القصة من التراث العربي ( قصة بلقيس )
وتقول القصة الاولى في كتاب ( وصايا الملوك لدعبل الخزاعي :
خرج الهدهاد بن شرحبيل للصيد في جماعة من خدمه وخاصته، فرأى غزالة يطردها ذئب وقد أضافها إلى مضيق ليس للغزالة منه مخلص، فحمل الهدهاد بن شرحبيل على الذئب حتى طرده عن الغزالة، وخلصها منه، وانفرد يتبعها، لينظر أين منتهى ما بها. قال: فسار في أثر الغزالة، وانقطع عنه أصحابه، فبينما هو كذلك إذ ظهرت مدينة عظيمة، فيها من كل شيء دعاه الله باسمه من الشاء والنعم والنخل والزرع وأنواع الفواكه. قال: فوقف الهدهاد بن شرحبيل دون تلك المدينة متعجباً مما ظهر له، إذ أقبل عليه رجل من أهل تلك المدينة التي ظهرت له يسلم عليه، ورحب به وحياه. ثم قال له: أيها الملك إني أراك متعجباً مما ظهر لك في يومك هذا. قال: فقال الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو بن يشدد بن الفظاظ بن عمرو بن عبد شمس: إني لكما ذكرت، فما هذه المدينة؟ ومن ساكنها؟ قال له: هذه مأرب، سميت باسم بلد قومك، وهي مدينة عرم، حي من الجن، وهم سكانها، وأنا اليلب بن صعب ملكهم وصاحب أمرهم، وأنت الهدهاد بن شرحبيل ملك قومك وسيدهم وصاحب أمرهم. قال: فبينما هو معه في هذا الكلام إذ مرت بهما امرأة لم ير الراؤون أحسن منها وجهاً، ولا أكمل منها خلقاً، ولا أظهر منها صباحة، ولا أطيب منها رائحة. قال: فافتتن بها الهدهاد بن شرحبيل، وعلم ملك الجن أنه قد هويها وشغف بها. فقال له: يابن شرحبيل، إن كنت قد هويتها فهي ابنتي وأنا أزوجكها. قال: فجزاه الهدهاد بن شرحبيل خيراً على كلامه، وقال له: من لي بذلك؟ فقال اليلب: أنا لك بما عرضت عليك من تزويجي إياها منك، وجمعي بينكما على أسر الأحوال وأيمنها، فهل عرفتها؟ فقال له الهدهاد: ما عرفتها قبل يومي هذا، فقال اليلب للهدهاد: هي الغزالة التي خلصتها من الذئب، ولأكافئنك على جميع فعالك أبداً بأحسن من محبواتها، فتأهب لدخولك عليها، فقد زوجتك إياها بشهادة الله وشهادة ملائكته، فإذا أردت ذلك فقدم إلينا بخاصتك من قومك وأهل بيتك وملوك قومك ليشهدوا ملاكك ويحضروا وليمتها، وميعادك الشهر الداخل. قال: فانصرف الهدهاد بن شرحبيل على الميعاد، وغابت المدينة عنه، فإذا هو بأصحابه حوله يدورون. فقالوا له: أين كنت؟ فنحن في طلبك مذ فارقتنا، ولم نترك شيئاً من هذه الفلوات إلا وقد قلبناه عليك وطلبناك فيه. فقال لهم: لم أبعد ولم أغب وأقبل يسير وهو يقول: " من البسيط "
عجائِبُ الدَّهرِ لا تَفَنى أوابدُهَا ... والمرءُ ما عاشَ لا يخلُو مِنَ العَجَبِ
ما كُنتُ أَحسِبُ أنَّ الأرضَ يعمُرُها ... غيرُ الأعاجِمِِ في الآفاقِ والعَربِ
وكُنتُ أُخبرُ بالجِنِّ الخُفاةِ فلا ... أرُدُّ أخبارَهَا إلاَّ إلى الكَذبِ
حتَّى رأيتُ أقاصيرَاً مُشيَّدةً ... للجِنِّ محفُوفةَ الأبوابِ والحُجُبِ
يحُفُّهَا الزَّرعُ والمَاءُ المَعِينُ بها ... معَ المواقيرِ مِنْ نخلٍ وَمِنْ عِنبِ
ما بينها الخيلُ مِنْ طَرفٍ ومِنْ تلدٍ ... والخُورُ فيها من الأنعامِ والكَسَبِ
