سئلت منذ مدة سؤالا مشاغبا: متى يمكن لأي كان أن يسمي نفسه مفكرا؟ بكلمات أخرى، متى ينال الشخص هذه الرتبة التي نرى البعض يسمى بها؟!
حين بحثت في أمر هذا المصطلح,,, أعني مصطلح (المفكر)، في قالبه المستخدم في صحافتنا وأدبياتنا، وجدت أنه اختراع عربي بحت ولا فخر، فقد بحثت عن معانيه واستخداماته في اللغة الانكليزية ولم أصل الى شيء يشابه ما هو موجود عندنا نحن العرب, المفكر في التعريف الانكليزي هو أي شخص، لاحظوا: أي شخص، يستخدم الفكر والقدرات العقلية للوصول الى أفكار وقرارات! والمفكر الاستراتيجي هو أي شخص، لاحظوا مرة أخرى: أي شخص، يستخدم أسلوب التفكير الاستراتيجي للوصول الى أفكار وقرارات استراتيجية شمولية تحيط بالموضوع من كل جوانبه، وبحسب المصادر الغربية فان التفكير عموما والتفكير الاستراتيجي بالأخص ليس حكرا على أحد وانما يمكن تعلمه واتقانه من خلال دراسته، والعالم المالطي الشهير ادوارد دي بونو لديه برنامج عالمي شهير لتعليم التفكير تطبقه العديد من الدول (المتقدمة)!
اذن فمصطلح المفكر الذي نراه يسبق أسماء البعض في عالمنا العربي، وبمعناه الذي يراد عندنا، لم يسبقنا اليه أحد من العالمين، ولا فخر مرة أخرى! وبالبحث أكثر، لم أجد أي معايير للأمر عندنا,,, بتاتا! فلا هو يتعلق بعدد الأفكار التي فكرها فلان الفلاني حتى صار مفكرا، ولو كان الأمر كذلك لقلت إن ابني الأوسط فارس من عتاة المفكرين، لأنه لا يكاد يمر يوم الا ويأتي قائلا: بابا,,, لدي فكرة، ابتداء من بناء مملكة للنمل في غرفته، مرورا بعمل شوربة زرقاء اللون، انتهاء بأفكار قادمة الله أعلم بها! وأيضا لا أعتقد أن نوعية الأفكار التي يأتي بها فلان من الناس هي التي جعلته (مفكرا)، لأننا جميعا نشاهد ونعلم يقينا، بأن كثيرا من الأفكار التي يأتي بها كثير من هؤلاء (المفكرين) ليست سوى شطحات وعجائب ما أنزل الله بها من سلطان، لا تفرق كثيرا عن أفكار ابني فارس!
كذلك وجدت أن مصطلح (المفكر) هو مصطلح عربي حديث، فبالرجوع الى تاريخ الفكر والثقافة العربية، لم أجد أن أحدا من أرباب الفكر وعلماء المسلمين القدماء سمي بهذا المصطلح,,, هل قرأ أحدكم في أي مصدر شيئا كتب تحته بقلم (المفكر) الجاحظ؟ أو (المفكر) ابن سينا؟ أو (المفكر) ابن تيمية؟ أو (المفكر) ابن خلدون؟ أو (المفكر) محمد عبده؟ أو (المفكر) الأفغاني؟ لا أعتقد!
والذي ظهر لي أن اختراع هذا المصطلح وبروزه حصل بعيد أفول عصر النهضة الفكرية عندنا، أي مع بدايات القرن العشرين تقريبا, ذلك العصر الذي كان يعج بمن يستحقون فعلا أن يسموا بالمفكرين، هذا ان نحن استطعنا أن نضع للأمر معايير، وكان عامرا بالانتاج الفكري الذي انعكس على واقع الناس عمليا في ذلك الوقت.
أما اليوم، ونحن في عصر الانحطاط الفكري أو لنقل في عصر (اللانهضة) الفكرية حتى لا نجرح مشاعر أحد، فقد صار لدينا عشرات المفكرين, المفكر الاسلامي فلان الفلاني، والمفكر الاستراتيجي فلان الفلاني، والمفكر السياسي فلان الفلاني، وغيرهم,,, وغيرهم، لكنهم جميعا، وربما دون استثناء لم يرفعوا عودا عن الأرض ولم يضعوه,,, وبقيت أفكار فوق أفكار وكلام يتبعه كلام,,, وركام يتراكم فوقه ركام!
عالمنا اليوم غص (بالمفكرين)، فمتى تتحول أطنان الأفكار النظرية الى واقع عملي؟ ويبقى سؤال سائلي تائها بلا اجابة,,, ما معايير استحقاق هذا المصطلح عندنا؟!
د. ساجد العبدلي
أفكار فوق أفكار
العرض المتطور
