إعداد: قسم الأبحاث
الدستور الجمعة 21/3/1986
الكرامة .. تحول نوعي في المواجهة مع العدو الصهيوني
سطر الشهداء بدمائهم سفر المجد والخلود تلاحم الجيش والشعب والقيادة يصنع ملحمة النصر
تصادف " اليوم" الذكرى الثامنة عشره لمعركة الكرامة، التي سجل المقاتل الأردني فيها انتصارا عسكريا مميزا على الجيش الصهيوني في وقت بلغت الغطرسة الصهيونية اوجها بعد هزيمة حزيران 1967.
وجاء الصمود الأردني في وجه القوات المعتدية ليعطى الإنسان العربية أينما وجد، أملا متجددا ، بأن الإيمان بالله والثقة بالنفس تبنيان جسور التضحيات في طريق النصر الكبير، وتمنح الحماس الدافق في الأفئدة المؤمنة بقدرتها لفتح طريق النصر في سبيل مجد الأمة العربية وعزتها.
لقد أثبتت هذه المعركة أن قلة الإمكانات المادية لا تحدب النصر لمن كانت لدية العزيمة والثقة، والإيمان بالله ، والتصميم على الاستشهاد والنصر وسحق المعتدي.
الفريق الركن مشهور حديثة / قائد الفرقة الأولى في المعركة:
لأول مرة يطلب العدو الصهيوني وقف إطلاق النار بطولات الكرامة مهدت الطريق لبطولات حرب رمضان المجيدة أسقطت الكرامة مقولة الجيش الذي لا يقهر
خيوط النصر
ففي مساء يوم الأربعاء 20/3/1968 كانت القيادة الأردنية تتابع تحركات (15) ألف جندي صهيوني جرى تحشيدهم عند مدينة أريحا، في الوقت الذي استعدت فيه الدبابات الأردنية لمواجهة جحافل الشر والعدوان.
وفي الصباح بدأ الهجوم الصهيوني .. وكان موشى ديان وزير الحرب يومها، يستقل دبابة، وقفت عند جسر الملك حسين، ومعه بعض الصحفيين والمراسلين الأجانب والمصورين الذين حشدتهم الصهيونية ودعتهم لتناول الشاي في الكرامة لقد ظن قادة الصهاينة أن الأمر لمن يستغرق سوى ساعات محدودة حتى يحققوا مآربهم حيث كانت نشوة الشعور بالانتصار في حزيران تأخذ بألبابهم، ولم يعلموا أن الرجال الأبطال مصممون على دحرهم في الشونة وفي الكرامة وفي مختلف المواقع.
ويومها تبجح الصهاينة بأن فرقة المظليين التي هبطت فوق تلال الكرامة كفيلة بالقضاء على أية مقاومة.
فجر النصر
وفي فجر الخميس الحادي والعشرين من آذار 1968 بدأ هدير الدبابات الصهيونية يخترق سكون الشونة الهادئة ، وفي ذات الوقت كانت بعض طائرات العدو السمتية تحلق في سماء القرية الوادعة، وراحت تلفي بمنشورات باللغة العربية تدعو السكان إلى عدم المقاومة، بينما قامت بعض طائرات العدو بإنزال المظليين فوق تلال الكرامة حيث تجمعوا في أحد المقاهي لتدارس الموقف تمهيدا لتدمير البلدة واحتلالها، وفي ذات الوقت بدأت قذائف المدفعية الصهيونية الحاقدة تتساقط على البلدة.
ولم يتأخر الرجال في ردهم إذ انطلقت قذائف الدبابات المدفعية الأردنية والرشاشات تنهال على المنطقة وتدب الرعب في قلوب المعتدين، فسارعوا إلى دباباتهم التي كانت تتقدم نحو المنطقة للاحتماء بها هربا وهلعا.
مصيدة الموت
ولكن ما أن وصلت الدبابة الصهيونية الأولى إلى مثلث الشونة - الكرامة، حتى كانت الدبابة الأردنية في التلة المقابلة، تصليها بقذيفة واحدة فتعطبها.
