهم لله ، واشتروا الجنة ..يريدون سلاحا أقوى من الحجر ..لكن هذه الظروف ارتفع فيها ثمن السلاح ، وقلت مصادره ، وقد لا يشترى إلا من يهودي بأضعاف ثمنه ، والرجال المجاهدون لا يستطيعونه ..فيتركون السلاح ، ويحملون الحجر
إخواني في الله ... أتظنون هذه اللقطات نادرة ؟ أتظنون أننا بذلنا مجهودا حتى نجدها؟؟ كلا والله ..هذه لقطات متكررة في كل مدينة ..في كل قرية .. في كل شارع ..بل في كل بيت ..هذه هي فلسطين ..الأرض المقدسة ..و هؤلاء هم إخواننا و آباؤنا و أمهاتنا و أبناؤنا..هذه لقطات تحتاج إلى تفاعل ..تلتقي جميعا في احتياجها إلى علاج واحد : هو الجهاد بالمال
و أنا أعلم أن الحديث عن بذل المال ليس بالحديث المحبب إلى النفوس ، ذلك أن حب المال و الضن به جزء من فطرة هذه النفوس .. وما أسهل الكلام المجرد مهما علت حرارته طالما كان الأمر بعيدا عن إخراج المال وبذله
أخي الكريم إذا كنت ، تشعر في قلبك بحب شديد للمال ، وتعلق كبير به ، و رغبة في الاحتفاظ به وتنميته ..فاعلم أن هذا شيء طبيعي تماما ..بل أن العجيب ألا تشعر بذلك ! هذا التعلق بالمال أمر لا يتعارض بالمرة مع الفطرة السليمة ، و أنا أعذرك تماما في هذا الحب للمال ، لإنه فطرة.. بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعذرك ! بل إن الله -عز وجل - ذاته يعذرك !! لا تتعجب ، وتعال نسبح سويا في آيات الله عز وجل .. أرأيت قوله تعالى في وصفه لبني آدم وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا )(20 سورة الفجر) ، وحتى إن لم تعرف المعنى الدقيق لكلمة جما ).. فإنك ستفهم مقصودها ..هكذا بثقلها (جما)!! يقول ابن كثير في معناها : (جما )أي : كثيرا فاحشا.. أي أن الإنسان جبل على حب المال حبا كثيرا فاحشا !! هذا وصف الله الخبير بما خلق ..العليم ببواطن النفس ، وما تخفي الصدور ..انظر إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يكشف بوضوح أسرار النفس البشرية .. إنه رسول عظيم ..طبيب ماهر ، صلى الله عليه وسلم ! يضع إصبعه بسهولة على مواطن الداء، ويصف بلسانه العذب كيف الدواء ..انظر إليه صلى الله عليه وسلم (في الحديث الذي رواه الإمام أحمد و الطبراني رحمهما الله )عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لو كان لابن آدم واديان من ذهب وفضة لابتغى إليهما آخر ) فهكذا جبل الإنسان على حب المال ، والسعي وراءه .ثم يقول : ( ولا يملأ بطن ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب ) ..انظر إلى روعة التشخيص في كلامه صلى الله عليه وسلم!! إن غريزة التملك ، وغريزة الكنز ، و غريزة السيطرة .. أمور داخلية أصيلة متشعبة في النفس متغلغلة في الوجدان
وكم تعبنا من علماء صوروا لنا الصالحين كالملائكة ليست لهم نفوس البشر ، لا يخطئون و لا يعصون لا يفترون عن عبادة و لا يركنون إلى راحة !..و ليس الأمر كذلك ،فالإسلام دين يعترف بنقائص النفس البشرية فلا يوجد من لا أخطاء له إلا الله سبحانه و تعالى ، ولا يوجد من لا شهوات لديه إلا الله سبحانه و تعالى[/align]