[align=center]لفصل العشرون
محاولة اعتزال
استطاع لورانس في الثامن والعش رين من شهر كانون الثاني سنة ١٩١٨ ، أي قبل أسبوعين من الموعد المحدد
عند اللنبي لقطع مواصلات الأتراك إلى البحر الميت بهجوم مباغت، أن يقطع الطريق على العدو، رغم أنه شن
ذلك الهجوم برفقة سبعين خيالا وسار ليلا عن طريق الكرك، البلدة التي كان الأتراك يستخدمونها لطح ن
الحبوب التي يجمعونها من الحقول الخصبة المحيطة بها.
وكانت قد بلغته بعض معلومات ومفادها أن قافلة من المراكب التركية المقلة للمواد الغذائية تنوي مغادرة
المنطقة في غد إلى منطقة أريحا، تحت حراسة قارب مسلح.
وقبل أن تنبلج أولى تباشير الفجر، كان العرب قد زحفوا إلى شاطئ البحر، ونزلوا في المياه، قبل أن يتمكن
الملاحون الأتراك من تمالك روعهم . ولما أخذوا على حين غرة، لم يبد الأتراك مقاومة تذكر، وما هي إ ّ لا
دقائق قليلة حتى كانت العملية كلها قد انتهيت . يومذاك أحرق لورانس مخازن المؤن بعد أن استولى جماعته
على محتوياتها، كما جروا المراكب إلى البحر وأغرقوها . ولم يتكبد العرب أية خسائر، بينما أسروا ستين
تركيًا، وعادوا إلى أماكنهم في الطفيلة يهنئ بعضهم بعضًا على ما أحرزوه من نصر سهل، ولعلهم في تلك
الغارة قد حققوا أول انتصار بحري بواسطة المشاة!.
ونفذ لورانس أول مهمتين من المهم ات الثلاث التي اتفق مع اللنبي على تنفيذها، وبقيت المهمة الثالثة، وهي
الاتصال بالقوات البريطانية عند نهر الأردن، إلى الشمال من البحر الميت، في شهر آذار.
ولكن ما أن أهل شهر شباط، حتى بدا أن إمكانيات تحقيق هذه المهمة قد تعذرت، لأن الطقس كان يسوء
باستمرار، وأ صبح السير بما معه من جمال، وسط الثلوج، وعبر جبال مؤاب التي تقع بين الطفيلة والشمال،
١١١١١١
ضربًا من الجنون . فاذا لم تهلك الجمال من التعب، عرضتهم كهدف سهل لبضعة جنود من الأتراك وهم يرتقون
تلك الجبال الشاهقة المغطاة بالثلوج.
وفي الوقت ذاته، كان البقاء في الطفيلة لا يستحق المغامرة، فالمغريات للبقاء لم تكن تعادل أخطار المجازفة،
وكان البرد في ذلك المكان الذي يرتفع خمسة آلاف قدم عن سطح البحر قارصًا، وكان الوقود نادرًا، وظروف
المعيشة قاسية.
هذا زيادة إلى ان نقود زيد كانت قد نفذت، لأنه وزع معظم الذهب الذي كان مقررًا صرف ه على تنظيم
المسيرة إلى نهر الأردن، على الأعراب مكافأة لما بذلوه في معركة الطفيلة . وانتهزها لورانس فرصة ليهرب
من هذه الأحوال القاسية فاحتج بأنه سيعود ليحضر المزيد من المؤن.
وكان الوقت أوائل شهر شباط، وثمة عاصفة تهب بعنف عندما تحرك إلى الجنوب . وكانت الرحلة صعبة
والجمال وراكبوها غير معتادين على السفر في مثل هذا الطقس، غير أن لورانس كعادته اندفع على جملة
ومعه رجال حرسه بأقصى سرعتهم حتى لم يعد للحيوانات المسكينة من طاقة على المشي بله الجري.
وبعد ظهر اليوم الثاني، وصلوا "قذرين ومنهكين يرتجفون بردًا وكأنهم هررة". وفي "الغويرة " كانت قيادة
وحدة السيارات البريطانية المصفحة، ومقر ضابط الاتصال بالأمير فيصل.
ووجد لورانس هناك "دوناي" و"جويس" يعتريهما الوجوم، فقد حاول فيصل قبل أسبوعين أن يحتل "المدورة "
بقوة مختلطة من رجال القبائل وأربع فرق من الجنود العرب النظاميين المزودين بمدافع "بيزاني " الفرنسية،
ولكنه مني بهزيمة منكرة.
