[align=center]الفصل التاسع والعشرون
مأساة سوريا
في السادس من شباط سنة ١٩١٩ مثل فيصل أمام لجنة العشرة ليدافع عن قضيته، وكان لورانس معه بصفة
مستشار ومترجم، وقدم الامير معظم مساهمة العرب في هزيمة الأتراك، وكان يغ الي في بعض الأحيان مغالاة
كبيرة في عدد المقاتلين العرب الذين اشتركوا في الحرب، وفي عدد الإصابات التي أصابتهم، ولكنه كان
مكشوفا في ذلك.
وعلى الرغم من أنه قد ولد ونشأ وسط مؤامرات ودسائس الشرق، إ ّ لا أنه لم يكن من المهارة والعزم بمقدار
الدبلوماسيين الغربيين ا لذين قد قرروا الإطاحة به . وبينما كان البريطانيون يؤيدونه اسميا في مطالبته بسوريا
وضرورة استقلالها، فقد كانوا يعرفون أنهم لا يستطيعون على المدى البعيد اللجوء إلى الاستيلاء على بلاد
الرافدين، ومنع الفرنسيين من أخذ سوريا.
١١٤٤٦٦
وثمة تعقيد آخر يكمن في الموضوع، وهو أنه بموجب تقسيم بلاد العرب الذي اتفق عليه في معاهدة "سايكس
بيكو " بأن آبار النفط في الموصل كانت تقع في المكان الذي أعطي للفرنسيين ليكون منطقة نفوذ لهم يديرونه
كيف شاؤوا.
وكما كان متوقعًا، فقد قام "كليمنصو" بالقاء هذه الورقة الرابحة، لتطلق يده في سوريا، وبينما كان فيصل يدافع
الدفاع الأول أمام "صانعي السلام!" كانت القوات البريطانية تخلي غربي سوريا للقوات الفرنسية، وكان أقصى
ما يمكن انقاذه من الحطام لا يعدو داخل سوريا وربما دمشق.
وقررت بريطانيا أن تتفق على هذا، عندما اقترب المؤتمر من ربيع سنة ١٩١٩ ، فراحت توقع كل ضغط
ممكن على فرنسا لكي توافق هي الأخرى، غير أن جميع تلك المحاولات ذهبت سدى، فقد كان "كليمنصو "
يعرف قوة مركزه، ولذلك أصر بعناد على تقسيم سوريا إلى منطقتين، القسم الساحلي ليصبح مستعمرة فرنسية
والقسم الداخلي محمية فرنسية.
وقد ناضل لورانس يائسًا لإحباط هذه الخطة، مستعم ً لا كل قوة يمكن أن يتصورها العقل، حتى لقد انتهز
فرصة مقابلة خاصة له مع الملك جورج الخامس، تلك المقابلة التي كان من المقرر أن يمنح فيها وسام ربطة
الساق، وحاول أن يثير العطف على قضية فيصل . ورفض لورانس قبول أية مكافأة من ملكه وسيد البلاد الذي
جعل منهم جزءًا من خيانة بلاده للعرب، وهكذا غادر القصر غاضبًا.
وعاد لورانس إلى باريس وتوجه مع فيصل لزيارة الكولونيل "هوس" يد الرئيس ويلسون اليمنى، لحثه على أن
تتدخل الحكومة الأميركية وتنشئ انتدابًا على سوريا، ولكن هذه المحاولة لم تفلح، فقد ارتدت إهانة لورا نس
للملك ارتدادًا فظيعًا عليه، مثيرة السخط أكثر مما هي مثيرة للعطف في بريطانيا.
والأدهى من ذلك أن أقصى ما يمكن للوفد الأميركي أن يلزم به نفسه هو أن يقترح إيفاد لجنة تحقيق من
الحلفاء إلى سوريا، وكان لهذا الاقتراح نظرًا لافتقاره إلى تأييد بريطانيا ومعارضة ف رنسا العنيفة له، اثره في
التأثير على جميع اللجان الأميركية، التي تقدمت بمقترحات لتوحيد سوريا وتنصيب فيصل ملكًا عليها . وكان
نصيب كل هذه المقترحات هو التجاهل.
