عند بداية مسابقة مزايين الإبل عرضت بعض القنوات التلفزيونية صورًا للإبل وهي تسير بشكل جماعي وتتحرك مسرعة في الصحراء وتتماوج يمنة ويسرة في مشهد جميل يبهج العين. وقد تمنّيت وقتها لو تتاح الفرصة للأجانب للاطلاع على تلك المناظر لأنها تعدّ من المشاهد المهمة بالنسبة لهم كما هي مهمّة بالنسبة للعرب كذلك.
ففي أواخر ربيع عام 2004زار الرياض المستعربان الأمريكيان البروفيسور ياروسلاف ستيتكيفتش وزوجته البروفيسورة سوزان ستيتكيفتش بدعوة من مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية وبتنسيق مع الدكتور عبدالعزيز السبيل. وخلال تلك الزيارة أتيحت لهما الفرصة للذهاب إلى الصحراء حينما لبّيا دعوة الشيخ موسى آل رقيب لزيارة حوطة بني تميم، وهناك التقيا وجهًا لوجه مع الصحراء وما تحويه من نباتات وأشجار وما فيها من إبل وماشية وطيور.
وبعد عودتهما إلى أمريكا سنحت لي الفرصة للحديث معهما عن انطباعاتهما عن تلك الزيارة، وقد كانا مبتهجين بتلك الزيارة وممتنّين للكرم والحفاوة التي لقياها؛ وكان أهم حدث مميّز للرحلة هو زيارة الصحراء بشكل عفوي وبعيد عن الرسميات. وحدثني البروفيسور ياروسلاف بوصفه متخصّصًا في الشعر العربي القديم بأنه لأول مرّة يتعرف على الناقة النجديّة عن قرب وكيف أنها أليفة وجميلة وتختلف عن الإبل في أماكن أخرى، وأنها بالفعل تشبه الأوصاف التي كان يقرأها في الشعر الجاهلي. كما لاحظ حركة الرمال بفعل الريح والطريقة التي تزحف بها تلك الرمال الناعمة والنظيفة، ومنظر الأشجار والشجيرات والنباتات المتناثرة على الأرض وهي تتحرك بفعل الرياح الخفيفة، ومشهد الطيور الصغيرة والكبيرة التي تحوم فوقهم. فقد كانت من المناظر التي تعكس دقّة ما عبّر عنه شعراء الصحراء القدماء. وتمنّى لو أنه يملك الصحة والوقت لكي يكتب عن تلك الذكريات ويربطها بما يعرفه نظريًا عن الصحراء.
وتؤمّل البروفيسورة سوزان -المختصة بالشعر العربي وصاحبة الأطروحة المميزة عن أبي تمّام- لو أن هناك برنامجًا للتبادل الثقافي يتيح الفرصة للطلاب الأمريكيين في الجامعات لزيارة السعودية والتعرّف على الآثار والمواقع والبيئة والمجتمع وربما الإقامة لفترة محدودة لدراسة اللغة العربية. فذلك البرنامج سوف يقوّي العلاقات بين الشعوب ويسهم في تقديم معرفة أصيلة عن البيئة والمجتمع والحياة بعيدًا عن الصور المنقولة أو المنتزعة من سياقها الطبيعي. ومن المؤمل أن تنهض عدة جهات بتصميم مثل هذا البرنامج ودعمه، ومن أبرز الجهات المعنية بموضوع التبادل الثقافي: وزارة الثقافة والإعلام، والهيئة العليا للسياحة والآثار، وجامعة الملك سعود. وإذا وجد التعاون المثمر بين هذه الجهات، فإن هذا البرنامج يمكن أن يتطوّر وتصبح له إدارة مستقلة وهيئة مختصة باستقطاب الطلاب الأجانب من أمريكا وأوروبا وبلاد المشرق لزيارة السعودية وإعداد جدول أعمال لزيارات قصيرة وطويلة. وهذه خطوة إيجابية مهمّة يتمنى كثير من المهتمين بالتبادل الثقافي أن تبادر تلك الجهات أو غيرها إلى تنفيذها بعد تجاوز العراقيل الإدارية والروتين البيروقراطي.
