استوقفني موقف حدث معي أثناء ترويحي عن ابني في إحدى ملاهي الأطفال، فبعد أن أمضى وقتاً ممتعاً في التنقل بين الألعاب المسلية طلب مني أن أشتري له عصير من أحد الأكشاك المتناثرة في كل مكان، ورغبة مني في أن أشجعه وأدفعه شيئاً فشيئاً للاعتماد على نفسه، أعطيته المبلغ و طلبت منه أن يشتري بنفسه و ذهب وأنا أراقبه من بعيد لأرى كيف يتصرف. ذهب ليقف مع غيره من الأطفال أمام البائعة التي لا تكاد ترى منهم إلا كفوفهم المتشبثة بالريال لارتفاع المنضدة التي يقفون أمامها ومن خلفها تلك البائعة،، وتزاحم الأطفال وكثر عددهم ولم أرَ أن أحدهم قد اشترى. وبعد طول انتظار قررت أن أذهب لأشتري له وأنا أنوي أن أقوم بتصرف معين لأرى رد فعل البائعة، ووقفت خلف هذه البراعم البريئة وبكل برود مددت يدي فوق هذه الرؤؤس بمبلغ لأشتري لأبني العصير وناولتني البائعة طلبي في ثوانٍ متجاهلة هذه الأيدي الناعمة التي طال انتظارها، غير آبهة بمشاعر الجوع والعطش،،غير مكترثة بمرارة الانتظار.. متجاهلة أن المكان الذي تخدم فيه مخصص للأطفال وينبغي أن تقوم على خدمتهم أولاً... عندها سحبت ابني من وسط الطابور وأنا لا أفكر إلا في هذه الطفولة... من لها؟!!!
هذا الموقف صورة من صور عدم احترام المجتمع لأطفالنا واحتياجاتهم بدءاً بالأماكن العامة مثل تصرف هذه البائعة الأجنبية التي أؤكد أنها لا يمكن أن تقوم بهذا التصرف في بلدها، و مروراً بعدم إعداد أماكن تسلية الطفل إعداداً جيداً يتناسب مع أعمارهم وأحجامهم وانتهاءً بالمواقف التي تمـرّ على أطفالنـا في مدارس المراحل الأولية والابتدائية والتي فيها غلظة في التعامل معهم من مربي هذا الجيل وكأن الطفل كائن لا يفهم ما يدور حوله وقاصر لا يعرف شيئاً ولن أضرب أمثلة لمثل هذه المواقف فالصحف تطالعنا بين الحين والآخر عن سلوك بعض المربين مع الطلاب حيث يلجأ بعض الآباء لنجدته من عواقب هذا السلوك غير التربوي مع ابنه بالإضافة إلى عامل وجود الخدم في معظم أسر مجتمعنـا السعودي ودوره المؤثر في سلوكيات أبنائنا. إن عدم احترام المجتمع لأبنائنا هو نتاج طبيعي لما نمارسه نحن معهم من أساليب تقلل من أهميتهم. ومن أوجه عدم احترامنا لذات الطفل هو عدم الإصغاء له وتحقير أفكاره وآرائه أو عدم الالتفات لها، بل إنني أرى بعض الأمهات قد تكبح جماح رغبات ابنها لأسباب غير منطقية فقط لإرضاء رغبتها في تلك اللحظة ولنا في رسول الله قدوة حسنة عندما أطال السجـود حتى يرضي رغبة الحسـن والحسين في الركوب على ظهره و هو ساجد صلوات الله وسلامه عليه.
إن من أسلم الطرق وأفضلها في تعزيز شخصية الطفل هي احترامه واحترام رغباته وتلمس المواقف التي يمكن أن نثني عليه فيها والامتناع عن تحقيره وإهانته وتوبيخه لأتفه الأسباب. لذا كان لزاماً على المنزل أن يلعب دوراً كبيراً في تأسيس احترام الذات لدى الطفل ومن ثم ترسيخ احترام المجتمع له، لأنه متى التزم الأهل باحترام الطفل فإنه لا بد أن ينعكس ذلك على شخصية الطفل ويبدأ بتكوين شعور الثقة وينعكس على نظرته للآخرين باحترام مغلف بالمودة والتقدير وتنعدم عنده نزعة احتقاره لنفسه وللآخرين فلا يشعر بالإحباط أو الفشل.
ننسى نحن الكبار و ينسى مجتمعنا أن الأطفال بشر... بشر صغار، لهم عالمهم ولهم أحاسيسهم ومشاعرهم التي نتجاهلها ولا نستطيع أن نفي بمتطلباتها .. إن من حق الأطفال علينا أن تتاح لهم فرصة الاستماع لآرائهم .. لعباراتهم المتقطعة .. جملهم المفككة .. لأفكارهم الخيالية غير المنطقية، يجب تفهّم أسئلتهم واحترامها و الرد عليها .... وإعطائهم الحرية في التعبير عن مكنونات النفس ومناقشة وجهات نظرهم حتى يشعروا بأنهم يشغلون حيزاً في عالمنا الكبير.ليس هذا فحسب فأرى أن الاعتذار والنطق بكلمة آسف ليس غريبة عندما نقولها لأطفالنا في حالة التعدي على حقوقهم و للأسف فنحن نفتقر لهذه الكلمة في مجتمعنا الكبير فكيف ننطق بها لهذا الكائن الصغير!!. أيضاً يجب إعطاء الطفل حقه من التقدير في شتى الصور كأن نستأذن منه عند الحاجة لاستخدام أغراضه وعدم الإنقاص من قدره في وجود من هو أكبر منه... ولعلني هنا أستشهد بموقف للمربي الأول لهذه الأمة صلوات الله وسلامه عليه، فقد أتى له بشراب وكان عن يمينه غلام و عن يساره شيوخ فقال للغلام (أتأذن لي أن أعطي هؤلاء) فقال الغلام (لا، والله لا أؤثر بنصيبي منك أحداً(، فوضعه صلى الله عليه وسلم في يده.
من أجل أن نبني أمة واعية متحضرة مثقفة متقدمة لا بد لنا من بناء شخصيات أبنائنا بشكل مبدع من أجل استثمار هذه الشخصيات في المستقبل لأنهم عماد المستقبل فالاستثمار في البشر عائده يكون على أمة برمتها ولن يأتي ذلك إلا بتضافر جهود المنزل والمدرســة والمجتمع بالالتفات كثيراً وكثيراً إلى احترام الطفولة عن طريق تعليم مبادئ وقيم حقوق الطفولة والتربية عليها لتجسيدها في الممارسـة اليوميـة للأفراد والجماعات وبنشر ثقافة حقوق الطفولة عن طريق تفعيل دور الجمعيات التي تعمل في هذا المجال، وبث البرامج التربوية والتعليمية من خلال جميع مؤسسات المجتمع باعتبار أن المجتمع هو الفضاء الذي يحلق فيه الطفل ويؤثر عليه. كذلك ضرورة تثقيف الطفل بحقوقه وليس فقط واجباته، فمثلما نحرص على تلقينه ما عليه من واجبات تجاهنا يجب أن نحرص على تعريفـه بحقوقـه وكيفية الحفاظ عليها والمطالبة بها بالشجاعة المحمودة وأرى أن ذلك يقع على عاتق وسائل الإعلام بجميع قنواتها حيث أنها من أقوى الوسائل التي يكون تأثيرها مباشراً على الطفل.
و للبراعم كيانها ..
العرض المتطور
