أعجب لحال الغرب والعرب، فبعد أن خاضت أمريكا وحلفاؤها طولاً وعرضاً في بلادهم، وذبحت الملايين من أبنائهم ودمرت بيوتهم ومصادر رزقهم، هاهي اليوم تستمتع بأموالهم التي لجأت أو هربت إليها وتهددهم من طرف خفي بالاستيلاء عليها فعلاً بعد أن استولت عليها قيمة. لقد أصبح الساسة والاقتصاديون الغربيون في مجموعة السبعة لا يخجلون من إبداء مخاوفهم هذه الأيام بصوت مسموع من تدفق الأموال التي تملكها وتستثمرها الحكومات الأجنبية ذات الفوائض في موازينها الجارية في الأوراق المالية التحوطية في الدول المتقدّمة من خلال ما أصبح يعرف حديثاً بالإنجليزية بـمسمى Sovereign Wealth Funds وبالعربية (صناديق الثروة السياديّة) وهي صناديق تديرها وتشرف عليها البنوك المركزية أو هيئات استثمارية في الدول ذات الفوائض المالية. وتتراوح هذه الأموال التي يثيرون ضجّة بسببها فيما بين 2.5 و 2.9 تريليون دولار سنة 2005م على مستوى العالم وبعدّة عملات صعبة كالدولار والجنيه واليورو والين حسب تقديرات مجموعة (مورغان ستانلي) المالية. ومعظم هذه الأموال تعود في ملكيتها إلى الهيئة العامة للاستثمار في أبو ظبي التي تملك منها ما يقدّر بـ(875) مليار دولار، وتأتي بعدها سنغافورة التي تملك (330) مليارا، فالمملكة العربية السعودية بمبلغ (300) مليار دولار، والنرويج بمبلغ (300) مليار، فالصين بمبلغ (300) مليار. ويتوقع أن تتنامى هذه الاستثمارات التي كانت تقدر بـ 500 مليار دولار سنة 1999م لتصل إلى قيمة تتراوح فيما بين 12 و 15 تريليون دولار سنة 2015م. وكما يلاحظ على هذه الاستثمارات فإن بعضها يعود إلى دول غير عربية، ولكن ما يقضّ مضاجع القوم هو تزايد الاستثمارات العربيّة فقط وذلك عائد لعدّة أسباب اقتصاديّة ومعلوماتيّة وسياسيّة، من الإقتصاديّة أن هذه الاستثمارات في تزايد رغم أن معظمها تحوّطيّة بمعنى أنها توجّه إلى الاستثمار في الأوراق المالية منخفضة المخاطر منخفضة العائد والتي تأتي في مقدّمتها السندات والأسهم الحكومية متوسطة وطويلة الأجل وهي بالتالي لا تضيف كثيراً لاقتصاديات الدول المستضيفة وتتجنب المخاطر التي تتعرض لها رؤوس الأموال المحلية في الاستثمار، ومن الأسباب المعلوماتية نقص الشفافية وكثافة ظلال السرّية والغموض التي تكتنف هذه الأموال وصعوبة التعرف في كثير من الأحيان على مصادرها ومن يملكها بالفعل ومن يديرها، أما الأسباب السياسية – وهي بيت القصيد- فتدور في نطاق اتخاذ إجراءات متشددة لحرمان الدول التي تملك تلك الاستثمارات من استخدامها في الضغط على الحكومات الغربية لتعديل مواقف أو انتهاج سياسات تخدم مصالحها.
