دخان و لصوص و نميمة

جلسوا يدخنون، ويلعبون الورق، ويشتمون أعراض الناس.. هذي هي عادتهم في اجتماعهم الليلي وفي الصباح يذهبون إلى أعمالهم.. لا شيء يشدهم بأعمالهم إلا استلام الراتب آخر الشهر...! روتين قاتل يجره روتين اسوأ منه فتكاً، معاملات تصدَّر، ومعاملات تورَّد، وأوراق تحفظ، لا شيء غير ذلك.. لا ابداع ولا أمل في الابداع.. لا طموح ولا أمل في الطموح..
تأفف أحدهم وقال متحدثاً عن المسؤول الذي أصبح كبيراً.! لقد جاء هذا إلينا بجوارب ممزقة وهو اليوم يملك ملايين الملايين..! رد الآخر لأنه مواطن مخلص وصالح..! صاح في وجهه تقول مواطن صالح؟ قال: الصحافة هي التي تقول ذلك..!! طبعاً إنه مواطن مخلص ولكنه مخلص، لكل شيء إلا لوطنه وعمله وأمانته.. مخلص لنفسه وشلته، وجماعته وللمرتزقة، الذين يكتبون عنه ويمجدونه في صحافتهم على أنه الرجل المثالي والنادر مع أنه أتفه من التفاهة نفسها.. قال الذي بجانبه: العب واترك الكلام عن المخلصين.. المسألة كلها لعب في لعب.. تماماً مثلما نحن نلعب الورق فهم يلعبون بورق آخر.. لكن الفرق بيننا وبينهم أن لعبهم يملأ جيوبهم، ويعلي مراكزهم مع الامتيازات الأخرى: ترقيات، تعيينات، تعويضات، انتدابات، سيارات، مشاريع وراءها مشاريع، شيء في الظاهر وشيء في الباطن وشبكة من أنابيب المنافع التي يصب ماؤها أو ذهبها في جيوبهم وجيوب أقاربهم والمنتفعين، والمداحين، والدجالين، والمرتزقة من صحفيين وإعلاميين وبائعي ذمم.. شبكة ضاربة جذورها وممتدة إلى مؤسسات وقطاعات متعددة وكثيرة، منافع، ومصالح مشتركة.. وعلى طريقة ومبدأ «اقطع لي واقطع لك» هكذا يشيدون عروشاً وممالك خاصة من مواقع وظائفهم الحكومية.. وكل ذلك باسم وتحت شعار الأمانة والإخلاص «للوطن» الذي يشبعونه غدراً وطعناً في خاصرته..!
أما نحن فسنظل ندخن، ونهذر، حتى نتقاعد، ونموت.. لأننا تنابلة وأغبياء، ونصدق كلمة الأمانة والصدق والنزاهة.. نسدد الفواتير، ونسدد أقساط البنوك، وندفع أجور الشغالات والسائقين، وندور حول أنفسنا وعيوننا مغلقة تماماً كما تدور حمير الطواحين.. لأننا كما قلت سذج، ومغفلون، صدقنا حيلة الإخلاص والأمانة، والنزاهة، والمثالية، فكانت النتيجة أن جاء هذا الذي كل مؤهلاته، ومواهبه، انه يملك حظاً وافراً من المكر، والتلون، والتدليس وإظهار الورع والتقوى والدين.. كما أنه يملك شجاعة نادرة على النهب، والاختلاس والافتراس.. وها نحن ننظر إليه، رغبة ورهبة، واحتراماً مزيفاً ونطيعه بذلة خانقة.. ونجلس كعجائز الشؤون الاجتماعية ننتظر العون والإحسان من سبع اللصوص هذا..
كان أحدهم جالساً في زاوية منفرداً قد تلفف في بشته، وراح يسحب أنفاساً عميقة من سيجارته وكأنه يتلذذ بدفن الدخان والنار في صدره..! كان يستمع وينصت ولا يقول شيئاً، لكنه في النهاية خرج عن صمته وقال اسمعوا: أنتم أحسن من غيركم!! توقفوا عن اللعب وشخصوا إليه جميعاً بأبصارهم، وهو مستمر: نعم أنتم أحسن من غيركم، أنتم تلعبون، وتدخنون، وتشتمون الناس مع أن هذا محرم شرعاً - قالها وهو يبتسم - تأكلون، تشربون، تنامون، وتستيقظون، وتستلمون رواتبكم آخر الشهر... أنتم إذاً أحسن من غيركم... قال أحدهم: من هم غيرنا يا سيادة الحكيم ومن تقصد؟!
اعتدل في جلسته وتهيأ للرد ولكنه وقبل أن يقول شيئاً نبحَ كلب هناك.. فابتسم.! وبعدها ساد صمت ثم انقطع الحديث..!!
بقلم / عبد الله الناصر