
بقلم: سعيد أراق*
عَالِقٌ بين الحلم والكابوس. تَعْتَرينِي مرارتي* فأختلي بنفسي..أُوغِلُ في الصمت الفاحم..وأكتفي بما تأتي به عُصَارَةُ الأيام. هذه أوراقي مُشْرَعَةُ البياضِ كالأكفان..مَرْكونَةٌ هنا وهناك..نَأَى عنها القلم وَجَافَتْها الأنامل وَسَاوَرَتْهَا الأحزان. من خَصَاصِ النافذة المطلة على البحر* تتسلل ثُلَّةٌ من الأشعة الباهتة المحتقنة بالغبار. ومن خلف الباب تتصادى أصوات طفلة رائقة المزاج. تنادي أُمَّها بدلال. لكن لا صَوْتَ يصدر عن الأم و لا جواب. ترفع الطفلة عقيرتها بنشيج يشبه العواء...تتسارع خطوات خفيفة قادمة من الجهة المقابلة..تتوقف الطفلة فجأة عن البكاء ويسود الصمت من جديد. أعود لوحدتي* أُسْلِمُهَا نفسي وأستلم منها ثقل اللحظات. لا شيء يُنْذِرُ بالحركة.
حتى الزمن تحول إلى مجرد كتلة بهماء عمياء ملبدة بلطخات الساعات المارقة بتثاؤب ونفور. صَبِيبُ الحَرِّ يمدد رطوبة الجو ويبعث في فضاء الغرفة غَمْرَةَ السَّأَمِ والمَلالَة. قميئةٌ هي الحياة حين تتجرد من فتنتها اللجوجة* وتَتَلَبَّسُ شُحوبَ الأيام الممتقعة الغبراء. إلى حدود الأمس* لم أكن ما أنا عليه الآن. خلِقتُ شِرهًا مُفْعَمًا بحب المتعة والعز والمال. ارْتَدْتُ كلَّ السُّبُلِ المتاحة والمنيعة. لم أشغل نفسي يوما بقياس المسافة الفاصلة بين الرجحان والبطلان. الحياة قصيرة وسراديب المُتَعِ لا يحدها الحصر ولا يُضْنِيهَا كثرة السالكين. لم أكن أُمْعِنُ كثيرًا في طرح الأسئلة* لأنني لم أَشْكُ يوما من عَطَالَةٍ أو فراغ. وحدها اللحظات الفارغة الجوفاء تعلم صاحبها الانشغال بالأسئلة* وتُوَلِّدُ في النفوس الغافية وَهْمَ الإيمان بأن لكل شيء تفسير أو جواب. هذا على الأقل ما توصلت إليه بعد أن تأبطتني رغبة غريبة غامقة وغامضة في الاختلاء بنفسي* بعيدًا عن الناس* قريبًا من أَنَايَ التي يبدو أنني ما تنبهت لوجودها من قبل* ما دمت لم أَتَجَشَّمْ يومًا عَنَاءَ تفحصها عن قرب ومَهَل. بالأمس كتبتُ بعض السطور وَرَكَنْتُ الورقة جانبًا* كأنني أريد التخلص مما فيها من زَبَالَةِ الكلمات. أتناول الورقة برخاوة وفتور..
وَأَقْرَأ:
«...هائمٌ أَنْتَ كالسندباد. متقوقع في كُرْبَةِ هذا الجري اللاهث خلف الأيام. تجاهد التعب وتقتات من أوهامكَ اللابِدَة في جفون النساء وقِيعَانِ الكؤوس ومَقَالِبِ الأسفار. تطوي السنين وتُنْهِكُ ما لديكَ من عمرٍ تافهٍ في تَصَيُّدِ المغانم والمَغَارِمِ ومُسْتَسْهَلِ الصَّبَوَات. ها أنتَ قد أتيت هنا* اكتريت غرفةً باذخة وألقيتَ بنفسك في مهاوي التأمل والحنين والحسرات. وَأَحَطْتَ نفسكَ بأسباب الخمول والعطالة. لَشَدَّ ما أكرهكَ الآن. أكره فيكَ صمتكَ المطبق وهَامَتَكَ المُقَوَّسَةَ وسجائرك المُزْدَانَةَ بالدخان. ما الذي تبتغيه في الوحدة والوحشة؟ أَتَحْزَنُ وأَنْتَ القائل: الحزن جُرْمٌ لا يقترفه من كان حقًّا من طِينَةِ الرجال؟...لا أَنْتَ أَنَا* ولاَ أَنَا ما أراهُ فيكَ الآن...ابق حيث أنتَ ودعني أُجَلِّلُ صبوتي بما اعتاده مِنِّي الناسُ وألِفَتْهُ مني الأيام... ».
