التهديد لايؤخذ بجديّة في مجتمعنا
ناصر الحجيلان
معظم جرائم القتل البشعة تحصل من أشخاص لم يكن يتوقع أحد أنهم قادرون على فعل أي ضرر ضد أي إنسان أو حتى حيوان بسبب لطافة معشرهم ودماثة خلقهم ومظهرهم المألوف الذي يبعث على الاطمئنان وكأن الناس تعرفهم من زمن بعيد. فعلى سبيل المثال، هناك قتلة لهم مظهر وسيم ويتعاملون بلطف مع الناس مما يجذب الآخرين إليهم بشكل فطري كالقاتل الأمريكي تيد بندي (Ted Bundy) أو سكوت بيترسون (Scott Peterson) الذي قتل زوجته الحامل عام 2005وكنا نتابعه وهو يبكي على شاشة التلفزيون مناشداً الجمهور لكي يبحثوا عنها، في حين كان طوال ذلك الوقت يعرف تماماً أين هي! وهناك قاتلات نساء ربات بيوت وأمهات ويعملن في مهن إنسانية مثل التمريض والطب أو مهن تؤثر في ثقافة المجتمع مثل التعليم، فهناك مثلا الممرضة ماري بيث تننق (Marybeth Tinning) التي قتلت أطفالها التسعة خنقًا، وهناك القاتلة معلمة اللغة الإنجليزية ماري ان كوتن (Mary Ann Cotton) التي قتلت أكثر من 20شخصاً من بينهم أطفالها. ومن خلال هذه الأمثلة يمكن لنا أن نفهم أن القاتل نادراً مايبدو متوحشًا أو مريضًا نفسياً أو عقلياً، بل يبدو وكأنه شخص لطيف ومميز في المجتمع ولكنه يخفي في ثنايا نفسه كبتًا واضطراباً يظهره بشكل متطرف عن طريق إيذاء الآخرين.
وما قرأناه عن قصة الشاب العربي الذي ذبح ابن أخته في سوبرماركت بجدة الأسبوع الماضي يوضح بعض سمات المجرمين. فقد نشرت هذه الصحيفة يوم الاثنين الموافق 3مارس 2008م تقريرا مفصلا عن القضية وذكرت أن هذا الشاب معروف بين الجميع بدماثة خلقه ورزانته وحسن معشره، وقد استغرب كل من يعرفه أن يصدر منه مثل هذا الفعل المتوحش.
وقد تابعت بعض التحليلات النفسية والاجتماعية التي نشرت في عدد من الصحف المحلية وفي مواقع النت وفي بعض برامج الإذاعات بالراديو، وكانت تركز على شخصية القاتل باعتباره مختلا عقليًا أو نفسيًا أو أنه مدمن مخدرات أو يمر بحالة ذهان حادّة أو غير ذلك من التفسيرات التي تحاول جاهدة إخراج شخصية ذلك القاتل من نمط الشخصيات السويّة التي نراها ونتعامل معها كل يوم.
والحقيقة أن شخصية القاتل بحاجة إلى دراسة وتحليل، وربما تتاح الفرصة في المستقبل لتناولها، ولكن يهمنا هنا التركيز على سلوك معين وهو عدم أخذ والد الطفل تهديد ذلك الشاب مأخذ الجد حينما هدده القاتل بنحر الطفل فيما لو اقترب أبوه منه. والأب المكلوم مثله مثل غيره من الناس الطبيعين الذين هم نتاج الثقافة العربية التي لا تلقي -في الغالب- بالاً للتهديدات التي نتعلم عدم جديتها منذ الطفولة حينما يطلق الأب أو الأم التهديد ثم لاينفذانه. وهذا التعامل يمثل ثقافة قديمة نجد ملامحها في الشعر العربي وفي الأمثال العربية (الشعبية منها والنخبوية) المليئة بنماذج تؤكد على وجود التناقض بين القول(التهديد) ، والفعل (التنفيذ)، وأنه "ليس كل من قال قولاً وفى"، والجعجعة لاتجلب الطحين، و"لا يضر السحاب نباح الكلاب" وليس كل من "يقاقي يُلاقي". ويرتبط التهديد بالتحدّي المتداخل مع الحدث الانفعالي، وهذا التهديد بدوره ينتج ردة فعل تسعى إلى كسر التحدي ذاته بتحدٍ آخر يقوم على تفريغ التحدّي الأول من دلالته عن طريق إهماله. هكذا نجد المجتمع يتعامل مع التحدّي، ولكن الواقع قد يخالف المتوقَّع فينفّذ الشخص تهديده بالفعل وتقع الكارثة كما حصل في القصة السابقة. ومن هنا تبرز الحاجة إلى أخذ التهديد مأخذ الجد مهما بلغت تفاهته، لأن أخذ الاحتياط لن يضر فيما لو لم يتحقق التهديد. والوقائع تثبت أن المجتمعات التي تعطي التهديد حقه فتأخذ الاحتياط وتستعد للحدث قبل وقوعه دون أن تترك الحال للصدفة هي أقرب إلى تأمين نفسها ضد الجرائم من تلك المجتمعات التي تثق بالشكل وتعلق عليه مصائرها.