لو سأل كل واحد منا نفسه لماذا أنا ثم وضع بعد كلمة أنا اسم الدين أو المذهب أو العقيدة أو الطائفة التي ينتمي اليها، مثلاً لماذا أنا مسلم... مسيحي... يهودي... بوذي... هندوسي... سني... شيعي... إباضي... زيدي... صوفي... سلفي... الى آخر ما لا يحصى من الملل والنحل والمذاهب والفرق، ولعل أقرب الإجابات إلى الصواب والتعميم هي لأننا نشأنا في بيئة تدين بالدين أو الانتماء الذي أنا واحد من أتباعه. فالإنسان بالدرجة الأولى نتاج التنشئة الاجتماعية التي شكلت شخصيته عقيدة وسلوكاً وذوقاً... فلماذا أنا سني لأني ولدت من أسرة سنية وعشت في دوائر أهل السنة، وكذا لماذا هو... وأنت... وهم... وهن... لماذا صرتم من ذاك الدين أو تلك الفرقة أو هذه الطائفة؟!
ومع ذلك، فإن الناس ليسوا نماذج مادية متطابقة بالقياس المنضبط، فإننا أمام ظاهرة إنسانية فيها الفروق الفردية وإمكانية التحول والتنقل من مذهب إلى مذهب، بل الكفر بالأصل الذي تربوا عليه والانتقال من النقيض إلى النقيض، كما ان أبناء المذهب أو الطائفة الواحدة يتفاوتون في درجة عصبيتهم ووعيهم ونضجهم لانتمائهم، فيهم المعتدل والمتسامح والمتشنج والحاقد بل والمريض بانتمائه، أقول هذا لندرك اننا كي نتعايش علينا ان نفهم أنفسنا أولاً ونفهم الآخرين ثانياً، إذ قبل شعار حوار الحضارات المطروح بديلاً عن صراع الحضارات، فإن هناك مرحلة سابقة عليهما وهي مرحلة تعارف الحضارات والشعوب، وهو المصطلح القرآني «لتعارفوا»، بهذا التعارف نحدد معالم الحوار كي ننزع فتيل الفتن والأحقاد والتصفيات أو على الأقل تخفيف حدتها ونتائجها المدمرة، ولقد تعرفنا على أثر البيئة على الشخصية من خلال عرض تجربة الدكتور العلماني نصر حامد أبوزيد في المقال السابق من خلال نشأته في القرية المصرية المفعمة بالجو الصوفي، كما عرض ذلك في كتابه «هكذا تكلم ابن عربي» كنموذج للبيئة في الوسط السني.
واليوم أعرض تجربة حسن العلوي كنموذج شيعي في كتابه «عمر والتشيع» كيف يصور لنا أثر التنشئة الاجتماعية على الطفولة البريئة، يقول حسن العلوي: «ليس في ذاكرتي القروية جديد يستحق التدوين، فكأي طفل في محيطه، يرتسم عمر في مخيلتي الصغيرة شخصاً يشتغل في وظيفة مسؤولة عن عذاب الإمام علي وعائلته. ولم تكن لعمر في ذهني من عمل غير صب الأذى على ابنة الرسول وزوجها وولديها. وربما امتد دوره إلى نهاية العهد الأموي، مشفوعاً باسم يزيد قاتل الحسين في سجع شعبي يكرره الطفل، كلما أكل ثمرة لأول مرة، أو لبس جديداً (البس جديد والعن عمر ويزيد!). وقد يكون عمر في أذهاننا هو الذي قتل الإمام علي! ولم نكن نعرف ان الإمام علي توفي بعد وفاة عمر! وعلى كراهة محيطنا ليزيد، فإن «العدو» الذي كان اسمه يتردد بكثرة هو عمر. فقد كنت أراه في ليلة محددة من كل عام شخصاً من سوقة المحلة، يجري خلفه الصبيان، وقد لفت بطنه بمخدة فوقها ثياب نسوية مما ترتديها الحامل، مصحوباً بزفة من شعر الزجل الشعبي في يوم يسمى فرحة الزهرة. فإذا سألنا الذين هم أسن منا قيل: انه اليوم الذي قتل فيه عمر بن الخطاب ففرحت الزهراء بمقتله. ولم نكن نعلم ان فاطمة الزهراء توفيت قبل مقتل عمر بثلاثة عشر عاماً!».
قلت في المقال السابق ان الدين في كثير من مجتمعاتنا (سنة وشيعة) تحول إلى فلكلور شعبي الدين منه بريء يكرس اللاوعي ويحول صفاء الإسلام الى طقوس بدائية، وهذا ما تسبب في ثورة بعض المثقفين على أصل الدين وتبنوا اتجاهات علمانية كما حصل لحامد أبوزيد كردة فعل لبيئته الصوفية الفلكلورية في المحيط السني أو ليبرالياً كما حصل لحسن العلوي كردة فعل لبيئته الشيعية الفلكلورية.
ولك ان تتأمل كم المغالطات التاريخية والعقدية التي تسربت للطفولة البريئة وكم ستكون نتائجها مدمرة في سني الشباب والرجولة... انها دعوة لمراجعة الموروث وتقييمه بالدين الصافي من الأخلاط كي لا يصحح بالمناهج العلمانية فتكون النتيجة سنيا علمانيا وشيعيا ليبراليا.
بقلم الداعية الكويتي
الشيخ الدكتور / محمد العوضي