لقد سمَّى سماحته الأشياء بمسمياتها، ووضع الأصبع على الجرح، سواء بالنسبة للشباب، أو المحرضين لهم، أو الممولين لهذه الأعمال، أو الجهات المشبوهة المستفيدة من التغرير بأبناء هذا الوطن، والزّج بهم في أتون مهاوي الردى والفتن والصراعات حول العالم.
* أطلق سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبداللله بن محمد آل الشيخ المفتي العام للمملكة رئيس هيئة كبار العلماء وادارة البحوث العلمية والافتاء، تحذيراً للشباب من الذهاب إلى الخارج بحجة الجهاد في سبيل الله..
ومضى سماحته قائلاً: إنه من باب الشفقة على شباب هذا الوطن فقد رأى أن يطلق هذه النصيحة، بعد ما لوحظ منذ سنوات خروج أبناء المملكة إلى الخارج قاصدين الجهاد في سبيل الله.. فهؤلاء الشباب لديهم حماسة لدينهم وغيرة عليه، لكنهم لم يبلغوا في العلم مبلغاً يميزون به بين الحق والباطل، فكان هذا سببا لاستدراجهم، والإيقاع بهم من أطراف مشبوهة، فكانوا (أداة) في أيدي أجهزة خارجية تبعث بهم باسم الجهاد، ليحققوا عبرهم أهدافهم المشينة، وينفذوا من خلالهم مآربهم، في عمليات قذرة هي أبعد ما تكون عن الدين.. حتى بات شبابنا (سلعة) تباع وتشترى لأطراف شرقية وغربية، ولأهداف وغايات مضرة بالإسلام وأهله..
وانطلق سماحته من تحذيره للشباب من الجهاد في الخارج من أن الأوضاع في تلك البقاع من العالم مضطربة، والأحوال ملتبسة، والرايات غير واضحة..
وأشار سماحته الى انه قد ترتب على عصيان هؤلاء الشباب لولاتهم ولعلمائهم، وخروجهم لما يسمى بالجهاد في الخارج، (مفاسد) عظيمة الأولى: عصيان ولي الأمر، والافتئات عليه، والثانية، أن من خرج من شبابنا لما يظنونه جهاداً فإن ذلك (خلعاً) لبيعة صحيحة منعقدة لولي أمر هذه البلاد بإجماع أهل الحل والعقد.. وهذا محرم، ومن كبائر الذنوب..
والمفسدة الثالثة، وقوعهم (فريسة) سهلة لكل من أراد الإفساد في الأرض مستغلاً حماس شبابنا، مما جعلهم (أفخاخاً) متحركة يقتلون أنفسهم، لتحقيق مكاسب سياسية وعسكرية لجهات مشبوهة.
والرابعة، استغلال الشباب من قبل أطراف خارجية، لإحراج هذه البلاد، وإلحاق الضرر والعنت بها، وتسليط الأعداء عليها، وتبرير مطامعهم فيها.
واعتبر سماحته ان هذا من أخطر الأمور، إذ إن هذا الفعل من هؤلاء الشباب فيه تعد يطال ضرره الأمة المسلمة، ويطال شره بلاداً آمنة مطمئنة، وفيه إدخال للوهن على هذه البلاد وأهلها..
وشدد سماحته ان أمر الجهاد موكول إلى ولي الأمر، وعليه يقع واجب إعداد العدة، وتجهيز الجيوش، وله الحق (وحده) في تسيير الجيوش والنداء للجهاد، وتحديد الجهة التي يقصدها، والزمان الذي يصلح للقتال.. فهذه أمور كلها موكولة لولي الأمر..
وهذا الأمر - وفقاً لسماحته - مستقر عند العلماء.. فلا جهاد إلا بأمر الإمام وتحت رايته، وعلى هذا جرى إجماع الصحابة ومن بعدهم من سائر المسلمين، وعليه فإن الذهاب بغير إذن ولي الأمر (مخالفة) للأصول الشرعية، وارتكاب لكبائر الذنوب..
واستطرد سماحته بأن (المحرض) لهؤلاء أحد رجلين: إما رجل جاهل بحقيقة الحال؛ فهذا يجب عليه تقوى الله في نفسه وفي بلاده، وفي المسلمين، وفي هؤلاء الشباب، فلا يزج بهم في ميادين تختلط فيها الرايات وتلتبس فيها الأمور، فلا تتضح الراية الصحيحة من غيرها ويزعم أن ذلك جهاداً.. وإما رجل يعرف حقيقة الحال، ويقصد إلحاق الضرر بهذه البلاد وأهلها بصنيعه هذا، فهذا يخشى عليه أن يكون من المظاهرين لأعداء الدين على بلاد التوحيد وأهل التوحيد، وهذا خطر عظيم.