وحاول قائد الدبابة أن يتراجع ولكن انى له ذلك وقد دمرت سواعد الرجال ثلاث دبابات أخرى، خلفه وازداد الأعداء دعرا وبدأوا بالتراجع وأثناء ترجعهم تم تدمير أربع دبابات أخرى.
وأمام هذه المفاجأة التي صفعت العدو قدم العدو بعض لورياته لاختراق الخط وتجاوز المنطقة، للعبور عن طريق المثلث إلى الكرامة، ولكن انى لهم ذلك وقذائف المدفعية والصواريخ تطلق حممها وقذائفها سيلا ينهمر فوق رؤوسهم ، وتم تدمير (10) لوريات على الطريق وإعاقة تقدم الغزاة. خمس ساعات كاملة باءت كل محاولات العدو خلالها لاختراق الطريق المؤدي من المثلث إلى الكرامة، بالفشل مما جعل العدو يدفع بأسراب طائراته لتسهيل الأمر وفتح الطريق أمام دباباته ولكنة فشل هنا أيضا.
ووضع العدو أقصى ثقله للوصول على الكرامة ولم يكن يعلم أن الكرامة العربية صعبة المنال، وبطولة الرجال هزت الأرض من تحت أقدام الغزاة، كان الجميع يتسابقون إلى الشهادة من عسكريين ومدنيين. الشيوخ والشباب، والرجال والنساء, البندقية ، الفأس وسكاكين المطابخ، والسلاح الأبيض تصدر لبرابرة العصر.
لقد حاول العدو عند الاختراق عبر ثلاثة محاور: العارضة، وادي شعيب، السويمه، وقد تم إحباط تقدم العدو على محور سويمه، وتم تثبيت قواته المتقدمة على محور العارضة، في منطقة المثلث، في حين تمت معالجة تقدم قوات العدو على محور وادي شعيب.
يوم الكرامة
أما في الكرامة فقد كانت القوة الغازية التي تقدمت باتجاه الكرامة هي " القوة الرئيسية" للأعداء فكانت الكرامة مقبرة للطامعين الذين أرغموا على التقهقر مخلفين آلياتهم المعطوبة في ساح الوغى، وقام العدو بعمليات إنزال على مشارف المرتفعات الشرقية لبلدة الكرامة ولكنه جوبه بنيران مركزه من المدفعية والدبابات والرشاشات التي أوقعت في صفوفه خسائر كبير فبدأ يستخدم الطائرات العمودية لنقل الجرحى إلى الخطوط الخلفية. وأمام قوة الضربات التي واجهها بدأ العدو بفتح جبهة جديدة وتوسيع جبهة القتال في محاولة لتشتيت المدافعين فأرسل طائراته إلى غور الصافي جنوب البحر الميت حيث بدأت تقصف المدنيين بقنابلها لتمهيد الطريف للدبابات الزاحفة في تلك المنطقة.
وفي الكرامة دفع العدو بستين طائرة أخرى عند الظهيرة وأخذت الطائرات تقصف السكان في جبال السلط.. وكانت الغاية هي قطع الإمدادات العسكرية المتجهة إلى ميدان الشرف، واشغال قوات المقاومة، حتى يتمكنوا من الانسحاب وسحب قتلاهم من ارض المعركة، خاسئين مقهورين.
وإذا كان الغزاة قد استأسدوا على المدرسة الثانوية في الشونة وبعض المدارس الأخرى والمقاهي وسينما فلسطين في البلدة فانهم قد وجهوا ضراوة وبأسا وشراسة في القتال والمواجهة قلبت جميع حساباتهم.
وحين خيم الظلام على المنطقة بعد (16) ساعة من الملحمة الفذة كانت رائحة الأجساد التي احترقت وهي مقيدة في دباباتها من جنود العدو، الذين احترقوا مع آلياتهم تملأ جو المنطقة ، بينما كانت مشاعل الأبطال ، تتحرك هنا وهناك بحثا عن فلول الهاربين من الأعداء الذين تكبدوا ألف قتيل وجريح ومجموعة كبيرة من الدبابات والآليات وسبع طائرات.