فقد حدث، كما هي عادة رجال القبائل، أنهم تخلوا عن القتال عندما فشل أول هجوم شنوه لزحزحة الأتراك
عن مراكزهم، كما حدث أن نقل "بيزاني" مدافعه فاقترب بها أكثر مما يجب، ولم يستطع إ ّ لا أن يتركها إثر
الانسحاب.
وقل استقبل لورانس هذه الأنباء بشىء من التفلسف قائلا إلى الهزيمة من شأنها أن تعلم فيصل في المستقبل أن
يتبع نصائحه.
ثم أن لورانس عقد مؤتمرًا قصيرًا مع فيصل، عاد بعده إلى الطفيلة وفي جعبته ما يعادل ثلاثين ألف جنيه
ذهبًا. ولم تكن العودة بأفضل من مقدمه ، بل لعلها كانت أسوأ، لأنه كان عليهم أن يتحملوا وطأة الرياح الثلجية
والمطر الغزير المصحوب بالبرد من الحجم الكبير.
التي كانت كلها مجتمعة تكاد تقضي عليه وعلى رفيقيه من قبيلة عتيبة وهم يصعدون في الطرقات الوعرة
الممتدة إلى الجنوب من البحر الميت . وقد مروا في ن قطة ما فوق "أبي لسان" بجماعة من رجال مولود يعيشون
في جحور حفروها في الصخور، وراحوا يراقبون تحركات الأتراك على خط سكة حديد الحجاز، وكانوا لا
يملكون وقودًا إ ّ لا بعض الحطب المبتل، ويرتجفون في ملابسهم الخاكية الصيفية، بعد أن فقدوا أكثر من نصف
قواتهم من جراء البرد والإجهاد.
ورغم ذلك ظلوا يراقبون الأتراك وتحركاتهم التي كثيرًا ما كانت تصبح على مرمى بنادقهم.
١١١١٢٢
وقد سر لورانس كثيرًا من شجاعتهم، حتى لقد قال : "إننا مدينون كثيرًا لهم، ومدينون أكثر إلى مولود الذي
يرجع إليه الفصل في تثبيت رجاله في مراكزهم، لما عرف عنه من أخلاق عربية ووطنية .." لقد كانت له
شخصية قوية، مكنته من السيطرة على رجاله، كما كان قوي البنية حتى لقد استطاع أن يمضي ثلاثة فصول
شتاء بالقرب من معان، مع رجاله الذين يبلغ عددهم خمسمائة محارب، كل واحد منهم على استعداد لافتدائه".
وقرر لورانس ألا يكون أقل جلدً ا من مولود، فدفع جمله المثقل بأحماله وتحمل تجمد أطرافه وسار عبر
الجبال.
وحدث ذات مرة أنه كاد يغرق في جدول نصف متجمد، ثم وقع جمله في ممر مغطى بالثلوج، ولم ينهض من
سقطته تلك إ ّ لا بعد كثير من التهديد والوعيد، وأخيرًا اقتنع الحيوان المسكين بأن من الخير له أن ي واصل رحلته
إلى الطفيلة، حيّث سلم ما يحمله من كنوز إلى زيد، وسط كثير من تهليل رجال الأمير الذين أمضوا عدة أسابيع
دون رواتب ودون وسائل راحة.
وبعد أن طلب إلى الأمير، إثر دفع رواتب الجنود، أن يحتفظ بما تبقى معه من ذهب لينفق في العمليات
القادمة، ألقى لورانس بجسده المنهك طلبًا للراحة.
وما إن بلغ الأرض حتى سمع صوتًا يقول له بالانكليزية : "هل لك أن تأخذ بطانيتي؟ إنك تبدو على وشك
التجمد". وكان المتحدث هو الملازم "كير كبرايد" من ضباط سلاح الهندسة الملكي، وقد أصبح ذات يوم
سفيرًا لبريطانيًا لدى الأردن وكان قد أُرس ل من قبل القيادة العامة لدراسة إمكانات إنشاء طريق من بئر السبع
عبر الممرات الجبلية المؤدية إلى الطفيلة، وهو مشروع اقتنع بأنه غير عملي.
وكان "كير كبرايد " شابًا في العشرين من عمره، يتقن التحدث باللغة العربية، كما يتقن أعمال النسف . ولما كان
شابًا ومتحمسًا فق د رأى لورانس أنه سيقدم له المساعدة اللازمة، فقال له : "إنني سأطلب نقلك إلى قواتي ".
وتصافح الرجلان، وبدءا صداقة جديدة استمرت حتى دخول دمشق، وأنقذت حياة لورانس في أكثر من مناسبة.