لذلك تحاول الدول الغربية أن تجعل من استثمارات صناديق الثروة السيادية مشكلة ومصدر قلق للدول التي تملكها وللعالم بدلاً من كونها – كما يراد منها – مصدر أمان واستقرار لاقتصادياتها المحلية وللدول المستضيفة وللاقتصاد العالمي بصفة عامّة. ولذلك لجأت تلك الدول الغربية ومنها مجموعة السبعة على وجه التحديد بقيادة أمريكية/المانية إلى حملة منظّمة وفق برنامج واضح للسيطرة على تلك الاستثمارات وحصر (أضرارها) في أضيق نطاق بدءاً بالحدّ من حريّة تحركها والتأكيد على توجيهها قدر المستطاع نحو السندات الحكومية منخفضة العائد لتعديل موازينها التجارية وتمويل عجز ميزانياتها بأبخس الأثمان على حساب تلك الدول التعيسة، وانتهاء بمنعها من التوجه نحو المجالات الاستثمارية المربحة كما حصل بالنسبة لصفقة موانئ دبي العالمية التي ألغيت تحت ضغط من الكونجرس الأمريكي بدعوى حماية الأمن القومي. ولا مانع في نفس الوقت من الاستفادة من أموال تلك الصناديق في مدّ يد العون للصناعات الخاسرة التي ثبت للجميع عدم جدوى الاستثمار بها مثل مجموعة سيتي بنك التي تحولت بخسائرها المتتابعة وتردّي أوضاعها منذ ما يزيد على عقد من الزمان إلى ما يشبه الثقب الأسود في مجرّة الاقتصاد العالمي بابتلاعها لعشرات الملايين من الأموال العربية السيادية وغير السياديّة وآخرها شراء كمية من أسهم هذه المجموعة المزمنة في الانهيار من قبل هيئة استثمارية سيادية في أبو ظبي من خلال صفقة تزيد قيمتها على 7 مليارات دولار دون اعتراض لا من الكونجرس ولا من وزير الخزانة..
وزير الخزانة الأمريكي هذا هو من عزز الحملة لمحاصرة هذه الاستثمارات والعمل على منعها من تحقيق عوائد مجزية بالمساهمة في خفض القيمة الرأسمالية للاستثمارات والعملات المرتبطة بالدولار بتخفيض قيمته وإضعافه أمام العملات الأخرى من ناحية، ومخاطبة البنك الدولي من ناحية أخرى بضرورة إيجاد صيغة (لأفضل سبل الاستثمار الآمن) لهذه الأموال في محاولة منه لتحويلها من مجرد نشاط في العلاقات الاقتصادية الثنائية بين الدول إلى قضية اقتصادية عالمية تستوجب نوعاً من (الوصاية) العالمية. وهو بهذا يعطي دفعة إضافية للتوجّه الذي قادته المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي نجحت في تحقيق إجماع أوروبي على مراقبة استثمارات الصناديق السيادية الأجنبية على مستوى الاتحاد الأوروبي.
بقي أن نعلم أن هذه التريليونات الثلاثة من الاستثمارات السيادية هي في الحقيقة ضئيلة جداً حسب (سيمون جونسون) مستشار ومدير قسم البحوث في صندوق النقد الدولي الذي يرى أنها تبدو ضئيلة إذا ما قورنت بالاقتصاد الأمريكي الذي يصل ناتجه الوطني إلى 12 تريليون دولار،وأكثر ضآلة إذا ما قورنت بالقيمة الإجمالية للأسهم وسندات المديونية الأمريكية المقوّمة بالدولار التي تصل قيمتها إلى 50 تريليون دولار، والأسهم والسندات على المستوى العالمي التي تبلغ قيمتها ما يعادل 165 تريليون دولار. وهو بهذا يرى أنها مهمّة ولكنها ليست ضخمة.
والمؤسف أنه رغم ما يجري لهذه الأموال التي يتعامل معها الغرب بطريقة التعامل مع البصل –مأكول مذموم- ورغم الخسائر التي تتكبدها هذه الاستثمارات، وما يحاك لها من دسائس، ورغم حرمان مواطني الدول التي تملكها من الاستفادة منها مع التسليم بعجز حكوماتها عن استثمارها في اقتصادياتها المحلّية والإقليمية تجد من يدافع عن هذه الاستثمارات السيادية وما يتبعها من ارتباط مخجل بعملات الدول الأجنبية التي تستضيفها، بل هناك من المسؤولين النقديين من يهدد بمزيد منها بدلاً من تبشير مواطنيه باستكمال إعداد الخطط الطارئة لتوسيع الطاقة الاستيعابية لاقتصادياتهم المحلية والإقليمية لإعادة تلك الأموال من مهاجرها وتوطينها عزيزة منتجة في بلادها..
بقلم د / علي حسن التواتي