أتساءلُ إن كنتُ أنا حقا من كتب هذا الهذيان. أبدو فيه متحاملا على نفسي* مُضَرَّجًا بضغينة كئيبة* مُخَضَّبًا بما يشبه المَسَّ أو خائب العنفوان. لَشَدَّ ما أكره هذه المرآة الداخلية التي تُرينَا حقيقَتَنَا على غير ما هي عليه في أعيننا وفي أعين الناس. في انشغالنا بالآخرين* نجد الفرصة سانحة للانشغال بهم عن أنفسنا* فيخف القلق وتهمد المخاوف ونتعايش مع الذات مَهْمَا كانت كَهِيبَةَ اللون كريهة. أنا من طينة الناس الذين لا يطيقون الخلوة وزفرة الهمهمات المتأسية الخافتة. أُغْرِقُ نفسي في يَمِّ المهرولين والسالكين والعابرين بابتسامة عريضة نحو الأيام. وحتى حين يبدو خطوي مُتَرَهِّلاً طافحًا بِنَتانَةِ العَوْمِ والتخبط في المسالك والسراديب والِوهادِ والوديان* أبادر نفسي بما أعتبره حِكْمَةً مُبْهِرَة: "ليس لنا سوى السعي والمشي..وأَفْضَلُ المَشْيِ أن تَمْشِيَ رَاجِلاً* وَأَوْعَرُهُ أن تمشي محمولا على الأكفان". رُفِعَتِ الأقلام وجَفَّتِ الصُّحُفُ ومَا عَدَا ذلك إِفْكٌ وبُهْتان. ليس بعد هذا من مزيد. ولا مندوحة من الاستمرار في المشي إلى أن تتهاوى كالجلمود أو تَتَيَبَّسَ كَسِيقَانِ الأقحوان...
مَا عَلَيْنَا. تمتد يدي بحركة رتيبةٍ نحو ورقة طافية بدلال فوق كَوْمَةِ الأوراق...
أَقْرَأْ:
« بدون تاريخ
أَفِيقُ من غفوتي على إيقاع موسيقى صاخبة مُجَلْجِلَةٍ مُرْعِدَة. عقاربُ الساعة الحائطية متوقفة كالعادة* لأنني لا أحب رتابة العقارب وهي تَعُدُّ من عمري الدقائق واللحظات. أحيا وفق توقيت متمفصل تبعًا لليل والنهار. أمَّا مَا عَدَا ذلك من أنصاف ورؤوس وأرباع وأخماس وأسداس الساعات المولية الهاربة* فلا أحتسبه إلا باللامبالاة. ما تزال الموسيقى مُعْوِلَة ترهق الأسماع. إنها طريقة سعاد في ملئ فراغها والتنفيس عن غيظها بعد أن ساءت العلاقة بيننا منذ أسبوع. أعلمُ أنها تحاول إغضابي ليصدر عني رد فعل يعيد فرصة وصل ما انقطع بيننا من غضب وكلام. لكنها لا تعلم أن رد فعلي قد اتخذته منذ يومين حين قررت أن أنتقل من شقتي في هذه العمارة إلى مسكن صغير في شرق المدينة. ربما يتاح لي هناك التعرف على جارة جديدة تعوضني عن جارتي سعاد* بدون صخب وبدون موسيقى مزمجرة أو حديث عن زواج. هكذا أنا مستعد دومًا للسفر أو ما يشبه الهروب. أكره الثبات والإقامة* وأعشق حَزْمَ الحقائب والترحال. لا أحب الزواج لأنه استكانة* ولا يستهويني الحب لأنه محض خواء. هارب أنا من فخاخ وشراك الحياة النمطية العمياء. وحده الانطلاق نحو الأرحب* يثيرني ويبعث في شراييني دَفْقَ التوهج والحماس...وداعًا يا سعاد..وَلْتَهْنَئِي بموسيقاكِ النَّادِبَة...».