ثم جاءت ضربة أخرى موجهة إلى لورانس ومجهوداته، فقد شبت إضطرابات في بلاد الرافدين، عندما
حاولت القبا ئل أن تقاوم الحكم البريطاني، مدفوعة من حكومة الهند . وبعد أن أخمدت هذه الاضطرابات،
اكتشفت السلطات البريطانية المحلية أن مشعلي الفتنة قد مولوا الاضطرابات بأموال منحتها بريطانيا إلى شريف
مكة، وشجعت على نطاق واسع بدعاية من دمشق حيّث كان الأمير زيد الذكي، إ ّ لا أنه ليس بالرجل الناضج،
ينوب عن فيصل، والذي وجد نفسه ليس بأصلح في السيطرة على العناصر المتطرفة في بلده، من شقيقه في
معالجة ما يسمون أنفسهم بالحلفاء في باريس.
وليس بالامكان أن يحدث كل هذا في لحظة أسوأ من تلك اللحظة بالنسبة إلى فيصل، فقد كان أولئك المتنفذون
في وزارة الخارجية البريطانية، وعلى رأسهم اللورد "كورزون" ممكن كانوا يدافعون عن المصالح البريطانية
على حساب العرب، في وضع يمكنهم من المناقشة والمجادلة والادعاء بأن الإخلاص للشريف وقضية العرب
لن يدمر التحالف الانكلو فرنسي فحسب، بل وسيمكن انتصار الوطنيين ال عرب الذين يعارضون في النفوذ
١١٤٤٧٧
الأوربي والغربي ومصالح الغرب في جميع أرجاء الجزيرة العربية، ومنذ ذلك الوقت أصبح موضوع خذلان
الأمير موضوع وقت.
وفي أيار سنة ١٩١٩ ، وقبل أن يتم تقرير أي شيء بالنسبة لمصير سوريا، عاد فيصل إلى دمشق ليقابل
بالهتافات من اشياعه والعبوس من الفرنسيين، ولم يقابل لورانس بأية هتافات عندما عاد إلى موطن طفولته في
اكسفورد. وكان والده قد توفي مؤخرًا، ووجد أن اثنين من أشقائه قد قتلا في الحرب، وكانت أمه تعد نفسها
للسفر إلى الصين مع أخيه الأصغر "بوب" في بعثة طبية.
وعلى الرغم من أن ما كتبه ونشره بر وي الشيء القليل عن حالته النفسية في ذلك الحين، إ ّ لا أنه من الواضح
من سلوكه أن فشله في باريس كان يأتي على رأس ما يعانيه من آلام نفسية، وعذاب جسماني، ومرارة
فشله في تحقيق أطماعه التي يكرس لها سني الحرب.
حتى ليمكن القول بأن ذلك الفشل قد أوصله إلى الإنهيا ر الكلي، فكان يجلس ساعات طوا ً لا دون أن يتحرك،
وفي نفس الإتجاه، وعلى وجهه تعبير العذاب لا يتغير.
وبعد فترة لم يعد بمقدوره أن يتحمل ذلك أكثر مما تحمله، فقرر أن يسافر إلى مصر ليجمع أوراقه وغير ذلك
مما تركه هناك في غمرة إسراعه بالانسحاب من دمشق.
وكانت الطائر ة التي سافر عليها نوعًا من قاذفات القنابل، ولكنها في حاجة إلى كثير من الإصلاح، ولذلك
اضطرت للهبوط هبوطًا اجباريًا في إيطاليا، وقتل في ذلك الحادث الملاحان اللذان كانا فيها.
وعلى الرغم من أن جراحه كان تشتمل على كسر في الضلع وآخر في عظم الترقوة، إ ّ لا أنه است قل طائرة
أخرى وواصل رحلته إلى القاهرة، حيّث قابله موظف بريطاني يعمل وفقًا لتعليمات وزارة الخارجية، فسأله أن
يقدم له تأكيدات بأنه لن يسافر إلى سوريا ويحدث مشاكل هناك للفرنسيين.