انقلب السحر
وبدلا من أن يستعرض العدو عضلاته في عمان كما كان يتوق كانت دباباته ولورياته والياته المدمرة هي التي تعرض في شوارع عمان، وفي ساحة أمانة العاصمة ، وباختصار لقد حطمت الكرامة أسطورة الجيش الذي لا يقهر.
أنباء النصر
وفيما يلي مقتطفات من أقوال وكالات الأنباء العالمية وأقوال الأعداء أنفسهم " والفضل ما شهد به الأعداء" حول ذلك اليوم المشهود.
قالت وكالة اليونايتد برس يوم 29/3/68 أن أحد المسؤولين الكبار في دولة كبرى ذكر لها أن (إسرائيل) فقدت في هجومها الأخير على الأردن آليات عسكرية تعادل ثلاث مرات ما فقدته في حرب حزيران.
وقال حاييم بارليف رئيس أركان العدو الصهيوني في حديث له نشرته جريدة هارتس يوم 31/3/68 " إن عملية الكرامة كانت فريدة من نوعها ولم يتعود الشعب في (إسرائيل) مثل هذا النوع من العمليات، وبمعنى آخر كانت جميع العمليات التي قمنا بها تسفر عن نصر حاسم لقواتنا ، ومن هنا فقد اعتاد شعبنا على رؤية قواته العسكرية وهي تخرج متنصرة من كل معركة أما معركة الكرامة فقد كانت فريدة من نوعها، بسبب كثرة الإصابات بين قواتنا، والظواهر الأخرى التي أسفرت عنها المعركة مثل استيلاء القوات الأردنية على عدد من دباباتنا والياتنا وهذا هو سبب الدهشة التي أصابت المجتمع الإسرائيلي إزاء عملية الكرامة.
سجل الكرامة
وقد أجمعت وكالات الأنباء العالمية من الأراضي المحتلة على القول أن معركة الكرامة أثارت عاصفة من الاستياء في أوساط الشعب اليهودي وقامت مظاهرات صاخبة في القدس وتل أبيب وباقي المدن اثر دفن اكثر من (250) قتيلا من ضباط وجنود العدو، وقد لوحظ الذعر في المستعمرات الأمامية.
لقد انقطعت زيارات اليهود إلى مدن الضفة ومنعت سلطات العدو اليهود من دخول أية مدينة عربية، ومنعت زيارات المواطنين العرب من الضفة الغربية إلى المناطق المحتلة ، وانتقلت موجة من الاستنكار إلى الكنيست الصهيوني أثناء مناقشة الحكومة لنتائج معركة الكرامة.
لجنة تحقيق
قال عضو الكنيست شلومو جروسك: "يساورنا" الشك حول عدد الضحايا بين جنودنا, وقال شموئيل مامير " نطالب بتشكيل لجنة برلمانية للتحقيق في نتائج الحملة على الأراضي الأردنية لان عدد الضحايا اكبر نسبيا في القوات الإسرائيلية".
وفي هذه الذكرى الماجدة لا نملك إلا أن نقف إجلالا واحتراما لذكرى شهداء الكرامة وأبطالها، الذين صنعوا بدمائهم الزكية اشرق صفحة في تاريخ امتنا الحديث .. فقد ترك لنا شهداء الكرامة القوة والعزم والتضحية والإيمان وساما على صدر الوطن .. فإلى جنات الخلد يا شهداءنا الأبرار.
والله نسأل إن يهبنا صدق عزيمتهم والسير على خطاهم لتحرير الأقصى والمقدسات وتحقيق النصر.