وبالعودة إلى مسابقة مزايين الإبل، فإنها في الواقع تعرض مناظر نادرًا ما تتاح لنا فيها الفرصة لرؤية الإبل عن قرب بشكل منظم؛ ومن المتوقّع أن مثل هذه المسابقات سوف تعطي صورة أقرب وأدق عن الإبل للسكان المحليين وللأجانب، وربما تزيح عن الذهن الصورة النمطيّة المتعلقة بالصحراء ومايرتبط بها من وحشية.
ومن خلال قراءة ما كتب عن سلبيات مسابقة مزايين الإبل مؤخرًا - من حيث أنها تتضمن تحريضًا للعصبيّة القبلية بين الناس - يتضح أن البعض ربما يكون استخدم هذه المسابقة لغير الغرض الذي أقيمت من أجله. وهذا أمر متوقع وطبيعي أن يحصل في ظل الاختلاف الثقافي بين أفراد المجتمع، وينبغي التعامل معه وفق سياقه عن طريق إيقاف دعم البرامج التي تخرج عن إطار المسابقة. أما إلغاء المسابقة بأكملها فهو نوع من الحلول التي تفضل الهروب من مواجهة المشكلة، ومن غير المتوقع أن يعدم القائمون على تلك المسابقات الحلول المناسبة للسيطرة على أي خروج عن المسار الصحيح للمسابقة.
إن موضوع التفاخر بالإبل ومدحها والتفاخر بالقبيلة أمر ليس مستغربًا على مجتمع يعتبر هذا التفاخر من القيم الأصيلة التي توارثها الناس منذ العصر الجاهلي. وفي دراسة ميدانية أجراها كاتب هذه السطور مؤخرًا، اتّضح أن (56%) من الفئة المستهدفة بالاستفتاء ترى أن قبيلتها هي (أفضل قبيلة مشت على هذه الأرض)؛ مع العلم أن هذه الفئة متنوّعة في الانتماء القبلي والعمري والثقافي والجغرافي لمناطق متعددة في الجزيرة العربية. وهذا يبيّن أنك لا تستطيع أن تقطع الشخص من ثقافة تربّى عليها ونشأ فيها؛ ولكنك تستطيع أن تستثمر هذه الثقافة بما يقدّم نماذج متنوعة من مزايين إبل القبائل وصفاتها، بحيث يكون لدينا معلومات كافية عن أنواع الإبل وأسمائها وسلالاتها وطبائعها. فنعرف سمات (المغاتير)، و(المجاهيم)، و(الصفر)، و(الشّعل)، و(الحُمر)، و(العوادي)، و(الوافدة)، وغيرها، لكي يكون ارتباط تلك الأسماء بقبائل معينة مدعاة لتمييز الإبل دون أن يتضمن ذلك تقليلا أو إعلاء من قيمة أحد على حساب آخر.
إن مسابقة مزايين الإبل يمكن أن تصبح مهرجانًا ثقافيًا وطنيًا مستقلا شبيهًا بفعاليات مهرجان الجنادرية الوطني للثقافة والفنون؛ تقام فيه الندوات والمحاضرات وتُلقى فيه القصائد والأغاني والاحتفالات. ويتحوّل إلى مناسبة ثقافية تقام كل عام في مدينة أو قرية داخل السعودية، وتتضمن إلى جانب الإبل عرضًا للمقتنيات الشعبية الأخرى التي لها صلة بحياة البادية وبمعطيات الصحراء. وبهذا يمكن تحقيق النجاح باستثمار ثقافة أصيلة متمكنة في نفوس الناس بما يخدم أهدافًا أوسع وأشمل تؤكد على التعددية في المجتمع وقبول التنوع الثقافي وتحقيق الانسجام بين أطياف المجتمع مهما اختلفت اهتماماتهم وتنوّعت قيمهم.
بقلم ناصر الحجيلان