وكانت أخبار رحلته قد بلغت مسامع المسؤولين في الحكومة الفرنسية، الذين على ما يبد و، حملوا تهديداته
التي أطلقها في باريس على محمل الجد، بينما كان هو يمزح . وأحد هذه التهديدات قاله مباشرة إلى "كليمنصو "
والمارشال "فوش" وهو قوله إنه سيحمل السلاح ضد فرنسا، ولن يتركها تستولي على سوريا.
وبعد أسابيع قليلة عاد لورانس إلى باريس ليقوم بمحاولة أخي رة لانقاذ سوريا التي يحبها من سيطرة فرنسا .
ولكن مجهوداته باءت بالفشل مرة أخرى، فعاد إلى لندن ليدافع عن سوريا أمام "لويد جورج " والوزارة
البريطانية، ولكنه أبلغ بكل برود أن يصالح الحكومة الفرنسية، وقد عملت بريطانيا كل ما بوسعها له، وهي
ليست مستعدة لاغضاب أفضل اصدقائها في اوروبا من أجل العرش الذي يريد إيجاده.
وكانت الحكومة البريطانية توشك أن تتلقى وثيقة الانتداب على بلاد الرافدين وامتياز التنقيب عن البترول في
الموصل، وفي مقابل ذلك كان يتحتم عليها أن توافق على منح فرنسا وثيقة الانتداب على سوريا كلها.
هذا وقد ا ستثني لورانس، أو لعل الأصح أنه استبعد، عن المناقشات التي دارت مع الأمير بموجب تعليمات
رئيس وزراء بريطانيا الخاصة، ولربما كان ذلك أفضل بالنسبة له، وعلى الأقل لأنه انقذه من أن يرى إهانة
فيصل الأخيرة، ولكنه ثار وبعث برسالة إلى جريدة "التايمس" اللندنية كشف فيه ا النقاب عن جميع نقاط
المناقشات التي حاول عبثًا إقناع مؤتمر باريس بها طوال الأشهر التي انقضت على انعقاده.
١١٤٤٨٨
وخرج عن تقاليد الرجل البريطاني عندما ربط وسام "كويكس دي كوري " الفرنسي إلى طوق كلب من طراز
"هوغارث" وعرض الكلب في شوارع اكسفورد.
وتصالح فيصل م ع "كليمنصو" ثم عاد إلى دمشق بشروط جعلت منه شخصًا هو دون رئيس ولاية اقطاعية .
والحقيقة أنه ما كان ليسمح له بالعودة إلى سوريا على الإطلاق، لولا أن السلطات الفرنسية المحلية كانت
مشغولة آنذاك بقمع محاولة قامت بها بعض الوحدات التركية، ممن لم تحل بعد، لإعادة الحك م العثماني إلى
مناطق الحدود في سوريا الشمالية . وبينما كانت هذه السلطات منهمكة في تلك العمليات، اقترح المسيو "جورج
بيكو" على الحكومة، بأنه لكي تضمن أقل المشاكل مع العرب، فلا بأس من اختيار أهون الشرين والسماح
لفيصل بالعودة إلى دمشق، على أساس أنه اقدر من يستط يع كبح جماح المتطرفين، وقال: إنه كلما قلت مشاكلنا
مع العرب كلنا أسرع في قمع الاضطرابات.
وقد لعب فيصل لمدة أشهر دوره بكرامة وتحفظ، ثم وفي شهر آذار سنة ١٩٢٠ نفذ صبر العرب وفقدوا
أعصابهم، فقد كانت سوريا وبلاد الرافدين، أو العراق، كما كانت ستسمى من جديد، قد ح ررتا من الأتراك قبل
ثمانية عشر شهرًا، ومع ذلك لم تكن هنالك في الأفق أية بارقة توحي بأن العرب سينالون أي استقلال حقيقي.
وكانوا ما يزالون دون ملك في بلادهم، كما أن "محرريهم" يفرضون عليهم سلطاتهم بطريقة لا تقل عنفًا
وجرحًا للكرامة العربية عن تلك التي كانت الإ مبراطورية التركية تتبعها . ولذا فقد اجتمع مؤتمر عربي في
دمشق، وقرر العمل على تأكيد حقوق العرب، وأعلن تعيين فيصل ملكًا على سوريا وشقيقه عبد الله ملكًا على
العراق.