وكُلُّ بيضاءَ تحكِي الشَّمسَ ضاحِيةً ... هيفاءَ لفَّاءَ من موصُوفةِ العَربِ
مضى جمادُ ويأتِي بعدهُ رجبٌ ... وسوفَ أُسرِيْ على المِيعادِ في رَجبِ
حتَّى أُوافِيَ خيرَ الجِنَّ مِنْ عَرمٍ ... ذاكَ ابنُ صَعْبٍ هُوَ المَعروفُ باليَلَبِ
أبغِي لَدَيهِ الَّذي أرجُوهُ مِنْ سببٍ ... مِنْ التَّواصُلِ والإصهارِ والنَّسَبِ
ويقال: إن الهدهاد بن شرحبيل خرج على الميعاد إلى أصهاره الجن في خاصة قومه وخدمه حتى وافاهم، فوجد قصراً بناه له الجن في فلاة من الأرض، تحفه النخل والأعناب وألوان الزروع وأنواع الفواكه، تجري فيه الأنهار الجارية. قال: فتعجب القوم من ذلك تعجباً شديداً، ورأوا ملكاً عظيماً، فنزلوا في القصر معه على فرش لم يروا مثلها، وقربت لهم موائد، عليها من طيبات المأكول وألوانها التي لم يأكلوا قط أطيب منها طعماً ولا أزكى رائحة، وسقوا من الشراب ما لم يشربوا قط أهضم منه ولا ألذ ولا أمرأ ولا أخف منه. فمكثوا معه ثلاثة أيام بلياليها في ذلك. ورفعت إلى الهدهاد بن شرحبيل امرأته الحرور بنة اليلب بن صعب العرمي ملك الجن. قال: وأذن الهدهاد لبني عمه وخاصة عشيرته بالانصراف إلى مواضعهم، وصار ذلك القصر دار مملكته.
ويقال إنه مكث زماناً طويلاً مع الحرور بنة اليلب بن صعب، وولد منها بلقيس بنة الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو بن يشدد بن الفظاظ بن عمرو بن عبد شمس. قال: فلما ترعرعت بلقيس توفي أبوها الهدهاد، ولم تعش بعده أمها الحرور بنة اليلب إلا قليلاً، كانت بلقيس سليلة حسبٍ و نسب، فأبوها كان ملكاً، و قد ورثت الملك بولاية منه؛ لأنه على ما يبدو لم يرزق بأبناء بنين. لكن أشراف وعلية قومها استنكروا توليها العرش وقابلوا هذا الأمر بالازدراء و الاستياء، فكيف تتولى زمام الأمور في مملكة مترامية الأطراف مثل مملكتهم امرأة ، و كان لهذا التشتت بين قوم بلقيس أصداء خارج حدود مملكتها، فقد أثار الطمع في قلوب الطامحين الاستيلاء على مملكة سبأ، ومنهم الملك "عمرو بن أبرهة" الملقب بذي الأذعار. فحشر ذو الأذعار جنده و توجه ناحية مملكة سبأ للاستيلاء عليها و على ملكتها بلقيس، إلا أن بلقيس علمت بما في نفس ذي الأذعار فخشيت على نفسها، إلا أن بلقيس أرسلت إلى ذي الأذعار وطلبت منه أن يتزوجها بغية الانتقام منه، وعندما دخلت عليه استلت سكينا وقتلته به . وهذه الحادثة هي دليلٌ جليّ وواضح على رباطة جأشها وقوة نفسها، وفطنة عقلها وحسن تدبيرها للأمور، وخلصت بذلك أهل سبأ من شر ذي الأذعار وفساده.
وازدهر زمن حكم بلقيس مملكة سبأ أيمّا ازدهار، واستقرت البلاد أيمّا استقرار، وتمتع أهل اليمن بالرخاء و الحضارة والعمران والمدنية. كما حاربت بلقيس الأعداء ووطدت أركان ملكها بالعدل وساست قومها بالحكمة. ومما أذاع صيتها و حببها إلى الناس قيامها بترميم سد مأرب الذي كان قد نال منه الزمن وأهرم بنيانه وأضعف أوصاله، وبلقيس هي أول ملكة اتخذت من سبأ مقراً لحكمها.
