من قديمي الجديد تم النشر في 26 /11/1427 هـ أتمنى يعجبكم
قصة جريج .. ذلك الرجل الصالح من عباد بني إسرائيل .. كان قد اعتاد الاعتكاف في صومعته بعيداً عن أمه التي تشتاق إليه وتسير إلى الجبل حيث صومعته لتمتع ناظريها برؤيته وهو مشغول عنها بعبادته وصلاته... فتنادي .. جريج... فكان يتردد في إجابتها ويقول ( يا رب .. أمي وصلاتي )، فيقبل على صلاته ولا يجيبها، فدعت عليه أن لا يموت حتى يرى وجوه المومسات، فاستجاب الله له فيها حيث اتهمته امرأة بالفجور وادعت أنه والد طفلٍ ولدته ... إلى نهاية القصة .
هذه القصة مقدمة لحديثي عن واقع لمسناه مؤخراً وطراز جديد بدأ يظهر في مجتمعنا من عقوق الوالدين، فتطالعنا بعض الصحف بين الحين والآخر عن قصص لتشرد الآباء.. هروب الأب.. مسن يلتحف الرصيف.. الأب التائه ... ابن يبحث عن أبيه... فلو كان الوضع عكسياً ( أب يبحث عن ابنه ) لانتفى العجب وإن كان غير مُبَرًّر، إلا أن هروب الحدث له أسباب عديدة نتحدث عنها في مقال مستقل لاحقاً بإذن الله ، لكن ما نراه اليوم و نسمع عنه أمر محزن جداً، رب الأسرة يسير هائماً على وجهه مفضلاً الأرصفة على دفء البيت الذي أمضى عمره بين زواياه مع رفيقة الدرب، مخلفاًً أبناءه دون أي شعور تجاههم. ما الذي يجعل هذا الأب بعد أن بلغ أشده و بلغ أربعين سنة وهي سن تمام الرشد والحكمة بالتخلي عن جميع أفراد أسرته ؟ ما الذي جعله يشعر بعدم الانتماء لأسرتـه؟. ما هي حقيقة هذا المـرض الاجتماعي الذي تسلل إلى حياته ؟.
في الحقيقة كنت مترددة في الكتابة حول هذا الموضوع فهناك من هو أقدر مني في سكب الموعظة في قوالب أنيقة لتصل إلى القلب قبل الأذن في نصح الأبناء برعاية الوالدين... لكن ما دفعني للكتابة وهزني وأسال دمعي قبل حبر قلمي هو ما حدثتني به مديرة إحدى المدارس الثانوية حيث ذكرت لي أن والد طالبة حضر إلى المدرسة شخصياً وهاتفها من هاتف البواب، فقال لها (أنا والد الطالبة فلانة و هي كبرى بناتــي، بيني وبين والدتها خلافات منذ عدة أعوام قد تصل للانفصال وهي تعيش معها, ولا تعيرني اهتمام وترفض الرد على مكالماتي ولا تتصرف معي كأب مسئول عنها) وبالطبع قبل مواصلة الحديث تأكدت المديرة من هوية هذا الشخص فسألته المديرة ما هو المطلوب منها كمسئولة عن الطالبة فكانت الإجابة مفجعة فكل ما طلبه هو أن تطلب من ابنته أن تجيب عليه إذا هاتفها على جهازها المحمول الذي اشتراه لها للاطمئنان عليها و على إخوتها وأن تتواصل معه للاطمئنان عليه لأنها لا تعيره اهتمام أو احترام أثناء حديثها معه!.