واحتجت فرنسا بشدة على هذا الإعلان واعتبرته تحديًا، ودعت بريطانيا لتشترك معها في إبطال الإعلان ،
وابدى "كرزون" استعداد الفوري لتأييد فرنسا، وشجبت الدولتان معًا ذلك القرار الذي اتخذه المؤتمر، وأمر
فيصل بشكل حازم، أن يحضر مؤتمر "سان ريمو" حيّث تسوى جميع هذه المشاكل من قبل فرنسا وبريطانيا.
وانعقد المؤتمر في الشهر التالي، ولم يتردد في منح فرنسا حق الان تداب على سوريا، وبريطانيا حق الانتداب
على العراق وفلسطين، وتخلت فرنسا عن مطالبتها في حقول زيت الموصل، فالحقت المنطقة بمنطقة الانتداب
البريطاني.
وهكذا انتصرت فرنسا، وأصبحت أيام فيصل معدودة، ولم يكن ينقص السلطات الفرنسية في بيروت غير
الذريعة للإطاحة به . ولم يطل الامر بالمسيو "جورج بيكو" ليجد تلك الذريعة، فقد جوبهت بريطانيا في أوائل
شهر تموز بنشوب اضطرابات جديدة بين القبائل في وادي الفرات، فكانت تلك إشارة إلى المتطرفين في سوريا.
وكانت خطوط السكة الحديدية الفرنسية، بين حلب والقوات الفرنسية المرابطة في سوريا ا لشمالية قد أصبحت
مهددة، وقد أرسل الجنرال "غورو" القائد الفرنسي العام، والقائد العالم السابق في السودان، والذي عرف بقسوته
في معالجة مثل هذه الامور، أرسل إنذارًا فظًا إلى فيصل طلب فيه ضمان حرية استعمال تلك الخطوط . ونظرًا
لما كانت فرنسا تبيته من تصميم، فقد أمر "غورو" القوات الفرنسية بالزحف على دمشق.
وقد تردد الأمير في بادئ الأمر اعتقادًا منه بأن البريطانيين، وقبل كل شيء صديقه "اللنبي "، لن يسمحوا
للفرنسيين بالتمادي في هذه المعاملة مع حلفائهم العرب. ولكن القرار لم يعد بيد "اللنبي".
١١٤٤٩٩
وكان من الضروري سؤال لندن عن التعليمات الواجب اتباعها . وفي الوقت ا لذي وصل فيه نداء فيصل إلى
القاهرة، كانت لندن في ذلك الوقت مضطربة جدًا ومهتمة بأحداث العراق، وكان الآلاف من الجنود البريطانيين
يشتركون في عمليات القمع، كما أن تكاليف تهدئة البلاد بلغت أكثر من ٣٠,٠٠٠,٠٠٠ جنيها سنويًا، ولذلك فقد
تساءلوا في "الوايت هول : كيف يمكن لبريطانيا أن تتخذ أشد إجراء لمعالجة تمرد يؤثر على مصالحها،
ومعارضة فرنسا في اتخاذ إجراءات مماثلة لتؤمن مركزها؟ وبالاضافة إلى ذلك، ألم يثبت في المرة الأخيرة،
عندما نشبت الاضطرابات في العراق بأنها قد شجعت من دمشق ومولت من مكة؟.
وابلغ "اللنبي" بألا يتدخل وأن يدع فيصل يخوض معركته وحده. وقد وقعت مهمة إبلاغ هذه الأنباء القاسية
للأمير على سئ الحظ "كيرك برايد" الذي قال بأن فيصل قد تصرف كالطفل عندما تلقى جواب بريطانيا ، ففي
غمرة تأمله من هذه الأخبار، نسي كل كبريائه له، وراح يبكي ويلعن حظه العاثر وخيانة حلفائه لقضيته.
ولما استرد وعيه، قام الأمير بمحاولة أخيرة للتفاوض مع الفرنسيين . فبعث ببرقية إلى الجنرال "غورو " طلب
إليه فيها وقف زحف القوات الفرنسية على دمشق تجنبًا لسفك الدماء، ولدراسة المطالب الفرنسية في فسحة من
الوقت.