وقد كان قوم بلقيس يعبدون الأجرام السماوية والشمس على وجه الخصوص، و كانوا يتقربون إليها بالقرابين، و يسجدون لها من دون الله، و هذا ما لفت انتباه الهدهد الذي كان قد بعثه سليمان - عليه السلام- ليبحث عن موردٍ للماء. و بعد الوعيد الذي كان قد توعده سليمان إياه لتأخره عليه بأن يعذبه إن لم يأت بعذرٍ مقبول عاد الهدهد و عذره معه “أحطت بما لم تحط به و جئتك من سبأ بنبأ يقين”، فقد وجد الهدهد أن أهل سبأ على الرغم مما آتاهم الله من النعم إلا أنهم” يسجدون للشمس من دون الله “.
فما كان من سليمان –عليه السلام- المعروف بكمال عقله وسعة حكمته إلا أن يتحرّى صدق كلام الهدهد، فقال: " سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين"، وأرسل إلى بلقيس ملكة سبأ بكتابٍ يتضمن دعوته لهم إلى طاعة الله ورسوله والإنابة والإذعان، وأن يأتوه مسلمين خاضعين لحكمه وسلطانه، ونصه "إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم* ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين" .
ولما عُرف عن بلقيس من رجاحة وركازة العقل فإنها جمعت وزراءها وعلية قومها، و شاورتهم في أمر هذا الكتاب. في ذلك الوقت كانت مملكة سبأ تشهد من القوة ما يجعل الممالك الأخرى تخشاها، و تحسب لها ألف حساب. فكان رأي وزرائها “ نحن أولوا قوةٍ و أولوا بأس شديدٍ “، في إشارةٍ منهم إلى اللجوء للحرب والقوة. إلا أن بلقيس صاحبة العلم والحكمة والبصيرة النافذة ارتأت رأياً مخالفاً لرأيهم، فهي تعلم بخبرتها وتجاربها في الحياة أن “ الملوك إذا دخلوا قريةً أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون”، وبصرت بما لم يبصروا ورأت أن ترسل إلى سليمان بهديةٍ مع علية قومها وعقلائهم، عله يلين أو يغير رأيه، منتظرةٌ بما يرجع المرسلون ، ولكن سليمان –عليه السلام- رد عليهم برد قوي منكر صنيعهم ومتوعد إياهم بالوعيد الشديد قائلاً: “أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتكم، بل أنتم بهديتكم تفرحون”، عندها أيقنت بلقيس بقوة سليمان وعظمة سلطانه، وأنه لا ريب نبي من عند الله –عز وجل-، فجمعت حرسها وجنودها واتجهت إلى الشام حيث سليمان –عليه السلام-.
وكان عرش بلقيس وهي في طريقها إلى سليمان –عليه السلام- مستقراً عنده، فقد أمر جنوده بأن يجلبوا له عرشها، فأتاه به رجلٌ عنده علم الكتاب قبل أن يرتد إليه طرفه. ومن ثم غّير لها معالم عرشها، ليعلم أهي بالذكاء و الفطنة بما يليق بمقامها و ملكها.
مشت بلقيس على الصرح الممرد من قوارير والذي كان ممتداً على عرشها، إلا أنها حسبته لجةً فكشفت عن ساقيها وكانت مخطئة بذلك عندها عرفت أنها وقومها كانوا ظالمين لأنفسهم بعبادتهم لغير الله –تعالى- وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين.
وتقول المراجع التاريخية أن سليمان –عليه السلام- تزوج من بلقيس، وأنه كان يزورها في سبأ بين الحين والآخر. وأقامت معه سبع سنين وأشهراً، و توفيت فدفنها في تدمر، وتعلل المراجع سبب وفاة بلقيس أنها بسبب وفاة ابنها رَحْـبَم بن سليمان .
وقد ظهر تابوت بلقيس في عصر الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك و عليه كتابات تشير إلى أنها ماتت لإحدى وعشرين سنة خلت من حكم سليمان. وفتح التابوت فإذا هي غضّة لم يتغير جسمها، فرفع الأمر إلى الخليفة فأمر بترك التابوت مكانه وبنى عليه الصخر .
منقول بتصرف
عبدالله العقبي
[email protected]