وفي اليوم التالي، توجه لورانس مع "كير كبرايد" وأفراد حرسه لاستكشاف الطريق إلى ن هر الأردن . كان
الثلج قد بدأ يذوب، وبات من الممكن أن يحفظ موعده مع اللنبي، في شهر آذار، أو قبل أسبوعين من الموعد.
وقد أثبتت عمليات الاستكشاف أن كل شئ على ما يرام . لذا كتب لورانس يقول: "كانت كل خطوة من طريقنا
سهلة وتقودنا إلى حيّث تنضم إلى القوات البريطانية ". وهكذا عاد إلى زيد بروح مرتفعة، لكنه ما إن شرح
خطته في الزحف حتى قاطعه الأمير قائلا: "إن الرحلة تحتاج إلى كميات كثيرة من الأموال"!
وأجابه لورانس بقوله : "كلا… ليس ضروريًا على الإطلاق، إن الأموال لمتوفرة ستغطي نفقات الرحلة، بل
وتزيد على متطلباتها"!
وانزوى زيد في مقعده الكبير، بينما بدأت الوساوس تنتاب لورانس، أو سأله كم تبقى لديه من الذهب الذي
أحضره من "الغويرة"… فتطلع زيد إلى الأرض بخجل وقال: "لم يبق منه شئ… لقد أنفقته على التعويض مجددًا
على شيخ الطفيلة والقرويين ورجال القبائل ". واعترض لورانس : "ولكنك تعر ف بأن العادة أن تدفع رواتب
أفراد القبائل عندما يقومون بعمل ما، وليس أثناء استراحتهم في فصل الشتاء".
فقال زيد: "ورغم ذلك… لقد دفعت لهم أجورهم".
١١١١٣٣
كانت هذه الأقوال آخر دليل على أن العرب لن يتصلوا بقوات اللنبي في شهر آذار، لأن من المستحيل القيام
بالزحف دون ما ل. وكذلك كان من الصعب الطلب إلى القيادة العامة أن تتحمل ما هو فوق طاقتها من جراء
إسراف زيد . وبينما كان لورانس يفكر في هذه المعضلة، دون أن يجد لها حلا، وصل "جويس" على غير انتظار
من "الغويرة" وعرض أن يعود إلى فيصل ويسأله المساعدة.
غير أن زيدًا لم يكن متحمسً ا للفكرة، كما أن لورانس كان قد صمم على العودة إلى القيادة ليسألها قرضًا
جديدًا.
وإنه لمن الصعب على المرء أن يقول كم كان هذا التراجع صعبً ا! وليس من شك في أن لورانس كان قد
ضاق ذرعًا بتصرفات زيد الذي كان ضعيفًا وعنيدًا، وأبدى حماقة منذ اللحظة الأولى التي سلم فيها قيادة حملة
البحر الميت.
والواقع أن لورانس كان قد سئم تولي القيادة، حتى لقد أخبر اللنبي في مقر قيادته في بئر السبع بأنه لم يعد
راغبًا في إعطاء أية أوامر، وأنه يريد منصبًا يستطيع عن طريقه أن يتلقى أمرًا، لا أن يصدر أمرًا.
غير أن الذي خفف عن لورانس ما يشعر به من ضيق، كان ما سمعه من أخبار في القيادة العامة، فقد علم
بأن اللنبي احتل أريحا، وأخذ يعد العدة للهجوم النهائي على سوريا . وكان الجنرال جان سمطس … قد جاء
مندوبًا عن وزارة الحربية البريطانية في لندن، لبحث على ضرورة إخراج تركيا من حومة الحرب بأقرب وقت
ممكن، وذلك من أجل تحرير ما أمكن من القوات البريطانية للاشتراك في الجبهة الغربية، في فرنسا
والفلاندرز.
وقد أبلغ اللنبي مرؤوسه لورانس، بأنه ما زال يتطلع إلى مساعدة أصدقائه العرب في هذا الهجوم الأخير على
دمشق، وأن هذا الظرف ليس بالظرف المناسب لإضعاف معنويات ا لجيش العربي، وذلك عن طريق سحب الثقة
في مقدرته وقيادته.
كان ذلك، على ما يبدو، كافيًا بالنسبة إلى لورانس، وبعد أن قدم شروحه واعتذاراته، قدم مضحيًا بنفسه،
وأصبح بمستطاعه أن يعود الآن لحث فيصل على أن الضربة النهائية يمكن أن تقوم بها القوات العربية، ويجب
على ه ذه القوات أن تصل إلى دمشق قبل أية قوات أخرى . وفي الرابع عشر من شهر آذار سنة ١٩١٨ عاد
لورانس إلى العقبة[/align]