ولكنه لم يتلق جوابًا على هذه الرسالة واستمر الزحف الفرنسي . وبعد يومين سلم تحت شروط، فقد بعث
ببرقية أخرى قال فيها إنه لن يقاتل، وانه قبل الإنذار الفرنسي بحذافيره، ولم يطلب إ ّ لا أن يتراجع الجيش
الفرنسي عن المواقع التي احتلها مؤخرً ا. غير أن الفرنسيين كانوا قد امت لأوا غيظًا، ولم يعد هناك ما يوقفهم عن
احتلال دمشق، وطرد فيصل من سوريا . ان تلغراف الاستسلام قد "ضاع " ليتيح ضياعه الفرصة للقوات
الفرنسية كي تصل إلى العاصمة السورية، وتهزم القوات الأمير التي تقدمت لمواجهتها.
ثم .. وفي السابع والعشرين من تموز تلقى الأمير رسال ة فظة، تطلب منه أن يتخلى عن مركزه، ولم يجئ
فيها أي ذكر لقبوله إنذار "غورو"، وابلغته بأن ثمة قطارًا سينقله صباح اليوم التالي إلى فلسطين.
وانتشرت أخبار قرب مغادرة فيصل للبلاد حول دمشق انتشار النار في غابة، ونجم عن ذلك اضطرابات
ومظاهرات، اخترقت شوارع دمشق، لأ ن الذي خاطر بحياته من أجل ملكه أثناء الاحتلال التركي، ثم أنقذه من
محاولة الانقلاب التي قام بها عبد القادر، لن يقبل منه أن يسلم نفسه ولا شعبه إلى أطماع استعمارية وعدو
غاصب.
وقد قام الدمشقيون بمحاولة يائسة أخيرة، فتجمعوا بأعداد كبيرة لسدّ الطريق أمام فيصل ومنعه من الخروج
من المدينة، ولكن فيص ً لا لم يكن يرغب في المقاومة فأمر قواته النظامية بقيادة نوري السعيد أن تشق له طريقًا
بالقوة خلال الجماهير التي كانت ترفع عقائرها بالاحتجاج.
وبعد أيام قليلة وصل القدس، منتصب القامة، ولكنه حزين الملامح، يرد دموعه التي كانت على وشك
الانحدار من مقلتيه، وسمح له باللجوء، تحت الحماية البريطانية.
فاذا كان ما أصاب فيصل في سوريا من إذلال يمكن اعتباره بالشئ القليل، إ ّ لا أن ما أصاب والده من سوء
حظ لم يكن يتوقعه، كان أكثر بكثير من نصيب فيصل، فقد انتخب فيصل ليكون ملكًا على العراق بعد سنة من
١١٥٥٠٠
طرده من سوريا، أما والده، فقد خلع بعد أربع سنوات وفقد عرش الحجاز ونفي، دون تعويض من أي نوع
كان.
وكان الشريف العجوز قد تكدر كثيرًا لتسليم ابنه بالشروط الفرنسية، بعد عودته إلى سوريا من مؤتمر الصلح،
كما أنه قد جرح لخيانة الحلفاء له ونكثهم وعودهم وتخلفهم عن تنفيذ تعهداتهم له.
ولذلك فقد قرر أن يقوم بمحاولة أخيرة ليؤكد استقلاله وسلطانه في العالم الاسلامي . فأعلن بأنه الخليفة و"ملك
الأراضي العربية ". ولكنه لم يرتكب أكثر من هذا الإجراء حماقة، إذ أن عدوه القديم، ابن سعود كان منذ مدة
يتطلع إلى الحجاز بنظرات طم وح معتبرًا نفسه واتباعه من الوهابيين، الحرس الوحيدين للأماكن المقدسة في
مكة والمدينة.
وهكذا فقد أعطاه إعلان حسين هذا عذرًا ليقوم بحملة عنف ودعاية، واخيرًا إعلان الحرب ضد حكم الشريف،
الذي انتهى باتحاد الحجاز ونجد في مملكة واحدة وهي المملكة العربية السعودية ، الأمر الذي خلق عداء سعوديًا
هاشميًا ما يزال قائما حتى هذا اليوم.
