الصحراء بوحشتها عمقت حب الصداقة في الوجدان العربي
وكنت إذا صحبت خيار قوم صحبتهم وشيمتي الوفاء
عبدالله الجعيثن
الإنسان يضجر من الوحدة، ويقلق من الوحشة، والصحراء شاسعة بلا قلب.. تتمثل فيها الوحدة إلا من صرير الرياح.. وتكمن فيها الوحشة تزكيها المجاهل التي يحار فيها القطا، وتضج منها المطايا، ويتجاوب اصداء جبالها بعواء ذئابها.. لذلك كان العربي القديم يحب الصداقة والاصدقاء.. ويسميهم الاخوان.. على غير انساب.. سوى ود القلوب.. وكانوا يزيلون وحشة بعضهم، ويؤنسون وحدة صحرائهم.. والإنسان سمي بهذا الاسم.. لانه يبحث عن "الأنس".. فهو اجتماعي بطبعه.. وقد ورث العربي القديم هذه الصفة للاحفاد وان ضعفت مع الايام.
والصداقة هي (زهرة الاجتماع البشري) وهي مشتقة من كلمة (الصدق) بأبعادها السامية، ومفهومها الاجتماعي والإنساني الذي لا تحلو الحياة بدونه، يقول الشاعر العربي:
ما نالت النفس على بغية
ألذ من ود صديق أمين
والعرب ينصحون باختيار الصديق الذي له خلق فاضل، ودين يعصمه من الدنايا، ويحبب له مكارم الاخلاق، ينصحون بذلك لسببين: الأول أن الصديق الذي فيه دين وله خلق كريم هو الذي يسر النفس، ويشرف صديقه، فإن الناس يقيسون الإنسان بصديقه:
اصحب ذوي الفضل وأهل الدين
فالمرء منسوب الى القرين
والصداقة في الوجدان العربي، وفي العقل الاجتماعي، لا تقوم على تبادل مصالح، ولا على منافع.. هذه ليست صداقة، وانما هي (عمل) الصداقة تقوم على كلمة واحدة، ولكنها جامعة، وهي (الصدق)، وذلك هو شرط الصداقة الكريمة:
إذا خطب الصداقة منك كف
فلا تطلب سوى صدق صداقا
@@@
والاصدقاء الاوفياء يضربون فرح الصديق في اثنين، ويقسمون احزانه على اثنين، ويتشاركون في تمضية وقت سعيد في هذه الحياة، ويحلو لهم السمر اذا اجتمعوا لأنهم يحبون بعضاً، ومع الحب يحلو الحديث، ولأنهم يفهمون بعضهم والفهم بساط يمتد على رحابته الحديث بلا عوائق.. ولا تكلف.. وهم يتذوقون الطرائف والنكات، ويلقون التكلف والكلفة اذا اجتمعوا، وينطلقون على سجيتهم اذا تحدثوا:
أنتم سروري وأنتم مشتكى حزني
وأنتم في سواد الليل سماري
@@@
ومن أفضل أبيات الشعر التي تبين مكارم الاخلاق عند العربي الاصيل في الصحبة والصداقة قول الشاعر:
وكنت اذا صحبت خيار قوم
صحبتهم وشيمتي الوفاء
فأحسن حين يحسن محسنوهم
واحتمل الاساءة ان اساءوا
وابصر ما يصيبهم بعين
عليهم عن عيوبهم غطاء
وهم يعجبون بالصديق الذي يستر عيب صاحبه، ويعجبون اكثر بالذي يستر العيب، ويستر انه فعل ذلك، يكتمه ولا يبديه، وينساه كأن لم يكن:
جليس لي أخو ثقة
كأن حديثه خبره
يسرك حسن ظاهره
وتحمد منه مختبره
ويستر عيب صاحبه
ويستر انه ستره!
@@@
ويفخر الرجل الفاضل بأنه يستر عسرته عن صديقه، كي لا يرزأه ولا يحرجه، ولكنه اذا استغنى خاض بخيره على صديقه، كما يقول العلامة المفسر والمؤرخ
ابن جرير الطبري (وله شعر قليل كمعظم علمائنا):
اذا اعسرت لم يعلم رفيقي
واستغني فيستغني صديقي
حيائي حافظ لي ماء وجهي
ورفقي في مطالبتي رفيقي
ولنا هنا ملاحظة فإن الصداقة تقوم على الندية والكفاءة، يكون الرجل كفؤاً لصديقه، ولا تدخل بينهما المادة بهذا الشكل الذي يذكره
ابن جرير:
واستغني فيستغني صديقي
فإن هذا ليس بصديق بالمعنى الصحيح، وانما هو مرافق، او من قبيل الحشم، الصداقة الحقيقية بريئة من المنافع، في براءة الزهرة، وفي جمالها، وهي فعلاً (زهرة الاجتماع البشري) فإن الإنسان لا يختار اقاربه، ولا يختار زملاءه في العمل، ولا جيرانه في السكن، إلا في أضيق الحدود، أما الصديق فإن مصادقته تقوم على اختيار حر، لتناسب روحي، ولهذا قيل ان الصداقة هي (زواج الروح).
نعم اذا وقع الصديق في ورطة مالية حقيقية فإن صديقه (يفزع) له فوراً لأن ما يزعج صديقه.. يزعجه.. فهو يحبه ويحب ان يكون سعيداً مرتاحاً.. ولكن تلك حالات عابرة.. أما اغداق المال على الصديق بدون مناسبة او ضائقة او جائحة، فإنه في الواقع يحيله من صديق الى مرتبة ادنى بكثير، لا يعود صديقاً يعود مرافقاً او من الحشم، والحشم على وزن خدم، وهي أعلى منها منزلة بقليل، ولكنها بينها وبين منزلة الصداقة الرفيعة بون شائع..