لماذا؟! دعونا نتأمل الواقع الذي نعيشه .. واقع مجتمعنا الذي يتغير يوماً بعد يوم ويمر بقفزات سريعة سواء كانت تغيرات اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية أو فكرية .. عصر العولمة الذي فتحنا على ثقافات العالم بمختلف الطرق .. النت .. الفضائيات.. السفر.. العمالة الأجنبية, كل ذلك جعل في مجتمعنا بطريق أو بآخر ثقافات جديدة.. سلوكيات غريبة .. أنماطاً اجتماعية مبتكرة وشاذة...مما جعل بعض الأبناء يعيش في معزل عن آبائهم بل تجرأ البعض وهجر والديه ... فلا يخفى على الجميع أن هناك من دفع بوالديه إلى دور رعاية المسنين والعجزة وأحياناً دون علمهم بأن يكتفي الابن بترك والده المسن أمام إحدى هذه الدور ليحضر شيئاً و يعود بعد قليل ولكن للأسف يذهب دون عودة أو أن يبلغ والده بأنهم سيذهبون في زيارة إلى أحد الأقارب، هؤلاء الأبناء لم يبخلوا على والديهم بالعطف والحنان المجاني الذي ينبع من ذات النفس وهي المشاعر الفطرية التي خلقنا الله عليها وإنما بخلوا بالحنان المكلف وأعني بذلك ما يلجأ إليه بعض الأبناء بتخصيص خادمة تقوم برعاية الوالدين في كبرهما (و هم أقل مرتبة في القسوة من الصنف الأول) وربما يفضل الأب الذهاب بقدميه إلى دار الرعاية هرباً من معاملة زوجة ابنه القاسية ..
لنتأمل حال تلك الفتاة وكيف وصلت إلى هذه الدرجة من الجرأة بعقوق أبيها الذي لم ينفصل بعد عن أمها!! و لنتأمل حال هذا الأب وأمثاله ممن فقدوا اهتمام أبنائهم ورعايتهم.. ف شعروا بأن الدنيا ترفضهم لأن أقرب الناس إليهم تركوهم ..هل نحن في حلقة مفرغة ؟؟ بمعنى أن هؤلاء الآباء حصدوا اليوم عقوقهم لوالديهم بالأمس والجزاء من جنس العمل؟ هل هذه القصص التي نسمعها هي عِبَر توقظنا لتدارك بقايا الأعمال والسعي للاهتمام بوالدينا؟...
فهذا أحدهم ملّ من خدمة أبيه فقرر أن يذبحه فأخذه للصحراء لينفذ جريمته دون أن يراه أحد، فوقف الابن العاق أمام أبيه فقال له الأب يا بني ما أنت فاعل ؟ فأجاب العاق سأذبحك.. فأدمعت عينا الأب و قال يا بني إن كنت فاعل فاذبحني عند تلك الصخرة، فأجاب الابن و ما ضرك يا أبي إن كنت أذبحك هنا أو عند تلك الصخرة؟ فأجاب الأب لأنني ذبحتُ أبي عند تلك الصخرة والجزاء من جنس العمل .. وأترك العنان لمخيلة القارئ العزيز ليتأمل في هذه القصة جيداً .. ما الذي جعل هذا الابن يسير بالتحديد إلى المكان الذي فيه تلك الصخرة، على الرغم من امتداد مساحة الصحراء وكبرها .. تُرى لماذا؟؟...
إنني أناشد الأخصائيين الاجتماعيين بالبحث في هذه الظاهرة (آباء مشردون )، فدُور المسنين زاد عددها وغرف مؤسسات الرعاية الاجتماعية تكدست من هؤلاء المسنين. يجب أن نتحرك لمعالجة هذه الظاهرة حتى لا يصبح العقوق سمة بارزة في مجتمعنا .. وقبل أن أودع كلماتي جهاز الفاكس لأرسل المقال أنقل لكم هذا الخبر الذي طالعتنا به صحـيفة الرياض فـي صفحتها الأخيرة لهذا اليوم 20/ 11/ حيث وافقت لجنة الشؤون الاجتماعية والعمل البرلمانية في مجلس الأمة الكويتي على مشروع قانون حكومي يقضي بالسجن سنتين مع غرامة مالية مقدارها عشرة آلاف دينار على كل من أهمل رعاية والديه المسنين أو احدهما