وفي شهر تموز سنة ١٩٢١ ، وأثناء انعقاد مؤتمر القاهرة، أرسل لورانس إلى جدة ليحاول إقناع الشريف
بالاعتدال في مطالبه والتوقف عن تحريض جيرانه، وخول صلاحياته التفاوض لعقد معاهدة لوضع الحجاز
تحت الحماية البريطانية، إذا ما استطاع الشريف أن يتبنى سياسة المصالحة.
غير أن الشريف لم يكن من السهولة بحيث يشترى بأي عرض بريطاني، وبعد سلسلة من الاجتماعات
العاصفة، توقفت المفاوضات، وتوجه الشريف إلى مكة حيّث حجز نفسه هناك، تاركًا لورانس ولا سبيل أمامه
غير العودة إلى القاهرة.
وارتكب الشريف خطأ آخر عندما أمر ابنه عبد الله بقيادة حملة من أربعة آلاف رجل، يتوجه بها إلى نجد
ليؤكد نفوذ خليفة مكة الجديد . وسرعان ما اشتبكت قوات عبد الله مع الوهابيين، فأبيد معظمها في مذبحة بشعة،
ونجا عبد الله نفسه من الموت أو الأسر بأعجوبة.
لقد كان الشريف طموحًا أكثر مما يجب، كما أن ابن سعود كان مصممًا على إ ّ لا يقف حتى يطهر الحجاز من
الهاشميين، وكل الذين اساؤوا إلى سمعة شبه الجزيرة العربية بتحالفهم مع "الكفرة".
وفي سنة ١٩٢٤ خلع حسين وحمل إلى قبرص، تاركًا ابنه سئ الحظ عليًا ليدافع عن جد ة، آخر معقل حصين
في وجه الوهابيين المنتصرين. وعلى الرغم من أن بريطانيا كانت ممولة سخية للشريف.
فقد رفضت أن تشترك في النزاع مع ابن سعود . ولذلك فإنه ما إن انتهت الذخيرة حتى انتهت الحرب، وسلمت
جدة وهرب علي إلى العراق، حيّث قدم له شقيقه فيصل بيتًا يعيش فيه طوال حياته في المنفى.
ولقد جر الشريف العجوز المصاعب على نفسه، وهناك قلائل بكوا على هزيمته النهائية، فقد سمح لشكوكه
الخاصة، أو لشكوك اولئك الذين يحيطون به، بأن تسيطر على أعماله، تلك الأعمال التي كثيرًا ما كانت خاطئة.
لقد رفض أن يساعد ابنه عندما كان يحمل عبء الثورة العربية على كتفيه الضعيفتين، بل لقد تآمر ضد
فيصل، وحرض جنوده على التمرد في أحرج اللحظات، وكذلك فقد نسف نفوذه في مؤتمر الصلح.
١١٥٥١١
وأخيرًا، قام عندما كان فيصل يحاول أن يعيش على السراب والنتائج غير المؤكدة لمجهوداته الخاصة في
باريس، قام بالتخلي عنه وأعلن استقلاله، بوصفه الخليفة، وملك شبه الجزيرة العربية، الأمر الذي أثار ضده
زعيمًا آخر من زعماء شبه الجزيرة العربية، بينما كان ابنه الذي يأمل في مساعدته يجلس على عرش مملكة
أخرى.
وثمة عمل آخر قام به الشريف حسين يبعث على الدهشة، إذ أنه بعد وصوله إلى قبرص منح من قبل
الحكومة البريطانية وسام الصليب الكبير لنوط ربط الساق، وهو نفس الوسام الذي رفضه لورانس من مليكه
احتجاجًا على خيانة بريطانيا لتعهداتها للشريف.
والغريب أن الشريف قبل الوسام من يد "رونالد ستورز " الذي كان يشغل عندئذ منصب حاكم جزيرة قبرص،
والذي كان خادمًا للورانس طوال الثورة العربية، والمحرض الرئيسي لبريطانيا على التخلي عن تعهداتها
بالنسبة للحركة العربية[/align]