أُكَوِّمُ الورقة بِنَدَمٍ وأرمي بها نحو فجوة النافذة. أشعر أنني أفتقد سعاد. أَحِنُّ لِرَذَاذِ فتنتها وبهجة المرح المتدلي من بسمتها اللاهبة. لم أكن أدرك أن حبها راقد في شغاف الـقلب وتجاويف الفؤاد. ظللتُ أعاند وأشهر استقلاليتي كالسيف الباتر الذي يجز حبائل الود وأواصر التعلق والألفة. ركبتُ صَهْوَةَ الانطلاق الأَرْعَنِ نحو البعيد والأبعد* فَأَوْقَعَنِي الانطلاق الأَهْوَجُ في المَرْذَلَةِ والتَّأَسِّي بالذكريات والكلمات. وها أَنَذَا الآن أُعْلِنُ إفلاسي في لُجَّةِ هذه الغرفة البكماء. أغفو لكي يَخِفَّ الألم* وأصحو على إيقاع الصيحات الحلوة التي ترتفع بها عقيرة طفلة لاهية في مدخل الممر المُوصِلِ إلى غُرَفِ المقيمين بالفندق إِقَامَةَ العابرين والغرباء.
أتحامل على نفسي* وأتوجه بفتور وَعَيَاءٍ نحو الباب. أفتحها بهدوء وألقي نظرة متطلعة نحو الطفلة المشاكسة. أتأمل براءتها وجِدِّيَةَ انهماكِها في ما تقوم به من لعب باذخ لا يتقنه إلا الأطفال. تنتابني مشاعر حانية* ويمتلئ الخاطر بما يشبه الرغبة في البكاء. فأغلق الباب..أقف وسط الغرفة حائرًا بائدًا منهكًا بإحساس لا أَتَبَيَّنُ منه سوى الحنين الهادر لسعاد...لحياة زوجية أسمع فيها صيحات طفولية باذخة* أفيق على إيقاعها كل صباح* وأنتشي بفورتها في هذا العمر العابر وفي كل ما يحيط بي من لامعنى وَخَوَاء...
أَكْتُبْ:
« ...حزينٌ أنا يا سعاد. حزينٌ أنا مثل سماءٍ مُنْهَكَةٍ تُجَلِّلُهَا الغَيْمَات. في هذه الغرفة المقفلة* يبدو لي العمر بدونك مثل جسر متهدم. بدونك تبدو لي الحياة أرضًا موحشةً بدون زرقةٍ أو سماء. آتٍ إليكِ من غربتي وكبوتي. هاربٌ إليكِ من نفسي ومن كل العذارى والنساء. يا فتنة الروح الفارهة المُتَبَتِّلَةِ في نَزْلِ الوجدان* يا صبوتي الساهمة في غُدْرَانِ الفؤاد العائد لمعانقة غَيْضِ الصبا وبهاء الألوان...ليس لنا سوى المشي* لكن أَفْضَلَ المشي ما كان نحو سعاد* وأَوْعَر المشي هو أن أخطئ المشي إليكِ وأفني العمر بعيدًا عنكِ في دياجي الأقبية ومستسخف الصبوات... »...
أَخْرُجْ:
..طريق تقودني نحو طريق...وكل الطرق تقودني نحو سعاد..عائدٌ من هروبي..من غروبي..وغروري..وشروري..ومَهَامِهِ التيه المُعَرْبِدِ في دروب الحياة...أَقف عند بابكِ يا سعاد* لاهثًا أَتَصَبَّبُ بالعَرق والشوق واللَّسعات…أَسْتَعِيدُ أنفاسي..أُصْلِحُ من شأني كَيْفَمَا اتَّفَق..تتسارع دقات قلبي..أَضْبِطُ عَقَاِربَ الساعة...وأَطْرُقُ الباب...
---------
*كاتب ومترجم من المغرب