يوم الكرامة
الفريق الركن المتقاعد مشهور حديثه الجازي قائد الفرقة الأولى التي تولت شرف سحق العدوان الصهيوني في الكرامة .. يحدثنا عن معركة الكرامة ويوم الكرامة قائلا :
قبل كل شئ أحيي الشهداء الأبرار من ضباط وضباط صف الذين استبسلوا وقدموا أرواحهم للدفاع عن تراب الوطن الغالي، وأسال الله عز وجل أن يسكنهم فسيح جنانه، كما أتقدم لكل عضو من أعضاء الفرقة الأولى التي كان لي الشرف أن أقودها في معركة الكرامة سواء العاملين في قواتنا المسلحة أو الزملاء من قادة التشكيلات وضباط وضباط صف الذين اصبحوا خارج الخدمة الان بالتحية الصادقة واقو لهم في يوم الكرامة لقد كنتم رجالا أمنتم بالله العظيم وقاتلتم بكل بسالة ودافعتم دفاع الأبطال عن تراب الوطن وهزمتم عدوكم في يوم أغر فمحبتي وتقديري لكل واحد منكم حيثما وجد.
معركة الكرامة
أما يوم الكرامة ومعركة الكرامة فكما هو معلوم خطط لهذا الغدر من قبل العدو وذلك بعد انتصاره السريع على الجبهات العربية بعدد من الأيام وبأقل خسائر مما زاد في غرور وطيش العدو في حزيران .
لقد ثبت للعدو أن قواتنا بدأت بإعادة تنظيم سريعة وثبت له أن قواتنا المسلحة أصبحت تتنامي مقدرتها القتالية ، وكذلك بدأت تتنامي الحركة الفدائية في الخطوط الأمامية ، وأراد العدو من هذه المعركة إصابة اكثر من هدف، أولا تحطيم القوة العسكرية , الروح القتالية، وثانيا القضاء على الحركة المقاومة العربية وقتلها في مهدها وثالثا السيطرة على وادي الأردن باحتلال المرتفعات الشرقية وبذلك يصبح الوضع أشبه بجنوب لبنان بالمساومات السياسية ومعاركه اليومية (لا سمح الله).
في هذه المعركة انتصر الحق على الباطل وانتصر المقاتل المؤمن بربه ووطنه على الغازي المتغطرس.
أرجو أن أوضح شيئا نعتز به في هذه المعركة وهي :
أن العدو خلال كل معاركة القتالية مع الجبهات العربية لم يطلب ايقاف القتال إلا في هذه المعركة وهذه هي المرة الأولى.
إن مجموع ما لحق بالعدو من خسائر والتي قدرت بحوالي 1000 قتيل وجريح وحوالي 400 آلية منها الناقلات المصفحة والدبابات وإسقاط سبع طائرات من نوع فانتوم، وهذه الخسائر كانت اكبر من جميع الخسائر التي لحقت به على كافة الجبهات العربية خلال حرب حزيران 1967. مقابل خسائرنا باستشهاد وجرح مائة وعشرين من كافة الرتب.
إن الصمود الرائع الذي سطره جنودنا ومقاتلونا البواسل في المعركة دمر سمعة العدو ورفع المعنويات العربية بشكل عام وكان سببا لفشل وتحطيم قائد حملة العدو الجنرال ديان الذي كان يطمع بان يلتقي مع مراسلي الصحف على الضفة الشرقية ظهر يوم 21/3/68, وبدلا من ذلك عادت قواته الغازية على أعقابها خاسرة.
إن أثار هذه المعركة تعدت الساحة الأردنية للساحات والجبهات العربية الأخرى حيث كانت ابرز مثال على بسالة المقاتل العربي، وقدرته على دحر العدو حيث جاءت مترجمة ذلك وصداه في حرب رمضان المجيدة في تحطيم خط بارليف، وسحق العدو في جبل الشيخ والمرتفعات السورية فقد تمكن المقاتل العربي في الكرامة، وبعدها في حرب رمضان من تحطيم أسطورة الجيش الذي لا يقهر وستبقى الكرامة سفرا خالدا ناصعا في جبين التاريخ العربي وفي سجل البطولات العسكرية الفذة.
لقد حيا الجنرال غريشكو وزير الدفاع السوفيتي صمود قواتنا المسلحة بهذه المعركة خلال زيارته بذلك اليوم للشقيقة سوريا. وهذا دليل ناصع على أهمية ومدلول المعركة المجيدة واليوم الأغر.
أمل أن تكون ذكرى الكرامة بمثابة الاستعداد للمعركة القادمة مع عدو هذه الأمة وتحرير الأرض والمقدسات من الهجمة