النتائج الإيجابية التي حققها الاقتصاد الوطني خلال العامين الماضي والجاري، والتي كشف عنها التقرير السنوي الثاني والأربعون لمؤسسة النقد العربي السعودي، وحقق بموجبها هذا الاقتصاد فائضا في المالية العامة للدولة بلغت قيمته 218مليار ريال، وتحقيق نسبة نمو في الناتج المحلي الإجمالي وصلت هذا العام إلى 6.5% مقارنة مع 5.3% خلال العام السابق، واستمرار تحقيق فوائض مالية مجزية للعام الثالث على التوالي، هذه النتائج مدعومة بأفضليات أخرى على صعيد تجديد البنية التحتية والفوقية للقطاعات الإنتاجية، والتوسع الرشيد في تشييد عدد كبير من المشاريع التنموية والصناعية الضخمة ومنها مركز الملك عبدالله المالي ونحو 5مدن اقتصادية عملاقة، تؤكد جميعها على سلامة النهج الذي تسير عليه قيادتنا الرشيدة حفظها الله .
نهج ينحاز بقوة وصلابة نحو تحقيق التنوع في مصادر الدخل والثراء لمقومات اقتصادنا الوطني ومكوناته العديدة، والسعي لكسر نموذج التنمية التقليدي، الذي لم يعد يناسب فورة العولمة الاقتصادية التي تعتمد على التجدد والابتكار، وذلك من خلال العمل المؤسسي الذي يؤدي لمسايرة الاقتصادات العالمية الحديثة المبنية على أسس التوسع في إنشاء المشاريع المستدامة في القطاعات الصناعية والخدمية والمالية والسياحية وفي قطاع صناعة التقنية الحديثة في ظل شراكة بين الدولة والمستثمرين من الداخل والخارج، وهو ما نجحت فيه المملكة وتوجت جهودها بتحقيق الانضمام لمنظمة التجارة العالمية .
وإذا كان ثمة ملاحظة جديرة بالاهتمام والالتفات إليها من قبل ذوي العلاقة برسم مستقبلنا، في محتوى ذلك التقرير فهي إشارته الصريحة إلى التحدي السكاني القائم والمحتمل في المملكة، حيث ذكر التقرير أن نسبة شريحة المواطنين ممن تقل أعمارهم عن الثلاثين عاما من الذكور والإناث ماضية في الزيادة والنمو، حيث بلغت حاليا نحو 60% من إجمالي عدد السكان السعوديين، ولا شك أن هؤلاء يمثلون قوة بشرية حية، يمكن في حال استثمارها على النحو الأمثل، أن تشكل إضافة حقيقية للتجربة السعودية والإنسانية اقتصاديا وبنائيا.
وأول موجبات ذلك الاستثمار أو التثمير بالأحرى، تتمثل في تطوير التعليم والتدريب لهذه القوى الفاعلة التي تمثل نصف الحاضر وكل المستقبل، فقطاعا التعليم والتدريب لا يزالان بعيدين - إلى حد كبير - عن تحقيق المرادات الكلية المرسومة لهما، أي تحقيق شعار غاية في الأهمية هو : بناء السعودية بأيدي السعوديين .
إن المسافة الفاصلة بين الشعار المرفوع وبين تطبيقه ؛ ابتعادا أو ملامسة، تحدد وعلى نحو حاسم مدى جودة البناء الذي تستند إليه العملية التعليمية ومدى استجابتها لاستحقاقات البناء والتعمير للوطن، بما في ذلك القدرة على تحويل الموارد الشحيحة إلى قيمة مضافة كثيفة المردود، ويمكن النظر والاستدلال هنا بتجربة كل من اليابان وسنغافورة .
دعونا ؛ للتدليل ؛ نغوص قليلا داخل استراتيجية توطين المهن في السوق المحلي، حيث سنكتشف أن (السعودة) تكاد تنحصر في بعض الوظائف منها مثلا منصب المدير والسكرتير وموظف الاستقبال، فيما نجد أن (التفاصيل) يقوم بها الأخوة الوافدون، حيث أظهرت دراسة أن سوق العمل في الوظائف الفنية والتقنية يسيطر عليه الوافدون بنسبة 81%، وأن مهنة طب الأسنان مثلا تحتاج إلى عشرات السنوات، لكي تتم سعودتها، والشيء نفسه في الصناعات اليدوية والهندسية التي تتطلب مهارة عالمية.
ومن هنا فإن من الضروري أن تضع الدولة خطة عاجلة للبدء في استثمار فوائض الميزانية في التوسع بالمجال التعليمي والتدريبي، ليس من خلال دعم المؤسسات القائمة الآن فقط، بل بإنشاء كليات وجامعات تتعاطى التعليم الفني والتقني والطبي والهندسي، وتكون موصولة بأرقى الجامعات في أمريكا وماليزيا والهند والصين، وتدرس مناهجها باللغات العالمية والتواصلية الحية، ولعل الجامعات والكليات الجديدة التي أعلنت عنها وزارة التعليم العالي تعد الخطوة الأولى في الإتجاه الصحيح .
إن التحدي الأكبر على مستوى المنافسة الاقتصادية عالميا إنما يتمثل في العنصر البشري القادر على (إنتاج المعرفة) واحتكارها وتسويقها، لا القيام باستهلاكها فقط . والمشاريع الضخمة التي تنوي الدولة إطلاقها ومنها المدن الاقتصادية، ستحتاج أول ما تحتاج ؛ استنادا إلى تلك الرؤية؛ للأيدي العاملة الماهرة في كافة المستويات والمجالات، وفي غياب أي خطة للتعليم ذي المخرجات المنسجمة مع الحاجة الملحة للأيدي العاملة المواطنة عالية التأهيل، فإن الخطط التنموية ومعها كل المشروعات المستهدفة ستحتاج بالتأكيد وتضطر لاستجلاب العمالة الوافدة التي أدركت جامعاتها ومعاهدها التقنية (سر المعادلة) وما يحتاجه سوق العمل الدولي . وحتى لايفاجئنا مثل هكذا وضع، فإن من المناسب في تقديري أن تبادر الجهات ذات العلاقة إلى سرعة تعديل موضع كل من العربة والحصان في خططنا التنموية الشاملة التي أصبحنا ولله الحمد نتذوق طعم نجاحها.