السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بريدة بن الحصيب في الهجرة
لم يُعَكِّر صفو الرحلة المباركة في هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن خرج من خيمة أم معبد وموقفه مع سراقة بن مالك شيءٌ إلى أن اقترب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة المنورة؛ ففوجئ برجل اسمه بريدة بن الحصيب، زعيم قبيلة أسلم، قد خرج له في سبعين من قومه يُريد الإمساك بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليحصل على مكافأة قريش الكبيرة، فكان هذا الموقف النادر!
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لاَ يَتَطَيَّرُ، وَلَكِنْ يَتَفَاءَلُ قَالَ: فَكَانَتْ قُرَيْشٌ جَعَلَتْ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ، لِمَنْ يَأْخُذُ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَيَرُدَّهُ عَلَيْهِمْ؛ حَيْثُ تَوَجَّهَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَقْبَلَ بُرَيْدَةُ فِي سَبْعِينَ رَاكِبًا مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ مِنْ بَنِي سَهْمٍ فَتَلَقَّوْا نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلاً.
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَنْتَ؟" قَالَ: أَنَا بُرَيْدَةُ. فَالْتَفَتَ إِلَى أبي بكر رضي الله عنه، فَقَالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ، بَرُدَ[1] أَمْرُنَا وَصَلُحَ". قَالَ: "ثُمَّ مِمَّنْ؟" قَالَ: مِنْ أَسْلَمَ. قَالَ: "سَلِمْتَ". قَالَ: "ثُمَّ مِمَّنْ؟" قَالَ: مِنْ بَنِي سَهْمٍ. قَالَ: "خَرَجَ سَهْمُكَ [2]".
فَقَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: فَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: "مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ رَسُولُ اللهِ". قَالَ بُرَيْدَةُ: "أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّكَ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ".
قَالَ: فَأَسْلَمَ بُرَيْدَةُ، وَأَسْلَمَ الَّذِينَ مَعَهُ جَمِيعًا، فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحَ، قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لاَ تَدْخُلِ الْمَدِينَةَ إِلاَّ وَمَعَكَ لِوَاءٌ. قَالَ: فَحَلَّ عِمَامَتَهُ، ثُمَّ شَدَّهَا فِي رُمْحٍ، ثُمَّ مَشَى بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ[3].
رأينا في هذا الموقف أن بريدة رضي الله عنه كان قد خرج لأمر فأراد الله أمرًا آخر! فقد خرج الرجل طمعًا في دنيا قريش، فإذا بالله عز وجل يفتح قلبه للإسلام، فيُؤمن في لحظات، هو وقبيلته الكبيرة، ويُحَقِّق الإسلام بذلك نصرًا غير متوقَّع، وبطريقة غير محسوبة ولا مُعَدَّة؛ وبينما كنا في مكة ننتظر السنوات حتى يدخل الإيمان في قلب رجل أو امرأة، إذا بنا الآن نرى هذا الفتح الكبير في دقائق معدودات!
والأمر حقًّا عجيب؛ خاصَّةً إذا أخذنا في الاعتبار أن الرجل خرج مُتَحَفِّزًا ومُتَهَجِّمًا وراغبًا في النوق المائة؛ أي أنه في حالة نفسية لا تسمح له -في المعتاد- بتداول قضايا إيمانية أخلاقية، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يَقُلْ كلماتٍ كثيرةً، ولا قَدَّم معجزات أو آيات، إنما غاية ما هنالك أنه عَرَّف نفسه، وفي بعض الروايات أنه قرأ لهم بعض القرآن، فليس هناك في الواقع تفسير لهذا القبول السريع للإسلام إلا أن نقرأ قوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56].