\@@@
والفاهمون للأمور.. المدركون لطبائع الناس والحياة.. والمجربون ذوو العقول.. لا يختارون الصديق إلا بعد معرفة تامة.. وتجارب.. ويعرفون اخلاقه وعقله.. لأنهم يعلمون أن الصديق يقاس عليه صديقه في حاله واخلاقه، فهو مثله، كما ان الطيور على أشباهها تقع..
يقول زيد بن رفاعة "الصاحب كالرقعة في الثوب فان كان مشاكلاً لم ينب عنه الطرف، وان كان غير مشاكل فهو الفاضح" وحميدان الشويعر يقول:
كل خدن بخدنه يطرب
حتى الشبث والعقرب!
فالفاضل لا يستطيع مصادقة غير الفاضل.. الا ان يكون مخدوعاً به.. والفاسق يقع على الفاسق.. وهكذا.
وللناس على الناس
مقاييس وأشباه
وللقلب على القلب
دليل حين يلقاه
يقاس المرء بالمرء
اذا ماهو ما شاه
ويقول الشريف بركات:
واوصيك زلات الصديق ان عثا فيك
مازال يغطاها الشعر فاحتمل بذاك
وبالك تماشي واحد لك يرديك
طالع بني جنسك وفكر بممشاك
والهقوة انك ما تجي دون اهاليك
ولاذكر عود الورد يثمر (بتنباك)
والحر مثلك يستحي يصحب الديك
وان صاحبه عاعا معاعاة الأدياك!!
@@@
والعرب يحذرون من مصاحبة الأحمق او مصادقته، ويقولون: "عدو عاقل خير من صديق احمق" ويرون ان الأحمق يريد ان ينفعك فيضرك..
يقول الشاعر:
اتق الأحمق ان تصحبه
انما الأحمق كالثوب الخلق
كلما رقعت منه جانباً
حركته الريح وهناً فانخرق
كحمار السوء ان اشبعته
رمح الناس وان جاع نهق
أو كعبد السوء إن جوعته
سرق الجار وإن يشبع فسق
والحقيقة أن هذه الصفات القبيحة صفات لئيم وأحمق معاً، فقد يكون الأحمق طيب القلب غير لئيم ولكنه أرعن التصرفات معدوم التمييز.. لكنه أسهل من اللئيم على سوئه..
@@@
والعرب يكرهون الصديق الذي يعامل صديقه بعناد، فإن من معاني الصداقة الموافقة في غالب الأمور، فإن قال الصديق خطأ صححه له بلطف ومحبة، وإن أراد ركوب أمر لا ينفع وضحه له بمودة، أما العناد فهو شيء آخر يدل على بغض خفي وحرص على حنق الصديق وجعله متوتر الأعصاب، وما هذا بفعل الأصحاب، بل هو أقرب للعدو منه للصديق إذا كان يعاند حباً في اغاظة صديقه..
فهو كالدنيا التي قال فيها الشاعر:
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت
له عن عدو في ثياب صديق
ويقول الشاعر في صديق يعانده باستمرار:
فإما أن تكون أخي بحق،
فأعرف منك غثي من سميني
والا فاطرحني واتخذني
عدواً اتقيك وتتقيي
وإني لو تعاندني شمالي
عنادك وصلت لها بها يميني
إذاً لقطعتها ولقلت بيني!
كذلك اجتوي من يجتويني!
أعوذ بالله! هذان صديقان على الضد، أحدهما معاند شديد العناد، والثاني عصبي يجننه العناد فقال له: لو عاندتني يدي عنادك لقطعتها ورميتها واسترحت!.. ألم القطع أسهل من ألم العناد!
والعناد لوجه العناد يخرب الأصدقاء على الأصدقاء، ويفسد الأزواج على الأزواج، الحب موافقة، والمرأة التي تعاند زوجها دائماً تكرهه.. وكثيراً ما يستريح منها بالطلاق ولو كانت ملكة جمال العالم.. راحة الأعصاب أهم من الجمال!
@@@
ومن رزايا الدنيا أن يضطر الإنسان للتظاهر بصداقة من يكرهه:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدواً له مامن صداقته بد
وقد تحكم الظروف بهذا ولها عجائب..
كما أن معاداة الخسيس الذي لاشرف له ولادين مصيبته كبيرة:
بلاء ليس يشبهه بلاء
عداوة غير ذي حسب ودين
يبيحك منه عرضاً لم يصنه
ويرتع منك في عرض مصون!
وخير مايفعل الإنسان إذا ابتلي بعدو مثل هذا هو أن يطبق (سلام المتاركة) كما قال الله عز وجل:
"والذين إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما"
فهو سلام متاركة بالحسنى: أنت في شأنك.. وهو في شأنه..
@@@
والعرب من أشد أمم الأرض أهتماماً بالأصدقاء والإخوان، لأن حياة الصحراء الموحشة، ومافيها من تحديات، جعلت الأخ والصديق ضرورة.. فالصديق كاليد للإنسان والريش للطائر، يقول الشاعر (الجليف)
وأعرف بأن الطير سعده ريشه
وأن قص ما له حيلة يحتالها
وأن قصت اليمنى الشمال تحسفت
وتندمت يمنى تقص شمالها
وهو كالسلاح،
يقول الشاعر العربي:
أخاك أخاك إن من لا أخاله
كساع إلى الهيجا بدون سلاح
وكنت إذا صحبت خيار قوم صحبتهم وشيمتي الوفاء...
العرض العادي
