كانت تظل ساهرة حتى تسري انسام الفجر لتضغط بأناملها الندية على أجفان المؤرقين ،ذلك الصمت الذي تتلوه دناءة الحرمان والخوف من فقدان ولدها الذي استمر لسنين ، حيث امرعت غصون عمره وأثمرت تيجان شبابه مذاقاً حلواَ في خفايا نفسها ،اشرقت شمس الصباح وسارعت بالأنقضاض على شرفات الشوارع والحدائق ، فتحت ام محسن وقبّي عيونها بعدما اردمها الدموع والتعب ، سنين طويلة انقضت منذ ان هربت شمس المساء الباكية متعثرة بين فروع الاشجار عام 1997 ، ذلك المساء الذي دفع احلامها كما تدفع الحصى الصغيرة في طريق السيول ، لانها كانت قد فقدت ابنها بعد طمره تحت التراب حياً ، كان محسن ابنها الوحيد والمعيل لأسرته ، لم يكن حينها يدرك طبيعة الحياة الرعناء التي يعيشها ، فلو كان لحال الدنيا لسان لمحقت سراديب الضلالة ، وسحقت تعجرف كل طاغية ، أم محسن لم تكن تعلم ان ابنها الذي فاضت روحه في ذلك العام بعدما زرع كزهرة مشرقة في اكوام التراب ، لتنبت حباً وسلاماً ، ابتسم ابتسامة اخيرة والتراب ينهال عليه وعلى الشيخ الذي كان بجواره ، لتخرج اخر صرخة ، وداعاً يا امي ... ، ليرتحل مع الريح فيعصر مصارع الليل الموحش ، ظلت تلك الخواطر تلوح في اعالي تصورات ام محسن كشاعر مغمور ينقش خواطر الليل على جدران الألم ، ترى هل سوف يعود محسن ؟ لكنها لم تعلم انها جزافاً تتوسل لرحى الايام والسنين ، لانه ما من رجعة لجسد عانقه التراب ،الى ان جاء عام 2003 ، ليتم العثور على اكثر من 80 مقبرة جماعية جنوبي العراق ، لتجد أم محسن واخيراً ابنها ، وجدت رفاته وفي قلبها حرارة ربما قيض لها ان تتحول الى مشعل .. مشعل عظيم يحرق كل ظالم وطاغية ، اخذت دموعها تلمع كما تلمع قطرات المطر على نوافذ الزجاج ، واخيراً تحقق حلمها وألفت ابنها ذو 18 ربيع ، لتسقي جذروه الذابلة بدموعها المشتاقة .
بقلمي