أخيراً، أوصى سماحته أصحاب الأموال بالحذر فيما ينفقون حتى لا تعود أموالهم بالضرر على المسلمين، كما حث العلماء على بيان الحق للناس، والأخذ على أيدي الشباب وتبصيرهم بالواقع، وتحذيرهم من مغبة الانسياق وراء الهوى، والحماسة غير المنضبطة بالعلم النافع.
من فرط إعجابي بكلمة سماحة المفتي الضافية، أوردتُ مقاطع مطولة منها، فالملفت بدايةً، أنها كُتبت بألفاظ ومفردات عصرية، كما أنها سُطرت بلغة صريحة وواضحة ومباشرة.. لا مواربة فيها، ولا اعتذار، ولا مجاملة، ولا يمكن أن تُقرأ على أكثر من وجه لمن ألقى السمع وهو شهيد.
لقد سمَّى سماحته الأشياء بمسمياتها، ووضع الأصبع على الجرح، سواء بالنسبة للشباب، أو المحرضين لهم، أو الممولين لهذه الأعمال، أو الجهات المشبوهة المستفيدة من التغرير بأبناء هذا الوطن، والزّج بهم في أتون مهاوي الردى والفتن والصراعات حول العالم..
لقد أراد سماحته عبر هذه الكلمة أن يُقيم الحجة على هؤلاء الشباب، وعلى طلبة العلم، وعلى عامة الناس الذين خُدعوا بدعاوى البعض الذين يبررون الجهاد في الخارج من منطلقات شرعية، ويدعون له، أو يموّلونه بحسن نية.
هذه الكلمة ينبغي أن تكون حجر الزاوية في جهود الدولة الفكرية لتحصين الشباب ضد الإرهاب، بعدما تحقق الانتصار على الإرهاب ضمن منظومة الجهد الأمني الذي تقوده وزارة الداخلية، والذي لا يمكن أن يتواصل نجاحه دون أمن وتحصين فكري للشباب، الذين هم الوقود والأداة التي استُغِلت لتوريط الشباب في العمليات الإرهابية حول العالم..
يا ليت العلماء والدعاة والخطباء يحذون حذو سماحة المفتي في كلمته، وأن يكونوا بهذه الجرأة والصراحة والوضوح (بدلاً) من الالتفاف على الأمور، وإطلاق التأويلات غير المنضبطة، أو السكوت ولزوم الصمت المطبق، وكأن البلاد لا تتعرض لهجمة شرسة من أعدائها، بسبب ما فعله فئة ضالة من شبابها.
وللإنصاف، فإن سماحة المفتي لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يحذر فيها من مغبة دفع الشباب للجهاد في الخارج، فقد تحدث سماحته علانيةً، وفي عدة مناسبات، عن هذا الأمر، في معرض حديثه عن جملة من القضايا المتعلقة بمعركة الوطن مع الإرهاب، وتحديداً في (9) مناسبات خلال السنوات الماضية..
لقد قطعنا - في هذه البلاد - شأواً طيباً في تقدم الجهود في معركتنا ضد الإرهاب، فقد تميَّز الجهد الأمني برجاله، وها هو سماحة المفتي يحدث (اختراقاً) ونقلة نوعية في تقدم الجهد الفكري ضد الإرهاب، وكأن سماحته لم يجد مناسبة أفضل من هذا الشهر العظيم ليحث الشباب والعلماء والدعاة وأصحاب الفضول من الأموال للتنبه لخطر محدق بهذا الكيان الوطني بسبب أعمال تصدر من فئة من شبابه.
أحسب أن سماحته أراد حماية الشباب من أنفسهم، ولجم اندفاعهم، بهذه الكلمة الطيبة المقنعة.. إنها (عيدية) ثمينة يقدمها سماحته لشبابنا.. فجزاه الله خيراً نيابةً عن الوطن، وعن آباء وأمهات أكبادهم حرّى من فقدان فلذات أكبادهم تحت راية الجهاد المزعوم في الخارج.
جريدة الرياض