سماء المدينه ملبده بالغيوم ... شوارعها العتيقه مازالت تستلقي تنظر وتنتظر ...
خطوات سالم البائسه توجعها .. يسير سالم بتثاقل شابكا يديه خلف ظهره .. يركل اوجاعه ...
يحوم حوله وقت متخثر .. انه كائن حي اخرج الزمن من حساباته .. كائن لم تعد تحتمل الحياه وجوده ..
سالم ذاك الشاب ابن الخامسه والعشرين لم يكن كسائر ابناء جيله فقد كان ينظر للحياه من اتجاه اخر .. فهو كثير الاطلاع والتأمل
فبينما تشغل ابناء جيله مسائل تافهه هو كان تشغله مسائل كالوجود والنهضه والوحده العربيه والرقي بالبشريه ..
لذا يشعر سالم بالغربه بين اهله واصحابه .. غربه الفكر .. فهو ابد لاينتمي لهذا المجتمع وكأنه رجل اتى من زمن اخر ..
عندما ولد سالم كان المطر يهطل بغزاره على المدينه وكأنه اتى ملبيا لصراخاته .. وها هو الان المطر يهطل يرفع سالم وجهه نحو السماء فتسقط حبه مطر في عينه
نظر الي الارض وضع يديه على وجهه .. ويسمع صوت امه يابني اذهب الي شيخ يقرأ عليك فأنت مسحور لست سالم الذي اعرف ... يسمع صوت اخاه دعنا نذهب بك الي طبيب نفسي كي يعالجك
تتعالى الاصوات وتتوحد اللحظات مسحور مجنون يسد سالم اذنيه ويركض .. يحمله جسدا منهك .. ضعيف ..
وصل سالم الي البحر وتوجه نحو سفينه قديمه القاها البحر على ساحله كما القته الحياه على هامشها وما ان وصل حتى تمدد على الساحل واخذ ينظر الي السماء فلا يرى سوى الغيوم الكثيفه
اراد سالم ان يرتاح من جسده وان يكون هنا روحا بلا جسد ..اراد ان يطلق العنان لروحه وفكره .. اراد ان يحيا دون جسد .. فلا يرى سالم في الجسد سوى دليل لوجود انسان ... ولايجب الوقوف على هذا الدليل كثيرا بل يكفي ان يدلنا على الانسان .. حتى نعانق روحه لنصل لاعلى درجات الانسانيه ..
أخذ يتسائل اين كان جسدي هذا منذ قرون هل كان ممدا على شاطئ في احد زوايا هذا الكون
لا اعلم ولكن حتما يوما ماء سيكون ممددا تحت تراب هذا الكون ... الموت انعزال الروح عن الجسد .. اها انا انعزل عن جسدي ...
... هل انا ميت الان !!!!!!!!
في هذه الاثناء كان صالح الاخ الاصغر لسالم يزداد قلقه على سالم فمنذ ثلاثه ايام لم يعد للبيت ولا يعلم عنه احد شئ ..
اخذ صالح يجوب البيت ذهابا وايابا وما ان تقع عينه على باب غرفه سالم حتى يشعر بخوف ممزوج بحنين ..
توجه صالح لباب الغرفه وادار المقبض بحذر فقد راودته فكره محب ربما عاد سالم بالليل دون ان اشعر .. فتح باب الغرفه وعينه على السرير
الذي بدى له خاليا الا من بعض الكتب ومجموعه اوراق متناثره .. ادار سالم ظهره اراد الخروج الا انه توقف للحظه وعاد الي الغرفه اخذ يجمع الاوراق المتناثره
وفجأه رأي على احد الاوراق مكتوب بخط احمر كبير اليك يا اخي صالح .
امسك صالح بالوقه وجلس على الارض .. واخذ يقرأ :
السلام عليك يا اخي الصغير ...
الان انت تمسك الورقه ومتلهف لقرائه كلمات اخوك .. اشعر بقلقك يا أخي .. ولكن دائما ماكنت اردد امامك اذا تحقق المخاوف تكون النهايه ..
فكل انسان يا اخي يعيش لابد ان تشغله فكره الموت ولا اراه فكره بقدر ما هي حقيقه .. نعم في كل يوم يعيش به الانسان لاتأتي هذه الحقيقه يكون حلم ..
لم انتظرك ياصالح واتيت ..
والان انت تنتظرني اليس كذلك ... ولكن ماذا لو تحققت مخاوفك !!!
دائما يتعرض الانسان لمواقف خطر من مرض او حوادث ولكنه ينجوا لان الخلل الذي حدث بين جسده والكون لم يكن بالامر الكبير .. فيعيش على الامل
وكأن هذه العوارض ماهي الا خدعه كي يطمئن الانسان للخطر الاكبر..
كنت في مامضي اذا سافر ابي بالسياره لمكان ما اكون على اعصابي فأخشى ان لايعود .. مضت خمسه عشر سنه وانا على هذه الحال .. حتى اتى يوم
ركب ابي سيارته وغادر وكنت ايضا اخشى ان لايعود فتحققت مخاوفي .. وقبلها مخاوفه .. توقف ابي عن مواصله السير معنا .. لم اكن متعود على الحياه بدونه
كنت ارى اثره في كل مكان .. اشعر به يمازحني وينهرني ... فأبكي حتى يكاد يغشى علي ..
مرت الايام ولحظات ابي تشغل زمني ..
كنت طول حياتي اخشى هذه اللحظه .. لحظه الفقد .. الموت .. حتى اصبحت حقيقيه ..
كم من مقبره دخلت اودع اشخاص تحققت مخاوفهم .. اشهد اليوم الذي اتي ليذهبوا معه .. واتسائل متى يأتي ذلك اليوم الذي سأحمل به ..
سيجدون جسدي ملقى في مكان ماء .. نعم يا صالح وسيأتيك الخبر .. اتعلم ماهي مخاوفي الان كيف ستتحمل وقع الخبر .. كيف تستقبل الليله التي لااكون موجود بها في الكون ..
ماذا لو اخبرتك اني مت هل سيكون وقت الخبر اخف عليك .. حتما سيكون اخف .. اخف من ان يأتيك رجال يتلعثمون بالكلام ينظرون لك بوجل .. ثم يصعقوك بكلمه
اتعلم يا صالح .. عندما اقول كلمه يحن قلبي نعم فأخوك كاتب ربما انت الوحيد الذي كان يقرأ خربشاتي .. فالكل كان لايرغب فيما اكتب ربما لانني اضهر الحقيقه مجرده ولا احد يريدها
انظر حولك هذه كتبي واوراقي عشت بينها اجمل ايام حياتي .. حتى اني كنت اندم على كل لحظه ضيعتها دون قرائه او كتابه ... اقول لك شي ولكن لاتضحك علي ..
في ليله من الليالي صحيت من نومي وانا اقول لوكنت اعرف القراءه في صغري لما اضعت وقتي بالحبو .. لماذا ضحكت .. نعم اخوك مجنون قراءه
ربما القراءه هي الشي الوحيد الذي سأفتقده !!!
بعد ان تقرأ كتابي ... اكتب لي ردا وضعه تحت وسادتي ..
اه نسيت ان اخبرك شي ربما يفرحك .. الكاتب لايموت .. نعم لايموت لان كلماته تبقى وافكاره تدوم .. و ها أنا احادثك الان وانت تسمعني وهذا خير دليل ... !!!