ألقت بجسدها النحيل على ذلك السرير الخشبي المتهالك القابع في أقصى حجرة خافته الاضاءة..سرت رعشة البرد في جسدها..تدثرت برداء صوفي ثقيل..نظرت بعينين متعبتين إلى ذلك المصباح الشاحب أمامها..كانت السماء مكفهرة بالغيوم..وماهي إلا دقائق حتى بدأ الرعد يجلجل بصوت أشبه بالمدافع..وبدأ البرق يقصف..تراه من خلف النافذة يكاد يخطف الأبصار..أغلقت عينيها وتكومت في زاوية السرير..ضمت ركبتيها إلى صدرها بمنظر ينم عن خوفها ..بدأ المطر يهطل بغزارة..رائحة التراب المبلل بالمطر أتتها بسيل من ذكريات الوجع عجزت عجلة الزمن عن محوها من تلك الذاكرة المتعبة..رأته يهرع مسرعا لإنتشالها من ذلك الوحل الذي أعاقها عن السير..كانت أمها تقف على تلة قريبة وصراخها يملأ أسماع الفضاء..واختلط مع أصوات بقية نساء القرية اللاتي جرف السيل متاعهم وأموالهم ومايملكون من أنعام،وكن لازلن يتفقدن بهلعٍ ابناؤهن،حين صرخت إحداهن: (إبراهيم،وليدي ابراهيم ما أشوفه،ياويلي راح وليدي).. هبّ هو لنجدتها والبحث عن ابنها،ألقى بنفسه في تلك الموجات العاتية، كان الظلام قد بدأ يهيمن على المكان بقوة رغم أن موعد غروب الشمس لم يحن بعد، بحث عنه دون جدوى ولكنه لم يشأ العودة إلى تلك المرأة الضعيفة دون فلذة كبدها، وهي التي علقت الآمال عليه، عاد رجال القرية مسرعين يضعون أيديهم على قلوبهم خوفا من أن يكون ماحدث قبل سنوات قد تكرر اليوم، وكان إبراهيم الصغير يرافقهم!! شهقت حين رأته معهم..وهي التي تأكدت أن ابن عمها لن يعود من دونه أبدا، عرف الرجال ماحدث وأخذوا يلوحون بالمصابيح كإشارة لكون إبراهيم معهم ،وليكف هو عن البحث ويعود..ولكن أحدا لم يظهر ،أخذوا يسيرون على جانبي الوادي وينادون: (محمد ..محمد..تعال ابراهيم معنا)..ولكن كل مافعلوه كان دون جدوى،جزموا أن مكروها أصابه،واستمروا في البحث عنه، لكنهم لم يجدوه، استعانوا برجال الدفاع المدني في أقرب مدينة إليهم،وفي الحال هرعت إليهم فرق البحث،ظلوا طوال الليل يبحثون، كانت هي تسكب الدمع مدرارا لأنها تأكدت أنه ليس بخير أبدا، حاولت النساء تهدئتها دون جدوى، أخذت ترتجف كورقة شجر في مهب الريح، وأخذت تهذي بكلام لم يفهموا منه سوى جمله واحدة..(راح محمد وأنا بعد رحت)..
ولما أوشك الفجر أن يطلع..عثروا على جثة محمد!!لقد جرفته موجة عاتية لم يستطع مقاومتها واصطدم بصخرة كبيرة..نزف كثيرا على مايبدو وأسلم الروح لبارئها..مات شهيدا من أجل أن يحيا غيره.. حملوه إلى القرية ثم واروا جسده الثرى ..كانت شاهدة على كل تلك الأحداث ولم يستطع قلبها المكلوم احتمال تلك الفاجعة..حتى عقلها كاد أن يتوقف وأن يصيبها الجنون..مرت باسوأ حالات الحزن والاكتئاب.. اعتزلت الناس وأصبحت نادرة الكلام كثيرة انسكاب الدمع..تخرج في كل صباح إل المكان الذي شهد مأساتها وتبكي، وتقضي الساعات الطوال قرب المقبرة،تناجي محمد الذي رحل وتركها وحيدة، انتشرت شائعات في القرية تؤكد إصابتها بالجنون، ابتعد الناس عن أهلها بوصفهم (عائلة المجنونة) التي قد تؤذي أطفال من يزورهم..مرّت السنون وتوفي والدها ، وبعده بأشهر توفيت والدتها ، لم يبق لها في الدنيا إلا شقيقها الوحيد الذي يعمل ويعيش في مدينة بعيدة ،ولكن ربما لم يشأ المولى عز وجل أن تعاني أكثر مما عانت ،وهي التي توقعت أن شقيقها سيرغمها على العيش معه في تلك المدينة ،ولكنها فوجئت به يتقاعد مبكرا وينتقل للعيش معها في منزل والديهم في قريتهم ،لم ينتشلها من كل لقطات الوجع تلك إلا صوت طفولي بريء لطفل هز كتفها برفق قائلا: تعالي شوفي وش جبت لك هدية، كان هذا الطفل هو محمد ابن شقيقها الذي ولد في هذه القريةأول ما عاد أهله إليها وترعرع فيها..كانت ترى في قسمات وجهه ملامح ابن عمها الذي مات وغادر الدنيا لكنه لازال حيا يسكن في فؤادها..
كانت الهدية عبارة عن سلسلة تحمل قلبا نقش بداخله اسم محمد،قبلت الطفل وضمته إلى صدرها،وطفرت من عينيها دمعة اعتاد خدها على انسكابها منذ سبعة عشر حولا..
بقلمي/بحة الشووووق