في داخل المنزل العربي يتفق معظم الأباء والأمهات في تربية الأبناء على محو الرأي المخالف تحت معنى سامي وهو أن والديك أدرى بمصلحتك فلا تكثر الكلام والجدل معهم ولاتقل غير ما يقولون ولا تؤمن بغير ما يؤمنوا لذا فتوحيد ما يقال عادة أصيلة لدينا في المجتمعات العربية، والنقاش وتبادل الحقائق والتعبير عن وجهات النظر كلها تدخل في الجدل وهو سلوك منبوذ ويعتبر مهلكة ولا بد من إسكات الأصوات التي تمارسه.
و عندما يكبر الإنسان العربي لا ينعتق من ظاهرة وأد حرية الكلمة ففي مؤسسات العمل حيث أن الجميع فيها قد تعدى سن الثامنة عشر وأصبح مكلفا إلا أن المدراء يظلوا أدرى بمصلحة العاملين ومصلحة أبنائهم وإذا عاشوا لمدة أطول قد يكونوا أدرى بمصلحة الأحفاد أيضا وبالتالي لا رأي يعلوا على رأي صاحب السلطة ولا كلمة تعلو فوق كلمته فهو مصدر المعلومة والخبر والإشاعة أيضا.
و الإعلام لدينا ليس إلا صورة مكبرة للمنزل العربي فما يحدث من فترة لأخرى من إيقاف لأعداد من جريدة أو كاتب أو حتى منع تداول كتاب ما فهو وإن كان حدث جلل لكنه ليس بشيء جديد على الساحة العربية، فما الجديد في إسكات الأصوات التي تغني خارج السرب، فهناك سرب واحد فقط ويجب على الجميع السير فيه ولامجال لأسراب أخرى وقد ظهر ذلك بوضوح في تقرير الصادر عام 2006 حول حرية الصحافة في العالم من منظمة مراسلون بلا حدود فلم تصل أي دولة عربية للستين دولة الأولى.
و أي شخص يتصف ببعض الوعي يعرف حجم الكارثة المترتبة على هذه الظاهرة فكل ما نراه من اقتناص مستمر لطيور الحرية لأمر محزن ويضيف عبئ فوق أعباء الحياة الرديئة التي يعاني منها المواطن العربي، لكن وبغض النظر عن أحزاننا فالتساؤل هنا هو أننا جميعا نعي وضعنا ونعرف ما يدور حولنا وما يكتب ويقال في الإعلام المكتوب والمرئي لاجديد فيه يهز الفكر أو حتى البدن فلماذا هذا المنع، والسؤال الأكثر أهمية لماذا الخوف من الكلمة وهل هو خوف موروث لايمكن تبريره مثل العادة التي تبدأ كسلوك مسبب ثم ينتهي السبب وتبقى هي ممارسة قصرية يصعب التخلص منها أم أن هشاشة الحال تجعل الكلمة ذات سلطة عليا يخشى منها.
و برأي أن المطلع على وضع الإنسان العربي يصل لرأي مهم وهو أن الخوف من الكلمة مبالغ فيه فالمتابع للإعلام المصري سواء المرئي أو المقروء على سبيل المثال يرى حرية الرأي تصل لمستويات الشتم مع ذكر الأسماء والأحداث والأرقام أيضا وتقرأ الحقائق حول الفساد المالي والإداري وسوء توزيع الدخل ونسب الفقر المرتفعة وغيره من الظواهر السلبية التي تنخر في قلب المجتمع، والمواطن يعرف ويرى ما يحدث حوله و يكاد يكون على حافة الانفجار لكن لازال الوضع كما هو ولله الحمد مستتب مما يوحي أن الكلمة حقيقة لاقيمة لها وحرب الكلمة ليس مجديا بل على العكس فسياسة ترك اللجام قليلا يجعل هناك متنفس، فمن المعروف، أنه إذا كان لديك قدر ضغط وصل لمستوى الغليان فأرخي له الصمام الوحيد لتعطيه بعض المتنفس فيؤدي ذلك لتخفيف الضغط وتجنب ما لايحمد عقباه.
و سياسة أخرى متبعة في الإعلام العربي أثبتت جدواها بطريقة غير مستفزة وهي ترويض الكلمة بدل من دفنها حيث يبدوا هذا الخيار أكثر حكمة كما حدث منذ فترة وجيزة مع جريدة أخرى كانت تملأ الميدان عدوا كخيل جامح و تذر الغبار في عيون الكارهين لصوت الحقيقة ثم عندما أقلقت وأقضت المضاجع أعطيت إدارتها لمن رأى حياته في موتها فلجمها ودجنها وجعلها حلوة ساذجة وبريئة مثل مراهقة غنية لاتفقه من الحياة سوى الماكياج والتجمل للآخرين.
وفي النهاية هذا هو مصير الكلمة الحرة المسكينة في الفضاء العربي فهي تظهر على خوف واستحياء ثم تختفي وكأنها حلم عمره بعمر الشهب لذا فالحكمة تقتضي إيه المثقف والإعلامي، إنه عندما تنعم ببعض المساحة لكلماتك في الفضاء الإنساني وتتمكن من إخراج بعض مكنوناتك فلاتنفعل وتفرح وتخرج كل ما بداخلك فتقول ما تحسه وما تراه بل تكتفي بأنك تتصور أنك سائر على خيط رفيع ويلزمك مهارة عالية حتى تسير أطول فترة قبل السقوط الذي لامفر منه.
فاطمة فقيه